الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعتم صاحبهم ، والله لقد رأيت معه نساء ما كن ليسلمنه أبدا على حال ، فروا رأيكم ، فأتوه يا قوم ، واقبلوا ما عرض عليكم ، فإني لكم ناصح ، مع أني أخاف أن لا تنصروا على رجل أتى زائرا لهذا البيت ، معظما له ، معه الهدي ينحره وينصرف.

فقالت قريش : لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور ، أو غيرك تكلم بهذا؟ ولكن نرده عامنا هذا ، ويرجع إلى قابل.

فقال : ما أراكم إلا تصيبكم قارعة.

فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف.

فقام الحليس ـ وهو بمهملتين ، مصغّر ـ بن علقمة الكناني وكان من رؤوس الأحابيش ، وفي نص آخر : كان يومئذ سيد الأحابيش (١) فقال : دعوني آتيه.

فقالوا : ائته.

فلما أشرف على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هذا فلان من قوم يعظمون البدن ، وفي لفظ : الهدي ، ويتألهون ، فابعثوها له».

فبعثت له.

فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي عليها قلائدها ، قد أكلت أوبارها من طول الحبس ، ترجّع الحنين ، واستقبله الناس يلبون قد أقاموا

__________________

(١) الأحابيش هم : بنو الهون بن خزيمة ، وبنو الحرث بن عبد مناف ، وبنو المصطلق.

سموا بذلك لأنهم تحالفوا تحت جبل بمكة اسمه حبشي.

٢٦١

نصف شهر ، وقد تفلوا وشعثوا ، صاح وقال : سبحان الله «ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت!! أبى الله أن تحج لخم ، وجذام ، وكندة ، وحمير ، ويمنع ابن عبد المطلب ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، هلكت قريش وربّ الكعبة. إن القوم إنما أتوا عمّارا».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أجل يا أخا بني كنانة».

وذكر ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، وابن سعد : أنه لم يصل إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما رأى ذلك إعظاما لما رأى.

فيحتمل أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خاطبه من بعد.

فرجع إلى قريش ، فقال : إني رأيت ما لا يحل منعه ، رأيت الهدي في قلائده ، قد أكل أوباره ، معكوفا عن محله ، والرجال قد تفلوا ، وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت.

والله ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم ، على أن تصدوا عن البيت من جاءه ، معظما لحرمته ، مؤديا لحقه. وساق الهدي معكوفا أن يبلغ محله.

والذي نفسي بيده لتخلّنّ بينه وبين ما جاء له ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.

فقالوا : كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ، وفي لفظ : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك ، كل ما رأيت من محمد مكيدة.

فقام مكرز ـ بكسر الميم ، وسكون الكاف ، وفتح الراء ـ بن حفص.

فقال : دعوني آته.

فلما طلع ورآه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «هذا رجل غادر» وفي لفظ : «فاجر».

٢٦٢

فلما انتهى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلّمه بنحو ما كلم به بديلا وعروة ، فرجع إلى أصحابه ، فأخبرهم بما ردّ عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

بيانات للتوضيح أو التصحيح :

وتستوقفنا في النصوص المتقدمة أمور كثيرة ، لابد من الاكتفاء بالإشارة الموجزة إلى بعضها ، وفق ما يتيسر لنا ، فنقول :

مفارقة لا يرضاها حليس :

لقد ذكر النص المتقدم : أن حليس بن علقمة لم يستطع أن يرضى بالمفارقة الظاهرة ، والتي هي غير منطقية ولا معقولة ، وهي : أن تمنع قريش ابن عبد المطلب من زيارة بيت الله ، وتسمح لأشتات قبائل العرب بذلك ، مثل لخم ، وجذام ، وحمير ، وكندة!!

__________________

(١) راجع النصوص المتقدمة في : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٦ وراجع السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٣ ـ ١٦ وراجع : مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ و ١٤٦ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٦ ـ ٧٨ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٢٠ والكافي ج ٨ ص ٣٢٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٥ والخراج لأبي يوسف ص ٢١٠ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٧ ص ١٣٤ ورسالات نبوية ص ١٧٠ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣٩ و ٤٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٠٢ و ٢٠٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٤ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١١٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٠ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣١٦.

٢٦٣

فعبد المطلب كان وبقي رمزا عظيما بالنسبة للعرب ، ولم يكن يمكن لأحد أن يستهين بموقعه ، أو أن يتجاهل مكانته عند الله تعالى ، أو أن ينكر تقواه وقداسته ، خصوصا وأنه سيد مكة ، بل سيد العرب ، ولم يزل اسمه مرتبطا بالقداسات ، والكرامات ، والاستقامة على خط الخير والصلاح ، والسداد والفلاح ..

وقد ظهر لابن عبد المطلب وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات أكثر مما ظهر لجده من معجزات ، وكرامات وقداسات. وها هو قد جاء على صفة وحالة تظهر وتجسد ما هو عليه من التقوى والارتباط بالله ، وتعظيم البيت .. وذلك بصورة عملية قوية ، وقادرة على أن تحضر عبد المطلب نفسه إلى الذاكرة ، بل إلى المشاهدة بعين الباطن ، والضمير والوجدان.

فانتفض وجدان الحليس ، وانطلق ينذر بإعادة النظر في كل العقود والعهود التي كانت بين الأحابيش وبين قريش .. بل هو يتجاوز ذلك إلى أن يتهدد ويتوعد بأن ينفر مع الأحابيش كلها لنصرة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وعلى قريش أن تأخذ هذا التهديد بعين الاعتبار ، فإن عروة بن مسعود الثقفي قد سبق الحليس في اتخاذ موقف رافض لهذه السياسة الظالمة ، وانسحب ومن تبعه إلى بلاده ..

وهذا بالذات هو بعض ما تخشاه قريش ، ويؤرقها ، ويقض مضاجعها.

تحليل ابن مسعود ليس دقيقا :

قد ظهر من النصوص المتقدمة :

أن عروة بن مسعود ، وإن كان في يوم الحديبية لا يزال مشركا ، ولكنه

٢٦٤

كان يطرح الأمور مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفق تحليله الذي كان يراه منطقيا ومعقولا ..

فهو قد اعتبر نصرة الأوشاب ـ وهم الخليط غير المتجانس ـ لا تنتهي إلى نتيجة ؛ لأنهم يندفعون إلى الأمور كأفراد استنادا إلى إحساسهم الداخلي ، بما يحققه لهم هذا الاندفاع من نتائج ، فإذا كان يرى نفسه فردا منقطعا عن عشيرته ، فسوف يرى من هذه النتائج ما يتناسب مع حجمه كفرد. فإذا وازن بينها وبين الثمن الذي قد يدفعه من أجلها ، ألا وهو نفسه التي هي أعز ما في الوجود عليه ، فسيرى أنه مغبون في هذه الصفقة ، فتدعوه نفسه للفرار.

أما إذا كانت له عشيرة تشاركه في هذه الاهتمامات ، أو كان لديه رصيد معنوي يرى نفسه مطالبا بحفظه ، وبالدفاع عنه ، فإنه يشعر بوجود من وما تتوفر لديه حوافز الدفاع عنه وحفظه.

وسوف تختلف نظرته إلى طبيعة المنافع التي سوف يحصل عليها ، حيث سيرى أنها أصبحت بحجم عشيرته كلها. فإذا كبرت في عينه النتائج ، وتضاءلت احتمالات الخسارة ، وأصبح هناك شعور أكبر بالأمن ، فإن الاندفاع في الحرب ، والإصرار على تحقيق النصر فيها سوف يكون أكبر ، واحتمالات حصول هذا النصر أكثر وأوفر ..

ولكن قد غاب عن ذهن عروة بن مسعود : أن الإيمان بالله سبحانه ، وبالجنة والنار ، وبالثواب والعقاب ، وأن ترسيخ حب الله ، وحب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحب الحق ، وحب الإيمان وتنامي ذلك في القلب وفي الروح ـ إن ذلك ـ لابد أن يضاعف من اندفاع الناس للدفاع عما يحبون ، وأن يسهل عليهم ما يصيبهم في هذه الحياة الدنيا ، إذا كان يوجب

٢٦٥

لهم الأمن والفوز والفلاح في الآخرة ..

بل إن ذلك كله يجعل هذا الإنسان ليس فقط لا يهتم بالحفاظ على نفسه وحياته ، وإنما هو يلتذ ويسعد حين يضحي بالنفس والمال ، والولد ، على قاعدة :

«فزت ورب الكعبة» ، كما أن طعم الموت لابد أن يصبح لديه أحلى من العسل ..

ثم هو لابد أن يحزن ، ويبكي ، ويتحسر إذا فاته ذلك.

وبذلك يظهر : أن رابطة العشيرة ، والمصلحة ، وحمية الجاهلية ، وما إلى ذلك سوف لا يبقى لها تأثير يذكر في الدفع ، أو في الرفع ..

وقد أثبتت الوقائع في بدر وسواها هذه الحقيقة بما لا مزيد عليه.

المنطق القبائلي ، والمنطق الإيماني :

وقد حاول ابن مسعود أن يقدم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معادلة ترتكز إلى المنطق العشائري ، وإلى القيم الجاهلية ، في مغازيها ومراميها ، وذلك حين طالبه بالنظر في خيارين كلاهما مرفوض عشائريا وجاهليا ، وهما :

١ ـ أن يحتاج قومه بالحرب ، وهذا أمر لا ترضاه العقلية العشائرية ، وتعتبره من موجبات العار الذي لا يقدم عليه أحد يلتزم بهذا المنطق ، قال عروة : أن تجتاح قومك ، ولم يسمع برجل اجتاح قومه ، وأهله قبلك.

٢ ـ أن تكون نتيجة الحرب هي : أن يفر عنه أصحابه الذين هم أشواب (١) من الناس ، فيأسره قومه ، وهذا أمر لا يرضاه لنفسه ، فإن الأسر عار وذل أيضا ..

__________________

(١) أي خليط.

٢٦٦

واللافت هنا : أن عروة قد استند في حصر الأمر بهذين الخيارين إلى أن قريشا قد أظهروا الحقد والتصميم على حربه ، ولبسوا جلود النمور ، وهم يقسمون بالله أن لا يخلوا بينه وبين البيت ..

ويا ليت عروة بن مسعود يتذكر :

أولا : إن قريشا أهل محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقومه ، فلماذا يلبسون لابن عشيرتهم ولمن هو في جملة أهلهم جلود النمور ، ولماذا يحقدون عليه ، ويصرون على حربه ، فإن المفروض هو : أن يعالج المنطق القبلي هذه الظاهرة ، وأن يقضي عليها ، وأن يزول حقدهم عليه ، وممانعتهم ومنعهم إياه من دخول حرم الله لنفس هذا السبب ، وهو كونهم أهله ، وعشيرته ..

ثانيا : إن ما يريدون منعه منه وعنه ليس لهم فيه حق ، فإنه بيت الله ، وهم مجرد خدم وسدنة لهذا البيت ، ولا يرضى حتى منطقهم الجاهلي بمنع أحد من حجه أو من عمرته ، أو من زيارة بيت ربه سبحانه وتعالى ..

ثالثا : إن هؤلاء الأهل والعشيرة قد ظلموا أخاهم وسيدهم ، وأقدس رجل فيهم ، وأخرجوه ومن معه من بلده وأهله ، وماله ، من غير ذنب أتاه إليهم .. وقد آذوه وحاولوا قتله ، واستئصال شأفته ، وإبادة خضرائه في حروبهم ضده .. فلماذا فعلت قريش ذلك؟! ..

مع أنه ـ حسب منطق ابن مسعود ـ : لم يسمع برجل اجتاح قومه وأهله قبلهم .. فلماذا جرّت باؤهم في ذلك كله .. ولم تجر باء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذه المرة؟! ولو بمقدار أن يسمحوا له بزيارة بيت ربه ، ثم يرجع عنهم من دون قتال ، ولا حتى جدال ..

رابعا : لو أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه أصروا على

٢٦٧

زيارة البيت ، فهل ستقاتله قريش ، أم ستتركه؟!

إن كلام عروة بن مسعود نفسه صريح في أنها ستقاتله ، بصورة متعدية وظالمة ، فلماذا لم يوجه عروة إليها نفس هذا الكلام .. قبل أن يأتي رسولا من قبلها إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليسوّق لا ستمرار هذا الظلم ، ويباركه ، ويدعمه بظلم فاحش آخر؟! ..

لقد كان عليها أن تخضع لهذا المنطق ، الذي جاءت لتطالب الآخرين بالخضوع له ، وتكف عن القتال ، وتمكن زوار البيت الحرام من الزيارة والعمرة.

عنادهم وموقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أما موقف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فكان حازما ، ولكنه لم يكن عدوانيا ، بل هو عين الإنصاف والعدل ، وهذا بالذات هو ما كان يثير حفيظة قريش ، حيث وجدت نفسها في موقع العناد واللجاج من دون أن يكون لديها أي مبرر مقبول أو معقول ، حتى أمام شركائها في الرأي والموقف ، وحلفائها ضد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومن هم على دينها. فإن ما كان يقوله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو : إننا جئنا لزيارة بيت ربنا ، فمن صدنا عنه قاتلناه.

فهو لم يطالب إلا بحق يقرّ له به كل أحد ، ولا مجال للمراء فيه ، وهو حق عام يطالب به جميع الناس قريشا بالذات ، فمن أنكر هذا الحق على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلا بد أن ينكره على نفسه أولا.

من هنا نجد : أن جميع من جاؤوا من قبل قريش إلى النبي «صلى الله

٢٦٨

عليه وآله» لم يكن لديهم حجة يعتصمون بها ، فكانوا يلجأون إلى محاولة تخويفه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين من عاقبة دفع الأمور باتجاه الحرب ..

ثم كانت حصيلة مساعيهم : أنهم يرجعون إلى قومهم ليواجهوهم بنفس المنطق الذي سمعوه من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وذلك بدءا من بديل بن ورقاء الخزاعي الذي قال لقريش : إنكم تعجلون على محمد ، إنه لم يأت لقتال ، إنما جاء معتمرا ، ثم أخبرهم بمقالة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حسبما تقدم.

مرورا بعروة بن مسعود الذي قال لهم : قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

وكذلك الحليس بن علقمة ، الذي قال لقريش حين رجع إليها : ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم ، على أن تصدوا عن البيت من جاءه معظما لحرمته ، مؤديا لحقه الخ ..

وانتهاء بمكرز بن جابر ، الذي رجع إلى قريش ، ولم يجد لديه ما يحمله إليها ، سوى ما قاله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ..

تصدع صفوف المشركين :

فاتضح بذلك كله :

أن الأمر قد انتهى بتصدع صفوف أهل الشرك .. وظهور الخلاف العميق فيما بينهم. إلى حد أن زعماء أقوياء في صفوفهم هم الذين يسعون لإقناع قريش بقبول عروض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويعلنون أن خطته

٢٦٩

خطة رشد وصلاح ..

وهي نتيجة ذات أهمية فائقة ، وحاسمة أيضا.

وقد ظهر الخلاف بينهم حين قرر بديل بن ورقاء ، أنهم يعجلون على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن اتهامهم إياه بأن حركته هذه حركة عدوانية اتهام باطل ، فهو لم يأت لقتال أحد.

ثم إن عروة بن مسعود أيد بديلا فيما قاله ..

ثم عرض عليهم أن يحقق لهم في صحة أقوال بديل. فلما رضوا بذلك ، وذهب في مهمته تلك ، عاد إليهم بما يزيد في إضعاف موقفهم ، وزعزعة ثباتهم. ويزيد من خوفهم ورعبهم. خصوصا وهو يصف لهم طاعة أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ، وتعظيمهم إياه ، وأن هذا التعظيم ، وتلك الطاعة هي لرجل ليس ملكا مع أنها فوق تعظيم أتباع الملوك ـ بمن فيهم كسرى وقيصر ـ لملوكهم ..

بل إنه يتوقع حتى من النساء ، اللواتي كنّ في ذلك الجمع دفاعا عن محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضاريا مستميتا .. وهذا ما لا يسعد قريشا ، ولا يؤنسها ، بل هو يدفع بها إلى حالة من الخوف تصل إلى حد الرعب.

ثم هو يصف لهم كيف كان أصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتبركون بشعره ، أو بكل آثاره .. حتى إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وكيف يبادرون لامتثال أوامره ، ويذكر لهم كيف يخفضون أصواتهم عنده ، ولا يحدّون النظر إليه ، وغير ذلك.

ولا شك في أنه سيصيبهم الذهول لهذا الوصف ، الذي إذا رجعوا إلى أنفسهم ، فإنهم لا يجدون شيئا منه فيما بينهم ، بل هم يجدون النقيض والمباين

٢٧٠

له .. وهذا ما يجعلهم يدركون حجم الصعوبات التي سوف يواجهونها لو دخلوا معه في أي صراع. ويزيد في رعبهم من الأخطار التي تنتظرهم معه ..

ثم يعلن عروة بن مسعود رأيه لهم ، وهو : أن الرشد في قبول ما عرضه عليهم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثم كانت الحجة الأقوى التي استند إليها هي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما جاء زائرا للبيت ، معظما له ، ومعه الهدي .. فخافت قريش من تأثير هذا المنطق ، وقالوا له : لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور ..

وكانت النتيجة هي : انفصاله هو ومن تبعه عن قريش ، وانصرافه إلى الطائف.

ثم زاد هذا التصدع في صفوف أهل الشرك حين رجع الحليس ـ وهو من رؤوس الأحابيش ـ إلى قريش من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بموقف حازم ، ليقول لها : «والله ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن البيت من جاءه معظما لحرمته ، مؤديا لحقه ، وساق الهدي. معكوفا أن يبلغ محله.

والذي نفسي بيده ، لتخلّن بينه وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد».

فقالوا : كف عنا يا حليس ، حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ..

تبرك الصحابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وفي سياق آخر نلاحظ ما يلي :

١ ـ إن ما ذكره عروة بن مسعود عن تبرك الصحابة بوضوء رسول الله

٢٧١

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبشعره ، وحتى بنخامته (١) ، ما هو إلا واحد من مئات الشواهد الدالة على مشروعية التبرك بالأنبياء والأولياء ، وبآثارهم.

كما أنه يدل على : أن لنفس جسد الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قداسة وبركة ، وهذا لا يختص بالأنبياء «عليهم‌السلام» ، بل يشمل غيرهم من الأولياء والأصفياء ومن سعد بالاصطفاء والاجتباء.

ولا نريد أن ندخل في تفاصيل هذا الموضوع ، فإن المناسبة لا تقتضي ذلك ، غير أننا نشير إلى : أن جواز التبرك وعدمه إنما يؤخذ من النصوص الواردة عن المعصوم «عليه‌السلام» ، وليس هو من الأمور التي تحكم أو تتحكم بها العقول ..

وذلك : لأن التبرك معناه طلب : البركة ـ التي هي النماء والزيادة ـ من

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٩ وكنز العمال (ط الهند) ج ١٠ ص ٣١١ ـ ٣١٥ عن مصادر كثيرة ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٣ و ٣٢٤ و ٣٢٩ و ٣٣٠ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٣٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٣ ـ ١٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢١٩ والبحار ج ١٧ ص ٣٢ و ٣٣ وج ٢٠ ص ٣٣٢ و ٣٤٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٩٨ وعن البخاري ج ٣ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ ص ٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣ و ٤٢ وج ١٠ ص ٣٨ وعن الشفاء لعياض ج ٢ ص ٣٧ وعن شرح الشفا لملا علي القاري ج ٢ ص ٦٧ وعن كنز العمال ج ١٦ ص ٢٣٦ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ١٢ وإرواء الغليل ج ١ ص ٥٦ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ٢١٢ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٢.

٢٧٢

مكامنها ومناشئها ، سواء أكانت زيادة مادية أم معنوية ، مع إحراز كونها قابلة للانتقال والاكتساب ..

وهذا وذاك إنما يطلب من قبل الخالق ، الذي هو الفاعل والجاعل ..

فإذا أخبرنا الله ورسوله : أن البركة حاصلة في شخص رسوله ، أو وليه ، أو في القرآن الكريم ، أو في الحجر الأسود.

وأخبرنا أيضا : أنها قابلة للانتقال ، والاكتساب ، فلا بد من أخذ ذلك منه ، وقبوله عنه ، ولا يصح رده بالقياسات العقلية الناقصة ، ولا يجوز دفعه بالحدسيات والظنون ، فإن الله سبحانه يريد أن تعبده مخلوقاته حسبما يرسمه لهم ، ويريده منهم .. وليس لهم في ذلك أي خيار.

٢ ـ ومن جهة ثانية ، فإن ما جرى في الحديبية ، من تبرك الصحابة بشعر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبفضل وضوئه ، وغير ذلك قد أرعب قريشا ، واضطرها لإعادة النظر في حساباتها.

٣ ـ إن ما جرى في الحديبية ليس هو الدليل الوحيد على جواز التبرك ، بل هناك مئات من الشواهد ، والدلائل ، والنصوص التي تؤكد ذلك .. فمجموعها هو الدليل القاطع وهو من حيث الغزارة والكثرة أضعاف أضعاف ما يتحقق به التواتر .. فلو جاز التشكيك في ذلك كله ، ورده ، ورفضه ، واعتباره شركا ، فإن الأمر يصبح دائرا بين أمرين :

أحدهما : أنه يمكن الشك في كل الثوابت ، والمتواترات من الشرع الشريف ، فلا مجال لإثبات شيء منها ، حتى ما هو من قبيل أن صلاة الظهر أربع ركعات!!

الثاني : أن يكون تبركهم حاصلا وثابتا فعلا ، وكان ذلك من الشرك ،

٢٧٣

فلا بد من الحكم على كل من مارس ذلك أنه قد دخل في دائرة الشرك ، وارتكاب المعاصي الكبيرة.

وهل يمكن لأحد أن يدين أعاظم الصحابة ، وينسبهم إلى الشرك والكفر ، بل هو يدين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ، الذي قبّل الحجر الأسود ، وتبرك بعلي «عليه‌السلام» ، وسكت عن جميع الذين كانوا يمارسون التبرك بشعره ، وبوضوئه ، وبكثير من الأمور العائدة إليه (١) .. وقبل هذا الشرك منهم ، وأعانهم عليه ، حينما كان يوزع شعره عليهم في الحديبية ليتبركوا به؟!!

التبرك لا يختص بالأحياء :

قلنا إن التبرك معناه : طلب النماء والزيادة والخير بتقديم وسيلة يحبها الله تعالى ، فيستجيب للطالب من أجلها ، وأنبياء الله «عليهم‌السلام» ، يحب الله تعالى أشخاصهم ، ويحب أيضا كل ما يتعلق بهم ، أو ينسب إليهم من آثار وغيرها ، فإذا جعلها الطالب وسيلته إلى الله سبحانه ، فإنه تعالى يتحفه بما طلب ، وينعم عليه بهباته ويخصه ببركاته ..

هذا .. ولا يختص الاستشفاء والتبرك بذات النبي أو الولي بصورة ما إذا

__________________

(١) الوسائل ج ٩ ص ٤٠٤ وتحفة الأحوذي ج ٣ ص ٥٠٧ وج ٥ ص ٣٧٣ والمعجم الأوسط ج ٥ ص ١٩١ ورياض الصالحين ص ١٣٩ والبيان في تفسير القرآن ص ٤٦٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٤ و ٤٨٨ والمحاسن ج ٢ ص ٥٢١ وعن البحار ج ٦٣ ص ٢٣٠ وشرح مسلم ج ١٣ ص ٢٢٤ وعن فتح الباري ج ٩ ص ٤٣٢ وعن عون المعبود ج ١٠ ص ١٨٣ وصحيح ابن حبان ج ٤ ص ٢٠٧ وسير أعلام النبلاء ج ١١ ص ٢١٢.

٢٧٤

كان حيا ؛ لأن وفاته لا توجب انقطاع تأثيره ، كما يريدون أن يدّعوا ؛ فإن حرمة النبي والولي عند الله بعد وفاته هي نفسها في حياته ، ولأجل ذلك يتوسل به أهل الحاجات ، ويتبرك بقبره وبآثاره طلاب الخيرات والبركات ، ويستشفى بتربته وبشعره ، وبعصاه وسواها ، من لم يجد له من آلامه سبيل نجاة ..

ومنهم من أوصى : أن يوضع من شعر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأظفاره في كفنه بعد موته (١).

وقد رووا : أن أم سلمة كانت تحتفظ بشعرات من شعر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في جلجل لها (أي ما يشبه القارورة) فكان إذا أصاب أحدا من الصحابة عين أو أذى أرسل إليها إناء فيه ماء ، فجعلت الشعرات في الماء ثم أخذوا الماء ، يشربونه للاستشفاء ، والتبرك به (٢).

وحين كانت أم سلمة تنشف عرقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتعصره في قواريرها ، سألها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ذلك ، فقالت : نرجو بركته لصبياننا.

قال : أصبت (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٤٠٦ وج ٧ ص ٢٥ وسير أعلام النبلاء ج ٥ ص ١٤٣ وج ١١ ص ٣٣٧ وج ١٦ ص ٤٨٧ وتهذيب التهذيب ج ١١ ص ٣٦٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٣ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٩٦ وصحيح البخاري ج ٧ ص ٥٧ وفتح الباري ج ١٠ ص ٢٩٨ وتاريخ المدينة ج ٢ ص ٦١٨.

(٣) راجع : صحيح مسلم ج ٤ ص ٨٣ وج ٧ ص ٨٢ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٢١ و ٢٢٦ وفتح الباري ج ١١ ص ٦٠ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٩.

٢٧٥

المغيرة قائم بالسيف خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد ذكروا فيما تقدم : أن المغيرة كان قائما على رأس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسيف ، وأنه منع عروة بن مسعود من أن يلمس لحية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد ردوا على هذه الرواية بما روي : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نهى عن القيام على رأس الجالس.

ثم أجابوا : بأن الممنوع هو : ما كان منه على وجه العظمة والكبر. أما قيام المغيرة ، على رأس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فكان بقصد الحراسة ، ونحوها من ترهيب العدو (١).

ونقول :

إن هذا غير مقبول :

أولا : لأن الحراسة وترهيب العدو لا يحتاجان إلى هذا القيام ، لإمكان حصولهما بأساليب وطرائق أخرى غير القيام على رأس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثانيا : إن المنهي عنه هو نفس هذا المظهر ، الذي هو من مظاهر الكبر والعظمة ، وإن لم يكن الجالس متكبرا ولا طالبا للعظمة .. فهو نظير التشبه بالكفار وأهل الفسوق ، فإن ما يبغضه الله هو السعي لإيجاد الشبه ، بالإضافة إلى ظهور نفس هذا الشبه أيضا ، فإن الله لا يرضى أن يظهر رسم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٧٤ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٤٦ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٤٩ وعون المعبود ج ٧ ص ٣١٧ وج ١٢ ص ٢٦٥.

٢٧٦

الصليب على ثياب المسلمين ؛ وإن كانوا لم يقصدوا ذلك ، بل قصدوا مجرد لبس الثوب للتستر به. وهكذا الحال بالنسبة لمن يتمثل له الرجال «صفوفا».

وفي نص آخر : «قياما» ، فليتبوء مقعده من النار (١).

وكما أرادوا أن يمنحوا المغيرة بن شعبة هذا الوسام ، من أجل أن يكافئوه على خدماته لمعاوية ، ومعونته لمناوئي علي «عليه‌السلام» ، ومشاركته لهم في

__________________

(١) راجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٤٦ وفتح القدير ج ٤ ص ٤٣٠ ورواية «قياما» في : إعانة الطالبين للدمياطي ج ٣ ص ٣٠٥ وج ٤ ص ٢١٩ والقواعد والفوائد للشهيد الأول ج ٢ ص ١٦١ و ٢٨٤ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٣٤ وج ١٠ ص ٣٨٦ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٤٨ وتاريخ بغداد ج ٢ ص ١٧١ وج ١١ ص ٣٦١ وتهذيب الكمال ج ٢٠ ص ٣٥١ وسير أعلام النبلاء ج ١٠ ص ٤٦٧ وج ١٣ ص ١٤٠ ولسان الميزان ج ٢ ص ٤٢٦ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٦٥ والأمالي للطوسي ص ٥٣٨ ومكارم الأخلاق ص ٤٧١ ومشكاة الأنوار ص ٣٥٨ والبحار ج ٧١ ص ٩٠ وج ٧٣ ص ٣٨ والجامع الصحيح ج ٤ ص ١٨٤ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٤٠ وفتح الباري ج ١١ ص ٤١ و ٤٢ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٨٢ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٣٥١ و ٣٥٢ والجامع الصغير ج ٢ ص ٥٥٣ والعهود المحمدية للشعراني ص ٨٣٤ وفيض القدير ج ٦ ص ٤١ وكشف الخفاء ج ٢ ص ٢٢٠ ونظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني ص ٢٢٣ واللمعة البيضاء ص ٥٤٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٣٩٩ و ٦٣٣ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٠٠٤ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ٢٥ والوسائل ج ٨ ص ٥٦٠ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٠٠ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٥٢٥ وأحكام القرآن ج ٣ ص ١٢٣ وذكر أخبار إصبهان ج ١ ص ٢١٩.

٢٧٧

الهجوم على بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، وعلى ضربه لها حتى أدماها ، وألقت ما في بطنها ، استذلالا منه لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومخالفة منه لأمره ، وانتهاكا لحرمته (١).

بالإضافة إلى أفاعيل ومواقف معروفة له ، ذكر العلامة التستري بعضها ، فراجع (٢).

وهكذا يقال بالنسبة لما رووه ، من أن الضحاك بن سفيان كان يقوم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسيفه (٣). فإن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يرضاه من المغيرة أو الضحاك ، أو من غيرهما ، وسيرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خير شاهد على هذه الحقيقة ..

غير أننا لا نستبعد : أن يكون المغيرة قد حضر ذلك المجلس ، على حالة معينة ، واختارها هو لنفسه ، وأنه قد تحرش بعروة ، وضايقه ، حتى نفد

__________________

(١) الإحتجاج ج ١ ص ٤١٤ والبحار ج ٤٣ ص ١٩٧ وج ٤٤ ص ٨٣ وج ٣١ ص ٦٤٥ ومرآة العقول ج ٥ ص ٣٢١ وضياء العالمين (مخطوط) ج ٢ ق ٣ ص ٦٤ والعوالم (حياة الإمام الحسن) ص ٢٢٥ واللمعة البيضاء ص ٨٧٠ وبيت الأحزان ص ١١٦ وصحيفة الإمام الحسن للفيومي ص ٢٧٠ ومجمع النورين ص ٨١.

(٢) راجع : قاموس الرجال (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٤ ـ ٢٠٠

(٣) التراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٤٦ عن الإستيعاب ونور النبراس ، والروض الأنف ، والإصابة ج ٢ ص ٢٠٧ عن البغوي ، وابن قانع ، والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٢٠٧ وأسد الغابة ج ٣ ص ٣٦ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٥٨ وعن كنز العمال ج ١٣ ص ٤٤٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٦ ص ٤١٦.

٢٧٨

صبره. ووجّه إليه تلك الكلمات اللاذعة ..

واللافت : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعترض على عروة في ما نسبه إلى المغيرة .. بل اكتفى بالتبسم ، ثم بإخباره بقرابته له وموقعه منه .. فهل رأى ـ وهو نصير المظلومين الأول ـ أنه لا يحق له الدفاع عن المغيرة ولو بكلمة واحدة ، تبين : أنه لا يحق لعروة أن يصفه بأنه ألأم وأشر رجل ، وبأنه شديد الفظاظة والغلظة؟! أم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رأى أن عروة محق في موقفه ، وصادق فيما وصف به المغيرة؟!

امصص بظر الللات لغة مرفوضة :

وحين نقرأ كلمات أبي بكر التي واجه بها عروة بن مسعود ، فإننا سوف نعجب كثيرا منها ، حيث إنها :

١ ـ جاءت على طريقة غير مألوفة في الخطابات التي تكون بمحضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث تضمنت كلمات لا يليق التفوه بها في محضره الشريف.

٢ ـ إنه لم يكن هناك أي داع إلى دفع الأمور بهذا الاتجاه ، حتى لو لم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاضرا في ذلك المجلس .. فإن كلمة «امصص بظر اللات» (١) ، أو نحوها إنما جاءت ردا على قول عروة : إن

__________________

(١) البحار ج ٢٠ ص ٣٣١ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٤ و ٣٢٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢١٩ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٢٤٨ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٣٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥١٤ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ١١ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ١٩٦ وتفسير الميزان ج ١٨ ص ٢٦٦ وج ٦

٢٧٩

أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينصرونه في الحرب ، بل يخذلونه ، وهو تحليل مقبول لدى أهل الجاهلية ولا يحتاج أبو بكر في الإجابة عليه إلى استخدام هذه التعابير.

٣ ـ إن مبادرة أبي بكر إلى الكلام في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من دون إذن منه ، غير مقبولة ، خصوصا مع ملاحظة : أن الله سبحانه قد قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

ولعل عدم مبادرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للاعتراض على أبي بكر ، يعود إلى أنه لم يرد أن يكسره أمام زعيم من زعماء الشرك ..

٤ ـ وأما قول أبي بكر : أنحن نخذله ، فإن كان يقصد به غيره من المسلمين ، فهو صحيح ؛ لأن هناك من لا يخذل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المسلمين.

وإن كان يريد أن يدخل نفسه في جملة من لا يخذل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن الوقائع لا تشجع على قبول هذا منه ، والكل يعلم : أنه وأكثر المسلمين باستثناء علي «عليه‌السلام» قد فروا عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم أحد ..

__________________

ص ٧٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٧ وج ٦٠ ص ٢٦ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٢٧٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٠ و ١٩٩ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦١٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٧٨ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١١٧ وج ٣ ص ٣١٧ و ٣٣١.

(١) الآية ١ من سورة الحجرات.

٢٨٠