الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

عليه وآله» قد نهى عن الاستغفار لأمه في غزوة بني لحيان ، وقد كان ذلك قبل الحديبية.

بل هم يزعمون : أن قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ..) (١) قد نزلت قبل الهجرة بثلاث سنوات (٢).

ولم تقيّد الرواية هذا النهي بما يوجب التفريق بين المشرك المستتر بشركه ، والمشرك المعلن به ..

غير أننا نقول :

إنه لابد من تقييد هذه الآية وسواها ، بأن المقصود هو : الشرك المعلن دون سواه ، لأن المطلوب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو معاملتهم بما يوجبه ظاهر حالهم .. لا بما علمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خلال علمه الخاص ، وهو علم النبوة ..

فإذا كانوا يعلنون أنهم على الإسلام ، يمارسون شعائره ، فلا يجوز إنكار ذلك عليهم ، ولا فضح أمرهم ، وذلك تأليفا لهم على الإسلام ، ولكي يعيشوا في أجوائه ، ليدخل الإيمان في قلوبهم بصورة تدريجية ، وليمكن أيضا لأبنائهم وعشائرهم ومن يلوذ بهم ، أو يتصل بهم أن يعيشوا مع المسلمين ، وليروا بأم أعينهم محاسن هذا الدين ، كما هو ظاهر.

فالنهي عن الاستغفار للمشرك ، إنما هو بالنسبة للمعلن بشركه ، لا

__________________

(١) الآية ٦ من سورة المنافقون.

(٢) راجع : كتابنا «ظلامة أبي طالب» ، وقد تقدم في الجزء السابق من هذا الكتاب ، حين الحديث عن استغفار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأمه : أن هذه الآية : إنما نزلت لتأكيد إيمان أبي طالب «رحمه‌الله» فراجع.

٢٤١

للمتستر به ..

ولو أراد أن يتنكر للمنافقين لم يكن معنى لوضع سهم المؤلفة قلوبهم ، وذلك واضح لا يخفى.

المنافقون في الحديبية :

وقد ذكروا : أن جماعة من المنافقين قد حضروا في الحديبية ..

وقد صرحت الروايات المتقدمة ، وكذلك الرواية الآتية تحت عنوان «التوحيد ، والاعتقاد بالأسباب» وكذلك روايات أخرى ، أشرنا إليها في الفصل السابق ـ صرحت جميعها ـ : بوجود المنافقين مثل ابن أبي ، والجد بن قيس وغيرهما في غزوة الحديبية ، وبأنهم قد صدرت منهم أمور دعت الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى اتخاذ مواقف تناسب الحال ..

وقد قرأنا آنفا : أن ابن أبي كان على الماء في نفر من المنافقين ، وأنه سئل عن المعجزة التي أظهرها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ فيما يرتبط بفيضان الماء ـ فادّعى أنه رأى مثل هذا .. ثم اعترف لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه لم ير مثله قط.

وأنه طلب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يستغفر له ، فاستغفر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢ وكتاب سليم بن قيس ص ٢٣٩ والبحار ج ٣٨ ص ٣٢٦ وج ٢٢ ص ٩٧ وج ٣٠ ص ١٤٨ وج ٣١ ص ٦٣٣ وتفسير القمي ج ١ ص ٣٠٢ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٦٤ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٤٨.

٢٤٢

ونقول :

إنه إذا كان هؤلاء المنافقون قد حضروا الحديبية ، وإذا كانت بيعة الرضوان قد حصلت في هذه المناسبة ، وبايع جميع من كان مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ بمن فيهم المنافقون ـ وإذا كانوا جميعهم يدخلون الجنة باستثناء صاحب الجمل الأحمر حسبما تقدم ، فإن السؤال الذي يلح بطلب الإجابة الصحيحة والصريحة هو التالي :

إنه بناء على ذلك ، وبناء على قول أهل السنة بعدالة جميع الصحابة ، استنادا إلى آيات بيعة الشجرة وهي قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢).

فإن ابن أبي وجميع من حضر في الحديبية ممن هم على شاكلته ، لابد أن يحكم بصحة إيمانهم استنادا إلى ذلك. ولا يجوز لأهل السنة إطلاق القول بنفاقه أصلا ، فضلا عن دعواهم : أنه كان رأس المنافقين في المدينة.

ويؤكد هذا الأمر ويزيده وضوحا لنا ، وتعقيدا بالنسبة إلى أصول أهل السنة : أنهم يقولون : إن الله سبحانه قال لرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) الآية ١٨ من سورة الفتح.

(٢) الآية ١٠ من سورة الفتح.

٢٤٣

بالنسبة للمنافقين : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (١).

وبعد ما تقدم : فإنه يرد على أهل السنة سؤال آخر ، وهو : إذا لم يكن هؤلاء هم المنافقون! فمن المقصود بالآيات التي تحدثت عن المنافقين في سورة «المنافقون» و «البقرة» و «التوبة» وفي «آل عمران» و.. و.. وتحدث عنهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مناسبات كثيرة كما يظهر من مراجعة كتاب الدر المنثور وغيره من كتب التفسير بالمأثور ، فضلا عن غيرها من كتب الحديث والتاريخ ، وما إلى ذلك؟!

وبناء على ما تقدم نقول :

إن هناك حلولا لهذه المعضلة ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ أن يأخذوا بمذهب أهل البيت «عليهم‌السلام» في عدد التكبير في صلاة الميت حيث رووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يكبر على المنافقين أربعا ، وعلى صحيحي الإيمان خمسا ..

٢ ـ أن يعترفوا : بأن آية بيعة الرضوان لا تدل على عدالة جميع من بايع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل على عدالة خصوص المؤمنين منهم ، ولا بد من معرفة صحة الإيمان في كل واحد منهم بدليل آخر ..

ومما يزيد هذا الاستدلال إشكالا : أن الآية الأخرى قد أشارت إلى احتمالات نكث البيعة من قبل بعض من بايع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٣ ـ أن يتراجعوا عن الحكم بنفاق ابن أبي ، والجد بن قيس ، وغيرهما

__________________

(١) الآية ٨٤ من سورة التوبة.

٢٤٤

ممن حضر الحديبية ، ويحكموا بأنهم أصحاب إيمان صحيح ..

فإذا اختاروا هذا الحل ، فإنهم يكونون قد خالفوا حقيقة ثابتة من الناحية التاريخية ، وعليهم بالإضافة إلى ذلك أن يبيّنوا لنا من هو المقصود بالآيات التي وردت في سورة «المنافقون» ، وفي سورة «البقرة» ، وفي سورة «آل عمران» ، وفي سورة «التوبة» و.. و..؟! ومن هم المقصودون بكلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الشأن؟!

ثم إن عليهم إذا ادّعوا عدم نفاق ابن أبي : أن يبيّنوا لنا سبب سعي عمر لمنع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الصلاة على ابن أبي ، ولماذا لم يستجب له الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين طلب منه عمر الامتناع عن ذلك؟!

أبو سفيان على بئر الحديبية! :

وزعموا : أن أبا سفيان قال لسهيل بن عمرو : قد بلغنا أنه ظهر بالحديبية قليب (١) فيه ماء. فقم بنا ننظر إلى ما فعل محمد. فأشرفا على القليب ، والعين تنبع تحت السهم ، فقالا : ما رأينا كاليوم قط. وهذا من سحر محمد قليل (٢).

وصرحت نصوص أخرى : بأن قريشا قد جاءت إلى الحديبية ، لا خصوص أبي سفيان.

__________________

(١) القليب : هو البئر.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٩١ والبحار ج ١٨ ص ٣٧.

٢٤٥

ونقول :

إن كان ذلك قد حصل قبل الصلح ، فيرد عليه :

أن أبا سفيان لا يجرؤ على المجيء إلى الحديبية إذا كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها ، خصوصا مع وجود تلك الجموع معه ، فإنهم لن يسكتوا عن وجود رجلين غريبين يظهران فيما بينهم ، بل لابد أن يتعرفوا عليهما ، فإذا عرفوهما فسيكون لهم شأن معهما ، وأي شأن.

وإن كان ذلك قد حصل بعد الصلح ، وبعد ارتحال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه من المسلمين ..

فيرد عليه : أنهم يقولون : إن البراء بن عازب قد انتزع ذلك السهم من موضعه ، وذلك حين ارتحال الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين عنه .. فجف الماء كأن لم يكن هناك شيء (١).

ولكننا مع ذلك نقول :

إن أبا سفيان كان يعرف الحديبية ، وأنها لا ماء فيها ، فإذا كان مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ألف وأربع مائة أو خمس مائة رجل ، ومعهم رواحلهم ودوابهم ، وربما طائفة من النساء ، فلا بد أن يحتاجوا إلى الكثير من الماء الذي يعرف أنه غير متوفر في الحديبية.

وهذا يقرّب إلى الذهن أن يكونوا قد سمعوا بأمر البئر ، وبمعجزة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودفعهم ذلك إلى الذهاب إلى هناك بعد رحيله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فرأوا أنها قد غارت أيضا ، لكي يتبين لهم أن

__________________

(١) نفس المصادر السابقة.

٢٤٦

البركات مرهونة به «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولكن عنادهم ، دفعهم إلى الجحود ، واعتبار ذلك من السحر.

ولعلهم أرادوا إطلاق هذه الشائعة ، لكي لا يتأثر الناس بما سمعوه عن معجزات وكرامات حصلت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

التوحيد ، والإعتقاد بالأسباب :

روى الشيخان وأبو عوانة ، والبيهقي عن زيد بن خالد «رضي‌الله‌عنه» قال : خرجنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عام الحديبية ، فأصابنا مطر ذات ليلة ، فصلى بنا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصبح ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : أتدرون ماذا قال ربكم؟

قلنا : الله ورسوله أعلم.

قال : قال الله عزوجل : «أصبح من عبادي مؤمن وكافر ، فأما المؤمن : من قال : مطرنا برحمة الله وبفضل الله ، فهو مؤمن بي وكافر بالكواكب.

وأما من قال : مطرنا بنجم كذا ـ وفي رواية : بنوء كذا وكذا ـ فهو مؤمن بالكواكب كافر بي» (١).

__________________

(١) الديباج على مسلم ج ١ ص ٨٩ وصحيح ابن حبان ج ١ ص ٤١٧ وتفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٨ والجامع لأحكام القرآن ج ٧ ص ٢٢٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٤ وزاد المسير ج ٧ ص ٢٤٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون ج ٨ ص ٥٢١ والمغازي ج ٢ ص ٥٨٩ و ٥٩٠ وموسوعة التاريخ الاسلامي ج ٢ ص ٦١١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٢ وراجع : تذكرة الفقهاء (ط جديد) ج ٤ ص ٢٢٣ والذكرى للشهيد الأول ص ٢٥٢ ومغني المحتاج ج ١ ص ٣٢٦ ـ

٢٤٧

وفي نص آخر : أصبح الناس رجلان مؤمن بالله كافر بالكواكب ، وكافر بالله مؤمن بالكواكب.

قال محمد بن عمر : وكان ابن أبي بن سلول قال : هذا نوء الخريف ، مطرنا بالشعرى.

وروى ابن سعد ، عن أبي المليح ، عن أبيه ، قال : أصابنا يوم الحديبية مطر لم يبل أسافل نعالنا ، فنادى منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن صلوا في رحالكم (١).

__________________

ونيل الأوطار ج ١ ص ٣٣٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٦٠ والوسائل ج ٨ ص ٢٧٢ ومستدرك الوسائل ج ٦ ص ١٩٥ والجواهر السنية ص ١٦٩ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ١٥٨ وعن صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٥٧ ومسند أبي الجعد ص ٤٢٣ والسنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٢٢٩ وصحيح ابن حبان ج ٣ ص ٥٠٣ والأذكار النووية ص ١٨٢ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٣٦ وإرواء الغليل ج ٣ ص ١٤٤ وزاد المسير ج ٧ ص ٢٩٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤٢٧ وج ٣ ص ٣٣٣.

(١) راجع النصوص المتقدمة في : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٢ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ٥ / ٢٥٩ (٤١٤٧) وأخرجه مسلم في الإيمان (١٢٥) والبيهقي في دلائل النبوة ٤ / ١٣١.

ونضيف نحن المصادر التالية : المنتظم ج ٣ ص ٢٧٣ والسيرة ج ٣ ص ٢٥ ومسند أحمد ج ٥ ص ٧٤ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٠٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٧١ وعون المعبود ج ٣ ص ٢٧٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ١٣٧ وصحيح ابن خزيمة ج ٣ ص ٨٠ وصحيح ابن حبان ج ٥ ص ٤٣٥ ـ ٣٤٨ والمعجم الأوسط ج ٨ ص ٣٤٦ والمعجم الكبير ج ١ ص ١٨٨ و ١٨٩ وموارد الظمآن ص ١٢٣

٢٤٨

ونقول :

إن الأمر هنا يحتاج إلى بعض التوضيح ، وذلك على النحو التالي :

إعتقاد العرب بالأنواء :

لقد كان العرب يعتقدون : أن الأنواء هي التي تحدث المطر ، أو الريح.

والأنواء ثمانية وعشرون في كل سنة.

والنوء عبارة عن غروب نجم مع الفجر ، وطلوع رقيبه من المشرق من أنجم المنازل ، وذلك يحصل في كل ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة ـ النجم المعروف ـ فإن لها أربعة عشر يوما.

وكان هذا الاعتقاد راسخا في العرب ، وكان لابد من إزالته. ليصح الاعتقاد بالتوحيد ، وتزول عنهم رواسب الشرك ، وعوارضه ..

القرآن : الغيث والريح بيد الله :

ولم يزل القرآن يصرح بأن الله هو الذي ينزل الغيث ، وهو الذي يزجي السحاب ، ويرسل السماء عليهم مدرارا ، وهو الذي يرسل الرياح.

فقال تعالى : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١).

وقال : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (٢).

__________________

ـ وعن كنز العمال ج ٨ ص ٣٠٩ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٠٥ والتاريخ الكبير ج ٢ ص ٢١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٢٥.

(١) الآية ٥٢ من سورة هود والآية ١١ من سورة نوح.

(٢) الآية ٣٤ من سورة لقمان.

٢٤٩

وقال : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) (١).

وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٢).

وعن الرياح يقول : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٣).

ويقول : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (٤).

ويقول : (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (٥).

ويقول : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) (٦).

سعي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا قتلاع هذا الاعتقاد :

وقد حفلت كتب الحديث والتاريخ وغيرها بالنصوص الواردة عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والتي تدين هذا الاعتقاد ، وتدعو للتخلص منه ..

وهذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه هو أحد مفردات الدعوة ، حيث أخبرهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن الله سبحانه : أن من يقول

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة التوبة.

(٢) الآية ٤٣ من سورة النور.

(٣) الآية ٢٢ من سورة الحجر.

(٤) الآية ٥٧ من سورة الأعراف ونحوها الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٥) الآية ٦٣ من سورة النمل.

(٦) الآية ٤٨ من سورة الروم.

٢٥٠

مطرنا بنجم كذا ، أو بنوء كذا ، فهو كافر بالله.

وليس المراد هنا : كفر النعمة ، كما يحاول البعض أن يدّعي ، بل المراد الكفر الحقيقي ، لأنه يريد أن يذكر لهم منطق أهل الجاهلية ، لكي يقرر : أن القول : بأن الفاعل الحقيقي للمطر وللريح هو النوء الفلاني ، كفر صريح لا يلتقي مع الإيمان بشيء.

وقد روي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : «لو أمسك الله المطر عن الناس سبع سنين ، ثم أرسله ، لأصبحت طائفة كافرين ، قالوا : هذه بنوء الدبران» أو المجدح كما ورد في الروايات (١).

مع أن انقطاع المطر عنهم سبع سنين يدل على : أن الأنواء لا تأثير لها ، لأن الأنواء موجودة طيلة هذه السنين السبع كلها. ولم يؤثر وجودها في نزول المطر.

وقد ذكر السيوطي في كتابه : «الدر المنثور» ج ٦ ص ١٦٢ ـ ١٦٤ أحاديث كثيرة عن عشرات المصادر ، صريحة بإدانة ـ وبعضها يصرح بكفر ـ من يصرّ على أن التأثير في المطر هو للأنواء ، فراجع.

__________________

(١) البحار ج ٥٥ ص ٣٢٩ وراجع ص ٣٢٧ ـ ٣٣٠ والدر المنثور ج ٦ ص ١٦٣ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥ والبرهان (تفسير) ج ٤ ص ٢٨٣ وصحيح ابن حبان ج ١٣ ص ٥٠٠ ومسند أحمد ج ٣ ص ٧ وراجع : سنن النسائي ج ٣ ص ١٦٥ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٣٣١ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٥٦٤ وج ٦ ص ٢٣٠ وراجع : مسند أبي يعلى ج ٢ ص ٤٨٢ وصحيح ابن حبان ج ١٣ ص ٥٠١ وكتاب الدعاء ص ٢٩٨ وموارد الظمآن ص ١٦٠ وعن كنز العمال ج ٣ ص ٦٣٦ وتفسير القرآن للصنعاني ج ٣ ص ٢٧٤ والتاريخ الكبير ج ٧ ص ٥٥ وتهذيب الكمال ج ١٩ ص ٢٩٠.

٢٥١

واللافت هنا : أنه رغم كثرة تعرض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لإدانة هذا الاعتقاد فقد نقل عن عمر بن الخطاب أنه قال : مطرنا كذا.

واعتذر عنه الحلبي : بأنه لعله لم يبلغه النهي عن ذلك (١).

ولكن من الواضح : أن عمر كان حاضرا في الحديبية ، كما صرح به الحلبي نفسه.

وربما يقال : إن هذا الاعتذار يبقى مجرد احتمال.

وهناك احتمال آخر ، وهو : أنه قد قال ذلك على سجيته ، متأثرا بما كان يعتقده في الجاهلية ..

ولعل من ذكر : أن المراد هو : كفر النعمة ، وأن النهي ليس نهي تحريم بل هو نهي كراهة (٢) قد أراد حفظ ماء الوجه للخليفة الثاني في قوله هذا ..

والله هو العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٥٢

الفصل الخامس :

اتصالات .. ومداولات

٢٥٣
٢٥٤

هدايا قبلت :

وأهدى عمرو بن سالم ، وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غنما وجزورا ، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزرا ـ وكان صديقا له ـ فجاء سعد بالجزر إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخبره أن عمرا أهداها له ، فقال : «وعمرو قد أهدى لنا ما ترى ، فبارك الله في عمرو».

ثم أمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه ، وفرق الغنم فيهم عن آخرها ، وشرك فيها ، فدخل على أم سلمة من لحم الجزور كنحو ما دخل على رجل من القوم.

وشرك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في شاته ، فدخل على أم سلمة بعضها ، وأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للذي جاء بالهدية بكسوة (١).

ونقول :

إنه لم يظهر من نصوص التاريخ إسلام عمرو بن سالم ، أو بسر بن سفيان الخزاعي فإن كانا أو أحدهما ما زال على الشرك ، فإن قبول هديتهما

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٢ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦١١.

٢٥٥

يتنافى مع ما روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه لا يقبل هدية مشرك. وقد تقدم ذلك في الفصل الذي تحدثنا فيه عن إيمان أبي طالب ، فراجع.

فقبوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هديتهما يدل على تقدم إسلامهما. ويدل على ذلك أيضا ، ما صرحت به هذه الرواية ، من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا لعمرو بقوله : «فبارك الله في عمرو».

إتصالات ومداولات :

لما اطمأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالحديبية : جاءه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، منهم : عمرو بن سالم ، وخراش بن أمية ، وخارجة بن كرز ، ويزيد بن أمية. وكانوا عيبة نصح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتهامة ، منهم المسلم ، ومنهم الموادع. لا يخفون عنه بتهامة شيئا.

فلما قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سلموا ، فقال بديل بن ورقاء : جئناك من عند قومك ، كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، والنساء والصبيان ، يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إنّا لم نأت لقتال أحد ، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ، إن قريشا قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة يأمنون فيها ، ويخلون فيما بيننا وبين الناس ـ والناس أكثر منهم.

فإن أصابوني فذلك الذي أرادوا.

٢٥٦

وإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو يقاتلوا وقد جمّوا.

وإن هم أبوا فو الله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، ولينفذن الله تعالى أمره».

فوعى بديل مقالة رسول الله ، وقال : سأبلغهم ما تقول : وعاد وركبه إلى قريش ، فقال ناس منهم : هذا بديل وأصحابه ، وإنما يريدون أن يستخبروكم ، فلا تسألوهم عن حرف واحد.

فلما رأى بديل أنهم لا يستخبرونه قال : إنّا جئنا من عند محمد ، أتحبون أن نخبركم عنه؟

فقال عكرمة بن أبي جهل ، والحكم بن أبي العاص : ما لنا حاجة بأن تخبرونا عنه ، ولكن أخبروه عنا : أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدا ، حتى لا يبقى منا رجل.

فأشار عليهم عروة بن مسعود الثقفي بأن يسمعوا كلام بديل ، فإن أعجبهم قبلوه ، وإلا تركوه ، فقال صفوان بن أمية ، والحارث بن هشام : أخبرونا بالذي رأيتم وسمعتم.

فقال بديل لهم : إنكم تعجلون على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إنه لم يأت لقتال ، إنما جاء معتمرا ، وأخبرهم بمقالة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال عروة : يا معشر قريش ، أتتهمونني؟

قالوا : لا.

قال : ألستم بالوالد؟!

قالوا : بلى.

٢٥٧

قال : ألست بالولد؟

قالوا : بلى.

وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس القرشية.

قال : «ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ لنصركم ، فلما تبلّحوا علي نفرت إليكم بنفسي ، وولدي ، ومن أطاعني؟

قالوا : قد فعلت ، ما أنت عندنا بمتهم.

قال : إني لكم ناصح ، وعليكم شفيق ، لا أدخر عنكم نصحا ، فإن بديلا قد جاءكم بخطة رشد لا يردها أحد أبدا ، إلا أحد شر منها. فاقبلوها منه ، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده ، وأنظر إلى من معه ، وأكون لكم عينا آتيكم بخبره.

فبعثته قريش إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : يا محمد ، تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، قد لبسوا جلود النمور ، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم ، وإنما أنت ومن قاتلهم بين أحد أمرين أن تجتاح قومك ، ولم يسمع برجل اجتاح قومه وأهله قبلك. أو بين أن يخذلك من ترى معك ، وإني والله لا أرى معك وجوها ، وإني لا أرى إلا أوباشا.

وفي رواية : فإني لأرى أوشابا (١) من الناس ، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم ، وخليقا أن يفروا ويدعوك.

__________________

(١) الأوشاب : الأوباش ، والأخلاط من الناس ، انظر المعجم الوسيط ٢ / ١٠٤٥.

٢٥٨

وفي رواية : وكأني بهم لو قد لقيت قريشا أسلموك ، فتؤخذ أسيرا ، فأي شيء أشد عليك من هذا؟

فغضب أبو بكر ـ وكان قاعدا خلف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : امصص بظر اللات ، أنحن نخذله ، أو نفرّ عنه؟!

فقال عروة : من ذا؟

قالوا : أبا بكر.

فقال عروة : أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجيبنك.

وكان عروة قد استعان في حمل دية ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث ، وأعانه أبو بكر بعشر فرائض.

فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة.

وطفق عروة كلما كلّم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مس لحية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسيف ، على وجهه المغفر ـ لما قدم عروة لبسها ـ فطفق المغيرة كلما أهوى عروة بيده ليمس لحية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرع يده بنعل السيف ويقول : اكفف يدك عن مس لحية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل ألا تصل إليك ، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه.

فلما أكثر عليه غضب عروة وقال : ويحك!! ما أفظك وأغلظك!

وقال : ليت شعري!! من هذا الذي آذاني من بين أصحابك؟ والله لا أحسب فيكم ألأم منه ، ولا أشر منزلة.

فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة».

٢٥٩

فقال عروة : وأنت بذلك يا غدر ، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلا أمس ، لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر.

وجعل عروة يرمق أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعينه ، فو الله ما يتنخم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلوا على وضوئه ، ولا يسقط شيء من شعره إلا أخذوه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه ، تعظيما له.

فلما فرغ عروة من كلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورد عليه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مثل ما قال لبديل بن ورقاء ، وكما عرض عليهم من المدة. فأتى عروة قريشا ، فقال :

يا قوم ، إني وفدت إلى الملوك : كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، وإني والله ما رأيت ملكا قط أطوع فيما بين ظهرانيه من محمد في أصحابه ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، وليس بملك.

والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أيهم يظفر منه بشيء ، ولا يسقط شيء من شعره إلا أخذوه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، ولا يتكلم رجل منهم حتى يستأذن ، فإن هو أذن له تكلم ، وإن لم يأذن له سكت.

وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، قد حرزت القوم.

واعلموا أنكم إن أردتم منهم السيف بذلوه لكم.

٢٦٠