السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٢
تدمير موقع الخطر دون سواه ، فعمل على التخلص من خصوص الساعي في تأليب الناس وجمعهم لحرب المسلمين ، وهو ابن رزام نفسه ، أما قومه ، فلم يردهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. لاحتمال أن يكون لهم عذرهم في الانقياد لأسير ، والانخداع بما كان يقدمه لهم من مبررات ..
وهذا في الحقيقة : إحسان من النبي «صلىاللهعليهوآله» إليهم ، وإعطاء الفرصة لهم لإعادة النظر في الأمور بروية وتعقل.
وهذا يدلنا : على أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يكن همه إرسال عصابات القتل ، والسلب ، والنهب في كل اتجاه ، كما ربما يراد الإيحاء به ، أو التسويق له ، بل كان يريد دفع شر الأعداء عن أهل الإسلام ، حينما يتضح له بصورة قاطعة أنهم بصدد تسديد ضربتهم للإسلام والمسلمين.
ب ـ استعمال أسير على خيبر :
وما ذكروه لأسير بن رزام : من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يريد أن يستعمله على خيبر ، غير ظاهر الوجه ، لأن المفروض : أن هذه السرية كانت سنة ست ، أي قبل فتح حصون خيبر بمدة طويلة ، إلا إذا كان المقصود هو استعماله على حصون خيبر ، التي كانت بيد اليهود ، وهم لم يكونوا تحت سيطرة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
بل كان جعله على خيبر يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، لأن المفروض حسب زعم الرواية : أن يهود خيبر قد أمّروا أسير بن رزام عليهم بعد قتل ابن أبي الحقيق ، فما معنى هذا العرض؟!
فلعل الصحيح : هو أن هذه السرية قد كانت بعد فتح خيبر ، ويكون
اليهود الذين تفرقوا في البلاد ، أو أبقاهم النبي «صلىاللهعليهوآله» ليعملوا في أرض خيبر قد جعلوا عليهم ابن رزام ، فسعى لنقض العهد ، وجمع الجموع لحرب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فجاءه ابن رواحة في ثلاثين رجلا ، وكان ما كان ، من تطميعه بالولاية على خيبر من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ثم انتهى الأمر بقتله ، وقتل من معه ..
وأبقي «صلىاللهعليهوآله» اليهود على أعمالهم في خيبر ؛ لأنهم لم يشاركوا ابن رزام في مساعيه ..
ولعل هذا أولى بالقبول من القول : بأن القضية قد حصلت قبل خيبر ، وأن المقصود : أنه «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يجعله على غطفان ، وغيرها من القبائل الساكنة في تلك المناطق.
أو أنهم أرادوا طمأنته إلى أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يأبى من أن يكون أميرا على خيبر ، بل هو يعطيه أيضا تفويضا بذلك ، ويستعمله عليها ، فقبل ابن رزام ، المتوجس خيفة من الحرب ذلك منهم ، لأنه رأى أنه قد ضمن السلام والسلامة ، وأبعد عن مخيلته شبح الحرب ، وكابوسها المخيف والمرعب الذي رأى بعض فصوله في حروب المسلمين مع بني قينقاع ، والنضير ، ومع المشركين في بدر وفي أحد.
وقد يهوّن عليه تصديق هذه المقولة : ما دخل في وهمه من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد ملّ الحرب (١).
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٣.
ولكن في نص آخر قال أسير بن رزام : «بلى قد مللنا الحرب» (١).
وهذا يؤيد : أنه كان يريد أن يتخلص من شبح الحرب ، التي ملها الناس من حوله.
وفي جميع الأحوال نقول : إن الأرجح هو أن تكون هذه السرية قد حصلت بعد فتح خيبر حسبما أوضحناه.
ج ـ من هو الغادر؟
وذكروا : أنهم حين ساروا برفقة أسير بن رزام «حمل عبد الله بن أنيس أسير بن رزام على بعيره ، قال عبد الله بن أنيس : فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ، وندم أسير ، وأهوى بيده إلى سيفي ، ففطنت له ، ودفعت بعيري ، وقلت : أغدرا أي عدو الله؟!
فدنوت منه لأنظر ما يصنع ، فتناول سيفي. فغمزت بعيري ، وقلت : هل من رجل ينزل يسوق بنا؟!
فلم ينزل أحد.
فنزلت عن بعيري ، فسقت بالقوم ، حتى انفرد لي أسير ، فضربته بالسيف ، فقطعت مؤخرة الرجل ، واندرت عامة فخذه وساقه ، وسقط عن بعيره ، وفي يده مخرش الخ ..» (٢).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١١١ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٩٦.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١١٢ وج ١٠ ص ٢٤ والبحار ج ٢٠ ص ٤١ وإعلام الورى ج ١ ص ٢١١.
ونقول :
إن هذا النص وأمثاله على درجة كبيرة من الغموض بل هو موضع شك وريب أيضا .. فإنه إذا كان ابن أنيس قد فطن لغدر ابن رزام ، وصرح فعله عن غدره هذا ، فمن المتوقع أن يحتاط أسير لنفسه ، ويتباعد عن مرافقه ، ويفر منه ، وأن يعلن عزمه على العودة من مسيره ذاك.
ومن جهة ثانية ، نقول :
قد روي أن قتل أسير كان على يد عبد الله بن رواحة فراجع (١).
ومن جهة ثالثة ، نقول :
كيف لم يسمع أحد من المرافقين ، وهم ما يقرب من ستين رجلا ما قاله ابن أنيس لرفيقه؟ ..
كما لم يروا ما دار بينهما من تجاذب للسيف!! وثمة أسئلة أخرى تحتاج إلى الإجابة هنا ، وهي التالية :
كيف صار اليهود ردفاء للمسلمين؟! ألم يكن لدى ذلك الرئيس المطاع أعني أسير بن رزام ولدى سائر من معه ، خيل ، أو إبل يركبونها ، حتى احتاجوا إلى الارتداف خلف أناس ، كانوا إلى ما قبل ساعة يسعون لجمع الناس لحربهم؟!.
وهل فكر أولئك اليهود الرؤساء بكيفية رجوعهم ، من مسيرهم ذاك؟ وهل سوف يرجعون سيرا على الأقدام؟ أم على الخيل؟ أم على الإبل؟!
وعلى أية خيل أو إبل سيعودون إلى بلادهم؟.
__________________
(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤١٨.
وإذا لم يكن هناك ارتداف وكان كل واحد منهم يركب بعيره الخاص به ، فكيف وصلت يد أسير بن رزام إلى سيف ابن أنيس؟.
وهل جاء ابن رواحة ومن معه في مهمتهم تلك على الخيل؟ أم على الإبل؟
فإن كانوا جاؤوا على الخيل ، فمن أين جاءت الإبل؟ وإن كانوا جاؤوا على الإبل ، فهل الإبل هي المراكب المناسبة لمهمات كهذه؟.
وعن قصة قتل ابن أبي الحقيق نقول :
قد تقدم : أن ابن عتيك هو الذي قتله ، وقد أصيب ابن عتيك ، وبانت يده فمسح النبي «صلىاللهعليهوآله» عليها فلم تكن تعرف من اليد الأخرى (١).
د ـ ابن أنيس وقصة العصا :
وعن قصة العصا التي أعطاها النبي «صلىاللهعليهوآله» لابن أنيس ، نقول :
أولا : إن نفس هذه الدعوى قد ادّعاها ابن أنيس لنفسه في قضية قتل سفيان بن خالد ، حيث زعم : أنه هو الذي أنجز هذه المهمة ، وأعطاه النبي «صلىاللهعليهوآله» العصا ليعرفه بها ، ثم جعلها بين كفنه وجلده ..
فهل تكررت هذه الواقعة كما يحلو للبعض أن يتخيل؟!
فإن كان الأمر كذلك ، فإن نفس الحلبي الشافعي ربما تتشوق للسؤال
__________________
(١) البحار ج ١٠ ص ٤٦ وج ١٧ ص ٢٩٤ وج ٢٠ ص ٣٠٣ وراجع أيضا : مسند أبي يعلى ج ٢ ص ٢٠٦ من له رواية في مسند أحمد ص ٢٤١ وغير ذلك.
عن حكمة تكرير ذلك له ، وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة.
ثانيا : لا ندري لماذا يحتاج ابن أنيس إلى علامة تعرّف النبي «صلىاللهعليهوآله» به!! فهل يحتاج النبي حقا في معرفته لابن أنيس إلى علامة؟!
ولماذا لا يعرفه إذا رآه ، من حيث إنه يحفظ صورة وجهه في ذاكرته؟!
أم أن ذاكرته «صلىاللهعليهوآله» سوف تضعف حين يدخله الله الجنة؟!
وإذا كان الأمر كذلك ، فما هي العلامات التي كان «صلىاللهعليهوآله» يعرف بها نساء أصحابه.
إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تحتاج إلى جواب ..
٥ ـ سرية زيد بن حارثة إلى مدين :
قالوا : وبعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» زيد بن حارثة إلى مدين ، فأصاب سبيا من أهل ميناء ، وهي السواحل ، فبيعوا ، ففرقوا بين الأمهات وأولادهن. فخرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهم يبكون ، فقال : ما لهم؟!
فأخبر خبرهم.
فقال : لا تبيعوا إلا جميعا (١).
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٦ ودعائم الإسلام ج ٢ ص ٦٠ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٥١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٠٦.
تحفظ على سرية مدين :
ونقول :
إن لنا تحفظا على هذه السرية ، يتلخص في أن «مدين» هي قرية شعيب ، وقد سميت باسم مدين بن إبراهيم ، وكان بينها وبين مصر ثمان مراحل (١). ولكنها لم تكن في سلطة فرعون.
وفي معجم ما استعجم : أنها بلد بالشام ، معلوم ، تلقاء غزة. وهو منزل جذام ، وشعيب النبي المبعوث إلى أهل مدين أحد بني وائل ، من جذام (٢).
والسؤال هو :
كيف استطاع زيد أن يخترق كل تلك التجمعات السكانية ، وكانت كلها معادية له ولدينه ، ويقطع هذه المئات من الأميال ، ولا يعارضه أحد من أهل الشرك والكفر ، الذين كانوا في تلك المفاوز والقفار النائية ، والتي قد يكون لقيصر الروم حساسية خاصة تجاه غزوها ، كما ظهر في قضية غزوة مؤتة.
ثم هو يحارب أهل مدين ، ويأسر النساء والأطفال من أهل ميناء ، ثم لا ينجد هؤلاء المنكوبين أحد من أهل نحلتهم ، ومن هم على دينهم ..
إننا ، وإن كنا لا نستطيع أن نعتبر هذه التساؤلات دليلا قاطعا على النفي ، ولكنها ترشد إلى لزوم التريث في الحكم القاطع بصحة هذه النقولات.
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ عن أنوار التنزيل.
(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ عن معجم ما استعجم.
إحترام المشاعر الإنسانية :
إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أمر بعدم التفريق بين الأم وولدها في البيع. والذي نريد أن نوجه النظر إليه هو :
أن هناك اختلافا في النظرة إلى هذا الكائن الإنساني ، وفي مبررات تكريمه ، أو إهانته ، ينشأ عنها اختلاف في التعامل معه في هذا الاتجاه أو ذاك أيضا.
فقد تعطى القيمة للإنسان على أساس العصبيات العرقية أو القومية ، وقد تبنى العلاقة بالإنسان على أساس المنفعة والمصلحة ، أو اللذة العاجلة. وما إلى ذلك ..
وهناك من يعطي القيمة للإنسان استنادا إلى مجرد كونه كائنا بشريا وحسب.
ولكن القيمة في الإسلام تستند إلى عنصرين أساسيين :
أحدهما : كونه بشرا ونظيرا لك في الخلق.
والثاني : كونه أخا لك في الدين.
وفقد أحد هذين العنصرين لا يلغي الحق الثابت له من خلال توفر العنصر الآخر .. وإن اختلفت طبيعة هذا الحق الثابت ، بالنسبة إلى كل واحد منهما ..
وعلى هذا الأساس نقول :
إنه إذا فقد الالتزام الديني لدى الإنسان ، واتجه نحو ممارسة العدوان ، فإن ذلك ، وإن كان يسلبه الحق الذي ينشأ عن الالتزام الديني ، ولكنه لا يستطيع أن يسقط الحق الثابت له بالاستناد إلى بشريته ، وإلى نوع خلقته وتكوينه.
فمن يؤسر أو يسبى ، نتيجة ظروف الصراع معه ، من أجل امتلاك حرية
التدين التي يسعى لسلبها منك ، وإن كان يحرم الحقوق التي تثبتها الأخوة الدينية ، ولكن الحقوق التي يثبتها له كونه نظيرا في الخلق ، لا يمكن إسقاطها ..
ولذلك نهى النبي «صلىاللهعليهوآله» عن التفريق بين الأم وولدها ، وفرض أن لا يباعا إلا جميعا ، حسبما تقدم.
ولهذا نقول :
إن نهي النبي «صلىاللهعليهوآله» عن هذا التفريق ليس مجرد قرار شخصي ، أو نتيجة توهج عاطفي ، بل هو حكم إلهي مستند إلى مبرراته الموضوعية ، وينطلق من طبيعة النظرة إلى الحقوق ، وإلى مناشئها ..
الفصل السادس :
حديث الإستسقاء
حديث الاستسقاء :
وفي شهر رمضان من سنة ست استسقى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لأهل المدينة فمطروا ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : أصبح الناس مؤمنا بالله ، كافرا بالكواكب.
وذلك لأن الناس كانوا قد قحطوا ، فطلبوا منه «صلىاللهعليهوآله» أن يستسقي لهم ، فخرج ، ومعه الناس يمشون بالسكينة والوقار ، إلى المصلى ، فصلى بهم ركعتين ، يجهر بالقراءة فيهما ، وقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى ، والثانية بفاتحة الكتاب ، وهل أتاك حديث الغاشية ..
ثم استقبل الناس بوجهه ، وقلب رداءه ، لكي ينقلب القحط إلى الخصب ، ثم جثا على ركبتيه ، ورفع يديه ، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ، ثم قال : اللهم اسقنا وأغثنا غيثا مغيثا ، وحياء ربيعا .. الخ ..
فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب ، فالتأم بعضه إلى بعض ، ثم أمطرت سبع أيام بلياليهن ، فأتاه المسلمون ، وقالوا : يا رسول الله ، قد غرقت الأرض ، وتهدمت البيوت ، وانقطعت السبل ، فادع الله تعالى أن يصرفها عنا.
فضحك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهو على المنبر حتى بدت نواجذه ، تعجبا لسرعة ملالة بني آدم. ثم رفع يديه ، ثم قال :
حوالينا ، ولا علينا ، اللهم على رؤوس الظراب ، ومنابت الشجر ، وبطون الأودية ، وظهور الآكام.
فتصدعت عن المدينة حتى كانت مثل ترس عليها ، كالفسطاط ، تمطر مراعيها ، ولا تمطر فيها قطرة (١).
ثم قال : لله أبو طالب ، لو كان حيا لقرت عيناه ، من الذي ينشدنا قوله!
فقام علي «عليهالسلام» ، فقال : يا رسول الله ، كأنك أردت :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يلوذ به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل |
كذبتم وبيت الله يردى محمد |
|
ولما نقاتل دونه ونناضل |
ونسلمه حتى نصرع حوله |
|
ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أجل.
فقام رجل من كنانة يترنم ، ويذكر هذه الأبيات :
لك الحمد والشكر ممن شكر |
|
سقينا بوجه النبي المطر |
دعا الله خالقنا دعوة |
|
إليه وأشخص منه البصر |
ولم يك إلا كقلب الرداء |
|
وأسرع حتى رأينا المطر |
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤ وراجع : مناقب أمير المؤمنين للكوفي ج ١ ص ٨٢ والمصنف للصنعاني ج ٧ ص ٩٢ و ٤٣١ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤٢٥ و ٤٢٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٤٤٠ و ٤٤٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٤ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٣٠٠ والأحاديث الطوال ص ٧١ وكتاب الدعاء للطبراني ص ٥٩٧ وراجع : المعجم الأوسط ج ٧ ص ٣٢١.
دفاق الغرائل جم البعاق |
|
أغاث به علينا مضر |
وكان كما قاله عمه |
|
أبو طالب أبيض ذو غرر |
به الله يسقيه صوب الغمام |
|
وهذا العيان لذاك الخبر |
فمن يشكر الله يلق المزيد |
|
ومن يكفر الله يلق العبر (١) |
ونقول :
إن لنا ههنا وقفات ، هي التالية :
الاستسقاء أكثر من مرة :
إن مراجعة النصوص التاريخية يفيد : أنه «صلىاللهعليهوآله» ، قد استسقى أكثر من مرة ، إحداها حين رجع من تبوك في سنة تسع ، بطلب من وفد بني فزارة (٢).
وسيأتي الحديث عنها في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبيان ما فيها من روايات مكذوبة تضمنت التجسيم ، ونسبة الضحك إلى الله سبحانه ، وغير ذلك من أكاذيب ، وترهات وأباطيل ، وفيها أيضا الكثير من الجرأة والوقاحة ،
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٤٤٠ و ٤٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٢ و ٢٣٥ وأمالي المفيد ص ٣٠٥.
(٢) راجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ١٤٣ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٩٢ وج ١ ص ٢٩٧.
وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٥ و ٩٦ وج ٥ ص ١٠٣ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤٢٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٣٠٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٧١.
فيما ينسبونه لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» من أنه تنبأ بأن أبا لبابة يقوم عريانا ، يسد ثعلب مربده وغير ذلك ..
اللهم حوالينا ولا علينا :
واللافت هنا : أن الناس حين استمر المطر أسبوعا كاملا طلبوا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، أن يدعو الله بأن يكف بعضا من ذلك عنهم ، فدعا الله بقوله : «اللهم حوالينا ولا علينا» ، فانجابت السحابة عن المدينة ، واستمر المطر ينهمر على أطرافها ..
وتحكى هذه الحادثة في مختلف وقائع الاستسقاء ، التي رويت .. وهي شاهد على أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد استجاب لهم ، وتصدى للتصرف في أمور التكوين ، ولكن بطريقة الطلب من الله تعالى ، فجاءت الاستجابة الإلهية متوافقة مع إرادته «صلىاللهعليهوآله». ولتكن هذه القضية شاهدا لما اصطلح عليه العلماء ، بالولاية التكوينية للمعصوم ، والتي تعني أن تكون إرادته «عليهالسلام» في سلسلة العلل لحدوث أمثال هذه الأمور.
وقد أوضحنا هذا الأمر في كتابنا خلفيات كتاب مأساة الزهراء «عليهاالسلام» ، فيمكن للقارئ أن يرجع إليه ويطلع عليه ..
لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء :
وقد ذكرت بعض الروايات : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» ، حين استسقى رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ، ودعا .. وكان لا يرفع يديه في
شيء من الدعاء إلا في الإستسقاء (١).
ونقول :
أولا : إن رواية الاستسقاء التي تقدم ذكرها لم تذكر : هل أنه «صلىاللهعليهوآله» في الركعة الأولى قد كبر بعد قراءة الحمد والسورة خمس تكبيرات ، وقنت خمس قنوتات ، ولا أنه قد كبر في الركعة الثانية أربع تكبيرات وقنت أربع قنوتات ، مع أن هذا هو ما يميز هذه الصلاة عما عداها ، لأنها ليست مجرد ركعتين كصلاة الصبح ، ولا شيء أكثر من ذلك.
ثانيا : إن الأحاديث دلت على أنه «صلىاللهعليهوآله» ، كان يرفع يديه
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٢ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣٧٠ وج ٣ ص ١٨١ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٦١ وعن صحيح البخاري ج ٢ ص ٢١ وج ٤ ص ١٦٧ وصحيح مسلم ج ٣ ص ٢٤ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٢٦٠ وسنن النسائي ج ٣ ص ١٥٨ و ٢٤٩ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٣٢٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٢١٠ و ٣٥٧ وشرح صحيح مسلم ج ٦ ص ١٩٠ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٣٤٢ و ٤٢٢ وشرح سنن النسائي ج ٣ ص ١٥٨ والديباج على مسلم ج ٢ ص ٤٦٩ وتحفة الأحوذي ج ٩ ص ٢٣٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ٣٧٠ ومسند أبي يعلى ج ٥ ص ٣١١ و ٣٣٣ و ٣٣٩ و ٣٤٧ و ٣٩٩ وصحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٣٣٣ وج ٣ ص ١٤٧ وصحيح ابن حبان ج ٧ ص ١١٣ وكتاب الدعاء ص ٥٩٥ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٥٥ و ٦٣ ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص ١٧٧ وإرواء الغليل ج ٣ ص ١٤١ وعن الكامل ج ٦ ص ٣٧٣ وتاريخ بغداد ج ٢ ص ٧٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٢ ص ١٥ وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ٣٨٩ وسير أعلام النبلاء ج ١٣ ص ٢٥٣ وذكر أخبار أصفهان ج ١ ص ١٤١ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٠.
في الدعاء كثيرا ، وقد ذكر الصالحي الشامي أنه يوجد في صحيحي البخاري ومسلم ، أو في أحدهما : نحو ثلاثين حديثا صرح بذلك (١) .. فكيف بما في غيرهما من كتب الحديث والسيرة؟!
عبد المطلب يستسقي برسول الله صلىاللهعليهوآله :
وقد ذكر الشهرستاني : أنه لما أصاب أهل مكة ذلك الجدب العظيم ، وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر عبد المطلب ولده أبا طالب أن يحضر المصطفى «صلىاللهعليهوآله» ، وهو رضيع في قماط. فوضعه على يديه ، واستقبل الكعبة ، ورماه إلى السماء ، وقال : يا رب ، بحق هذا الغلام (٢).
ورماه ثانيا وثالثا ، وكان يقول : بحق الغلام ، اسقنا غيثا مغيثا ، دائما هاطلا.
فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء ، وأمطر حتى خافوا على المسجد.
وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي ، الذي منه :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
ثم ذكر أبياتا من القصيدة (٣).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٦ وراجع : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ـ مادة : رفع.
(٢) الغدير ج ٧ ص ٣٤٦.
(٣) الملل والنحل ج ٣ ص ٢٢٥ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١١٩ والغدير ج ٧ ص ٣٤٦ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤١٢.
ولكن من يلاحظ لامية أبي طالب يجد أنها تشير إلى أحداث وقعت بعد نبوة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. الأمر الذي يدل على أنه رحمهالله لم ينظمها دفعة واحدة ، بل هو قد نظم بعض مقاطعها في زمن أبيه عبد المطلب ، ثم أتمها في أزمنة لاحقة ، بعد بعثة رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
أبو طالب يستسقي بالرسول صلىاللهعليهوآله ثلاث مرات :
هذا .. وقد روي : أن أبا طالب استسقى برسول الله «صلىاللهعليهوآله» أيضا في صغره ، لما تتابعت عليهم السنون ، فأهلكتهم ، فخرج به «صلىاللهعليهوآله» إلى أبي قبيس ، وطلب السقيا بوجهه ، فسقوا ، فقال يمدحه «صلىاللهعليهوآله» :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة الأرامل (١) |
والظاهر : أنه كرر إنشاد هذه الأبيات ، بعد أن كان قد قالها حين استسقاء عبد المطلب به.
وروى ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة ، قال : «قدمت مكة ، وقريش في قحط ، فقائل منهم يقول : اعتمدوا اللات والعزى.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٤٨٩ عن ابن سعد ، والطبراني ، وشرح الأخبار ج ٣ ص ٢٢٣ وأمالي المفيد ص ٣٠٤ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٥٩ والعمدة ص ٤١٢ والطرائف ص ٣٠١ والصراط المستقيم ج ١ ص ٣٣٤ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٤٩٥ وحلية الأبرار ج ١ ص ٨٤ والبحار ج ١٩ ص ٣ ص ٢٥٥ وج ٣٥ ص ١٦٦ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٥٣ وأبو طالب حامي الرسول ص ١٠٦ و ١٠٨ و ١١١ والغدير ج ٧ ص ٣٣٩.
وقائل منهم يقول : اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى.
فقال شيخ وسيم ، حسن الوجه ، جيد الرأي : أنى تؤفكون ، وفيكم بقية إبراهيم ، وسلالة إسماعيل؟!
قالوا : كأنك عنيت أبا طالب؟
قال : إيها.
فقاموا بأجمعهم ، وقمت معهم ، فدققنا عليه بابه ، فخرج إلينا رجل حسن الوجه ، عليه إزار قد اتشح به ، فثاروا إليه ، فقالوا : يا أبا طالب ، أقحط الوادي ، وأجدب العيال! فهلم فاستسق لنا!!
فخرج أبو طالب ، ومعه غلام ، كأنه شمس دجنة ، تجلت عليه سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة. فأخذه أبو طالب ، فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بأضبعه الغلام ، وما في السماء قزعة. فأقبل السحاب من ههنا وههنا ، فأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي.
وفي ذلك يقول أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة الأرامل |
يلوذ به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل |
وقال ابن سعد : حدثنا الأزرق ، حدثنا عبد الله بن عون ، عن عمرو بن سعيد : أن أبا طالب قال : كنت بذي المجاز مع ابن أخي ، يعني النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فأدركني العطش ، فشكوت إليه ، فقلت : يابن أخي قد عطشت. وما قلت له ذلك ، وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع ، قال : فثنى وركه.
ثم قال : يا عم عطشت؟
قلت : نعم.