الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-186-6
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٦

١
٢

٣
٤

الباب السادس

زواج زينب وأحداث أخرى بعد المريسيع

الفصل الأول : متفرقات في السنة الخامسة

الفصل الثاني : زينب بنت جحش في بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

الفصل الثالث : اكاذيب وأباطيل في حديث الزواج

الفصل الرابع : الحجاب في حديث الزواج

الفصل الخامس : استطرادات على هامش حديث الزواج

٥
٦

الفصل الأول :

متفرقات في السنة الخامسة

٧
٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم الغيب :

وبعد أن عالج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذيول قضية جهجاه ، سار بالناس حتى نزل على ماء فويق النقيع ، يقال لها : نقعاء. (وعلى حد تعبير البيهقي : لما نزل صنعاء ، من طريق عمان سرح الناس أنعامهم الخ ..) فهاجت ريح شديدة آذتهم ، وتخوفوها. وضلت ناقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» القصوى ، وكان ذلك ليلا. فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تخافوا إنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة.

قيل : من هو؟.

قال : رفاعة بن زيد بن التابوت.

قال أبو نعيم البيهقي : «كان موته غائظا للمنافقين ، فسكنت الريح آخر النهار ، فجمع الناس ظهرهم ، وفقدت راحلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فسعى الرجال لها يلتمسونها».

فقال رجل من المنافقين ، هو زيد بن اللصيت ، أحد بني قينقاع : كيف يزعم أنه يعلم الغيب ، ولا يعلم مكان ناقته؟! ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟!

(فأراد الذين سمعوا منه ذلك أن يقتلوه ، فهرب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» متعوذا به).

٩

فأتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جبرئيل «عليه‌السلام» ؛ فأخبره بقول المنافق ومكان ناقته ؛ وأخبر بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه (وذلك الرجل يسمع) ، وقال : ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق ، ومكان ناقتي. هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة.

فخرجوا يسعون قبل الشعب ، فإذا هي كما قال. فجاؤوا بها. وآمن ذلك المنافق (١).

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات. وكان من عظماء اليهود ، وكهفا للمنافقين.

وفي المنتقى : ذكر فقدان الناقة في السنة التاسعة من الهجرة ، حين توجه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تبوك ، وهبوب الريح بتبوك (٢).

ونقول : إننا نشير هنا إلى الأمور التالية :

١ ـ إن هبوب الريح غير العادية ، وإخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٠ ص ٢٨٤ وتاريخ المدينة ج ١ ص ٣٥٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٩٤ وعيون الأثر ج ١ ص ٢٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٤٩ والمصادر الآتية في الهامش التالي.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٩ و ٢٩٠ وراجع تفصيل القصة في : دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٥٩ ـ ٦٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٦ و ١٧ و ٢٢ وراجع ج ٢ ص ٣٤٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٠٤ و ٣٠٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٧٢.

١٠

لناس بأن سبب هذه الريح هو موت عظيم من عظماء الكفار في المدينة. قد جاء بعد تسجيل نصر حاسم للمسلمين على بني المصطلق ، ولعل هذا النصر قد ترك في نفوسهم بعض الآثار التي يريد الله أن يزيلها. رحمة منه تعالى بالمؤمنين ، وتثبيتا لهم ، وتزكية لنفوسهم ، وتصفية لأرواحهم من أدران الغرور ، حين يظنون أنهم هم الذين صنعوا هذا النصر ، بما يملكون من شجاعة ، وإقدام وبسالة ، وبما أتقنوه من فنون حربية ، وبحسن سياستهم ، وسلامة تدبيرهم.

فأراد الله سبحانه أن يوجه أنظارهم نحو الغيب ، لكي تخشع قلوبهم ، وتخضع نفوسهم أمام عظمته سبحانه ؛ ليؤكد لديهم الشعور بالرعاية الإلهية ، وبالتوفيقات الربانية.

فربط الأمور بالغيب ضروري لهم ، في حالات قوتهم ، كضرورته لهم في حال ضعفهم ، وهو لازم لهم حين يسجلون النصر الحاسم ، كما هو لازم لهم حين يواجهون المشكلات الكبرى ، ويمسهم القرح والأذى.

٢ ـ إننا نلاحظ : أن هذا الإخبار الغيبي لهم بموت عظيم من عظماء الكفار في المدينة ، إنما أطلقه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بعد أن أثار الله تعالى فيهم قدرا من الضعف ، أو الخوف والاضطراب أمام أمر لا يجدون لهم حيلة فيه ، أو طريقا لتلافيه. وذلك حين هبت ريح شديدة آذتهم ، وتخوفوها .. فجاء هذا الخبر ليربط على قلوبهم ، وليكون أبعد أثرا في نفوسهم ، ولكي يبقى محفورا في ذاكرتهم ، ماثلا أمام أعينهم ، لا يحتاجون في تذكره عند الحاجة إليه إلى بذل أي جهد أو عناء .. وهو خبر مفرح لهم من جهة ، ومطمئن لهم إلى أنهم في رعاية الله تعالى ، وتحت جناح رسول الله

١١

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» من جهة أخرى ..

كما أن ذلك من شأنه أن يؤكد على علاقتهم بالرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويزيد من ثقتهم بحسن تدبيره ، وبصحة كل قراراته ، لأنه متصل بالغيب ، ومرعي بعين الله تبارك وتعالى.

٣ ـ أما فيما يرتبط بناقته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإن الرواية قد صرحت : بأن الله تعالى قد تدخل لفضح نوايا زيد بن اللصيت ، ومن هم على شاكلته ، وأبطل كيدهم في الانتقاص من مقام النبوة الأقدس ، والتشكيك بعلمه الغيب قد جاء في هذا السياق ..

ولكن الأهم من ذلك : هو ظهور حرص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على تحصين الناس من الخلل في عقائدهم ، حين صرح بما يدل على أن علمه بالغيب لم يكن من خلال ذاته ، وإنما بالإستناد إلى الله تعالى ، والاتصال به ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق الخ ..

سباق الخيل :

وفي السنة الخامسة أيضا : أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسبق بين ما ضمّر من الخيل ، وما لم يضمّر (١).

(وعن ابن عمر : أجرى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما ضمّر من الخيل) فأرسلها من الحفيا ـ بفتح الحاء وسكون الفاء ـ إلى ثنية الوداع. وهو خمسة

__________________

(١) تضمّر الخيل : يظاهر عليها بالعلق مدة ثم تغشى بالجلال ولا تعلف إلا قوتا حتى تعرق فيذهب كثرة لحمها وتصلب.

١٢

أميال ، أو ستة ، أو سبعة.

وأجرى ما لم يضمّر ، فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ، وهو ميل أو نحوه. قال ابن عمر : فوثب بي فرسي جدارا (١).

وذكر مغلطاي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سنة أربع سابق بين الخيل. وقيل : في سنة ست ، وجعل بينها سبقا ومحللا (٢).

وسابق أبو سعيد الساعدي (٣) على فرس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي يقال له : «الظرب» ؛ فسبقت غيرها من الخيل. وكساه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بردا يمانيا (٤) ، بقيت بقية عند أحفاده إلى زمان الواقدي ..

وسبق أيضا أبو أسيد الساعدي على فرس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، اسمه «لزاز» ، فأعطاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حلة يمانية (٥).

وسابق «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين الخيل مرة ، وجلس على سلع ، فسبقت له ثلاثة أفراس : «لزاز» ، ثم «الظرب» ، ثم «السكب» (٦).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٢ و ٥٠٣ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥١٠ والجامع الصحيح للترمذي ج ٣ ص ١٢٠ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٢٨٥ وفتح الباري ج ٦ ص ٥٤ والمصنف ج ٥ ص ٣٠٤.

(٢) سيرة مغلطاي ص ٥٥ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٦٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٩٣.

(٣) لعل الصحيح : أبو أسيد الساعدي ، كما هو الحال في المصادر الأخرى.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٩٤.

(٥) راجع : أنساب الأشراف ج ١ ص ٥١٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٩٤.

(٦) أنساب الأشراف ج ١ ص ٥١٠.

١٣

سباق الإبل أيضا :

وقالوا : في هذه الغزوة أيضا : «أوقع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» السباق بين الإبل ، فسابق بلال (رض) على ناقته القصواء ، فسبقت غيرها من الإبل» (١).

وعن أنس : كان للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناقة تسمى العضباء ، لا تسبق ، أو لا تكاد تسبق ، فجاء أعرابي على قعود ، فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين ، حتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه (٢).

ونقول :

١ ـ إن هذا كله يدخل في نطاق التدريب العسكري ، ورفع مستوى الخبرة الحربية لدى المقاتلين ، لأن الإسلام لا يريد لأهله أن يكونوا ضعفاء ،

__________________

(١) المبسوط ج ٦ ص ٢٩٠ وسنن أبي داود ج ٥ ص ٤٣٧ ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٥٤.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٢ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥١٢ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٢ و ٢٣ والبحار ج ٦٠ ص ١٤ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٠٣ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٤٣٧ والسنن الكبرى ج ١٠ ص ١٧ و ٢٥ ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٥٥ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٩٨ ومسند الشهاب ج ٢ ص ١١٩ ورياض الصالحين ص ٣١٩ وفيض القدير ج ٥ ص ٢٣٠ وكشف الخفاء ج ١ ص ٣٦٣ وج ٣ ص ١٩٠ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٣ ص ٢٢٠ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٤٩٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٩ ص ٤٢ و ١٤٦ وتهذيب الكمال ج ١ ص ٢١١ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٤٢٠ وأحكام القرآن ج ٣ ص ٦٤٩ وغير ذلك.

١٤

بل يريد أن يكونوا دائما على أهبة الاستعداد للدفاع عن النفس ، وعن الدين ، وأهل الدين.

غير أن ما يثير الانتباه هنا ، أمران :

أحدهما : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يستثني نفسه من هذا الإعداد والاستعداد ، بل هو يشارك في إعداد وسائل الحرب ، ويجري فرسه مع أفراس غيره ، ويأتي فرسه في المقدمة. مما يعني : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعده أفضل إعداد.

الثاني : أن أعظم رجل بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فضلا ، وعلما ، وجهادا ، هو علي سيد الوصيين ، وأمير المؤمنين ، هو الذي كان يتولى أمر التدريب على الرمي في المدينة.

وهذا معناه : أن القيادة المسؤولة لا تكتفي بإصدار الأوامر والنواهي للآخرين ، ثم تكون في موقع المتفرج الذي يطلب من الآخرين أن يحموه وأن يضحوا بأرواحهم من أجله. بل تكون في موقع الممارسة جنبا إلى جنب مع كل العاملين والمجاهدين.

كما أن مشاركته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليست مشاركة عادية ، بل هي مشاركة قيادية ، وعلى أتم وجه ، وفي أفضل حالة ، بل هي تصل إلى حد أن يكون القمة والقدوة والمعلم فيما يطلب من الآخرين أن يتعلموه ، وأن يحسنوه ، ثم يكون ما أعده هو الأمثل والأفضل ، ولا يرضى بالمساواة مع ما أعده غيره.

٢ ـ إن هذه المسابقات ربما تكون لإعداد آلة الحرب ، وهي الخيل والإبل التي يراد رفع مستوى تحملها ، ويراد اكتشاف الصالح والأصلح

١٥

منها ، ليمكن الاستفادة منها في المواقع المناسبة في الظروف الحساسة ..

٣ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يكتفي بإجراء السباق بين ما ضمّر من الخيل. بل هو يسابق أيضا بين ما لم يضمّر ، ثم هو يجعل له ميدانا ومدى أقصر من مدى الخيل المضمّرة ، آخذا بنظر الاعتبار أيضا قدرات ذلك النوع من الخيل.

ولعل ذلك يعود : إلى أن الخيل غير المضمّرة أيضا لها دورها في تسيير الأمور في حالات الحرب ، وفي تسريع التنقلات ، وإمداد المقاتلين في الجبهات بما يحتاجون إليه من مؤن وعتاد ، وغير ذلك ..

كما أنه لا بد للقائد الحكيم والمدبر من أن يحتاط للأمر ، إذ ربما يحتاج في حالات معينة إلى الاستفادة من هذه الخيل حتى في ساحات القتال ..

٤ ـ وهكذا يقال بالنسبة للسباق بين الإبل ، فإنها كانت هي الوسيلة الأفضل للتنقل في المسافات البعيدة ، وقطع البوادي الشاسعة ، في بلاد تقل فيها الينابيع ، ويشتد فيها الحر ، وتمس الحاجة فيها إلى الإبل القادرة على قطع تلك المسافات ، وعلى تحمل العطش أياما في تلك الأجواء الحارة.

٥ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل للفائزين في السباق جوائز تشجعهم على تحسين الأداء في المستقبل ، لتكون هذه الجوائز شارة عز على صدورهم من جهة ، وحافزا لغيرهم ليحسن الإعداد والاستعداد للمرات اللاحقة من جهة أخرى .. ولتكون بمثابة معونة للفائزين ، الذين قد يكونون بحاجة إلى أمثالها ، من جهة ثالثة.

٦ ـ أما ما ذكرته بعض الروايات ، من أن أعرابيا سبق على قعوده ناقة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسماة ب «العضباء» ، فشق ذلك على

١٦

المسلمين وعلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فإننا لا نكاد نفقه له معنى مقبولا ، لأنه إذا كان سبب انزعاج المسلمين ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو كون السابق أعرابيا ، فإن أعرابيته لا تلغي حقه ، ولا تسقط كرامته عند الله ، ولا توجب حرمانه من الامتيازات التي يستحقها.

وإن كان السبب هو انتساب العضباء إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن ذلك يثير علامة استفهام حول صدقية سبق أفراس ، وإبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن الناس ما كانوا يرضون بأن تسبق ، بل إنهم كانوا يعلمون : أن ذلك يزعج الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهذا يجعلهم يترددون في التقدم على أفراسه ، وإبله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولا مجال لقبول الزعم : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعتبر المسألة مسألة شخصية بالنسبة إليه ، بحيث يكون سبق الأعرابي على قعوده لناقته حطا من مقامه ، وإنقاصا من قدره.

فإن ذلك ليس فقط يعد طعنا في النبوة ، بل هو طعن في توازن شخصيته ، وسلامة تفكيره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٧ ـ ويجوز لنا أن نحتمل : أنه قد كان هناك تعمد للتقليل من شأن العضباء ، واعتبارها قد انحط مقامها ، ووضع ما ارتفع منها. وبيان أن هذه الناقة التي كانت قوتها مصدر اعتزاز للمسلمين ، ولم يكن لها منافس ، قد وجد ما تفوّق عليها من إعرابي عابر.

ونحن وإن كنا لا نملك شيئا يفيد في تأييد هذا الاحتمال ، ولكننا نتجرأ على إطلاقه في ساحات التداول لأننا نعرف أن ثمة كرها عميقا لأهل البيت

١٧

«عليهم‌السلام» وكل ما له أدنى ارتباط بهم ، وأقل انتساب إليهم.

ولهذه الناقة التي يتحدثون عنها خصوصية تثير ذلك الحقد الدفين ، وتدعوهم إلى الحط من قدرها ، وإثارة ما يوجب الاستخفاف في أمرها.

وهذه الخصوصية هي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال للعضباء عند وفاته : أنت لا بنتي فاطمة «عليها‌السلام» تركبك في الدنيا والآخرة.

فلما قبض أتت إلى فاطمة «عليها‌السلام» ليلا ، فقالت : السلام عليك يا بنت رسول الله قد حان فراقي الدنيا الخ ..» (١).

سقوطه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الفرس ونسخ حكم شرعي :

قالوا : وفي شهر ربيع الأول ، أو في ذي الحجة من سنة خمس سقط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن فرسه ، فجحشت (٢) ساقه ، أو كتفه ، وجرحت فخذه اليمنى. ولما رجع إلى المدينة أقام في البيت خمسا (أياما) يصلي قاعدا (٣).

وحسب نص آخر : جحش فخذه الأيمن.

وفي الصحيحين : جحش شقه الأيمن.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٨٦ والبحار ج ١٧ ص ٤١٧ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٣٧ وبيت الأحزان للشيخ عباس القمي ص ٣٣.

(٢) جحشت ساقه : أي تقشر جلدها.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٩٨ وراجع : وفاء الوفاء ج ١ ص ٣١٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٦ وتحفة الأحوذي ج ٢ ص ٢٩١ ونصب الراية ج ٢ ص ٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ١٦٦ وعن البخاري ج ١ ص ١٠٠.

١٨

وفي غيره : انفكت قدمه (١).

وفي رواية : أن الأصحاب كانوا يقتدون به قياما ، فأمرهم بالجلوس ، وقال : إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا جلس فاجلسوا.

قال الديار بكري : «لكن عند أكثر العلماء هذا الحديث منسوخ ؛ لأنه صح أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلى في مرض موته جالسا ، والأصحاب اقتدوا به قياما ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قرره» (٢).

قال الأشخر اليمني : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» «كان يصلي بالناس جالسا ، وأبو بكر والناس يصلون خلفه قياما ، كما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة.

__________________

(١) راجع : شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٦ واختلاف الحديث للشافعي ص ٦٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ٢٢٤ وج ٨ ص ٣٧٧ وفتح الباري ج ١ ص ٤١٠ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٥٠٢ وصحيح مسلم بشرح النووي ج ٤ ص ١٣٠ و ١٣١ والمصنف للصنعاني (ط سنة ١٤٢٣ ه‍) ج ٢ ص ١٨٨ و ١٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ١٦٦ وإرواء الغليل ج ٢ ص ١١٩ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٠٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٢ و ٥٠٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٦ وشرح بهجة المحافل للأشخر اليمني ص ٢٩٦ واختلاف الحديث للشافعي ص ٦٧ وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ٢٢٤ وج ٨ ص ٣٧٧ وعون المعبود (ط دار الكتب العلمية) ج ٢ ص ٢١٨ و ٢١٩ والموطأ ج ١ ص ١٣٥ وتحفة الأحوذي ج ٢ ص ٢٩١ ـ ٢٩٥ وسير أعلام النبلاء ج ٢٣ ص ١٣٠.

١٩

هذا هو الصواب ، أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان هو الإمام ، كما هو صريح الحديث الذي سقته ، وهو لفظ مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده عن عائشة الخ ..» (١).

ونقول :

إننا نشك في صحة هذا الحديث بلحاظ شكنا ببعض خصوصياته :

فأولا : إننا لا نجد مبررا لسقوطه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ظهر فرسه ، إلا إذا فرض أنه يعاني من ضعف جسدي ، نتيجة مرض مّا ، أو أن سقوطه بسبب أن الفرس جموح ، وكلاهما لا شيء في الروايات يشير إليه ، أو يدل عليه.

وليس لنا أن نحتمل : أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يحسن ركوب الفرس ، ولا بالتماسك فوق ظهره ، فإن ذلك من النقص الذي لا يصح نسبته إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا سيما بعد أن قضى سنوات ، يمارس فيها الحروب ضد أعدائه. وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يركب الفرس فيها ، ويكون هو الأقرب إلى العدو من كل أحد .. مع تعرض الفرس أثناء الحرب لكثير من المحفزات للحركة ، وربما تنالها بعض الطعنات ، ويلحق بها بعض الجراح أيضا.

ثانيا : إن الروايات تقول : إنه قد جحشت ساقه ، أو فخذه ، أو شقه الأيمن ، فمع الاقتصار على خصوص ما ورد في هذا النص باعتباره هو المعتمد ، والأكثر شيوعا.

__________________

(١) راجع شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٦.

٢٠