الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-186-6
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٦

هوى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لزينب بالخبيثة ، قال : «إن عشق الأنبياء «عليهم‌السلام» لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم ، وحاطّ من رتبتهم ومنزلتهم. وهذا مما لا شبهة فيه».

إلى أن قال : «كيف يذهب على عاقل : أن عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه ، معدود في جملة معائبه ، ومثالبه»؟! (١).

عشق الأنبياء عليهم‌السلام ممدوح!!

وقد زعم بعضهم : أن من العلامات الدالة على أن زينب ستكون زوجة للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلقاء محبتها في قلبه ، وذلك بتحبيب الله تعالى ، لا بمحبته لها بطبعه. وذلك ممدوح جدا.

ومنه قوله : حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة.

حيث لم يقل : أحببت. ودواعي الأنبياء والأولياء من قبيل الإذن الإلهي ، إذ ليس للشيطان عليهم سبيل (٢).

ونقول :

إن القبيح مرفوض على كل حال بالنسبة للبشر ، فلا تصح نسبته إلى الله تعالى ، فإذا كان هذا من المنفرات عن الأنبياء ، قبح صدوره منهم ، سواء أكان بميلهم الطبيعي ، أم بفعل الله تعالى بهم.

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ١٨٩ عن تنزيه الأنبياء ص ١٠٩ ـ ١١٢.

(٢) روح البيان ج ٧ ص ١٧٩ وراجع ص ١٨٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٩٩ وفتح القدير ج ١ ص ٢٨٢.

١٠١

ح : لا تمدنّ عينيك :

قال القاضي عياض وغيره عن زعمهم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحب زينب ، وهي في حبالة زيد : «ولو كان ذلك لكان فيه أعظم الجرح ، وما لا يليق به ، من مدّ عينيه إلى ما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا»؟! (١).

قال تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ..) (٢).

ط : الحسد :

وقال عياض : ولكان هذا نفس الحسد المذموم ، الذي لا يرضاه الله ، ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! (٣).

ي : يراها .. فأعجبته! :

وقال القاضي عياض أيضا : «كيف يقال : يراها فأعجبته ، وهي ابنة عمته ، ولم يزل يراها منذ ولدت. ولا كان النساء يحتجبن منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وهو الذي زوجها لزيد؟» (٤).

__________________

(١) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤١ وج ١٢ ص ١١ وتفسير القاسمي ج ٥ ص ٥١٩ والشفاء لعياض ج ٢ ص ١٨٩.

(٢) الآية ١٣١ من سورة طه ، والآية ٨٨ من سورة الحجر.

(٣) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ١١ والشفاء ج ٢ ص ١٨٩.

(٤) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤٠ و ٤٤١ وج ٢ ص ١١ وتفسير القاسمي ج ٥ ص ٥١٧ و ٥٢١ وحاشية الصاوي على تفسير الجلالين ج ٣ ص ٢٧٩ والشفاء ج ٢ ص ١٩٠.

١٠٢

فكيف يخفى عليه جمال زينب كل هذه المدة الطويلة ، وهي بمرأى منه ومسمع؟!

ك : العشق في سن الكهولة!!

قال القرطبي : «فأما ما روي أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هوي زينب ، امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق ، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته» (١).

وبعد .. فقد كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تلك الفترة يقترب في عمره من الستين ، وهو سن الشيخوخة. وقد كان شبابه قد ولى ، والناس في هذه السن ينصرفون عادة عن التفكير بالنساء ، وينأون بأنفسهم عن الحب وعن قضايا الجنس ، خصوصا بالنسبة للمحصنات من النساء.

فإذا أضفنا إلى ذلك : أنه إذا كان ـ كما يزعمون ـ يرى جميع النساء ، ويطلع على ما هن عليه من الجمال ، فقد كان لدى كثيرين من صحابته بنات ، وكذلك زوجات ، يتجاوز عددهن المئات والألوف ، وكان فيهن الكثيرات ممن لهن حظ وافر من الجمال .. وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يراهن بحسب زعمهم. فلماذا لا يعشق غير زينب ، ولا يفكر بغيرها من الفتيات الأبكار ، اللواتي كأنهن الأقمار ، أو كالشموس في رابعة النهار؟!

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ١٩١ وراجع هذه التعابير في تفسير القاسمي ج ٥ ص ٥٢٢.

١٠٣

ل : تناقض الروايات في أمر الهوى :

وإن إلقاء نظرة عابرة على تلك الروايات في مصادرها : تبين إلى أي حد هي متناقضة ، وقد تقدمت منا إشارة إلى بعض نماذج ذلك ، ونزيد هنا السؤال عن أنه هل جاءت زينب مع زيد إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين تشاجرا في شيء بينهما ، فرآها فأعجبته وأحبها؟!

أم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذهب لعيادة زيد فرآها عنده؟

أم أنه ذهب إلى بيتها في غياب زيد ، فرآها؟!

وهل عشقها ، حين رآها وهي تغتسل؟!

أو حين كانت تسحق طيبا بفهر؟

أو لا هذا ، ولا ذاك؟!

وهل جاء قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ،) حين أخبره بأنها تؤذيه ، ويريد طلاقها؟!

أم حين عرض طلاقها عليه ، إذا كانت وقعت في نفسه؟!

أم أن الحقيقة هي غير ذلك؟!

وهل؟! وهل؟! وهل؟!.

م : الجائزة للمذنبين :

إن مقتضى كلام هؤلاء الناس هو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ينساق وراء هواه ، ويعشق ويهوى امرأة متزوجة ، ويكلّم زوجها بما يخالف الحقيقة. ويمد عينيه إلى ما متع الله به أزواجا منهم ، زهرة الحياة الدنيا ، والله ليس فقط لا يزجره ولا يعاقبه ، بل هو يسارع إلى تهيئة الأمور لصالحه ،

١٠٤

ويتولى هو تزويجه وإيصاله إلى أهوائه وشهواته وملذاته!!

ن : زينب لا تمتنع ، وزيد لا يستطيع :

لقد ذكرت الروايات : أن زينب منذ وقعت في قلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستطعها زيد ، مع أنها لم تمتنع منه ، لكن الله كان يمنعه منها.

وفي بعض الروايات : أنها كرّهت إلى زوجها.

وهو كلام غير مقبول أيضا ، لأن التوسل بالجبر الإلهي لمنع الرجل من مقاربة زوجته ، يستبطن نسبة الظلم إلى الله سبحانه وتعالى. مع أن الله سبحانه لم يتدخل لمنع الناس من إلقاء إبراهيم في نار النمرود ، ولم يمنع المشركين من ملاحقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليلة الهجرة إلى باب الغار ، ولم يمنع قتلة الأنبياء وأوصياء الأنبياء من ارتكاب جرائمهم.

نعم .. إنه تعالى لم يفعل ذلك بهم على نحو الإكراه والإجبار ، وبالحيلولة المباشرة بينهم وبين ما يريدون. بل هم قد فعلوا كل ما أرادوا.

فإن كانت هناك ضرورة للتدخل الإلهي حين يتهدد الخطر من أرسله الله تعالى للبشرية جمعاء ، فإنه يكون خارج دائرة اختيار الناس ، فيقول للنار : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً ..) وينبت الشجر ، وتنسج العنكبوت على باب الغار. ولكن الأمر بالنسبة لزيد ليس من هذا القبيل فما معنى التدخل لمنعه من زينب ، وأن تكرّه له؟!

أما الحديث عن تورم يحصل لزيد ، كلما رام النيل من زوجته ، بعد وقوعها في قلب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فهو من سخف القول ، وعوار الكلام ، إذ لا مبرر للتدخل الإلهي المباشر لمنع زيد مما هو حلال له ، والله أجل ، والنبي

١٠٥

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» أورع وأتقى ، وأبر مما يراد نسبته إليه.

س : لماذا يكتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا عن نفسه؟! :

وفي تلميح هو كالتصريح ببشاعة هذا الفعل ، وفي نسبة القبيح إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نلاحظ : أن ثمة فريقا كان يسعى للإيحاء بأن هذا الأمر يمكن أن يصدر عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، معتبرا : أن هذا الأمر مما ينبغي أن يكتمه الإنسان ، على نفسه ولا يعلن به. ومن هذا الفريق .. الذين تحدثوا بهذه الطريقة :

١ ـ عمر بن الخطاب.

٢ ـ عائشة بنت أبي بكر.

٣ ـ أنس.

٤ ـ الحسن البصري.

وهم الذين وردت الرواية بقولهم : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لو كان كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ..) الآية ..

فإذا كان هذا الفعل مما يستحق الكتمان ، وقد آثر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يفشيه ، رغم أن في إفشائه حطا من كرامته ، وإنقاصا من قدره ، فكيف يصح صدور ذلك منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فإن المؤمن لا يقدم على فعل ما يشينه ، وينقص من قدره.

ولكن الحقيقة هي : أن هؤلاء يريدون أن يهوّنوا على الناس ما يرونه من قبائح وفضائح يمارسها الحكام ، أو تحكى لهم عنهم .. أنهم يرون بذلك الإيحاء للناس بأن هؤلاء الحكام لا تختلف حالهم كثيرا عن رسول الله «صلى

١٠٦

الله عليه وآله» ، الذي كان يعشق ، ويفتضح عشقه ، ويبرر الله تعالى ويسهل له سبل الوصول إلى معشوقته ..

ع : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتعرض للنساء!!

والأدهى من ذلك والأمرّ : أن بعض تعابيرهم تستبطن الاتهام للنبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمور لا تصدر إلا من أهل الفسق والفجور ، والعياذ بالله. وذلك مثل قولهم في تفسير قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ..) «أي : لا يحل لك امرأة رجل أن تتعرض لها ، حتى يطلقها وتتزوجها أنت ، فلا تفعل هذا الفعل بعد هذا».

فكيف يصح القول : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يتعرض لامرأة رجل آخر ، ليطلقها له ، ويتزوجها هو؟!

فإنه حتى الذين لا يتورعون عن المآثم ينكرون هذا الأمر ، ويأنفون من نسبته إليهم ، فكيف بنبي الله الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وبغض النظر عن ذلك نقول :

إن قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ ..) ليس فيه أية دلالة على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يتعرض لنساء الناس ، بل هو يدل على : أن الله تعالى قد بين أنه لا يجوز له الزيادة على النساء اللاتي كن في عصمته «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وليس في الآيات أية دلالة على ارتباط هذه الآية بآيات زواجه بزينب ، التي كان الحديث عنها قد انتهى ..

بل ظاهرها : أنها ترتبط بآيات تخييره بين إرجاء من شاء ، وإيواء من شاء منهن. فإقحام قضية زينب في مضمون الآية ليس له مبرر ظاهر.

١٠٧

استدلال ابن الديبع فاسد :

أما ابن الديبع ، فقد اعتبر رؤية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لزينب ، ودخوله عليها بغير إذن أمرا صحيحا ، مستدلا على ذلك بقوله : «إن نظره إليها كان قبل نزول الحجاب ؛ لأنها نزلت في حال دخوله عليها. مع أن الراجح عند المحققين : أن النساء ما كن يتحجبن عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونقول :

١ ـ لو سلمنا أن الحجاب لم يكن قد وضع آنئذ ، فإن ذلك لا يصحح اقتحام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيوت الناس من دون استئذان ، إذ لعل الرجل مع زوجته على حال لا يجوز رؤيتهما عليها ، ولعل المرأة في وضع أيضا كذلك ، كما لو كانت تغتسل كما زعمته بعض تلك الروايات المشؤومة السابقة.

وبتعبير آخر : إن اقتحام البيوت من دون استئذان يخالف أبسط قواعد الآداب. ولا يرضاه الرجل حتى من ولده ، وحتى لو كان ذلك الوالد وحده في بيته ، فكيف يقبل ذلك ممن بعثه الله للناس بمكارم الأخلاق ، أو ليتمها لهم؟!

فعن علي «عليه‌السلام» ، قال : سمعت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها (٢).

__________________

(١) حدائق الأنوار ج ٢ ص ٦٠٥ وراجع : تفسير القاسمي ج ٥ ص ٥١٧.

(٢) الأمالي ص ٥٩٦ ومشكاة الأنوار ص ٤٢٥ وفقه الرضا ص ٣٥٣ والبحار ج ١٦ ص ٢٨٧ و ١٤٢ وج ٦٣ ص ٣٩٤ و ٤٠٥ وج ٦٥ ص ٤٢٠.

١٠٨

وعنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : عليكم بمكارم الأخلاق فإن ربي بعثني بها .. (١).

وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن الله أدبني وأحسن أدبي ثم أمرني بمكارم الأخلاق (٢).

وروي من طرق العامة ، أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (٣).

والروايات التي قبل هذه الأخيرة أوضح وأدق منها ، من حيث

__________________

(١) أمالي الطوسي ص ٤٧٨ ووسائل الشيعة (ط دار الإسلامية) ج ١ ص ٣٥١ وج ٨ ص ٥٢١ والبحار ج ١١ ص ١٥٦ وج ٦٦ ص ٣٧٠ و ٣٧٥ وج ٦٨ ص ٤٢٠ وج ٨٩ ص ١٩٧ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٩١ ومستدرك سفينة البحار ج ٣ ص ١٧٤ وج ٩ ص ١٠٣ وراجع : أمالي الصدوق ص ٤٤١.

(٢) أدب الإملاء والإستملاء ص ٥ وفيض القدير شرح الجامع الصغير ج ١ ص ٢٩١ وكشف الخفاء ج ١ ص ٧٠. وروي نفس المضمون ، من دون عبارة «ثم أمرني بمكارم الأخلاق» في البحار ج ١٦ ص ٢١٠ وج ٦٥ ص ٣٨٢ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١١ ص ٢٣٣ والجامع الصغير ج ١ ص ٥١ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٠٦ وتذكرة الموضوعات ص ٨٧ وفيض القدير ج ١ ص ٢٩١ وكشف الخفاء ج ١ ص ٧٠ ومجمع البيان ج ٨ ص ٦٦ ونور الثقلين ج ٥ ص ٣٩٢ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢٢٨ والتبيان في آداب حملة القرآن ص ٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٩٣.

(٣) السنن الكبرى ج ١٠ ص ١٩٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٥ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٤٧٠ ومسند الشهاب لابن سلامة ج ٢ ص ١٩٢ و ١٩٣ وكنز العمال ج ٣ ص ١٦ وكشف الخفاء ج ١ ص ٢١١ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٤٠.

١٠٩

الدلالة والمضمون.

وقد أمر الله بإلزام الأطفال بالاستئذان على أبويهما في أوقات الخلوة ، فقال : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) (١).

٢ ـ إن ما ذكروه من عدم وجوب احتجاب النساء عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا دليل عليه سوى أحد أمرين :

الأول : ما زعموه من قصة زينب ، والتي هي مورد البحث. وصحة الإستدلال بها متوقف على ثبوتها ، وسلامتها عن كل هذه الإشكالات التي ذكرناها في هذا الفصل ، وفي غيره ..

الثاني : لا يصح الاستدلال على ذلك بقصة أم حرام بنت ملحان الآتية [رقم ٤] وسنرى : أنها أيضا لا تصلح للاستدلال بها على هذا الأمر.

٣ ـ إن دعوى : أن دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على زينب كان قبل نزول الحجاب سيأتي : أنها غير ظاهرة الوجه ، بل الظاهر هو : أن الحجاب كان مفروضا قبل ذلك بزمان ، كما سنذكره في الفصل التالي إن شاء الله.

٤ ـ قد استندوا في زعمهم جواز أن ينظر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى النساء إلى ما رووه ، من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يزور أم حرام بنت ملحان ، ويقيل ، وينام عندها ، بل زعموا أنها كانت تفلي رأسه ، قالوا : ولم

__________________

(١) الآية ٥٨ من سورة النور.

١١٠

يكن بينهما محرمية ، ولا زوجية (١).

ونقول :

أولا : إن هذا زعم فاسد ، فقد قال ابن وهب : أم حرام إحدى خالات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الرضاعة ، فلذلك كان يقيل عندها.

وقال أبو عمر : أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو أختها أم سليم ، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة ، فلذلك كانت تفلي رأسه ، وينام عندها ، وتنال منه ما يجوز لذي محرم أن يناله من محارمه. ولا يشك مسلم : أن أم حرام كانت محرما له.

ثم روى عن يحيى بن إبراهيم بن مزين ، قال : إنما استجاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن تفلي أم حرام رأسه ؛ لأنها كانت منه ذات محرم ، من قبل خالاته ، لأن أم عبد المطلب بن هاشم كانت من بني النجار (٢).

غير أننا نقول :

لقد أنكر ابن الملقن صحة هذا الأمر (٣) ، وهو محق في إنكاره هذا .. خصوصا مع ملاحظة ارتفاع سن عبد المطلب بالنسبة إليها ، وإلى النبي. فكيف بالنسبة لأم عبد المطلب أيضا؟!

فيكون القول بأن قرابتها برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت قرابة رضاعية ، أقرب إلى الاعتبار.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤٤ ، وراجع : فتح الباري باب : «من زار قوما ، فقال عندهم» ج ٩ ص ١٦٦ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ١٧٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤٤ وفتح الباري ج ١١ ص ٦٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤٥.

١١١

ولكن الدمياطي لم يرتض هذا أيضا ، على اعتبار : أن أمهاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من النسب ومن الرضاعة معلومات ، وليس فيهن واحدة من الأنصار البتة ، سوى أم عبد المطلب ، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد ، بن لبيد بن خراش ، بن عامر بن غنم .. وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد ، بن حرام بن جندب ، بن عامر بن غنم. فلا تجتمع أم حرام بسلمى إلا في عامر ، وهو جدهما الأعلى. وهي خؤولة لا تثبت محرمية (١).

ثانيا : إن ما زعموه : من دخوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أم حرام ، وأم سليم لا يثبت أنه كان يراهما من دون حجاب.

ثالثا : ما زعموه : من أنها كانت تفلي رأسه غير ظاهر الوجه ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان نظيفا ، متنظفا ، ولم يكن في رأسه شيء من الهوام ، ليحتاج إلى أن تفليه أم حرام ، أو غيرها .. فما معنى نسبة أمر من هذا القبيل إليه؟!

رابعا : إذا كانت هناك صلة رضاعية بينه وبين أم حرام وأم سليم ، فهذا يعني : أنها كانت امرأة مسنة. فلو فرض وجود أية إشارة إلى أنه كان ينظر إليها ، وهي متكشفة بين يديه تكشف المحارم ـ مع أن هذا غير موجود ـ فإنه قد يكون على قاعدة : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) (٢).

خامسا : إنها حتى لو كانت تضع ثيابها ، بسبب كبر سنها ، فإن ذلك لا

__________________

(١) راجع جميع ذلك في كتاب : سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٦ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٢٣٠ وعن فتح الباري ج ١١ ص ٦٦.

(٢) الآية ٦٠ من سورة النور.

١١٢

يلازم نظر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليها ، وليس ثمة ما يصلح لإثبات ذلك.

سادسا : لو سلمنا بجواز نظر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الأجنبيات ، فهل يجوز له ملامستهن؟ إلا أن يقال : إن تفلية الرأس لا تلازم الملامسة ..

لا يضر الهوى بالنبوة :

قال ابن الديبع الشيباني عن هذه الروايات : «قد جعلها العلماء من أصحابنا أصلا ، استدلوا به على أن من خصائصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجوب طلاق من رغب في نكاحها على زوجها ، ووجوب إجابتها ، فجوزوا رغبته في نكاح منكوحة غيره.

وإن في هذه القصة ما لا يخفى من التنويه بقدر المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والإعلام بعظيم مكانته عند ربه سبحانه ، وأنه يحب ما يحب ، ويكره ما يكره ، وينوب عنه في إظهار ما استحيا من إظهاره ، علما منه سبحانه بأنه إنما يفعل ذلك قمعا لشهوته ، وردا لنفسه عن هواها. كما قال سبحانه في الآية الأخرى : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ).

فما نقله القاضي عياض عن ابن القشيري ، وقرره ، من أن ما سبق من تجويز رغبته في نكاحها ، لو طلقها زيد : «إقدام عظيم من قائله ، وقلة معرفة بحق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. مردود يحتاج دليلا والله أعلم» (١).

__________________

(١) حدائق الأنوار ج ٢ ص ٦٠٤ و ٦٠٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٣٩ عن الغزالي ، والبحار ج ١٦ ص ٣٩٣ وكلام عياض والقشيري في بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩١.

١١٣

وأجاب البغوي ، وأشار إليه الغزالي : بأن ذلك لا يقدح في حال الأنبياء ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء مما لم يقصد به المأثم ، لأن الود ، وميل النفس ، من طبع البشر (١).

وقيل : إن من خصائصه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» متى رغب في نكاح امرأة فإن كانت متزوجة وجب على زوجها مفارقتها له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإن كانت خلية وجب عليها الإجابة (٢).

ونقول :

١ ـ إن الإعلام بعظيم مكانة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والتنويه بقدره لا يحتاج إلى تشريع أمر يتضمن قهر الآخرين وظلمهم ، وقد نوّه الله تعالى بعظيم قدر نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بطرق مختلفة ليس فيها أي انتقاص من كرامة الغير ، أو إنقاص من حقه.

٢ ـ إن العبد وإن كان غير ملوم على ما يقع في قلبه ما لم يقصد به المأثم ، ولكن مما لا شك فيه أن هذا بمعنى : أنه لا يعاقب على ذلك الشيء ، لا بمعنى : أنه ليس قبيحا منه ، بل هو داخل في نطاق القبح الفعلي ، الذي يوجب أن ينظر الناس إلى فاعله نظرة انتقاص.

٣ ـ إن من يحدث له ذلك لا يستحق المقامات السامية ، ولا يعطى مقام النبوة. فكيف إذا أريد التنويه بقدره ، وبعظيم مكانته عند ربه من خلال نفس هذا الشيء؟

__________________

(١) شرح بهجة المحافل للأشخر اليمني ج ١ ص ٢٩١.

(٢) راجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٥ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٣٩.

١١٤

٤ ـ إن الإنسان يلام على الحسد مثلا ، ويطالب بإزالته من نفسه ، ويلام أيضا على حب زوجات الآخرين ، ويرى الناس هذا عيبا فيه ، ويطالبونه بتخليص نفسه من هذا الأمر المعيب.

٥ ـ من أين استفاد هؤلاء : أنه يجب على الزوج طلاق المرأة التي يرغب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نكاحها؟ فإن كانوا قد استفادوا ذلك من قصة زينب كما يظهر من كلامهم ، فهي بالإضافة إلى أنها مورد النقد ، ومحل الأخذ والرد ، ليس فيها ما يدل على الوجوب (١).

وإن كان لديهم دليل آخر ، فليظهروه ، ليمكن النظر فيه.

٦ ـ وأما ادّعاء : أن هذه الأشياء لا تقدح في حال الأنبياء «عليهم‌السلام» لأن ذلك من طبع البشر ، فغير صحيح ؛ لأن القضية قضية حب لزوجة الغير ، ورغبة في طلاق تلك الزوجة ليحصل عليها هو دونه .. وهذا غير مسألة الود والميل الطبعي.

٧ ـ وحتى مسألة الميل الطبعي ، فإنه إن كان ميلا من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لزوجته التي هي في حصانته ، فلا كلام ولا إشكال.

وأما الميل الطبعي إلى زوجات الآخرين ، فهو مرفوض ومدان ، لأن الأنبياء «عليهم‌السلام» يعرفون من السلبيات والآثار للمحرمات ما يجعلها في غاية القبح بنظرهم ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرى بصورة عميقة جدا كيف أن آكل الربا يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، ويرى كيف أن المغتاب يأكل لحم أخيه ميتا.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٣٩.

١١٥

ويكون في غاية الاستقذار والنفرة من هذا أو ذاك ، وهكذا الحال بالنسبة لرغبته وميله ، وحبه للمحصنات من أزواج الناس ، فإنه يكون من العمق والشدة بحيث يرى ذلك نارا مستعرة ، لا قبل له بها ، ولا يرى مبررا للاقتراب منها.

فكيف ننسب إليه أنه يجهد ويجاهد نفسه لصرفها عن حب تلك المحصنة قمعا لشهوته ، وردا لنفسه عن هواها؟! كما يزعمه هؤلاء ، حسبما قرأناه وسمعناه فيما تقدم .. وكما سمعناه وقرأناه أيضا بحق النبي يوسف «عليه‌السلام» ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

٨ ـ ويتضح مما تقدم : أنه لا معنى لادّعاء : أن ذلك من خصائصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنه إذا كان يستحيل صدور هذا الأمر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأجل مثل هذه الموانع الأساسية ، ومنها عصمته ، ولزوم موافقة سياسة الهداية الإلهية لسنن الحياة ، والفطرة ، وللاعتبارات الصحيحة ، فلا يمكن أن يقال : إنه جائز له ، وهو من خصائصه!!

لم يزوجه الله إياها لأنه أحبها :

وبعد .. فقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن الله سبحانه قد صرح بسبب تزويج زينب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ).

وذلك معناه : أن الهدف هو إبطال سنة جاهلية ، حيث كان العرب يجعلون الأبناء بالتبني بمنزلة الأبناء الصلبيين في الأحكام ، فمن أين جاء هؤلاء بهذه الادعاءات الباطلة ، ذات التفاصيل المقيتة والبغيضة ، التي

١١٦

تتضمن الطعن في كرامة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

الأمر مفروض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

فإذا كان الله تعالى هو الذي زوجه زينب : (زَوَّجْناكَها) ، فهذا يعني : أنه أمر لا خيار له فيه.

ثم صرحت الآيات : بأن ذلك أمر إلهي جازم حيث قال تعالى :

(.. وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ، ثم قال : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ..).

ثم ذكر تعالى : أن سبب ذلك هو أن لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ، ثم هون الله عليه هذا الأمر ، مع إعادة التأكيد على ضرورة إنجازه ، حين قال تعالى : (.. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

فقد دلت هذه الآيات : على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يزد على أن امتثل أمر الله سبحانه ، ودلت أيضا على أن ما كان يخشاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، هو أن يتخذ الناس من غير المؤمنين المسلمين لله تعالى ذلك ذريعة للافتئات والتشنيع عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، في هذا الأمر ، بحيث يؤثر ذلك على مسار دعوته إلى الله تعالى.

بين خشية الناس ، وخشية الله :

ويزيد وضوح هذا الأمر حين يقرأ قوله تعالى : (.. وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً

١١٧

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

حيث دلت هذه الآيات المباركات : على أن عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يقدم على هذا الأمر برضا نفس ، وبسكينة تامة ، وأن لا يخشى أحدا من الناس فيه. فإن تشنيعاتهم لا تصل إلى نتيجة.

كما أن الحسيب الذي لا يحيف ، ويزن بميزان الحق والعدل هو الله وحده. أما البشر فإنهم يخلطون الحق بالباطل ، وتتدخل أهواؤهم ومصالحهم ، وعصبياتهم في حساباتهم ، وفي محاسباتهم ، فلا عبرة بها ، فما عليه إلا أن يعرض عنها ، فلا يقيم لها وزنا ، وعليه أن يكتفي بمراعاة جانب الحسيب الصادق والعادل ، والدقيق ، وهو الله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

فاتضح : أن هذه الآيات المباركات ليس فقط لا تتضمن ذما ولا لوما لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإنما هي تعلن بمدحه ، وسمو مقامه ، وهي تبرّئه مما قد ينسبه إليه الجاهلون والمغرضون ، والحاقدون ، والذين في قلوبهم مرض.

لأنها تضمنت الإلماح إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يخشى من تطاول الناس على مقام النبوة الأقدس ، وأن ينالوه بمقالاتهم القبيحة ، الأمر الذي يحمل معه أخطار الحد من قدرته على نشر كلمة الله تعالى فيهم ، وفي غيرهم ممن بعثه الله تعالى إليهم.

فجاء التطمين الإلهي ليقول له : إن الله هو المتكفل برد عاديتهم ، وإبطال كيدهم ، فلا داعي للخوف ولا مجال للتحرج في هذا الأمر.

١١٨

خشية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الدين :

ومما يدل على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما كان يخشى الناس على الرسالة والدين ، لا على نفسه ، قوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

كما أن خشيته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للناس لم تكن على حساب خشية الله تعالى. كيف وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» القائل : «أنا أخشاكم لله ، وأتقاكم له» (١).

بل كانت في صراط خشيته له تعالى ، فإذا جاء التكفل الإلهي بأنه تعالى هو الذي يكفيه هذا الأمر ، ولم يبق هناك ما يخشاه من قبلهم ، فما عليه إلا أن يصرف همه إلى ما يحتاج إلى إنجاز مما كلفه الله تعالى به وأراده منه .. مما له أعظم الأثر في تحقيق الأغراض الإلهية السامية.

__________________

(١) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٠ وشرحه للأشخر اليمني ، مطبوع بهامشه ، عن البخاري ، ومسلم ، والنسائي. وراجع : تفسير الصافي ج ٤ ص ٢٣٧.

وروي قريب من ذلك في المصادر التالية : مسند أحمد ج ٦ ص ٢٢٦ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٤٨٣ والبحار ج ٦٤ ص ٣٤٤ والمعجم الكبير ج ٩ ص ٣٧ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٠١ وكنز العمال ج ٣ ص ٤٧ وج ٦ ص ٥٦٥ وسير أعلام النبلاء ج ٩ ص ١٩٠ وج ١ ص ١٥٨ والتفسير الأصفى ج ٢ ص ١٠٢٥.

وروي أيضا عن المصادر التالية : الدر المنثور ج ٢ ص ٣١٠ وصحيح ابن حبان ج ٨ ص ٣١٠ والمصنف ج ٦ ص ١٦٨ وج ٢ ص ١٦٠ وج ٧ ص ١٥١ والشفاء ج ٢ ص ١٧٢ وتفسير البيضاوي ج ٤ ص ١٨٢ والإصابة ج ٤ ص ٤٨٧ وإرواء الغليل ج ٧ ص ٧٩.

١١٩

فليس في خشيته للناس ما ينقص من مقامه ، بل ذلك يزيد من مقامه ، ويؤكد باهر عظمته وعمق إخلاصه ..

«أحق» أن تخشاه :

وأما التعبير بكلمة أحق في قوله تعالى : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) فليس فيه أي إيحاء سلبي ، بل هو مثل قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فهو مدح وثناء بصيغة عتاب ، لبيان درجاته العالية في الخشية له تعالى.

وذلك لأن مفادها : أنك يا محمد تخشى الناس ، بمعنى أنك تعمل بحذر ، بهدف تحصين عملك في نشر الرسالة من الإبطال بما يثار من شبهات وأباطيل من قبل هؤلاء الناس.

وهذا أمر حسن ، وقد كان لا بد منه في السابق .. ولكن الأمر الآن قد اختلف ، فإن الله تعالى قد تكفل بإبطال كيد هؤلاء الناس ، فما عليك إلا أن يتمحض عملك بعد الآن في مراعاة الحذر والمراقبة في خشية أخرى هي أهم وأولى. وهي خشية الله سبحانه ، ومراقبته فيما يطلبه منك ، لتأتي به على أفضل وجه وأتمه ، حيث إنك لم تعد مكلفا بمراعاة الحذر في هذا الجانب.

فلماذا تتعب نفسك في أمر تحمّله الله تعالى عنك؟! ولماذا أنت شديد الاهتمام والحذر؟! حتى إنك تحمّل نفسك أثقالا وهموما عظيمة ، مع أنه يكفيك الاهتمام بمراعاة جانب واحد ، وتخفف عن نفسك فيما عداه ، لأن الله سبحانه متكفل به ، وسيدفع عنك شرهم وكيدهم فيه ..

ومن الواضح : أنه ليس في الآية : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين خشي الناس لم يخش الله تعالى ، كما أنه ليس فيها : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

١٢٠