الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

مارية ، ولأنه أشفق من أن يقتله ، فيتحقق الظن ، ويلحق بذلك العار (١).

أما نحن فنقول :

إن الجواب على الإشكال الأول محل تأمل ، ذلك للشك في كون مأبور معاهدا ، فقد صرحوا : بأن مأبورا قد أسلم في المدينة.

إلا أن يقال : إنه أسلم بعد قضية مارية.

ولكن ذلك يحتاج إلى إثبات ليمكن اعتماد جواب السيد المرتضى «رحمه‌الله».

على أننا نقول : إن من القريب جدا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن أمره بالقتل على الحقيقة ، وإنما كان ذلك مقدمة لإظهار البراءة الواقعية لمارية ، فأراد علي «عليه‌السلام» أن يظهر للناس قصد النبي هذا ، فسأله بما يدل عليه ، وأجابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك أيضا.

ولعل هذا الاحتمال ، أولى مما ذكره السيد المرتضى : لأن ما ذكره السيد يحتاج إلى إثبات المعاهدة لمأبور ، ولا مثبت لها.

أما هذا ، فهو موافق للسنة الجارية في أمور مثل هذه يحتاج الأمر فيها إلى الكشف واليقين ، ورفع التهمة ، لا سيما وأن آيات الإفك إنما دلت على البراءة الشرعية ، فتحتاج إلى ما يدل على البراءة الواقعية أيضا.

ويؤكد هذه البراءة الواقعية : أن مأبورا ـ كما يقولون ـ كان أخا لمارية ، وكان شيخا كبيرا (٢).

__________________

(١) راجع أمالي السيد المرتضى ج ٧٧ ـ ٧٩.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٥٣ والإصابة ج ٤ ص ٤٠٥ وج ٣ ص ٣٣٤.

٣٢١

وقال النووي في مقام الجواب عن الإشكال المتقدم : «قيل : لعله كان منافقا ، ومستحقا للقتل بطريق آخر ، وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه ، وغيره ، لا بالزنى .. وكف عنه علي رضي‌الله‌عنه اعتمادا على أن القتل بالزنى ، وقد علم انتفاء الزنى ..» (١).

ولكن قد فات النووي : أن عقوبة الزنى ليست هي القتل أيضا ، وإنما هي الجلد أو الرجم.

إلا أن يقال : إن ذلك هو حكم من يعتدي على حرمات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وخلاصة الأمر : أن دعوى نفاقه تبقى بلا دليل ، فلا يمكن الاعتماد عليها ، فما أجبنا به نحن هو الأظهر والأولى.

بل إننا حتى لو سلمنا : أنه كان منافقا ظاهر النفاق ، فإن قتله له في هذه المناسبة لأجل نفاقه سيوجب تأكد تهمة الفاحشة والزنى على مارية ، وهذا خلاف الحكمة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفيه ضرر عظيم على الدعوة وعلى قضية الإيمان كلها.

فكان لا بد من إظهار كذب تلك التهمة بصورة محسومة ، ثم يعاقب على نفاقه بالصورة التي يستحقها.

مناقشات العلامة الطباطبائي رحمه‌الله :

وقد ناقش العلامة الطباطبائي «رحمه‌الله» موضوع الإفك على مارية

__________________

(١) النووي على مسلم ، هامش القسطلاني ج ١٠ ص ٢٣٧.

٣٢٢

في رواية القمي «رحمه‌الله» بمناقشتين :

أولاهما : أن قضية مارية لا تقبل الانطباق على الآيات التي نزلت في الإفك ، ولا سيما قوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) الآية.

وقوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) الآية ..

وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ..) الآية.

فمحصل الآيات : أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض ، يذيعون الحديث ، ليفضحوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وكان الناس يتداولونه لسانا عن لسان ، حتى شاع بينهم ، ومكثوا على ذلك زمانا ، وهم لا يراعون حرمة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكرامته من الله .. وأين مضمون الروايات من ذلك؟

اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.

ثانيتهما : أن مقتضى القصة ، وظهور براءتها إجراء الحد على الإفكين ، ولم يجر .. ولا مناص عن هذا الإشكال ، إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.

والذي ينبغي أن يقال ـ بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين ـ يعني ما روته العامة ، من أن الإفك كان على عائشة ، وما رواه القمي وغيره ـ حسبما بيناه ـ : أن آيات الإفك قد نزلت قبل آية حد القذف ، ولم يشرّع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف ، مع عدم قيام الشهادة ، وتحريم القذف.

ولو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الإفك ، لم يكن هناك مجوز

٣٢٣

لتأخيره مدة معتدا بها ، وانتظار الوحي ، ولا نجا منه قاذف منهم.

ولو كان مشروعا مع آيات الإفك لأشير فيها إليه ، ولا أقل باتصال آيات الإفك بآية القذف ، والعارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) الآيات .. منقطعة عما قبلها.

ولو كان على من قذف أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حدان ، لأشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد ، واللعن ، والتهديد بالعذاب على القاذفين.

ويتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف ، مع نزول آية الإفك ، فإن لازمه أن يقع الابتلاء ، بحكم الحدين ، فينزل حكم الحد الواحد (١).

ولنا هنا كلمة :

هذا مجمل كلام العلامة الطباطبائي في المقام.

وقد رأينا أنه «رحمه‌الله» قد أجاب هو نفسه عن كلا المناقشتين في المقام بما فيه مقنع وكفاية ، فيبقى حديث إفك مارية سليما من الإشكال ، بخلاف حديث الإفك على عائشة ، فإن ما تقدم في هذا البحث لا يدع مجالا للشك في كونه إفكا مفترى.

ونزيد نحن هنا : أن ما ذكره العلامة الطباطبائي من أن رواية مارية قاصرة في شرحها للقصة ، صحيح. ولعل ذلك يرجع إلى أن الاتجاه السياسي كان يفرض أن لا تذكر جميع الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع ، لأنه يضر بمصلحة الهيئة

__________________

(١) الميزان ج ١٥ ص ١٠٤ و ١٠٥.

٣٢٤

الحاكمة ، أو من يمت إليها بسبب سياسي ، أو نسب أو غيره ..

وأيضا : فإننا إذا أضفنا من ذكرتهم روايات عائشة في جملة الإفكين ، إلى من ذكرتهم ، أو لمحت إليهم الروايات الأخرى ، ولا سيما أولئك الآخرون الذين لم يعرفهم عروة بن الزبير .. فإن المجموع يصير طائفة لا بأس بها ، ويصدق عليهم أنهم عصبة.

ولا سيما بملاحظة : أن بعض روايات الإفك على مارية قد ذكرت : أن هذه القضية قد شاعت وذاعت وتناقلتها الألسن وكثر عليها في هذا الأمر.

وأما بالنسبة لمناقشته الثانية ـ أعني موضوع إجراء الحد ـ فجوابه الأول هذا محل نظر إذ قد تقدم : أن سورة النور قد نزلت جملة واحدة.

ولذا فإن الظاهر هو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقم الحد على الإفكين ، وهو ما صرح به أبو عمر بن عبد البر من أنه لم يشتهر جلد أحد.

ويتأكد ذلك : إذا كان ثمة مفسدة كبرى تترتب على إقامته ، تهدد كيان الدولة الإسلامية ، وبناء المجتمع الإسلامي ، أو تترتب عليه أخطار جسيمة على مستقبل الدعوة بشكل عام.

ولهذا الأمر نظائر كثيرة في السيرة النبوية ، فالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يقتل ابن أبي رغم استحقاقه للقتل ، في كثير من الموارد ، وذلك حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. مما يصير سببا في امتناع الناس عن الدخول في الإسلام ، وهو لا يزال في أول أمره ، أو خروج أصحاب النفوس الضعيفة منه.

وكذلك هو لا يقتل خالد بن الوليد ، رغم ما ارتكبه في بني جذيمة ، حيث قتلهم قتلا قبيحا ، وهم مسلمون موحدون ، يقيمون الصلاة ..

٣٢٥

بل إن الحكومات الغاصبة تمارس نفس هذا الأسلوب ، فإن أبا بكر لم يقتل خالد بن الوليد ، ولم يقم عليه حد الزنا في قضية مالك بن نويرة ، وذلك حفاظا على حكومته وقوتها في قبال علي «عليه‌السلام» صاحب الحق الشرعي بنص الكتاب الحكيم وبتنصيب الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

إلى كثير من الشواهد الأخرى على ذلك.

هذا كله ، لو فرض : أن آية حد القذف قد نزلت مباشرة مع آيات الإفك ، أو قبلها ، كما هو الظاهر.

وأما إذا كان قد تأخر نزولها ـ وهو أمر غير مقبول ، لما قدمناه في مطاوي البحث ـ فلا يكون ثمة إشكال على رواية مارية أصلا. نعم يبقى الإشكال في روايات الإفك على عائشة التي تقول : إن الإفكين قد جلدوا حدا ، أو حدين ، أو وجىء في رقابهم!! كما تقدم.

٣٢٦

الفصل الثالث عشر :

نهاية المطاف في حديث الإفك

٣٢٧
٣٢٨

واقع القضية ، وحقيقة الأمر :

قد عرفنا : أن الافتراء على مارية وقذفها ، واتهامها الباطل بمأبور مما أجمعت الأمة على حصوله. وقد ذكر ذلك كل من ترجم لمارية أو لمأبور ، أو لإبراهيم ابن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ذكروه بالتفصيل تارة ، وبالإجمال أخرى ، فالإفك عليها أمر لا ريب فيه.

ولكن يبقى سؤال : هل هي التي نزلت فيها آيات سورة النور؟

أم هي عائشة؟!

والجواب :

إننا قد أثبتنا فيما تقدم : أن حديث الإفك على عائشة ، لا يمكن أن يصح من أساسه ..

وأما الإفك على مارية فهو الصحيح ، الذي لا مجال للمراء فيه ، إذ رغم تصريح رواية القمي المتقدمة : بأن عائشة قد قذفت مارية بمأبور ، وتأييد ذلك بما ورد في الروايات الأخرى التي وردت من طرق غير الشيعة ،

ولربما يفهم من بعضها : أن لحفصة وغيرها أيضا مساهمة في هذا الأمر ،

نعم ، رغم كل ذلك .. فإننا نجد : شواهد كثيرة تدل على ذلك في نفس حديث الإفك على عائشة ، مما يدل دلالة واضحة على : أن رواية الإفك على

٣٢٩

مارية ، التي ماتت في عهد عمر ، وليس لها أحد يهتم بقضاياها أو يدافع ، قد حرفت لتنطبق على عائشة. وقد كان هذا تحريفا فاحشا ، أفقدها معظم معالمها ، حتى لم يبق منها إلا لمحات خاطفة ، تشير بصراحة أحيانا ، وبشيء من الوهن أحيانا أخرى إلى القضية الأم ، التي ذهبت ضحية الأهواء والميول ، والخطط السياسية التي لا ترحم ، ولا تقف عند حد.

ونحن نجمل هنا بعض تلك الشواهد في النقاط التالية :

شواهد من حديث عائشة

: ١ ـ إن الآيات التي في سورة النور ، ليس فيها إلا ما يدل على البراءة الشرعية ، دون الواقعية ، فهي لا تصلح لدفع ما يدّعى أن أهل الإفك قالوه في عائشة ، إذ لهم أن يقولوا : صحيح أن ذلك لم يثبت شرعا ، لكن عدم ثبوته شرعا بالشهداء ، لا يدل على البراءة واقعا ، ولا كان مع عائشة أحد يمكنه تبرئتها ، كما هو مفروض الرواية.

أما في قضية مارية فالبراءة الشرعية قد حصلت بالآيات ، والبراءة الواقعية قد حصلت على يد الإمام علي «عليه‌السلام» ، بانكشاف حقيقة مأبور.

فسياق الآيات الشديد لا يتلاءم إلا مع وجود براءة واقعية ، وإلا لم يكن معنى لهذه الشدة ، والتوعد باللعن في الدنيا ، والعذاب العظيم في الآخرة. كما لا معنى للوم الناس على عدم ظنهم خيرا ، وعلى عدم حكمهم بأن ذلك بهتان عظيم ، وإفك مبين.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : «.. وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة ،

٣٣٠

فبرأها علي «عليه‌السلام» منها ، وكشف بطلانها ، أو كشفه الله تعالى على يده. وكان ذلك كشفا محسا بالبصر ، لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة ، وكل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه (أي على علي «عليه‌السلام») ، ويؤكد ما في نفسها منه ، ثم مات إبراهيم ، فأبطنت شماتة ، وإن أظهرت كآبة ..» (١).

٢ ـ الآيات تنص على : أن الإفك كان إفكا ظاهرا مبينا ، يفهمه كل أحد. ولذا صح منه تعالى توبيخ المؤمنين على عدم مبادرتهم لتكذيب ذلك ورده. وروايات الإفك على عائشة تفيد ضد ذلك تماما ، بخلاف الإفك على مارية فإنه ظاهر مبين ، يفهمه كل أحد ، لأن مابورا كان شيخا كبيرا ، وكان أخا لمارية ـ كما يقولون ـ وكان مجبوبا أيضا.

٣ ـ لقد قدمت مارية إلى المدينة سنة سبع أو ثمان ، وولدت إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان بالاتفاق (٢) ، وتوفي سنة عشر ، كما تذكره المصادر التاريخية.

وفي رواية عائشة عدد من الشواهد الدالة على أن الإفك كان في سنة ثمان ، ونذكر من ذلك ما يلي :

ألف : ما تقدم من أن المنبر قد صنع سنة سبع ، أو بعد الفتح الذي كان سنة ثمان.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ١٩٥.

(٢) راجع : فتح الباري ج ٣ ص ١٤٠ ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٣٨ وتلخيصه ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣١٦ وذخائر العقبى ص ١٥٣ ـ ١٥٥ وصفة الصفوة ج ١ ص ١٤٨ وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٤٤ وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٨٦.

٣٣١

والروايات تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صعد المنبر ، وصار يخفضهم وهو على المنبر ، ثم نزل .. إلى آخر ما تقدم.

ب : ما تقدم من إهداء سيرين أخت مارية لحسان ، بدلا من ضربته ، وسيرين ، إنما قدمت مع أختها مارية سنة سبع أو ثمان.

ج : قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استشار أسامة بن زيد بعد وفاة أبيه. وأبوه إنما مات سنة ثمان شهيدا في غزوة مؤتة.

د : قولهم : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استشار أسامة بن زيد ، وهو إنما كان سنة ست أو قبلها صغيرا ، لم يبلغ الحلم ، فاستشارته سنة ثمان ، أو في التي بعدها ، تكون أكثر انسجاما ومعقولية من استشارته سنة ست ، أو قبلها.

ه : ما قدمناه : من أن سورة النور قد نزلت دفعة واحدة في حدود سنة ثمان ، بل نزلت في السنة التاسعة على وجه التحديد ، لأجل وجود آيات اللعان فيها.

و : دور بريرة الذي أعطيته في القضية ، وبريرة كما قلنا : إنما اشترتها عائشة بعد سنة ست بزمان طويل ، بل بعد فتح مكة الذي كان سنة ثمان.

ز : استشارته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» زيد بن ثابت الذي كان عمره في غزوة المريسيع لا يزيد على الخمسة عشر عاما ، فإن استشارة شاب مراهق كهذا بعيدة في الغاية عن شأن نبي الأمة «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وهذا يقرب : أن يكون الإفك في الثامنة أو التاسعة ، ليصح ويجوز للنبي استشارة زيد ، الذي يكون حينئذ في الثامنة عشرة تقريبا ، فإن ذلك يكون أقرب إلى المعقولية وأبعد عن الخفة ، وأقرب إلى الحكمة والحزم.

ح : ذكر هم زيد بن رفاعة في الإفكين ، وفي الذين أقيم عليهم الحد.

٣٣٢

وقد قلنا : إنه لا يعقل أن يكون هو زيد بن رفاعة الذي وجدوه قد مات عند عودتهم من المريسيع ، فلا بد أن يكون هو رفاعة بن زيد الضبي ، الذي قدم في هدنة الحديبية على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأسلم ، وهدنة الحديبية قد كانت بعد المريسيع بالاتفاق.

ط : ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر في روايات الإفك ، وهو إنما أسلم في هدنة الحديبية ، أو يوم الفتح ، وهاجر إلى المدينة سنة ثمان قبل الفتح.

ي : قول روايات الإفك على عائشة : بأن قضيتها كانت بعد فرض الحجاب.

وقد قلنا : إن آيات فرض الحجاب وردت في سورة النور ، التي نزلت دفعة واحدة ، بعد سنة ست ، بل في سنة ثمان على وجه التقريب ، أو في التاسعة.

ك : إن روايات الإفك تذكر : أن ذلك كان بعد زواجه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بزينب ، وقد ذكرنا عن الطبري وابن سعد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تزوج بزينب بعد المريسيع.

بل في بعض المصادر : أنه تزوجها بعد خيبر ، بعد تزوجه بصفية كما تقدم.

٤ ـ أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال على المنبر : إن المتهم لم يكن يدخل على أهله إلا معه ، وكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر. وهذا لا يناسب صفوان بن المعطل ، الرجل الغريب عن بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والذي لم يسلم إلا قبل المريسيع بقليل ، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فرض الحجاب ، حسبما تنص عليه الرواية ، وإنما يناسب حال مأبور أخي

٣٣٣

مارية ، أو ابن عمها ، الذي كان يدخل عليها ، ويسليها.

٥ ـ قول أم رومان : إن الإفك كان من الضرائر ، الذي تؤكده كلمة (منكم) في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..).

وقد تقدم : أن لعائشة دورا في تأكيد التهمة على مارية ، مع أن رواية عائشة تصر على خلاف ذلك ، وأنهن جميعا قد عصمهن الله بالورع.

٦ ـ محاولة وصف صفوان : بأنه كان عنينا ، أو أن له مثل الهدبة ، مع أنه كان لا يمكن زوجته من الصيام لشدة شبقه. وكان له ولدان أشبه به من الغراب بالغراب. فهذه المحاولة ما هي إلا من أجل تقريب حاله إلى حال مأبور الخصي الذي كان مجبوبا. ولا يتهيأ القول فيه كما يتهيأ في غيره على حد تعبير المعتزلي المتقدم. ولهذا بقيت عائشة حانقة ، كما قال ..

٧ ـ ما تقدم : من أن ظاهر الآيات هو : أنه قد كان ثمة جماعة قد اتفقوا وتعاضدوا على الإفك. وهذا لا ينطبق على قضية عائشة ، لأن الرمي كان عفويا ، ومن رجل واحد. ثم صار يجمعه ويستوشيه ، كما تقول رواياتها. وأما رواية الإفك على مارية ، فظاهرها : أنه قد كان ثمة من يقصدها بالضرر والأذى.

٨ ـ قد عرفنا : أن الإفكين على عائشة ، إما لم يكونوا موجودين ثمة ، أو أنهم كانوا موجودين ، لكن لا تنطبق القضية عليهم ، مع أن الكل في الإفك على مارية كانوا موجودين. ولا مانع من اشتراكهم جميعا وتواطئهم على قذفها : حسان ، مسطح ، رفاعة بن زيد ، ابن أبي ، حمنة ومن لم يعرفهم عروة ، وغيرهم ممن شارك في تأكيد الشبهة عليها ـ كما تقول روايات مارية ـ فلم يكن ثمة مانع من اشتراكهم ، وتعاضدهم ، وصيرورتهم عصبة. بخلاف

٣٣٤

الأمر بالنسبة لعائشة.

٩ ـ إن سؤال زينب بنت جحش ، وبريرة ، وأم أيمن إنما يصح إذا كان عن أمر يمكنهن معرفته ، وذلك ممكن في قضية مارية ، التي كانت تعيش معهن ، ويعرفن اتصالاتها ، ويمكنهن رؤية من يدخل عليها ، أو يخرج.

أما بالنسبة لعائشة فلا يصح سؤالهن عن أمرها مع ابن المعطل ، لأنهن لم يكنّ معها في تلك الغزوة.

وحتى لو كنّ معها ، فإنها حين تخلفت عن الجيش ، ووجدها صفوان بن المعطل كما تقول روايتها ، لم يكن معها أي مخلوق.

بل إن سؤال النبي لأي إنسان يصبح أمرا غير معقول ولا مقبول ، وستكون نتيجته معلومة سلفا.

١٠ ـ إن الآيات قد وصفت المرأة التي أفك عليها الإفكون بأنها من المؤمنات ، لكن الآيات في سورة التحريم التي نزلت في عائشة وحفصة لا تؤيد هذا المعنى.

وليس لدى مارية مشكلة من هذا القبيل.

١١ ـ لقد وصفت الآيات المرأة التي تعرضت للإفك عليها بالغافلة وهذا الوصف إنما يناسب ما جرى لمارية التي كانت تعيش في مشربتها ، حياة عادية رتيبة ، خالية من أي حدث مثير وغير عادي.

أما عائشة ، فقد تركها الجيش وحيدة في قلب الصحراء ، وقد صادفها صفوان بن المعطل ـ وحدها ـ نائمة ، أو مستيقظة ، حسب زعم رواياتها. وبقيت معه إلى أن قدم بها في اليوم التالي في نحر الظهيرة على جيش فيه الكثير من المنافقين.

٣٣٥

فكيف لم يخطر في بالها : أن يتخذ المنافقون ذلك ذريعة لاتهامها بما يسيء إلى سمعتها وكرامتها؟! إلا إذا كانت على درجة عالية من البله والسذاجة ، وليست عائشة بهذه المثابة على أي حال.

خلاصة أخيرة لحديث الإفك :

كانت تلك دراسة تكاد تكون موجزة حول موضوع الإفك ، وقد رأينا أن الروايات القائلة بأن الإفك كان على عائشة لا يمكن أن تصح. وإنما الذي يقرب في النظر هو صحة ما اتفقوا على نقله من الإفك على مارية.

وأن الظاهر هو : أن الآيات قد نزلت في هذه القضية خاصة لا في عائشة كما يقولون.

ونرى : أن يد السياسة هي التي آثرت تحجيم قضية مارية ، إن لم يمكن القضاء عليها ، وإعطاء كل النقاط ، والامتيازات للفريق الآخر ، عائشة ، ومن يدور في فلكها ، ثم استغلال ذلك لاهداف سياسية ذات طابع معين ، كما بيناه في الفصول المتقدمة ، ولا سيما فصل : الكيد السياسي في حديث الإفك ، والله الموفق والبادي.

٣٣٦

الفصل الرابع عشر :

ما عشت أراك الدهر عجبا

٣٣٧
٣٣٨

المسابقة بين البطلين :

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا : أن هذه الغزوة كانت عظيمة البركة على عائشة ، وعلى الأمة. كما أن بركة هذا العقد كانت أجل وأعظم ..

ففي هذه الغزوة أيضا ـ غزوة المريسيع ـ جرت المسابقة الشهيرة في قلب الصحراء بين رسول الإسلام ، أعظم رجل على وجه الأرض ، وبين حبيبته عائشة ، حيث تحزمت بقبائها ، وكذلك فعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وجرى البطلان في حلبة السباق ، وفاز الرسول فيها على البطلة القوية والذكية ، وقال لها : هذه بتلك.

وكان قد سابقها مرة قبل ذلك ، فسبقته ، فبقي الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يترصد الفرصة ، حتى سمنت عائشة ، وثقلت ، وطلب منها في هذه الغزوة السباق من جديد ، فسابقته ، فسبقها ، فقال لها : هذه بتلك (١).

__________________

(١) صفة الصفوة ج ١ ص ١٧٦ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٢٩ و ١٨٢ و ٢٨٠ و ٣٩ و ٢٦١ و ٢٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٠ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٢٧ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣٠ ورواه النسائي ، وابن ماجة. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج ٤ ص ٣٨٦ عن أبي داود والنسائي وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٧٣ ومسند الطيالسي ج ٣ ص ٢٥٣ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٣ ـ

٣٣٩

فهل يليق هذا بمقام الرسول؟!

وهل هذا هو تفكيره؟

وهذه هي آفاقه؟

وهذه هي حياته؟!

إننا نربأ نحن بأنفسنا عن تصرف كهذا ، فكيف برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا نريد أن نقول أكثر من هذا.

ضياع العقد مرة أخرى :

قد تقدم : أن قضية الإفك كانت في غزوة المريسيع ونزل عذر عائشة من السماء ، وكان ذلك بسبب ضياع عقدها المبارك في وقت الرحيل ، وكان عقدها من جزع ظفار ، وكان يساوي اثني عشر درهما.

وفي هذه الغزوة كذلك ضاع عقد عائشة بالذات مرة أخرى!! أو انقطع!! وفي وقت الرحيل أيضا!! وكذلك هو من جزع ظفار!! وأيضا فإنه كان يساوي ـ كعقد الإفك ـ اثني عشر درهما!! (١) وفي مكان لا ماء فيه ، وأقام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والجيش كله وعائشة على التماسه ، وأرسل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في طلبه الرجال ، حتى نزلت آية التيمم.

__________________

ـ ص ٤٧ ومسند أحمد رقم ٢٤٩٢ ومسند الحميدي رقم ٢٦١ وسنن ابن ماجة رقم ١٩٧٩.

(١) المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٩ وإرشاد الساري ج ١ ص ٣٦٦ وفتح الباري ج ١ ص ٣٦٦.

٣٤٠