الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

وكان جريح القبطي في حائط ، فضرب علي «عليه‌السلام» باب البستان ، فأقبل جريح ، ليفتح له الباب ، فلما رأى عليا «عليه‌السلام» ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ، ولم يفتح الباب ، فوثب علي «عليه‌السلام» على الحائط ، ونزل إلى البستان ، واتبعه. وولى جريح مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة ، وصعد علي في أثره ، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فإذا ليس له ما للرجال ، ولا ما للنساء.

فانصرف علي «عليه‌السلام» إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : يا رسول الله ، إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمي في الوبر ، أم أثبّت؟ قال : لا بل اثبّت.

فقال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال ، ولا ما للنساء ، فقال : الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت ..» (١).

وعنه في رواية عبد الله بن موسى ، عن أحمد بن راشد ، عن مروان بن مسلم ، عن عبد الله بن بكير ، قال : قلت لأبي عبد الله «عليه‌السلام» : جعلت فداك ، كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر بقتل القبطي ، وقد علم أنها كذبت عليه؟ أو لم يعلم؟ وقد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي «عليه‌السلام»؟

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٩٩ و ١٠٠ وص ٣١٨ و ٣١٩ وتفسير البرهان ج ٣ ص ١٢٦ و ١٢٧ وج ٤ ص ٢٠٥ وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٥٨١ و ٥٨٢ عنه ، وتفسير الميزان ج ٥ ص ١٠٣ و ١٠٤ وفي تفسير القمي والبرهان في سورة الحجرات : أن آية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) نزلت في هذه المناسبة ، والبحار ج ٢٢ ص ١٥٥.

٣٠١

فقال : بل كان والله يعلم ، ولو كان عزيمة من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما انصرف علي «عليه‌السلام» حتى يقتله ، ولكن إنما فعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لترجع عن ذنبها ، فما رجعت ، ولا اشتد عليها قتل رجل مسلم (١).

وروى الصدوق «رحمه‌الله» ، عن ماجيلويه ، عن عمه عن البرقي ، عن محمد بن سليمان ، عن داود بن النعمان عن عبد الرحيم القصير ، قال : قال لي أبو جعفر «عليه‌السلام» : أما لو قد قام قائمنا «عليه‌السلام» لقد ردت إليه الحميراء ، حتى يجلدها الحد ، وحتى ينتقم لابنة محمد فاطمة «عليها‌السلام» منها ، قلت : جعلت فداك ، ولم يجلدها الحد؟!

قال : لفريتها على أم إبراهيم «عليها‌السلام».

قلت : فكيف أخره الله للقائم؟

قال : لأن الله تعالى بعث محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رحمة ، وبعث القائم «عليه‌السلام» نقمة (٢).

وروي أيضا : أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» قال في حديث المناشدة مع الخمسة الذين في الشورى : نشدتكم بالله هل علمتم : أن عائشة قالت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن إبراهيم ليس لك ، وإنه ابن فلان القبطي؟

قال : يا علي ، اذهب فاقتله.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٥ ص ١٠٤ وتفسير البرهان ج ٣ ص ١٢٧ وج ٤ ص ٢٠٥ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٩ والبحار ج ٢٢ ص ١٥٤.

(٢) علل الشرائع (ط مكتبة الطباطبائي سنة ١٣٧٨ ه‍ قم) ج ٢ ص ٢٦٧ والبحار ج ٢٢ ص ٢٤٢.

٣٠٢

فقلت : يا رسول الله ، إذا بعثتني أكون كالمسمار المحمي في الوبر ، أو أثبت؟!

قال : بل تثبت.

فلما نظر إلي استند إلى حائط ، فطرح نفسه فيه ، فطرحت نفسي على أثره ، فصعد على نخلة ، فصعدت خلفه ، فلما رآني قد صعدت رمى بإزاره ، فإذا ليس له شيء مما يكون للرجال ، فجئت ، فأخبرت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

فقالوا : اللهم لا.

فقال : اللهم اشهد .. (١).

وثمة رواية أخرى ذكرها في البرهان عن الحسين بن حمدان ، وفيها دلالة : على أن عائشة وحفصة ، وأبا بكر وعمر قد اشتركوا في قضية مارية.

ولكننا : أضربنا عن ذكرها بطولها ، لأن الحسين بن حمدان ضعيف جدا ، فاسد المذهب ، صاحب مقالة ملعونة ، لا يلتفت إليه ، كما يقولون في كتب الرجال (٢).

وإنه ، وإن كان لا يمتنع أن يصدق الكاذب ، ولكننا لا يمكن لنا أن نقول : إن رواية ابن حمدان هي الصحيحة هنا ما لم يدعمها دليل قوي من غيرها ، وحينئذ فيكون هو الدليل ، لا هي!!

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٣ ص ١٢٧ ، عن ابن بابويه والخصال ج ٢ ص ١٢٠ و ١٢٦ والبحار ج ٢٢ ص ١٥٤.

(٢) راجع قاموس الرجال ج ٣ ص ٢٧٩.

٣٠٣

وقد روى القمي أيضا هذه القضية في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..) (١).

روايات غير الشيعة لقضية مارية :

إن نصوص هذه القضية المرتبطة بمارية عديدة ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ روى مسلم وغيره ، والنص لمسلم ، عن أنس : أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي : اذهب ، فاضرب عنقه ، فأتاه علي ، فإذا هو في ركي (٢) يتبرد فيها.

فقال له علي : اخرج ، فناوله يده ، فأخرجه ، فإذا هو مجبوب ، ليس له ذكر ، فكف علي عنه.

ثم أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، إنه لمجبوب ما له ذكر (٣).

٢ ـ عن أنس بن مالك ، قال : كانت أم إبراهيم سرية للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مشربتها ، وكان قبطي يأوي إليها ، ويأتيها بالماء والحطب ،

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٣١٨ و ٣١٩ والبحار ج ٢٢ ص ١٥٣ و ١٥٤.

(٢) الركي : البئر.

(٣) صحيح مسلم (ط مشكول) ج ٨ ص ١١٩ ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٣٩ و ٤٠ ، وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٣ والمحلى ج ١١ ص ٤١٣ وتلخيصه للذهبي ، نفس الصفحة والإستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ ص ٤١١ و ٤١٢ والإصابة ج ٣ ص ٣٣٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣١٢. وليراجع : أسد الغابة ج ٥ ص ٥٤٢ و ٥٤٤ وج ٤ ص ٢٦٨ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٣١٣.

٣٠٤

فقال الناس في ذلك : علجة يدخل على عجلة.

فبلغ ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأرسل علي بن أبي طالب ، فوجده على نخلة ، فلما رأى السيف وقع في نفسه ، فألقى الكساء الذي كان عليه ، وتكشف ، فإذا هو مجبوب.

فرجع علي إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبره فقال : يا رسول الله ، أرأيت إذا أمرت أحدنا بالأمر ثم رأى ، في غير ذلك ، أيراجعك؟

قال : نعم فأخبره بما رأى من القبطي.

قال : وولدت مارية إبراهيم ، فجاء جبرائيل «عليه‌السلام» إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : السلام عليك يا أبا إبراهيم ، فاطمأن رسول الله إلى ذلك» (١).

وفي رواية أخرى مثل ذلك ، غير أنه قال : «خرج علي ، فلقيه على رأسه قربة مستعذبا لها من الماء ، فلما رآه علي شهر السيف ، وعمد له ، فلما رآه القبطي طرح القربة ، ورقى في نخلة وتعرى ، فإذا هو مجبوب ، فأغمد علي سيفه ، ثم رجع إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أصبت ، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» (٢).

«وروى الواقدي في إسناده قال : كان الخصي الذي بعث به المقوقس مع مارية ، يدخل إليها ويحدثها ، فتكلم بعض المنافقين في ذلك وقال : إنه

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٥٤ و ١٥٥ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٦١ ، عن الطبراني في الأوسط.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٥٥.

٣٠٥

غير مجبوب ، وأنه يقع عليها ، فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب ، وأمره أن يأتيه ، ويقرره ، وينظر في ما قيل فيه ، فإن كان حقا قتله ، فطلبه علي ، فوجده فوق نخلة ، فلما رأى عليا يؤمه أحس بالشر فألقى إزاره ، فإذا هو مجبوب ممسوح.

وقال بعض الرواة : إنه ألفاه يصلح خباء له فلما دنا منه ألقى إزاره وقام متجردا. فجاء به علي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأراه إياه ، فحمد الله على تكذيبه المنافقين بما أظهر من براءة الخصي ، واطمأن قلبه» (١).

٣ ـ في مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي والنص له : عن عائشة قالت : «أهديت مارية ومعها ابن عم لها ، فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادّعى ولد غيره.

قالت : فدخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإبراهيم عليّ فقال : كيف ترين؟!

قلت : من غذي بلبن الضأن يحسن لحمه.

قال : ولا الشبه؟!

قالت : فحملتني الغيرة.

فقلت : ما أرى شبها.

قالت : وبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يقول الناس ، فقال لعلي : خذ هذا السيف ، فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية ، فانطلق ، فإذا هو في حائط على نخلة يخترف ، فلما نظر إلى علي ، ومعه السيف استقبلته

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٥٠.

٣٠٦

رعدة ، فسقطت الخرقة ، فإذا هو ممسوح» (١).

٤ ـ وأصرح من ذلك ما رواه السيوطي ، عن ابن مردويه ، عن أنس :

أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنزل أم إبراهيم منزل أبي أيوب ، قالت عائشة : فدخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيتها يوما ، فوجد خلوة ، فأصابها ، فحملت بإبراهيم.

قالت عائشة : فلما استبان حملها ، فزعت من ذلك ، فمكث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى ولدت ، فلم يكن لأمه لبن ، فاشترى له ضائنة يغذي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه ، وصفا لونه ، فجاء به يوما يحمله على عنقه.

فقال : يا عائشة ، كيف تري الشبه؟

فقلت ـ أنا غيرى ـ : ما أرى شبها (٢).

فقال : ولا باللحم؟

فقلت : لعمري ، لمن تغذى بألبان الضأن ليحسن لحمه.

قال : فجزعت عائشة رضي‌الله‌عنها وحفصة من ذلك ، فعاتبته حفصة ، فحرّمها ، وأسرّ إليها سرا ، فأفشته إلى عائشة ، فنزلت آية التحريم ، فأعتق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رقبة (٣).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٣٩ وتلخيصه للذهبي ، هامش نفس الصفحة.

(٢) الظاهر أن الصحيح : فقلت ـ وأنا غيرى ـ : ما أرى شبها ـ كما يعلم من سائر المصادر.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٤٠ ، عن ابن مردويه. وراجع : الآحاد والمثاني ج ٥ ص ٤٤٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٢٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦٠٣.

٣٠٧

٥ ـ وهو مهم في المقام كسابقه : أنه لما استبان حمل مارية بإبراهيم جزعت عائشة قالت : فلما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إلي ، فقال : انظري إلى شبهه بي.

فقلت ـ وأنا غيرى ـ : ما أرى شبها.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟!

فقلت : إن من قصر عليه اللقاح أبيض وسمن (١).

٦ ـ روى محمد بن الحنفية رحمة الله عليه ، عن أبيه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، قال : كان قد كثر على مارية القبطية أم إبراهيم في ابن عم لها قبطي ، كان يزورها ، ويختلف إليها.

فقال لي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : خذ هذا السيف ، وانطلق ، فإن وجدته عندها فاقتله.

قلت : يا رسول الله ، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة ، أمضي لما أمرتني؟ أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟

__________________

(١) قد تقدم هذا النص عن الحاكم في المستدرك ، والذهبي في تلخيصه ، والسيوطي عن ابن مردويه.

ونزيد هنا : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٨٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٠٥ وقاموس الرجال ج ١١ ص ٣٠٥ عن البلاذري وأنساب الأشراف ج ١ ص ٤٥٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٩ ، من دون الفقرة الأخيرة من كلامها ، وتاريخ اليعقوبي (ط دار صادر) ج ٢ ص ٨٧ ، مع حذف كلمة «ما» من قولها : «ما أرى شبها» لكن المقصود معلوم من اعتراضه «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وقد تكون قد قالت ذلك على سبيل السخرية أو الاستفهام الإنكاري.

٣٠٨

فقال لي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

فأقبلت متوشحا بالسيف ، فوجدته عندها ، فاخترطت السيف ، فلما أقبلت نحوه ، عرف أني أريده ، فأتى نخلة فرقى إليها ، ثم رمى بنفسه على قفاه ، وشغر برجليه ، فإذا به أجب أمسح ، ما له مما للرجال قليل ولا كثير.

قال : فغمدت السيف ، ورجعت إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبرته ، فقال : الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت (١) ..

٧ ـ قال الزمخشري : «بلغه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أن قبطيا يتحدث إلى مارية ، فأمر عليا «عليه‌السلام» بقتله.

قال علي «عليه‌السلام» : فأخذت السيف وذهبت إليه ، فلما رآني رقى على الشجرة ، فرفعت الريح ثوبه ، فإذا هو حصور ، فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبرته ، فقال : إنما شفاء العي السؤال».

وقيل : الحصور ههنا : المجبوب ، لأنه حصر عن الجماع (٢).

٨ ـ روت عمرة عن عائشة حديثا فيه ذكر غيرتها من مارية ، وأنها كانت جميلة ، قالت : وأعجب بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان

__________________

(١) أمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٧٧ وصفة الصفوة ج ٢ ص ٧٨ و ٧٩ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٠٤ ، وقال : إسناد رجاله ثقات ، عن الإمام أحمد وكشف الأستار عن مسند البزار ج ٢ ص ١٨٨ و ١٨٩ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٢٩ وقال : رواه البزار وفيه ابن إسحاق ، وهو مدلس ولكنه ثقة وبقية رجاله ثقات ، وقد أخرجه الضياء في أحاديثه المختارة على الصحيح. والبحار ج ٢٢ ص ١٦٧ و ١٦٨.

(٢) الفائق ج ١ ص ٢٨٧.

٣٠٩

أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان ، وكانت جارتنا ، وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عامة النهار والليل عندها ، حتى قذعنا لها ـ والقذع الشتم ـ فحولها إلى العالية ، وكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشد ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه منه (١).

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٨٢٦.

٣١٠

الفصل الثاني عشر :

قضية مارية بين الأخذ والرد

٣١١
٣١٢

مع الأجواء الطبيعية لقضية مارية :

لقد رأينا : أن النصوص عند جميع المسلمين تكاد تكون متفقة على صورة قضية الإفك على مارية.

ورأينا أيضا : أن ما رواه الحاكم في مستدركه ، والسيوطي عن ابن مردويه ، وغير ذلك مما تقدم ، يؤكد على أن عائشة قد غارت من مارية ، ونفت شبه إبراهيم بأبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رغم إصرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خلافها ، ورغم أنه كان أشبه الخلق به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما في الرواية عن الطبراني.

مما يعني : أنها كانت تسعى لإثارة الشبهة في انتسابه إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والإيحاء بحصول خيانة من مارية رحمها الله ، كما أن إصرارها على رفض قول رسول الله في تأكيده لشبهه به يستبطن التكذيب والأذى له «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وكان الحامل لها على ذلك هو غيرتها الشديدة ، حسب اعتراف عائشة نفسها.

شواهد على إلقاء الشبهة :

ومما يجعلنا نطمئن إلى صحة ذلك الحوار ، وأن عائشة قد حاولت أن تلقي شبهة على طهارة مارية هو ما قالته عائشة نفسها عن حالتها مع مارية :

٣١٣

«.. ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة جعدة ، وأعجب بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

إلى أن قالت : وفرغنا لها ، فجزعت ، فحولها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشد علينا. ثم رزقه الله الولد وحرمناه ..» (١).

لكن عند السمهودي ـ كما تقدم ـ : حتى قذعنا لها ، والقذع الشتم كما أشرنا إليه هناك.

وعن أبي جعفر : «.. وكانت ثقلت على نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وغرن عليها ، ولا مثل عائشة» (٢).

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي عن موقف عائشة حين موت إبراهيم «عليه‌السلام» : «.. ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة ، وإن أظهرت كآبة ..» (٣).

وبعد كل ما تقدم ، نعرف : أن أم المؤمنين قد ساهمت في إثارة الشكوك والشبهات حول مارية ، وولدها إبراهيم.

شراكة حفصة :

ولعلنا نستطيع أن نفهم أيضا من رواية السيوطي عن ابن مردويه : أن حفصة أيضا قد شاركت في تأليب رأي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضد

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٥٣ والإصابة ج ٤ ص ٤٠٥ ووفاء الوفاء للسمهودي ج ٣ ص ٨٢٦ ولتراجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٢) طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ٨٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٩.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ١٩٥.

٣١٤

مارية ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حرّم مارية على نفسه ، بعد المحاورة التي جرت بينه وبين عائشة ، وبعد جزعهما ، وعتاب حفصة له في شأنها.

ويفهم أيضا من رواية الحاكم أن تكثير الناس على مارية قد كان بعد المحاورة المشار إليها بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعائشة.

سبب تحريم مارية :

وكل ذلك يجعلنا نطمئن إلى : أن سبب تحريم مارية هو ما ذكر من الشبهات حولها ، لا مجرد أنه وطأها في بيت حفصة أو عائشة.

ولا سيما بملاحظة : أن آيات التحريم ، في سورة التحريم ، تدل على : أن ما ارتكبوه كان أمرا عظيما جدا ، لا مجرد قول حفصة : «يا رسول الله في بيتي ، وعلى فراشي» ، فإن هذا كلام طبيعي ، وليس فيه أي إساءة أدب ، أو خروج عن الجادة ، ولا يستحق هذا التأنيب العظيم الوارد في الآيات.

وعلى هذا فإن الظاهر هو : أن آيات تحريم مارية التي في سورة التحريم قد نزلت في معالجة الشبهات التي أثارتها عائشة وحفصة حول مارية حينما حرمها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على نفسه لذلك ، وأما آية الإفك ، فنزلت في الإفك عليها أيضا.

دور عمر في قضية مارية تبرئة أو اتهاما :

ولقد احتمل بعض العلماء : أن عمر أيضا قد شارك في إثارة الشبهات حول مارية بالإضافة إلى حفصة وعائشة ، ومستنده في ذلك ما عند الطبراني وغيره ، حيث ذكروا رواية تضمنت أن ظهور براءة مارية كان على يد عمر ،

٣١٥

لا علي «عليه‌السلام» ، وأنه لما رجع إلى الرسول ، قال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ألا أخبرك يا عمر : إن جبرائيل أتاني فأخبرني ، أن الله عزوجل قد برأ مارية وقريبها مما وقع في نفسي ، وبشرني : أن في بطنها مني غلاما ، وأنه أشبه الخلق بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم ..» (١).

فقد احتمل المظفر استنادا إلى هذه الرواية : أن لعمر بن الخطاب شأنا في اتهام مارية ، وإلا .. فلماذا يخصه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذه المقالة؟! (٢).

من الذي برأ مارية :

ولكننا بدورنا نقول : إن هذه الرواية محل إشكال ، لأن الروايات متفقة ومتضافرة على أن براءة مارية كانت على يد علي «عليه‌السلام» ، وهذه تقول : بل كانت على يد عمر.

وأجاب العسقلاني عن ذلك باحتمال : أن يكون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل عمر أولا ، فأبطأ في العودة ، لأنه لما رآه ممسوحا اطمأن وتشاغل ببعض الأمر ، فأرسل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا بعده ، ورجع علي «عليه‌السلام» ، فبشره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالبراءة ، ثم جاء عمر بعده

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٣ قسم ٢ ص ٢٦ عن كنز العمال ج ٦ ص ١١٨ والرواية موجودة في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٦٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣١٢ و ٣١٣ والإصابة ج ٣ ص ٣٣٥ عن ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، وكنز العمال ج ١٤ ص ٩٧ عن ابن عساكر بسند حسن.

(٢) دلائل الصدق ج ٣ قسم ٢ ص ٢٦.

٣١٦

فبشره بها (١).

ولكن هذا التوجيه منه يحتاج إلى إثبات ، وعلى الأقل إلى شواهد تؤيده ، كما أن تلكؤ عمر في إخباره للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى يذهب علي «عليه‌السلام» ، ويكشف الأمر مرة ثانية ، ويرجع ، بعيد عن التصرف الطبيعي في مناسبات حادة ، تثير الأزمات بدرجة غير عادية كهذه المناسبة.

إذن .. فبملاحظة التشابه بين هذه الرواية ، وبين ما يرد عن علي «عليه‌السلام» ،

وبملاحظة : أن تبرئه علي «عليه‌السلام» لها مجمع عليها ، ولا شك فيها ، فإننا لا يمكن أن نصدق هذه الرواية : فإن عمر لم يذهب إلى مأبور ، ولا شارك في تبرئة مارية.

فقولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : ألا أخبرك يا عمر الخ .. ـ إن صح ـ فهو ابتداء كلام معه ، وحينئذ فيحتاج ما ذكره المظفر إلى الجواب.

براءة مارية :

لقد مر علينا آنفا : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخبر عمر بن الخطاب بأن جبرائيل قد أخبره أن الله تعالى قد برأ مارية.

وقد يمكن أن يفهم من ذلك : أن هذا يؤيد كون آيات الإفك قد نزلت في شأن مارية .. وأن الله تعالى قد برأها بواسطتها ، وإلا فما معنى تبرئة الله تعالى لها فيما سوى ذلك؟ إذ إن براءتها قد ثبتت على يد علي «عليه‌السلام» ،

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٣٣٥.

٣١٧

فتبرئة الله تعالى لها ، لا بد أن تكون بنحو آخر ، غير ما فعله علي «عليه‌السلام» ، وليس هو إلا نزول آيات الإفك في شأنها.

استمرار آثار الاتهام :

هذا .. ويبدو أن الشك في شأن مارية قد استمر إلى حين وفاة إبراهيم ابن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنه قد كان ثمة من يصر على الاتهام ، ولو بالخفاء.

ولعل عائشة التي يقول المعتزلي : إنها أظهرت كآبة ، وأبطنت شماتة ، كان يهمها هذا الأمر أكثر من غيرها. ولذا نجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى حين موت ولده إبراهيم يؤكد على : أن إبراهيم هو ولده.

فقد روي في صحيح مسلم : أنه «.. لما توفي إبراهيم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي ، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة ..» (١).

فليس لقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن إبراهيم ابني» مبرر إلا أن يقال : إنه أراد أن يقوم بمحاولة أخيرة ، لدفع كيد الإفكين ، وشك الشاكين.

كلام السيد المرتضى :

وأشكل السيد المرتضى وغيره على الرواية الأخيرة ، من روايات الإفك على مارية : بأنه كيف جاز لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأمر بقتل رجل

__________________

(١) صحيح مسلم (ط مشكول) ج ٧ ص ٧٧ وفتح الباري ج ٣ ص ١٤٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤٦ وكنز العمال ج ١٤ ص ٩٨ عن أبي نعيم.

٣١٨

على التهمة بغير بينة ، ولا ما يجري مجراها؟

وعلى حد تعبير ابن حزم : «كيف يأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتله دون أن يتحقق عنده ذلك الأمر ، لا بوحي ، ولا بعلم صحيح ، ولا بينة ، ولا بإقرار؟!

وكيف يأمر «عليه‌السلام» بقتله في قصة ، بظن قد ظهر كذبه بعد ذلك وبطلانه؟!

وكيف يأمر «عليه‌السلام» بقتل امرئ قد أظهر الله تعالى براءته بعد ذلك بيقين لا شك فيه؟!

وكيف يأمر «عليه‌السلام» بقتله ، ولا يأمر بقتلها ، والأمر بينه وبينها مشترك؟!».

وقد أجاب ابن حزم بقوله : «لكن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علم يقينا أنه بريء ، وأن القول كذب ، فأراد «عليه‌السلام» أن يوقف على ذلك مشاهدة ، فأمر بقتله لو فعل ذلك الذي قيل عنه ، فكان هذا حكما صحيحا في من آذى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وقد علم «عليه‌السلام» أن القتل لا ينفذ عليه لما يظهر الله تعالى من براءته».

ثم ذكر قصة اختلاف امرأتين في مولود ، وتحاكمهما إلى داود ، فحكم به للكبرى ، فخرجتا على سليمان ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما.

فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى.

ثم قال : «إن سليمان لم يرد قط شق الصبي بينهما ، وإنما أراد امتحانهما بذلك ، وبالوحي فعل هذا بلا شك ، وكان حكم داود للكبرى على ظاهر الأمر ، لأنه كان في يدها ، وكذلك فعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ما

٣١٩

أراد قط إنفاذ قتل ذلك المجبوب ، لكن أراد امتحان علي في إنفاذ أمره ، وأراد إظهار براءة المتهم وكذب التهمة عيانا. وهكذا لم يرد الله تعالى إنفاذ ذبح إسماعيل بن إبراهيم «عليهما‌السلام» إذ أمر أباه بذبحه ، لكن أراد الله تعالى إظهار تنفيذه لأمره» (١).

وليت ابن حزم قال : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد إظهار طاعة علي «عليه‌السلام» كما هو حال إبراهيم حين أمره الله بذبح ولده اسماعيل.

وأجاب السيد المرتضى «رحمه‌الله تعالى» :

بأن من الجائز أن يكون القبطي معاهدا ، وأن النبي كان قد نهاه عن الدخول إلى مارية ، فخالف وأقام على ذلك ، وهذا نقض للعهد ، وناقض العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة ، والمؤذن بها مستحق للقتل.

وإنما جاز منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يخير بين قتله والكف عنه ، وتفويض ذلك إلى علي «عليه‌السلام» ، لأن قتله لم يكن من الحدود والحقوق ، التي لا يجوز العفو عنها ، لأن ناقض العهد إذا قدر عليه الإمام قبل التوبة له أن يقتله ، وله أن يعفو عنه.

وأشكل أيضا : بأنه كيف جاز لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» الكف عن القتل ، ومن أي جهة آثره لما وجده أجب ، وأي تأثير لكونه أجب فيما استحق به القتل ، وهو نقض العهد؟!

وأجاب : بأنه كان له «عليه‌السلام» أن يقتله مطلقا حتى مع كونه أجب لكنه «عليه‌السلام» آثر العفو عنه ، من أجل إزالة التهمة والشك الواقعين في أمر

__________________

(١) المحلى ج ١١ ص ٤١٣ و ٤١٤.

٣٢٠