الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

وفي رواية هشام بن عروة : وأشربته قلوبكم.

ثانيا : إنها لما عاتبت أباها بقولها : ألا عذرتني؟!

قال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إذا قلت ما لا أعلم (١)؟

ثالثا : تقول عائشة : إنه لما أخذ رسول الله برحاء الوحي ، ما فزعت لعلمها ببراءة نفسها .. وأما أبواها فما سري عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى ظنت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس (٢).

رابعا : إن أبا بكر نفسه كما يروي عنه العسقلاني وغيره قد فزع أن ينزل من السماء ما لا مرد له (٣).

وبعد كل هذا .. فلا نصغي إلى اعتذار العسقلاني هنا أيضا : بأنهم أرادوا إقامة الحجة على من تكلم في ذلك ، ولا يكفي في ذلك النفي المجرد.

كما لا يصح قوله : بأن مرادها ممن صدق به ، هو أصحاب الإفك ، لكن ضمت إليهم من لم يكذبهم تغليبا (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٢ عن البزار والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٩٦ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦٦.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٣٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣١٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٢ عنه ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٨ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٦.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٥ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٧٢ و ١٦٨.

(٤) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٤.

٢٦١

١٥ ـ حمنة تحارب لأختها :

وتذكر الروايات : أن حمنة طفقت تحارب لأختها ، حتى هلكت فيمن هلك .. وحتى أقيم عليها الحد ، وذكرت فيمن تولى كبر الإفك ..

لكن أختها نفسها عصمها الله بالورع.

ونقول :

عجيب هذا!!

أو ليس يقولون : ليست الثكلى كالمستأجرة؟!

وإذا لم تكن أختها راضية بفعلها ، فأي فائدة تعود على حمنة من موقفها هذا؟!

ولماذا اختصت زينب بهذا الأمر من بين سائر نساء النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

وهل لم يكن لسائر نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخوات ولا أقارب يتولين المحاربة لهن؟!

١٦ ـ جواب ابن عبادة :

قالوا : إن جواب سعد بن عبادة لابن معاذ غير مناسب ، لأن ابن معاذ لم يقل إن كان من الخزرج قتلناه (١).

وأجاب الحلبي : بأن ابن عبادة يريد بجوابه ذاك : أنه لو كان من الأوس لا تقدر على قتله لأنه يظهر الإسلام .. ولا يقتل النبي «صلى الله

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٩.

٢٦٢

عليه وآله» من يظهر الإسلام.

فكأنه قال له : لا تقل ما لا تفعل ، أو ما لا تقدر على فعله (١).

واعتذر آخر : بأن المقصود : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يجعل حكمه إليك (٢).

واعتذر ثالث : بأن ابن معاذ لا يستطيع قتل الإفك؟ إذ يسبق إليه الخزرج أنفسهم (٣).

ونقول : إن ذلك كله غير سليم ، إذ يكذب الأول : أن ابن عبادة قال : «ما قلت هذه المقالة ، إلا لأنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك من الأوس ما قلت هذا ..» (٤).

ويكذب الثاني والثالث ..

رد ابن حضير على ابن عبادة : بأنك منافق تجادل عن المنافقين.

١٧ ـ أهلي وأهل بيتي :

لماذا قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مجلس الاستعذار : بلغني أذاهم في أهلي ، أو أبنوا أهل بيتي ، فجاء بلفظ الأهل وأهل البيت ، مع أن المقصود هو عائشة فقط.

أجاب العسقلاني : بأنه «لما كان يلزم من سبها سب أبويها ، ومن هو

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦١ عن ابن التين.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٢.

(٤) السيرة النبوية لابن هشام ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠ وغير ذلك.

٢٦٣

بسبيل منها ، وكلهم كانوا بسبب عائشة معدودين في أهله .. صح الجمع ..».

ثم استشهد على ذلك بما ورد في حديث الهجرة ، من قول أبي بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله ، يعني : عائشة ، وأمها ، وأسماء بنت أبي بكر (١).

ونحن لا نريد أن نناقش في صحة ما استشهد به من حديث الهجرة ، فقد تكلمنا على بعض نقاط الضعف فيه في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، فراجع ..

وإنما نريد فقط أن نسجل هنا ما يلي :

أولا : إننا لا نحتاج إلى تمحلات العسقلاني وتوجيهاته ، فقد نص أهل اللغة على أن «أهل الرجل» زوجته (٢). بل هي ليست حتى من أهل الرجل ، وإنما يقال لها ذلك مجازا (٣).

وأما كلمة «أهل البيت» ، فلا تشمل الزوجة من الأساس كما سيتضح.

ثانيا : لو صح كلام العسقلاني ، فكيف يصح إذن : أن يقول أسامة بن زيد ، عند ما استشاره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في فراق أهله : هم أهلك ، وما نعلم إلا خيرا .. فهل يستشير الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في طلاق جميع آل أبي بكر ، فيشير عليه أسامة : بأنه لا يعلم منهم إلا خيرا؟!

ثالثا : إذا كان يلزم من سبها سب أبويها وغيرهم ، فلماذا يحاول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تقريرها ، وانتزاع اعتراف منها؟

__________________

(١) فتح الباري ج ١٣ ص ٢٨٧.

(٢) أقرب الموارد ج ١ ص ٢٣ وراجع : المفردات للراغب الأصفهاني ص ٢٩.

(٣) راجع : تاج العروس ج ١ ص ٢١٧ ولسان العرب ج ١١ ص ٣٨ والمفردات للراغب ص ٢٩.

٢٦٤

فهل يريد فضيحة آل أبي بكر ، «أهله»!! فضيحة أبدية؟!

لا .. ولا كل ذلك .. ولكن ثمة أمر آخر يرمي إليه العسقلاني ، ومن هم على شاكلته.

إنهم يريدون بهذا اللف والدوران أن يقولوا : إن آل أبي بكر هم آل بيت النبي الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا .. وليس علي ، وفاطمة ، والحسنان .. أو على الأقل يريدون إضافة هؤلاء إلى أولئك .. ولكن يأبى الحق والرسول عليهم ذلك ، كما سيتضح في الإيرادات التالية.

رابعا : بالنسبة لاعتبار عائشة ، وآل أبي بكر هم أهل البيت نقول :

إن ذلك لا يمكن قبوله ، لأسباب عديدة ، هي :

ألف : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه قد فسر المراد من كلمة «أهل البيت» حيث بقي ستة أشهر ، أو سبعة عشر شهرا أو إلى آخر عمره الشريف (١) ، يأتي إلى بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، ويقول : «السلام عليكم أهل البيت ، ورحمة الله وبركاته».

ب : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صرح بخروج زوجته أم سلمة عن دائرة أهل بيته ، حيث قال لها : إنك من أهلي خير ، وهؤلاء أهل بيتي (٢).

__________________

(١) راجع كتابنا : أهل البيت في آية التطهير (ط الثانية ١٤٢٣ ه‍) ص ٤٠ ـ ٤٤ عن كثير من المصادر.

(٢) راجع : المستدرك على الصحيحين ج ٢ ص ٤١٦ وتلخيصه ، وشواهد التنزيل ج ٢ ص ٨٢ و ٨٨ والخصال ج ٢ ص ٤٠٣ والتبيان ج ٨ ص ٣٠٨ ومتشابه القرآن ومختلفه ج ٢ ص ٥٢ والبحار ج ٣٥ ص ٢٣١ و ٣١٦ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٣ ومشكل الآثار ج ١ ص ٣٣٦ وتفسير فرات ص ٣٧٧ وغير ذلك.

٢٦٥

أو قال لها بعد أن منعها من الدخول : إنك على خير ، فراجع حديث الكساء المشهور (١).

ج : قد تقدم عن أهل اللغة : أن أهل الرجل يطلق على الزوجة مجازا ..

د : سئل أنس بن مالك : أليس نساؤه من أهل بيته؟!

فقال : نساؤه من أهل بيته؟!

ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس (٢). وروي ذلك عن أحمد أيضا (٣).

__________________

(١) راجع مصادره الكثيرة جدا في كتابنا : أهل البيت في آية التطهير (ط الثانية ١٤٢٣ ه‍) ص ٣٦ و ٥١.

(٢) صحيح مسلم ج ٧ ص ١٣٠ والدر المنثور ج ٥ ص ١٩٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٦ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٨٠ وكنز العمال (ط جديد) ج ١٣ ص ٦٤١ والمواهب اللدنية ج ٢ ص ١٢٢ والتفسير الحديث ج ٨ ص ٢٦١ والبرهان (تفسير) ج ٣ ص ٣٢٤ والصواعق المحرقة ص ٢٢٦ وراجع ص ٢٢٧ و ٢٢٨ والسنن الكبرى ج ٢ ص ١٤٨ وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ٣٤٧ وسليم بن قيس ص ١٠٤ ونور الأبصار ص ١١٠ وإسعاف الراغبين ص ١٠٨ والإتحاف بحب الأشراف ص ٢٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣٠٠ والبحار ج ٣٥ ص ٢٢٩ وكفاية الطالب ص ٥٣ وليس فيه عبارة : (نساؤه من أهل بيته) عن مسلم ، وأبي داود ، وابن ماجة. وفي هامشه عن : مسند أحمد ج ٤ ص ٣٦٦ وعن كنز العمال ج ١ ص ٤٥ وعن مشكل الآثار ج ٤ ص ٣٦٨ وعن أسد الغابة ج ٢ ص ١٢ وعن مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٩ وراجع أيضا : منهاج السنة لابن تيمية ج ٤ ص ٢١ وتاريخ دمشق ج ٤ ص ٢٠٨.

(٣) منهاج السنة ج ٤ ص ٢١.

٢٦٦

ه : سئل أنس بن مالك مرة أخرى : من أهل بيته؟ نساؤه؟

قال : لا ، وأيم الله ، إن المرأة لتكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها ، فترجع إلى أبيها ، وقومها. أهل بيته أصله وعصبته ، الذين حرموا الصدقة من بعده (١).

و : إن نفس آية التطهير تدل على عدم شمول عنوان «أهل البيت» للنساء ، فإنه تعالى يقول : (.. إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ..) (٢).

ولم يقل : «يريد أن يذهب» مع أن الأوامر والزواجر في الآيات الشريفة متوجهة للزوجات ، فلو كان التطهير لهن ، لوجب تعلق الإرادة الإلهية بالمصدر المأخوذ من كلمتي أن يذهب ، ولكنه عدل عن المصدر وجاء باللام في قوله «ليذهب» ليفيد : أن هذه الأوامر والزواجر للزوجات إنما تهدف لتطهير أناس آخرين هم أهل البيت «عليهم‌السلام».

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٣ والصراط المستقيم ج ١ ص ١٨٥ وتيسير الوصول ج ٢ ص ١٦١ والبرهان (تفسير) ج ٣ ص ٣٢٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٤٨٦ والطرائف ص ١٢٢ والبحار ج ٣٥ ص ٢٣٠ وج ٢٣ ص ١١٧ والعمدة لابن بطريق ص ٣٥ والتفسير الحديث ج ٨ ص ٢٦١ والتاج الجامع للأصول ج ٣٠٨ و ٣٠٩ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٢ ص ٦٤ عن دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب ص ٢٢٧ و ٢٣١ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٩ ص ٣٢٣ عن الجمع بين الصحيحين والصواعق المحرقة ص ١٤٨ وعن جامع الأصول ج ١٠ ص ١٠٣.

(٢) الآية ٣٣ من سورة الأحزاب.

٢٦٧

١٨ ـ ليس في الإفكين أوسي :

وإذا كان حديث الإفك قد شاع وذاع ، حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه على حد تعبيرهم وكان من الواضح : أن ليس في الإفكين أوسي أصلا ، فلماذا :

أولا : يقول سعد بن معاذ : إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من الخزرج أمرتنا فيه بأمرك؟! وما معنى هذا الترديد ، بعد شهرة الأمر ، وطيرانه في كل بيت وناد؟!

أم يعقل : أن يعلم بهذا الأمر كل أحد ، وسيد الأوس وحده هو الذي يجهل به من بين الجميع؟!

وإذا كان يعلم ، فما معنى قول ابن عبادة له : بأنه يعرف أنه من الخزرج؟!

ثانيا : ما الذي أثار حفيظة ابن عبادة ، مع أن ابن معاذ لم يجترئ على الخزرج ، بل ذكر أنه يعمل فيهم بأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وهل يرد سعد بن عبادة أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو صحابي ، وهم يقولون : إن الصحابة عدول؟!

ولو أراد أن يفعل ذلك ، فهل يجرؤ أو هل يستطيع ذلك؟!

وتوجيه العسقلاني بأنه أراد أن ابن عبادة كان يعلم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يأمر بقتل خزرجي ، لا يصح لما يلي :

أولا : إذا كان الخزرجي مجرما ، مستحقا للقتل ، فلماذا لا يأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتله؟

ثانيا : لو أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتل خزرجي ، فهل يستطيع

٢٦٨

ابن معاذ أن لا يمتثل الأمر؟! ومتى جرت عادة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يأمر قبيلة الرجل بقتل الرجل؟!. أليس عكس ذلك هو الصحيح؟! أو على الأقل أليس عدم تقيده بذلك هو المعروف عنه؟!

وأجاب البعض : بأن كلام ابن معاذ كان عن حنكة وسياسة ، فهو يلقي الكلام بهذه الصورة ، وبنحو الترديد ليظهر نفسه على أنه بمنأى عن التعصب القبلي ، والتحيز لفئة دون فئة.

ولكن ما هذه الحنكة وما هذه السياسة المفضوحة لدى كل أحد؟!

ونحن نربأ بابن معاذ ، الرجل التقي الورع : أن ينطلق في مواقفه من تعصبات قبلية مقيتة ، ونربأ بعقله وحكمته ودرايته أن يتصرف تصرفا مفضوحا بعيدا عن الحنكة والدراية ، كهذا التصرف!!

١٩ ـ التناقض في المواقف :

وإذا كان ابن عبادة يغضب ، عند ما يبدي ابن معاذ استعداده لتنفيذ أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الإفكين ، كما أن الخزرج قد وافقوا على قول ابن عبادة ، حتى تلاطموا مع الأوس بالأيدي والنعال ، فلماذا سكت الخزرج ، وابن عبادة معهم حينما جلد النبي الإفكين ، الذين كان فيهم خزرجيان ، وليس بينهم أوسي؟! ورضوا بالعار والشنار بذلك؟!

بل يقولون : إن ابن عبادة نفسه هو الذي أطلق ابن المعطل ، عند ما أخذه الخزرج لأجل ضربته لحسان بن ثابت ، وأعطاه حائطا يتحصل منه مال كبير ، بما عفا عن حقه.

فكيف كانوا أتقياء حينما كسع حسانا بالسيف ، حتى شارف على الموت ،

٢٦٩

ولم يفعلوا مع صفوان شيئا ، حتى استشاروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمره ، وكان الصلح على يديه ، حسبما تقدم؟!

ولم يكونوا أتقياء ولا أبرارا ، بل كانوا منافقين كسعد بن عبادة عند ما كانت القضية تمس شرف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقدس حضرته ، وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة؟!

أم أنهم بين ليلة وضحاها انقلبوا من أشقياء فجار منافقين ، إلى أتقياء أبرار؟! يدافعون عن الإفكين ، ويتلاطمون مع الأوس ـ الأتقياء الأبرار دائما ـ بالنعال والأيدي ، ثم يتركون ابن المعطل ولا يكلمونه ، مع أنه أو شك أن يقتل صاحبهم ، حتى يستشيروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمره ، ويسكتون أيضا على عار جلد أبنائهم الحد؟

٢٠ ـ أبو بكر لا يعذر ابنته :

إن البلاذري يروي عن مجاهد ، قال : «لما أنزل الله عذر عائشة ، قام إليها أبو بكر ، فقبل رأسها ، فقالت : بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك ، يا أبتاه ، ألا عذرتني؟!

فقال : وكيف أعذرك بما لا أعلم؟! أي أرض تقلني يوم أعذرك بما لا علم لي به» (١).

وتقدم أيضا : أنه كان يخشى أن يأتي من الشيء ، ما لا مرد له.

فلماذا لا يظن بها أبو بكر خيرا ، مع أن الآيات تقول : (لَوْ لا إِذْ

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤١٩.

٢٧٠

سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)؟!

هل هو عوف؟! أم مسطح؟!

وقد ذكرت رواية أبياتا نسبتها إلى أبي بكر ، وأنه قالها في مسطح في رميه عائشة.

واللافت : أنه قد سمى فيها مخاطبه ب «عوف» في أربع أبيات من أبياتها التي لا تزيد على سبع ، ولا يذكر اسم «مسطح» أبدا.

فكيف تكون خطابا لمسطح ، ويكون الخطاب والحديث كله عن عوف؟! وما ربط عوف بمسطح؟!

وقد تقدمت الأبيات في فصل : النصوص والآثار ، الحديث رقم ١٨ فراجع (١).

٢١ ـ لماذا لم يجلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر؟!

والغريب في الأمر : أننا نجد أبا بكر يتهم عائشة بما رماها به أهل الإفك ، ويحرض الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الانتقام منها ، لكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يستجيب له ، ولا يعتبره في جملة الإفكين فلا يجلده الحد. فإنه لما بلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن الأمر قد بلغ عائشة ، دخل وجلس عندها ، وقال : «يا عائشة إن الله قد وسع التوبة ، فازددت شرا إلى ما بي ، فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو بكر ، فدخل علي ، فقال : يا رسول الله ، ما تنتظر بهذه التي خانتك وفضحتني؟!

__________________

(١) وهي في المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١١ و ١١٧ وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٦.

٢٧١

قالت : فازددت شرا إلى شر».

فأرسل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى بريرة فاستشارها (١).

٢٢ ـ الموالي والإفك :

وتذكر روايات الإفك أبياتا من الشعر تنسبها لأم سعد بن معاذ تتهم فيها «الموالي» بالإفك ، فهي تقول :

للموالي إذا رموها بإفك

أخذتهم مقامع وجحيم (٢)

ونحن لا نجد في روايات الإفك على عائشة أحدا يمكن أن ينسب إلى الموالي ، فهم : ابن أبي ، ومسطح ، وحسان ، وحمنة ، وزادت بعض الروايات : زيد بن رفاعة ، وليس في هؤلاء أحد من الموالي.

فما معنى هذا؟! وكيف نفسره؟!

إلا أن نفسر كلمة (الموالي) بالمحبين ، أو نفسرها بالأنصار. ولكن ، هل كان عبد الله بن أبي من محبي أبي بكر ، أو من أنصاره؟! وهل كانت حمنة أيضا من هؤلاء؟!

٢٣ ـ الدعاء على سعد :

ثم إن أبيات أم سعد بن معاذ تتضمن الدعاء على سعد ، فتقول :

ليت سعدا ومن رماها بسوء

في كظاظ حتى يتوب الظلوم (٣)

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٧ و ١١٨ وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٠.

(٢) راجع : المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١١ و ١١٧ وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٧.

(٣) المصدران السابقان.

٢٧٢

فإن كانت تقصد ولدها سعد بن معاذ ، فإنه :

أولا : قد مات قبل قضية الإفك ، فلماذا تدعو عليه؟!

ثانيا : إنه قد أنكر على الإفكين ـ حسب روايات عائشة ـ وأبدى استعداده لمعاقبتهم ، فلماذا تدعو أمه عليه؟!

وإن كانت تقصد سعد بن عبادة ، فإنه هو الآخر لم يكن في جملة الإفكين ، وغاية ما صدر منه ـ بحسب دعوى رواية عائشة ـ أنه واجه ابن معاذ منتصرا لقومه ، رافضا أن يمكّنه من تولي معاقبة أحد من قومه ، أو فقل : رافضا أن يكون له الحق في معاقبة أحد.

٢٤ ـ الذين نزل القرآن بموافقتهم :

ألف : ويقولون : إن الذين قالوا ـ حينما سمعوا الإفك ـ : سبحانك هذا بهتان عظيم ، هم :

١ ـ أبو أيوب : فإنه قال لزوجته لما أخبرته الخبر : فعائشة خير منك ، وصفوان خير مني.

وقال : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.

قالت عائشة : فأنزل الله عزوجل : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١).

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٨ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٣٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣١٥ وأسباب النزول للواحدي ص ١٨٥ والدر المنثور ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤ ، عن ابن مردويه ، وابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، والحاكم ، وفتح الباري ج ٨

٢٧٣

وقال ذلك أيضا :

٢ ـ أسامة بن زيد (١).

٣ ـ أبي بن كعب في قصة شبيهة بقصة أبي أيوب (٢).

٤ ـ سعد بن معاذ (٣).

٥ ـ زيد بن حارثة (٤).

٦ ـ قتادة بن النعمان (٥).

٧ ـ عمر بن الخطاب (٦).

ب : ومن الذين نزل القرآن بموافقتهم في آية : (.. الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ..) نذكر :

١ ـ أم مسطح ، فإنها عندما عثرت ، وسبت مسطحا ، سألتها عائشة عن

__________________

ـ ص ٣٥٩ وج ١٣ ص ٢٨٧ عن ابن إسحاق ، والحاكم ، والطبراني ، والآجري ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٧. وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٣ والكشاف ج ٣ ص ٢١٨.

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٩ وج ١٣ ص ٢٨٧ ، وجامع البيان.

(٢) فتح الباري ج ١٣ ص ٢٨٧ ، عن الحاكم في الإكليل من طريق الواقدي.

(٣) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٠ و ٣٥ عن ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وعن سنيد في تفسيره ، وفتح الباري ج ٨ ص ٥٩ وج ١٣ ص ٢٨٧.

(٤) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٤ عن ابن سمي في فوائده ، وفتح الباري ج ٣ ص ٢٨٧.

(٥) فتح الباري ج ١٣ ص ٢٨٧.

(٦) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٨.

٢٧٤

السبب ، فقالت : أشهد أنك من الغافلات المؤمنات (١).

وهذا موافق لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا ..).

٢ ـ بريرة التي ذكرت أن عائشة تنام عن عجين أهلها.

وفي رواية مقسم : أنها غفلت عن العجين ، فجاءت الشاة فأكلتها.

ونحن نسأل الله أن لا تكون هذه هي نفس تلك الشاة التي أكلت قسما من القرآن!! (٢).

٣ ـ ابن المنير ، لقد قال ابن المنير : «فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رميت به ، وأقرب إلى أن تكون من المحصنات الغافلات المؤمنات» (٣). فالآية أيضا قد نزلت بموافقة بريرة وابن المنير.

ج : وقد نزل أيضا قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ..) ليوافق أبا أيوب الأنصاري. حسبما عرفناه.

نعم .. لقد نزل القرآن بموافقة كل هؤلاء باستثناء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي «عليه‌السلام» ، فإن القرآن قد خالفهما ، وأنبهما على موقفهما من قضية الإفك .. لست أدري لماذا لم تكن النبوة من نصيب هؤلاء الأفذاذ ، الذين تجذر فيهم عنصر الوحي؟! ولماذا اختصت بذلك الرجل الذي هو أبعد ما يكون في هذه القضية عن الموقف الإلهي الصحيح؟!

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٥.

(٢) راجع : تأويل مختلف الحديث ص ٣١٠ وراجع كتابنا : حقائق هامة حول القرآن ص ٢٣٥ و ٢٣٦ ففيه مصادر كثيرة.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٨ وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٦١.

٢٧٥

ملاحظات ثلاث :

الأولى : اختلاف الروايات :

إن المراجع للروايات يرى : أن في رواية أبي أيوب اختلافا ، فبعضها يفيد : أن أبا أيوب كان يعلم بالخبر قبل إخبار زوجته إياه ، وبعضها يدل : على أنه لم يكن يعلم بالأمر إلا حين أعلمته زوجته به.

كما أن ثمة رواية تقول : إن أبا أيوب قد وافق قوله آية : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ..).

والأخرى تقول : بل وافق قوله تعالى : (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ ..).

الثانية : سند رواية أبي أيوب؟!

وإن من يراجع هذه الرواية يجد : أن رواتها هم : رجل من بني النجار ..

مجهول .. وأفلح ، مولى أبي أيوب ، الذي لم يكن حين الإفك ، بل هو من سبي اليمامة ، وعائشة.

الثالثة : هل ابن المعطل خير من أبي أيوب :

إننا لم نستطع أن نفهم متى وكيف أصبح صفوان بن المعطل خيرا من أبي أيوب وأفضل .. مع أنه لم يسلم إلا قبل قضية الإفك بقليل ، حتى ليقولون : إن أول مشاهده المريسيع التي هي غزوة الإفك.

مع أن أبا أيوب كان من كبار الصحابة وخيارهم ، وهو مضيف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين مقدمه المدينة ، وشهد العقبة وبدرا ، وسائر المشاهد.

٢٧٦

وعلى حسب مقاييسهم : لا يقاس بالبدريين أحد ، ولكن من يدري؟! فلعل صفوان كان يقطع ما يحتاج الناس فيه إلى سنوات بأشهر ، أو بأيام ، لاستعداده النادر ، ومواهبه الفذة ، التي قصّرت به عن أن يكون له أي دور سوى دوره في حديث الإفك ، وقصّرت به أيضا عن أن يكون نادرة زمانه ، وفريد عصره وأوانه!!.

نعم ، له في التاريخ فضائل أخرى نادرة : فهو الذي كان لا يصلي الصبح ، وكان يضرب زوجته ، وكان يمنعها من الصيام ، وكل ذلك كان بعد المريسيع!! ثم هو خير من أبي أيوب وأفضل!!

مما يأتي :

واللافت هنا : أن الإشكالات على حديث الإفك لا تنحصر فيما قدمناه بل هناك إشكالات أخرى ستظهر لنا من خلال البحوث الآتية : ومنها حديث :

١ ـ مشتركات :

حيث سنذكر : أن عقد عائشة قد ضاع مرة أخرى في نفس غزوة المريسيع ، أو انقطع ..

وكان ذلك في وقت الرحيل أيضا.

وهو من جزع ظفار.

وقيمته أيضا كانت اثني عشر درهما.

وفي مكان لا ماء فيه ، فأقام الجيش كله على التماسه حتى نزلت آية التيمم.

ولأسيد بن حضير دور رئيس أيضا في هذه القضية ، وسيأتي تفصيل ذلك.

٢٧٧

٢ ـ سباق البطلين :

وسنذكر أيضا : أن في هذه الغزوة بالذات حصل السباق الشهير!!! بين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!!! وبين عائشة!!! في قلب الصحراء .. وفاز الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا السباق. كما سيأتي ..

فتبارك الله وما شاء الله ، وحيا الله هذه الغزوة المباركة ، التي ظهرت فيها كل هذه البركات!!

٢٧٨

الفصل العاشر :

الكيد السياسي في حديث الإفك

٢٧٩
٢٨٠