الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

ثالثا : إنهم يصرحون : بأنه لم يشهد أيا من المشاهد ، لا بدرا ، ولا أحدا ، ولا غيرهما ، بسبب جبنه (١).

فلو كان الجبن إنما أتاه بسبب ضربة صفوان ، لوجب أن يكون لحسان أدنى أثر في الحروب قبل السنة السادسة ، ولا نجد له شيئا من ذلك.

رابعا : إن البعض يقول : «إن حسان (بن ثابت) كان لسنا شجاعا ، فأصابته علة أحدثت له الجبن» (٢). فالعلة هي سبب جبن حسان ، وليس ضربة صفوان.

وأخيرا .. فإن البعض ينكر : أن يكون حسان جبانا ، بدليل : أنه كان يهاجي قريشا ، ويذكر مثالبهم ومساويهم ، ولم يبلغنا : أن أحدا عيره بالجبن ، والفرار من الحروب .. وقد عير هو نفسه الحارث بن هشام بالفرار .. وما أجابه بما ينقض به أو يطعن به عليه ، بل اعتذر عن فراره بأمور أخرى (٣).

خامسا : إنهم يذكرون : أن عائشة قد برأته من قضية الإفك .. وأنه هو أنكر ذلك كما تقدم.

ج ـ شلل يدي حسان :

ثم إن بعض الروايات تصرح : بأن ضربة صفوان لحسان ، قد أوجبت

__________________

(١) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٤١ ونكت الهميان ص ١٣٤ والمعارف لابن قتيبة ص ١٣٦.

(٢) نكت الهميان ص ١٣٥ وتهذيب الكمال ج ٦ ص ٢٤ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٥٢١ والوافي بالوفيات ج ١١ ص ٢٧٢.

(٣) راجع : نكت الهميان ص ١٣٥ والإستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٢٤١

شلل يدي حسان .. (١) وذلك غريب وعجيب :

أولا : إنهم يقولون : إن الضربة أصابت إحدى يديه (٢) لا كلتاهما ، فكيف صارت إذن سببا لشلل اليد الأخرى؟!

ثانيا : لماذا لا يعتذرون عن عدم شهوده المشاهد ، إلا بجبنه ، وقد كان الاعتذار بشلل يديه أعذر وأولى.

هذا كله .. عدا عن أن أحدا من المؤرخين لم يذكر شلل يدي حسان على الإطلاق .. مع اعتنائهم التام بذكر مثل هذه الأمور لا سيما بالنسبة للصحابة الكبار ، والشخصيات منهم .. حتى لقد ألفوا كتبا خاصة في ذوي العاهات منهم .. أو عقدوا لبيانها فصولا مطولة في كتبهم.

١٤ ـ قبّعة الإخفاء :

لقد ذكرت عائشة في حديث الإفك : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله.

قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بعد ما نزل الحجاب.

ونقول :

أولا : إن ثمة روايات تقول : إن أم سلمة أيضا كانت مع رسول الله

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٥ ، عن أنوار التنزيل ، وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٥٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٤ عن الإمتاع.

٢٤٢

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزوة المريسيع (١). وقد قدمنا ذلك أيضا في ضمن النصوص والآثار لحديث الإفك ، الرواية رقم ١٠.

ثانيا : لماذا لم تنبّه أم سلمة حاملي الهودج إلى غيبة رفيقتها؟! أم أنها لم ترها حين ذهبت من بينهم؟ ..

وإذا كانت أم سلمة قد غفلت عن غيبة عائشة ، أو لم ترها حين تركت هودجها ، فهل لبست عائشة قبعة الإخفاء ، وخرجت من بين ذلك الجيش كله ، فلم يرها أحد؟!

ثالثا : إنه إذا كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستصحب بعض نسائه ، فإن الجيش أيضا سيفعل كما كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يفعل ، فسيصطحب المتزوجون أو كثير منهم نساءهم .. ومن الراجح أن تسير النساء في مجموعات تخصهن ، لا أن تسير كل امرأة مع زوجها ، وهذا معناه : أن النسوة يرين بعضهن ، ولا سيما في حالات نزول الجيش للاستراحة ، ويعرفن من تغيب منهن لقضاء الحاجة ومن لا تغيب.

فلماذا لم تخبر النسوة حامل هودج عائشة بغيبتها عن هودجها؟

ولماذا تركنها تذهب وحدها ، ألم يخفن عليها من سبع ، أو من أي طارق وطارئ في ذلك الليل البهيم ، قد يلحق بها الأذى ، ولا أقل من أن تفاجئها حركة بعض الحيوانات ، فتصاب ببعض الحالات العصبية بسبب الرعب القاتل ، والخوف العظيم؟!

__________________

(١) راجع : الجزء الثاني عشر من هذا الكتاب تحت عنوان (الباب الرابع : غزوة المريسيع ، أحداث وقضايا).

٢٤٣

رابعا : إننا لا ندري لماذا اختارت أن تذهب وحدها في ذلك الليل وفي قلب الصحراء؟

ولماذا اختارت أن تبعد عن الجيش هذا المقدار الكبير ، الذي فقدت معه سماع جلبة الرحيل وضوضاء حركة الجيش ، مع أن الليل ساتر؟.

ونحن نعلم : أنها هي نفسها قد ذكرت : أنها حتى وهي في المدينة ، وحيث الأمن والأمان متوفر أكثر مما هو في الصحراء ، قد خرجت إلى حاجتها مع أم مسطح ، وتقول : إنها علمت بأمر الإفك من قبل هذه المرأة بالذات ، وفي نفس هذه المناسبة.

فيا سبحان الله كيف أن الإفك عليها قد كان بسبب قضاء الحاجة ، ثم كانت معرفتها بأمر الإفك ، أيضا ، في مناسبة قضاء الحاجة!!

١٥ ـ القرعة بين النساء :

ومن الأمور التي تحتاج إلى تأمّل دعوى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان إذا خرج في سفر أقرع بين نسائه ..

فإن بعض الباحثين يشك كثيرا في صحة ذلك ، ويقول : إن ذلك لم يرد إلا عن عائشة ، وفي خصوص غزوة بني المصطلق.

ولأجل ذلك ، فإن ثمة قدرا من الطمأنينة إلى أن الأمر كان على عكس ذلك تماما ، أي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستصحب نساءه في أسفاره الحربية.

٢٤٤

الفصل التاسع :

نقاط ضعف أخرى في حديث الإفك

٢٤٥
٢٤٦

ملاحظات .. ومؤاخذات :

وبعد هذا الكم الهائل من المؤاخذات والإشكالات في حديث الإفك ، فقد بات بديهيا : أنه حديث موضوع ، ومصطنع لأسباب لا تخفى.

واللافت للنظر هنا : أن ما ذكرناه ليس هو الحصيلة النهائية لموارد الخلل ، بل هناك الكثير مما لم نشر إليه ، وربما يكون هناك كثير أيضا مما لم نقف عليه.

وسنورد في هذا الفصل أيضا طائفة أخرى من موارد الخلل هذه ، مع توخي الاختصار قدر الإمكان.

وإذا كان بعض ما سوف نذكره لا يرقى إلى درجة الحسم واليقين ، لكنه قادر ولا شك على المساعدة على ذلك ، من حيث إنه يضع علامات كبيرة على طبيعة هذه الرواية وصحتها وسلامتها.

والذي سوف نشير إليه هنا يتلخص في النقاط التالية :

١ ـ أذى النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

لقد صرح عدد من الروايات : بأن ما جاء به الإفكون قد أوجب أذى النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى قال : ما بال رجال يؤذوني في أهلي ، أو قال : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، أو نحو ذلك ..

٢٤٧

ومن المعلوم : أن من يؤذي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجب قتله (١).

ولكننا نرى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يدافع عن الإفكين فيغضب على صفوان ، لضربه حسان بن ثابت ، كما تزعم بعض روايات الإفك .. وهي الأشهر.

كما يقول ابن عبد البر : إنه لم يجلد أحد .. وهذا هو الأعجب والأدهى حقا.

وإذا قيل : لعل ذلك لأجل عدم ثبوت ذلك عليهم بالشهود ،

فالجواب هو في ضمن سؤال : كيف يطلب هو إذن من الناس أن يتدخلوا لمنعهم من أذاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ وكيف جاز له أن يعلن بالاتهام لهم؟!

٢ ـ كذب الصحابي :

يقول أسيد بن حضير ، لسعد بن عبادة : كذبت .. فأسيد في قوله هذا إما صادق في نسبة الكذب إلى سعد ، أو كاذب. فأحد الرجلين كاذب على كل حال .. فكيف يكون صحابيا ويكذب؟! فإنه وفق أصول أنصار عائشة ومحبيها ، وهم جماعة أهل السنة ، مما لا مجال لقبوله ، لأن الصحابة عندهم عدول كلهم ، لا يكذبون.

وكذلك الحال في اتهام ابن عبادة لابن معاذ بأنه قد علم أنهم من الخزرج ، ولا يريد نصرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإنما ينطلق في

__________________

(١) إرشاد الساري ج ٧ ص ٢٦٢.

٢٤٨

موقفه هذا من ضغائن وإحن جاهلية (١).

٣ ـ براءة الصحابة :

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي : «.. لو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء .. بل كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أول يوم يعلم كذب أهل الإفك ، لأنها زوجته ، وصحبتها له آكد من صحبة غيرها ، وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة ، فكان ينبغي ألا يضيق صدر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديد اللذين حملهما.

ويقول : صفوان من الصحابة ، وعائشة من الصحابة. والمعصية عليهما ممتنعة» (٢).

٤ ـ هل كان مسطح بدريا؟!

هل كان مسطح بدريا حقا؟!

لقد ادّعى النيسابوري الإجماع على ذلك (٣) .. ويؤيده التصريح به في كثير من المصادر.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٩٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٣١٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٢ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٣١ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦١.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٢٠ ص ٣٠.

(٣) تفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٨.

٢٤٩

ونقول :

إذا كان كذلك ، فلماذا يحده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الإفك؟

أليس قد رووا : أن الله تعالى قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم؟ .. فإذا كان ذنبه مغفورا فلماذا يعاقب عليه؟!

هذا إذا فسرنا هذه الكلمة بأن الذنوب تقع منهم ، لكنها تكون مقرونة بالمغفرة.

وأما إذا أخذنا بالاحتمال الآخر ، وهو أن المراد : أن المعصية لا تقع من البدري أصلا (١) .. فالأمر يصير أعقد وأشكل.

وفسرها النيسابوري بأن المراد : اعملوا من النوافل قليلا أو كثيرا ، فقد أعطيتكم الدرجات العالية في الجنة ، وقد غفرت لكم ، لعلمي أنكم تموتون على التوبة (٢).

ونقول :

أولا : ما الدليل على أن هذا هو المراد من قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اعملوا ما شئتم؟!

ولماذا هذه التبرعات التفسيرية بلا شاهد ولا دليل؟!

ثانيا : هل للذي يؤذي رسول الله ويتهم زوجته بهذا البهتان العظيم توبة؟!

ثالثا : إن هذا ينافي قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فإنها تدل على عدم قبول توبتهم إن لم نقل إنها تدل على عدم حصول

__________________

(١) أشار إلى المعنيين العسقلاني في فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٩.

(٢) النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٨.

٢٥٠

التوبة من الاساس. والصحيح في معنى هذه الرواية لو صحت : أن المؤمنين الذين شاركوا في بدر ـ بشرط الإيمان ـ قد غفر الله لهم ذنوبهم السالفة ، فليستأنفوا العمل ، وسوف يحاسبهم الله عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، لكن شرط أن لا يكونوا من المنافقين ، فإنّ المنافق كافر ، فليس مشمولا للحديث من الأساس حتى لو شارك في بدر.

٥ ـ الرهط :

قال في حديث الإفك : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون الخ ..

والرهط في اللغة يطلق على العدد من الثلاثة إلى العشرة (١).

مع أننا نجد الواقدي يقول : إن الذين كانوا يرحلون رحلها هم اثنان فقط.

والحلبي قال : إن الذي كان يتولى ذلك رجل واحد ، هو أبو مويهبة ..

فراجع ما تقدم من الكلام عن عمر عائشة ..

٦ ـ فقه بريرة ، وفقه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

تقول رواية علقمة عن عائشة : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استشار بريرة. وأجابته بأنها لئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله.

__________________

(١) أقرب الموارد ج ١ ص ٤٣٩ ومن معاني العصبة : القوم والقبيلة. وراجع : فتح الباري ج ٤ ص ٣٤٧ وفي المفردات للراغب ص ٢٠٤ ، الرهط : العصابة دون العشرة ، وقيل : يقال إلى الأربعين.

٢٥١

قالت : فعجب الناس من فقهها (١).

ولكن ليت شعري .. أين كان فقه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» آنئذ؟ ..

ولم لم يدرك هو هذه الحقيقة قبل بريرة؟! وهو الذي تعلّم منه الناس الفقه؟!

ولم لم يدرك أحد غير بريرة ذلك؟!

ولم لم يعجب الناس من فقه أبي بكر أيضا؟ ففي رواية أبي أويس ، أنه قال : هو رسول الله ، والوحي يأتيه ..

٧ ـ لم يفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجته :

ثم .. ألا ترى معي : أن من غير المألوف : أن أفضل الأنبياء والمرسلين .. وأعظم وأشرف إنسان وجد على وجه الأرض يترك زوجته في الصحراء ويذهب ، ثم لا يفتقدها إلا بعد مضي يوم كامل؟!

بل في بعض النصوص : أنها لم يفتقدها أحد أصلا.

ففي رواية ابن إسحاق ، قالت : «.. فو الله ، ما أدركنا الناس ، ولا افتقدت ، حتى نزلوا واطمأنوا طلع الرجل يقودني ..» (٢). وكان نزولهم طبعا في نحر الظهيرة ، كما تقدم.

وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد افتقدها ، فكيف لم يرسل

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٩ وجامع البيان ج ١٨ ص ٧٦ رواية علقمة. والدر المنثور ج ٥ ص ٣٢ ، عن الطبري ، وابن مردويه ، وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٦١.

(٢) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٠ وسيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣١١ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٥٢.

٢٥٢

السرايا للبحث عنها في كل حدب وصوب ، ويبذل كل ما في وسعه من أجل الوصول إليها؟!

ثم إن الرسول الكريم لا يمكن أن يغفل عن واجباته ، وهو أشد الناس اهتماما براحة مرافقيه ، وتوفير حاجاتهم .. فهل يعقل أن لا يفكر في أن زوجته قد تحتاج إلى الطعام والشراب طيلة ليلة ونصف يوم؟! إن ذلك لا يصدر عن أي إنسان عادي ، فكيف بالنسبة لعقل الكل ، وإمام الكل ، ومدبر الكل؟!

وإذا كان هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غفل عن ذلك ، فهل غفل عنه أيضا سائر من كانوا معها ويفترض فيهم أن يهيئوا لها حاجاتها؟!

وكيف لم يلتفتوا إليها أيضا في أوقات الصلاة ، حيث تحتاج إلى تجديد الوضوء ، وإلى المكان المستور الذي تؤدي فيه صلاتها؟! ولو أنها قد صلت في رحلها ، فكيف توضأت؟

والغريب في الأمر هنا : أن عائشة نفسها تقول : إنها كانت تظن أنهم سوف يفتقدونها .. ولكن ظنها قد خاب ، حيث لم يفتقدها أحد حتى زوجها.

يضاف إلى ما تقدم : أنهم يذكرون : أنه قد كان من عادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يساير هودجها ، ويتحدث معها (١).

ولكنه في تلك الليلة بالذات .. ولأن عقدها ضاع ، وضاعت معه .. ولأنه لا بد من إحكام قضية الإفك .. غيّر النبي عادته ، ولم يساير هودجها ، ولا تحدث معها!!!

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٩.

٢٥٣

ووجّه العسقلاني ذلك : بأن عدم افتقادها يمكن أن يكون لأجل أنهم استصحبوا وجودها معهم ، أو أنهم اشتغلوا بحط رحالهم ، ولم يفتقدوها (١).

ولكنه توجيه غير مقبول ، فإنها قد صرحت بأنهم قد نزلوا واطمأنوا.

وإن الذين مشوا ليلة ونصف يوم لا بد أن يفتقدوا زوجة نبيهم ، ولو لأجل الطعام والشراب ، فضلا عن الصلاة!!

والغريب هنا : أننا نجدها تقول ـ على ما في رواية الواقدي ـ : «كنت أظن : أني لو أقمت شهرا لم يبعثوا بعيري ، حتى أكون في هودجي» (٢).

وهذا يعني : أنهم كانوا يعرفون بخروجها من هودجها ، وأنها ليست فيه.

فهل قد تعمدوا تركها في الصحراء؟!

وإذا كانوا لا يعرفون بنزولها من هودجها ـ كما تقوله بعض الروايات الأخرى ـ فكيف إذن كانت تظن هذا الظن .. أم أنها ترى أنهم كانوا يعلمون الغيب؟! أو ترى أن لديهم حاسة شم قوية ، يدركون فيها وجودها وعدمه؟ عجيب أمر عائشة وأي عجيب!!

٨ ـ البكاء شاهد على البراءة :

وفي بعض الروايات تذكر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حينما سمع ببكاء آل أبي بكر ، قام إلى المسجد ، فاستعذر من الإفكين ، ثم عاد واستشار ، وقرر عائشة.

ونقول :

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٩.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٢٨ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٤٧.

٢٥٤

أولا : متى كان البكاء شاهدا على البراءة؟!!

ثانيا : لماذا استعذر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عبد الله بن أبي خاصة مع أن الذين جاؤوا بالإفك كانوا عصبة؟

فإن قيل : إن الاستعذار منه ، إنما هو لأجل أنه هو الذي تولى كبر الإفك؟

فالجواب هو : أن في مقابل ذلك : القول بأن الذي تولى كبر الإفك هو حسان أو حمنة.

وهناك من يقول : إن ابن أبي لم يجلد الحد ، وجلد غيره.

والغريب في الأمر : أن نجد التصريح في الروايات : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعذر من ابن أبي استنادا إلى قول جارية!!

ثم هي جارية عائشة بالذات!! وهي جارية لم تكن مع عائشة في تلك الرحلة.

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يجلده الحد ، رغم نزول الوحي الإلهي فيه .. فهل كان قول الجارية أقوى تأثيرا في نفس الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الوحي الإلهي وأوثق؟!

نعوذ بالله من الزلل ، في القول ، وفي العمل!!

٩ ـ التهويل!! والأيمان!!

وإننا في حين نلاحظ : أن عائشة تحاول التعظيم والتهويل في القضية ، حيث ادّعت : أنها قد بكت حتى ليظن أبواها : أن البكاء فالق كبدها .. وأن الأمة كادت تهلك بسببها .. وأنها حين سمعت بالأمر من أم مسطح خرت

٢٥٥

مغشيا عليها ، فبلغ ذلك أمها أم رومان فجاءتها ، فحملتها إلى بيتها (١) ،

وأنها همت أن ترمي نفسها في قليب (٢) أي بئر ،

إنها .. وهي تتحدث عن كل ذلك تكثر من حلف الأيمان ، ولا سيما وهي تقترب من نهايات الحديث .. حيث لا بد لها من زرع القناعة بأن الإفك كان عليها .. ولابد أن ينسى الناس قصة مارية ، وأن لا يعيروها أي اهتمام.

إنها ليست فقط تقسم لتأكيد ما تنقله عن نفسها ، بل هي تقسم على ما تنقله عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعن أبيها ، وعن أمها أيضا ..

فلماذا هذه الأيمان الكثيرة المنهي عنها في الشرع الشريف؟! ولماذا هذا التهويل والمبالغة فيه؟!

فهل كانت تشعر بضعف دعواها ، فاعتمدت طريقة التقوي بالأيمان؟!

أم أن المريب كاد أن يقول خذوني؟!

إن ذلك ليس بعيدا ـ فيما نعتقد ـ عن ذهن من نسب هذه الروايات إليها.

أو فقل : عن ذهن صانع الرواية ، من أجل أن يكسبها فضيلة وشرفا ، ما أشد شوقها إليه ، وما أعظم حرصها عليه.

__________________

(١) راجع : المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٧ و ١١٨ و ١٢٣ و ١٢٤ وراجع أيضا : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٠ و ٢٣٧ وراجع سائر المصادر التي قدمناها في فصل النصوص والآثار الحديث رقم ٣.

(٢) راجع : المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢١ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٥٥ عن الطبراني بسند صحيح ، وإرشاد الساري ج ٤ ص ٣٩٣ والدر المنثور ج ٥ ص ٣٢ عن الطبراني ، وابن مردويه.

٢٥٦

١٠ ـ لو أن خالدا سمع عائشة؟!

ويذكرني قول عائشة لأبيها : بحمد الله لا بحمدك ، ولا بحمد صاحبك الذي أرسلك (١).

يذكرني بخالد بن الوليد : الذي قتل مالك بن نويرة بحجة أن مالكا عبر له عن أبي بكر ب «صاحبك» فقال له : كأنك لا تراه لك صاحبا ، فاستحل بذلك دمه ، وقتله.

فحمدت الله وشكرته على أن خالدا لم يسمع من عائشة هذه الكلمة عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإلا لكان ألحقها بمالك بن نويرة! .. ولأصبح أخوها محمد شاعرا يرثي أخته الشهيدة!! كما كان متمم يرثي أخاه مالكا الشهيد «رحمه‌الله» تعالى.

١١ ـ الإساءة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ولسنا ندري ما هو ذنب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تجاه عائشة ، حتى تقول له : بحمد الله لا بحمدك ، أو بحمد الله وذمكما .. وما أشبه ذلك؟

ثم قولها له : ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا؟!

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما حاول أن يغازلها (!!) حيث أخذ بذراعها ، أمام أبويها ، قد أبعدت يده عنها ، حتى اضطر أبو بكر أن يأخذ النعل ليضربها ، فمنعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. كما أنه حاول أن يأخذ

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ٣١ عن الطبراني ، وابن مردويه.

٢٥٧

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيدها ، فتنتزع يدها منه ، فنهرها أبو بكر (١). بل هو قد ضربها فعلا كما في بعض الروايات (٢).

نعم ، إننا :

أولا : لا ندري ما هو المبرر لهذا العنف مع النبي الأكرم ، مع أنه لم يصدر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تجاهها ما يستدعي ذلك ، بل إنه قد برأها على المنبر ، وبلغ الأمر حدا كادت تقع الفتنة بين الأوس والخزرج؟

ثانيا : ألا يعتبر ذلك سوء أدب منها مع الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ وإيذاء له!

وما حكم من يقدم على ذم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومواجهته بكل تلك التعابير والتصرفات؟

وقول البعض : إن ذلك لعتبها عليهم ، لعدم تبرئتهم إياها ، مع تحققهم من حسن طريقتها ، أو أنها قالت ذلك إدلالا منها عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

أو أنها فهمت من قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها : احمدي الله : إفراد الله بالحمد ، وبقية الألفاظ ؛ باعثها الغضب (٣) ،

إن هذا القول لم نفهم له معنى. ولا سيما بملاحظة قولها : بحمد الله وذمكما.

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ٣١ ، عن ابن مردويه ، والطبراني ، وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٧٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٦ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦٦.

(٢) راجع : المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٠ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٠.

(٣) إرشاد الساري ج ٧ ص ٢٧٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦٦ والنووي شرح صحيح مسلم بهامش القسطلاني ج ١٠ ص ٢٣٠.

٢٥٨

وأيضا بملاحظة أنها هي نفسها تقول : إن النبي اعتذر من ابن أبي على المنبر.

وأما تحققهم من حسن طريقتها ، فيكذبه قولهم : إن أبا بكر كان يشك في أمرها .. وكذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حسبما تقدم .. وحتى لو غضبت ، فهل إن ذلك يجوّز لها الجرأة على نبي الأمة ، ومواجهته بهذه الطريقة؟!

١٢ ـ ثمن عقد عائشة :

ومن أغرب ما يذكر هنا : ما ذكره ابن التين من أن ثمن عقد عائشة كان ١٢ درهما (١).

وإذا كانت هذه قيمته فقد قال العسقلاني : إن معنى ذلك : أنه ليس من جزع ظفار ، وإلا لكانت قيمته أكثر من ذلك (٢) ..

مع أنها هي نفسها تنص على أنه كان من جزع ظفار.

وبالمناسبة : فإن العقد الذي سقط في الأبواء أيضا كان من جزع ظفار. وكانت قيمته ١٢ درهما كما سيأتي .. فتبارك الله أحسن الخالقين.

ولسنا ندري من أين عرف ابن التين قيمة ذلك العقد المبارك!! وكيف اختص هو دون سواه بنزول الوحي عليه ببيان قيمة ذلك العقد ..

لعل بين ابن التين ومقوّم ناقة صالح ، قرابة نسبة أو حرفية!!! وحسبنا هنا أن نتذكر قول الآخر :

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٧.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٧ وما هو دليلك يا عسقلاني على أن قيمة الظفاري أكثر من ذلك أو أقل؟

٢٥٩

لي حيلة في من ينمّ

وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

١٣ ـ أسامة ، وبراءة عائشة :

لقد قالت عائشة : إن أسامة بن زيد قد أشار على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ببراءة أهله.

ولكننا إذا أمعنا النظر في كلام أسامة : فإننا لا نجده زاد على القول : بأنه لا يعلم إلا خيرا. وهذا لا يعني تبرئتها ، وإنما غاية ما يدل عليه هو : عدم اطلاعه على ما يريب .. فهو كقول زينب بنت جحش : أحمي سمعي وبصري الخ ..

١٤ ـ هل كان أبو بكر يعرف الحقيقة؟!

لماذا تطلب من أبيها : أن يجيب رسول الله ، مع أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يسألها عن واقع وباطن الأمر ، ولا اطلاع لأبويها على ذلك؟!

واعتذار العسقلاني : بأنها أرادت بذلك الإشارة إلى أن باطنها لا يخالف الظاهر الذي يعلمه أبواها .. وإنما أجابها أبو بكر ب : لا أدري ، لأنه كثير الاتباع لرسول الله ، فأجاب بما يطابق السؤال المعنى .. ولأنه كره أن يزكي ولده (١).

هذا الاعتذار لا يصح ، وذلك لما يلي :

أولا : إن عائشة نفسها تخاطبهم جميعا بقولها : حتى استقر في أنفسكم.

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٤.

٢٦٠