الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

الفصل الثامن :

نصوص غير معقولة في حديث الإفك

٢٠١
٢٠٢

مما سبق :

قد أشرنا فيما سبق خصوصا في فصل «عائشة ..» إلى أمور عديدة غير معقولة في حديث الإفك .. مثل قولها :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتزوج بكرا غيرها.

وما تدعيه لنفسها من جمال.

وأن ضرائرها كن يحسدنها.

وأنها كانت لها حظوة عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأنها كانت على درجة من الضعف والهزال.

وأنها كانت صغيرة السن جدا.

وأنها كانت على درجة من قلة الفطنة والغفلة ، لا تفقه كثيرا من القرآن.

بالإضافة إلى خصائصها التي ميزتها على سائر نساء النبي. ونذكر في هذا الفصل طائفة أخرى من الأمور التي لا مجال لقبولها مما جاء في حديث الإفك فنقول :

١ ـ الإفك من الضرائر :

عند ما سألت عائشة أمها عما يقوله الناس ، قالت : «هوّني عليك ، فو الله ، لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا

٢٠٣

حسدنها ، وأكثرن عليها».

إذن .. فضرائر عائشة هن اللواتي جئن بالإفك ، وأكثرن عليها لوضاءتها ، ولمحبة النبي لها.

ونقول :

إن عائشة نفسها تصرح : بأن نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عصمن عن الخوض في الإفك .. إلا أن حمنة طفقت تحارب لأختها .. أما أختها نفسها فقد عصمها الله بالورع .. فلا ندري من نصدق : البنت؟! أم أمها؟!

ولقد اعتذر الحلبي بقوله : «إلا أن يقال : ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك» (١).

أما العسقلاني فحاول الاعتذار عن ذلك : بأن أمها أرادت تطييب نفسها ، وأنها ذكرت صفة الضرائر عموما ، ولم تتهم ضرائر عائشة (٢) ..

ونقول :

أولا : إنها احتمالات أقل ما يقال فيها : إنها خلاف الظاهر .. فلا يصار إليها إلا بدليل.

ومجرد الرغبة في دفع الإشكال عن حديث الإفك لا يكفي مبررا لهذه التمحلات ، ولا سيما مع كثرة مواقع الضعف والوهن في هذا الحديث.

ثانيا : كيف ظنت أمها ذلك؟ مع كون الخائضين بالإفك هم ابن أبي ، وأضرابه ممن لا ربط لهم ببيت النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ويعلم بهم

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٥.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٥.

٢٠٤

كل أحد ، ولم يبق ناد إلا طار فيه هذا الخبر .. فهذا مجرد اتهام للضرائر لا مبرر له ، مع وجود الشياع العظيم في خارج بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

هذا مع علم أم رومان بشيوع الحديث ، ووصوله إلى أبي بكر ، وإلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتحدث الناس به ..

ثالثا : أما أنها أرادت تطييب نفسها ، فهل يكون ذلك باتهام الأبرياء ، وزرع الحقد والضغينة لهن في نفس عائشة؟! .. لست أدري .. ولا أظن أحدا يدري .. إلا إن كان العسقلاني نفسه ..

٢ ـ هل كان صفوان حصورا حقا؟

وتقول روايات الإفك : إن صفوان بن المعطل لم يكن له مأرب في النساء ، وإنه كان حصورا لا يأتي النساء ، أي إنما معه مثل الهدبة .. أي أنه كان عنينا .. كما صرّح به في كثير من الموارد (١).

وأنه ما كشف كنف أنثى قط (٢).

ولكن كل ذلك لا يصح ، وذلك لما يلي :

أولا : إننا نجد ما يدل على أنه كان متزوجا ، وقد شكته زوجته إلى النبي

__________________

(١) راجع : المحبر ص ١٠٩ والأغاني (ط ساسي) ج ٤ ص ٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠١ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٥٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣١٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٩ وتقدم ذلك عن المعجم الكبير للطبراني ج ٢٣ ص ١٢٣ و ١٢٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٧.

(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٩.

٢٠٥

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه لا يمكنها من الصيام .. فكان عذره : أنه رجل شهواني ، لا يصبر عن النساء ، وإسناد هذه الرواية صحيح.

فلا معنى لجعل البزار والبخاري حديث الإفك دليلا على عدم صحتها (١).

ولم لا يكون العكس هو الصحيح ، ولا سيما بملاحظة : أن حديث الإفك قد تواردت عليه العلل والأسقام الموجبة لضعفه وسقوطه؟!

وقد حاول العسقلاني الجمع والتوجيه : بأنه ربما يكون قد تزوج بعد حديث الإفك ، ومعنى أنه لم يكشف كنف أثنى قط : أنه لم يجامع (٢).

ولكن ماذا يعمل العسقلاني بالنصوص الكثيرة التي تقول : إنه كان عنينا ، وله مثل الهدبة ، ولا مأرب له بالنساء! إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه هنا؟!

والصحيح في القضية هو ما ذكرناه نحن ، وأيدناه بما تقدم.

ثانيا : لقد روى القرطبي أيضا : أن زوجة صفوان جاءت تشكوه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ومعها ابنان لها منه ، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أشبه به من الغراب بالغراب (٣).

فكيف يكون للعنين الذي له مثل الهدبة أولاد؟!

وحين لم يستطع العسقلاني أن يجيب على هذا ، حاول التشكيك بقول

__________________

(١) راجع : فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٠ عن سنن أبي داود ، والبزار ، وابن سعد ، وصحيح ابن حبان ، والحاكم من طريق الأعمش ، عن أبي سعيد ..

وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٢ و ٢٩٣ ومشكل الآثار ج ٢ ص ٤٢٣ والإصابة ج ٢ ص ١٩١.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٠ والإصابة ج ٢ ص ١٩١.

(٣) المصدران السابقان.

٢٠٦

القرطبي بقوله : إنه لم يقف على مستنده في ذلك .. ثم يورد احتمال أن يكون الذي قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك هو صفوان آخر (١).

ولكنه بعد تصريح القرطبي بأن المراد هو ابن المعطل ، فلا يصغى لاحتمالات العسقلاني ، وتوجيهاته التبرعية ، فإنها اجتهاد في مقابل النص.

وإذا كان العسقلاني لم يقف على مستند القرطبي ، فإن ذلك لا يسقط الرواية عن درجة الاعتبار ، بل هو يحتّم على العسقلاني أن يقوم بمزيد من البحث والتتبع.

وإذا لم يوجد للرواية سند ، فإن ذلك لا يعني أن تكون كاذبة ، لا سيما مع تقوّيها بالرواية الصحيحة التي سبقتها.

ثالثا : من أين علمت عائشة وسواها أن لصفوان بن المعطل مثل هذه الهدبة؟! بل من أين علمت أن لا مأرب له بالنساء؟!

رابعا : إذا كان صفوان عنينا ، وله مثل الهدبة ، فلماذا لم يبادر كل من سمع الإفك إلى تكذيب ذلك ، والسخرية من القاذفين والإفكين؟!!

وكيف شاع الإفك وذاع ، حتى دخل كل ناد وبيت ، كما نص عليه الزمخشري؟!

وكيف لم يلتفت الإفكون إلى أنهم لن يجدوا من يصدقهم في فريتهم ، والحالة هذه؟!

ولماذا احتاج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الوحي والاستعذار من ابن أبي؟!

__________________

(١) المصدران السابقان.

٢٠٧

ولماذا قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعائشة : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه.

ولماذا تبكي عائشة وأمها وأبوها ، وتحمّ وتمرض؟!.

وكيف استقر في قلوبهم ذلك؟ ..

ولم لم يبادر أحد منهم ولا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الذبّ عنها ، وتكذيب القائلين؟! ..

وصفوان .. لماذا لم يبادر إلى إظهار نفسه ، والإعراب عن واقع القضية ، وحقيقة الأمر؟!.

اعتذارات واهنة :

وأما احتمال أن يكون القذف فيما هو دون الزنا ، فيرده : أن الآيات تطلب الشهداء الأربعة من القاذفين ..

ويرده أيضا : أنهم يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حد من قذف ، ولم يقولوا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عزّرهم!!

وأيضا : لماذا يجازف ابن المعطل بضرب حسان ، ثم يعرّض نفسه لغضب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من أجل ذلك؟

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.

وقد يقال : إن المراد بكونه حصورا : أنه ممن يحبس نفسه عن شهوته.

ونقول :

أولا : قد تقدم : أنه لم يكن يمكن زوجته من الصيام حتى شكته إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٢٠٨

ثانيا : إن هذا الأمر لا ينفع في مقام التبرئة ، لأنه وصف اختياري فيمكن أن يكون الإنسان كافا نفسه اليوم غير كاف لها غدا أو بعد غد. وكم تجد من الناس من يكون على صفة العدالة اليوم ثم يخرج عن ذلك إلى دائرة الفسق وتعمّد ارتكاب الفواحش والمعاصي.

ثالثا : إن هذا المعنى لا يناسب قولهم : إنهم وجدوه كذلك.

٣ ـ صفوان يدخل على أهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

وأما قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المنبر عن صفوان : إنه ما كان يفارقه في سفر ولا حضر ، ولم يكن يدخل على أهله إلا معه ..

وفي لفظ : «بيتي».

وفي لفظ : «بيتا من بيوتي إلا معي» (١) فهو أيضا غريب وعجيب.

فأولا : إن صفوان حسبما يقولون : لم يسلم إلا في تلك السنة ، ويرى بعض المؤرخين ـ وهو الواقدي ومن تبعه ـ : أن أول مشاهده الخندق.

بينما يرى فريق آخر : أن أول مشاهده هو غزوة المريسيع نفسها ، وكان إسلامه قبلها (٢).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٧. ومصادر كثيرة أخرى تقدمت في فصل النصوص والآثار.

(٢) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٢ ص ١٨٧ وأسد الغابة ج ٣ ص ٢٦ والإصابة ج ٢ ص ١٩٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٤٩.

٢٠٩

فكيف صح أن يقال : إنه لم يفارق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سفر ، ولا في حضر ، وهو لم يسلم ، ولم يتبع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا قبل مدة وجيزة جدا. وكانت أول مشاهده المريسيع نفسها .. فهل كان يدخل على زوجات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويسافر معه ، لا يفارقه وهو مشرك؟!

ثانيا : لو أننا تجاوزنا ذلك ، فإن قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لم يكن يدخل على أهلي إلا معي .. غريب وعجيب ، ولا سيما إذا صدقنا ما قالته الرواية : من أن الحجاب كان قد ضرب على نساء النبي ..

فما هو المبرر لدخول صفوان على نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو رجل أجنبي عنهن ، سواء في حضوره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو في حال غيابه؟!

وأين هي الغيرة ، والحمية ، والدين إذن؟!

ألا يعتبر ذلك طعنا في شخص النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والعياذ بالله؟! .. هذا النبي الذي أمر زوجاته أن يستترن حتى من ابن أم مكتوم الأعمى ، وحين قلن له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنه أعمى ، قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ (١).

اللهم إلا أن نأخذ بقول ابن زيد : إن الناس كانوا لعائشة محرما ، فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم ، وليس لغيرها من النساء ذلك (٢). ولكن :

١ ـ ليت شعري : ما الفرق بين عائشة ، وبين سائر أزواج النبي «صلى

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٢٨ و ١٢٦ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٩٦.

(٢) جامع البيان ج ١٨ ص ٧٧.

٢١٠

الله عليه وآله» ، ولماذا اختصت عائشة بهذه الفضيلة دونهن؟!

٢ ـ لماذا إذن ضرب عليها الحجاب؟ فإن ذلك سفه ولغو ، لعدم وجوب الستر عليها أصلا ، وجواز تبرجها تبرج الجاهلية!!

وكذلك لماذا يمنعها حتى من رؤية الأعمى ابن أم مكتوم؟!

ثالثا : إنه لا معنى لقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لم يكن يدخل على أهلي إلا معي ، فإن الإفك كان في حال غياب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا في حال حضوره ، ولا في حال دخوله على أهله ..

إذ لم يدّع أحد : أن صفوان قد دخل على أهل النبي بدون علمه ، بل ادّعوا الإفك عليه في بقائه مع عائشة في الصحراء ، فقد قال ابن أبي كما يروون : زوجة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت .. أو ما هو أقبح من هذا الكلام.

٤ ـ هجاء حسان لصفوان وضربة صفوان له :

وأما ما ذكروه في روايات الإفك : من أن حسان بن ثابت قد هجا صفوان بقوله :

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا

وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

فعدا عليه صفوان فضربه بالسيف ،

وتقدم في نص آخر : أنه قعد له ، فضربه ضربة بالسيف ، وهو يقول :

تلقّ ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هو جيب لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وانتقم

من الباهت الرامي البراة الطواهر

فاستغاث حسان الناس ، ففر صفوان ، فجاء حسان إلى النبي «صلى الله

٢١١

عليه وآله» فاستعداه عليه ، فاستوهبه ، فعاضه من نخل عظيم ، وجارية (١) ، فإنه أيضا : محل شك كبير ، فقد ورد :

١ ـ أن فتية من المهاجرين والأنصار تنازعوا على الماء ، وهم يسقون خيولهم ، فغضب من ذلك حسان ، فقال هذا الشعر.

وتفصيل القضية : أن جهجاه أورد فرسا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفرسا له الماء ، فوجد على الماء فتية من الأنصار ، فتنازعوا فاقتتلوا ، فقال ابن أبي : هذا ما جزونا به ، آويناهم ثم هم يقاتلوننا.

فبلغ حسان بن ثابت ، فهجا المهاجرين بالأبيات الإحدى عشرة ، التي منها هذا البيت :

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا

وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

قال : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا حسان نفست علي إسلام قومي؟! وأغضبه كلامه.

فعدا صفوان على حسان ، وضربه بالسيف ، وقال :

تلقّ ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وانتقم

من الباهت الرامي البراة الطواهر

ثم ذكر : أن قوم حسان أخذوا صفوان ، وأطلقه سعد بن عبادة ، وكساه .. ثم أتوا بحسان إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرتين ، فلم يقبله ، وقبله في الثالثة (٢).

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١١ و ١١٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٦.

(٢) الأغاني (ط ساسي) ج ٤ ص ١٢ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٣ عن ابن إسحاق.

٢١٢

وهذه هي الرواية المنسجمة مع سائر النصوص .. كتعبير ابن أبي عن المهاجرين ب «الجلابيب» (١).

٢ ـ إن روايات الإفك تصرح : بأن حسانا كان يعرّض بمن أسلم من مضر.

ونقول : ما شأن من أسلم من مضر بقضية الإفك؟!

٣ ـ وبالنسبة لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحسان : «أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام»؟

نقول : لماذا لم يؤنبه النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قذفه ، وإنما أنبه على هجائه لقومه فقط؟!

٤ ـ وبالنسبة لقول صفوان لحسان حين ضربه بالسيف :

تلقّ ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

نقول : إن هذا الشعر يشير إلى أن صفوان بن المعطل إنما ينتقم من حسان بسبب هجائه له .. وهو الأمر الذي عجز صفوان عن مواجهته ، فلجأ إلى طريقة العنف.

٥ ـ إن قول صفوان في البيت التالي :

ولكنني أحمي حماي وأنتقم

من الباهت الرامي البراة الطواهر

صريح في أنه يؤنبه على رميه الطواهر من النساء ، وليس بالضرورة أن يكون مقصوده هو عائشة ، فيما يرتبط بالإفك عليها ، بل المقصود ـ كما صرح به الصنعاني ـ هو أم صفوان ، فإن حسان بن ثابت كان يهجو صفوان

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٤.

٢١٣

بن المعطل ويذكر أمه ، فضربه من أجل ذلك (١).

٦ ـ قد ذكرت بعض الروايات أن صفوان قال : «آذاني ، وهجاني ، وسفه عليّ ، وحسدني على الإسلام ، ثم أقبل على حسان ، وقال : أسفهت على قوم أسلموا»؟ (٢).

فلو كانت القضية في موضوع الإفك ، لكان المناسب احتجاج صفوان عليه بذلك ، ليكون باب العذر له أوسع .. وكان على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يؤنبه على ذلك أيضا ، لأن ذلك عند الله عظيم ، كما عبّرت به الآية الشريفة.

٧ ـ وقال السمهودي ، وأبو الفرج : روى عقبة ، عن العطاف بن خالد ، قال : كان حسان يجلس في أجمة فارع ، ويجلس معه أصحابه : ويضع لهم بساطا يجلسون عليه ، فقال يوما ـ وهو يرى كثرة من يأتي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من العرب يسلمون ـ :

أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا

وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

فبلغ ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : من لي من أصحاب البساط؟

فقال صفوان بن المعطل : أنا لك يا رسول الله منهم ، فخرج إليهم ، واخترط سيفه ، فلما رأوه مقبلا عرفوا من وجهه الشر ، ففروا وتبددوا ، وأدرك حسان داخلا بيته ، فضربه ، ففلق ثنّته.

فبلغني : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عوضه ، وأعطاه حائطا ، فباعه

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١٦٢.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٣٧.

٢١٤

من معاوية بن أبي سفيان بمال كبير ، فبناه معاوية بن أبي سفيان قصرا (١).

وخلاصة الأمر : أن كل الدلائل والشواهد تشير إلى أن ضرب صفوان لحسان لا علاقة له بقضية الإفك على الإطلاق.

٨ ـ وبعد كل ذلك .. لماذا يلجأ صفوان إلى ضرب حسان في قضية الإفك ، وإلى استعمال أسلوب العنف معه ، أليس قد علم الناس : أنه لا يقرب النساء ، وأنه كان عنينا ، وأن له مثل الهدبة؟!

ولماذا .. لا يضرب ابن أبي أيضا ، أليس هو أولى بذلك ، بعد ان تولى كبر الإفك ، كما يقولون؟!

٩ ـ وإذا كان قد ضرب حسانا ، فلماذا يظهر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التغيظ على صفوان ، ويدافع عن قاذف زوجته ، ويحاول المحافظة عليه ، ثم يتبرع من ماله بسيرين ، وبيرحاء ـ على ما يقولون ـ ليرضي حسانا عن ضربته؟!

ولماذا لا يرضيه من مال صفوان قصاصا له؟!

ولماذا يهتم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالصلح بينهما ، ويحاول إرضاء حسان بهذا النحو من التضحية بالمال وغيره ، مع أن الصلح في قضية تتعلق بزوجة هذا المصلح نفسه؟! وتتضمن بالأخص رميها بالزنا .. نعوذ بالله من ذلك.

١٠ ـ وأما إذا كان صفوان قد ضربه بعد نزول آيات التبرئة .. وكان حسان قد عاد إلى القذف .. فقد كان اللازم : أن يقيم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليه الحد من جديد ، مع أن الأمر يصير أشد وأعظم حينئذ ، لأنه

__________________

(١) الأغاني ج ٤ ص ١١ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٦٢ و ٩٦٣.

٢١٥

يتضمن تكذيب القرآن.

إلى غير ذلك من الأسئلة ، التي لم ولن تجد لها جوابا مقنعا ومقبولا على الإطلاق. (١).

٥ ـ بيرحاء :

ويقولون : إن صفوان بن المعطل ضرب حسان بن ثابت في قضية الإفك ، فعوّض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حسانا عن ذلك ـ بالإضافة إلى سيرين ـ أرضا اسمها : بيرحاء.

ونحن نشك في ذلك :

إذ قد ورد في البخاري : أن أبا طلحة قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

إن الله يقول في كتابه : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله .. أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بخ ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين.

فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه ، وبني عمه (٢).

__________________

(١) المصنف ج ١٠ ص ١٦٢.

(٢) البخاري كتاب الزكاة باب ٤٨ ، باب الزكاة على الأقارب ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٤ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٦١ ، مع بعض الاختلاف ، وسنن النسائي ج ٦ ص ٢٣١ و ٢٣٢ والروض الأنف ج ٤ ص ٢٢ وأخرجه مسلم ، والراوندي ، وأبو داود ، والنسائي مختصرا.

٢١٦

فأعطاها لحسان ، وأبي بن كعب ، لأن حسانا يجتمع معه في الأب الثالث ، وأبي ابن عمته (١) ..

وأضاف ابن زبالة ، عن أبي بكر بن حزم إليهما : ثبيط بن جابر ، وشداد بن أوس ، أو أباه أوس بن ثابت ، يعني أخا حسان فتقاوموه ، فصار لحسان ، فباعه لمعاوية بمائة ألف درهم (٢) ..

٦ ـ شعر حسان في الاعتذار لعائشة :

تذكر روايات الإفك : أن حسان بن ثابت قد اعتذر لعائشة بأبيات يقول فيها :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له : لكنك لست كذلك .. وفيها :

فإن كان ما قد قيل عني قلته

فلا رفعت سوطي إلي أناملي

إلى آخر الأبيات.

ونحن نشك في صحة ذلك ، لما يلي :

١ ـ إن قوله : فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ، يدل على : أنه يكذب ما نسب إليه من الإفك ، وليس فيه اعتذار لأحد.

بل هو يستدل على عدم صحة ذلك بقوله :

__________________

(١) الروض الأنف ج ٤ ص ٢٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٤ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٦٢ وسنن النسائي ج ٦ ص ٢٣٢.

(٢) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٦٣.

٢١٧

وكيف وودي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

أأشتم خير الناس بعلا ووالدا

ونفسا لقد أنزلت شر المنازل (١)

كما أنه ليس فيه تكذيب لنفسه كما زعمت بعض الروايات (٢) بل هو تكذيب لما نسب إليه مع استدلال وإيراد شواهد.

٢ ـ ما رواه ابن هشام ، عن أبي عبيدة ، قال : إن امرأة مدحت بنت حسان بن ثابت عند عائشة ، فقالت :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت عائشة : لكن أباها (٣).

٣ ـ وفي بعض طرق رواية مسروق : أن حسانا قال ذلك : «يشبب ببنت له» (٤).

٤ ـ لقد ورد : أن أنس بن زنيم ، حينما بلغه إهدار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمه جاء إليه معتذرا ، وأنشده أبياتا كان منها قوله :

ونبّي رسول الله : أني هجوته

فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي (٥)

وعلى هذا .. فلا يستبعد أن تكون هذه القصيدة منحولة لحسان بما فيها

__________________

(١) مسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٩ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٧٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢٠.

(٢) راجع : مسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٧٤.

(٤) فتح الباري ج ٨ ص ٣٧٤.

(٥) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٧٩٠ والإصابة ج ١ ص ٦٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٢.

٢١٨

أبيات التبري كما ربما تشير إليه الشواهد.

وقد قال الأصمعي عن حسان : «تنسب له أشياء لا تصح عنه» (١).

ومحاولة العسقلاني التأكيد على : أن اللامية قد قالها حسان في عائشة ، إذ قد ورد فيها :

فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم

الخ ... (٢) ،

ما هي إلا محاولة فاشلة ، بعد أن ثبت التصرف في الأبيات .. وأيضا فإن هذا البيت عام المضمون ؛ فيمكن أن يكون قد بلغ ابنة حسان عن المادحة شيء يسوؤها ، فتريد أن تبرئ نفسها منه. أو لعل البيت لأنس بن زنيم ، ثم نحل لحسان ، لحاجة في النفس قضيت.

هذا كله .. عدا عن أن البيت الأول ، أعني قوله : حصان رزان الخ .. عام المضمون كذلك.

ويلاحظ أيضا : أن بعض الأبيات المذكورة فيها ضعف ولين ، لا يناسب شعر حسان. فليلاحظ قوله :

تعاطوا برجم القول زوج نبيهم

وسخطة ذي العرش الكريم فاترحوا

فآذوا رسول الله فيها وعمموا

مخازي سوء عمموها وفضحوا (٣)

واخيرا :

فإن مما يلفت النظر هنا : أن البعض قد جعل قوله :

__________________

(١) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٣٩.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٧٤.

(٣) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٦ و ١١٧.

٢١٩

فلا رفعت سوطي ....

الخ ..

دليلا على أنه لم يجلد في الإفك ، ولا خاض فيه (١) ..

ولكنهم لما رأوا : أن قول الآخر :

لقد ذاق حسان الذي كان أهله

وحمنة ، إذ قالوا هجيرا ومسطح

ينافي ذلك ، ادّعوا : أنه محرّف ، وأن الصحيح هو الرواية الأخرى :

لقد ذاق عبد الله الذي كان أهله (٢)

الخ ..

بل لقد قالوا : إن هذا الشعر هو لحسان نفسه في ابن أبي ، وأنه قد قاله في الإفكين حين جلدوا (٣).

مع أن قائل هذا الشعر هو عبد الله بن رواحة ، أو كعب بن مالك ، كما سيأتي .. كما أن أبا عمر صاحب الإستيعاب قال : إن الأصح هو قوله :

لقد ذاق حسان الذي كان أهله (٤)

الخ ..

وعلى كل حال .. فإن عندنا مثل عامي يقول : الفاخوري يجعل أذن الجرة أين وكيفما أراد.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٢ والروض الأنف ج ٤ ص ٢٣.

(٢) الروض الأنف ج ٤ ص ٢٤ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٦ و ١١٧.

(٣) الإستيعاب ، بهامش الإصابة ج ٤ ص ٣٥٩ و ٣٦٠ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٦ و ١١٧ وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٦.

(٤) الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ ص ٣٥٩ و ٣٦٠ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٦ و ١١٧ وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٦.

٢٢٠