الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

موجود ، فتكليف الناس بأن يحكموا بأنه كذب مبين ، لا معنى له.

فإنه إن كان الخطاب في الآيات متوجها للناس في قضية إفك عائشة ، لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق .. لعدم كون الإفك في قصة عائشة ـ وبيتوتتها مع رجل غريب ـ واضحا بينا لكل من سمعه.

ب : إنه لو كان إفكا مبينا لم يهتم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر ، ولم يرتب الأثر على قول الآفكين ، حسب روايات إفك عائشة.

فهذه الآيات إذن لا بد أن تكون ناظرة لقضية أخرى ، يكون الإفك فيها واضحا وبينا جدا .. بحيث يصح معها توبيخ المؤمنين على موقفهم غير المنسجم مع طبيعة الأحداث .. فما هي هذه القضية التي تنظر إليها الآيات؟! هذا ما سوف نجيب عنه في الفصول الآتية ، إن شاء الله تعالى.

٤ ـ الذين جاءوا بالإفك :

يقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..).

وإذا لاحظنا معنى العصبة في اللغة ، فسنرى أن معناها : الجماعة المتعصبة المتعاضدة.

فيكون مفاد الآية : أن ثمة جماعة قد تعاضدت وتعاونت على صنع قضية الإفك ، والمجيء به وافترائه .. وإلا لعبر بكلمة : جماعة ، أو طائفة ، أو نحو ذلك.

مع أن الأمر في قضية الإفك على عائشة لم يكن كذلك ، لأن روايات الإفك على عائشة تفيد : أنها لما قدمت مع صفوان .. مرت معه على ابن أبي ..

فقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. أو قال : «فجر بها ورب

١٨١

الكعبة» والعياذ بالله .. ثم صار يجمع ، ويستوشي الأخبار.

وهذا معناه : أن بدء الإفك كان من رجل واحد وبشكل عفوي ، من دون اتفاق وتعاضد مسبق.

كما أن ظاهر الآية : أنهم جاؤوا بالإفك معا ، لا أن أحدهم جاء به ، ثم تبعه آخر وصدقه ، وقذف متابعة له.

٥ ـ عصبة «منكم» :

ثم إن قول أم رومان : إن الإفك كان من الضرائر ، لعله يقرب : أن المراد من قوله في الآية (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) : أن بعض نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اشترك في قضية الإفك ، بشكل رئيسي وفعال بحيث يصح نسبة ذلك إليهن من قبل أم رومان .. وقد انضم إليهن أقرباؤهن أو من له اتصال بهن بسبب أو نسب .. حتى صاروا عصبة ولذا قال تعالى : (مِنْكُمْ)!! .. هنا.

ولكنه صرح بكلمة (الْمُؤْمِنُونَ) في قوله : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) مما يعني : أن ثمة تمايزا من نوع ما بين من يطلب منهم الظن الحسن ، والذين جاؤوا بالإفك .. ولو كان المقصود ب «منكم» أي من المؤمنين ، لكان اللازم أن يقول : «ظننتم بأنفسكم خيرا» ليتحد السياق وينسجم الكلام.

٦ ـ العصبة :

ثم إن عددا من روايات الإفك قد صرّح في تفسير كلمة عصبة منكم

١٨٢

بأن المراد هو : أربعة منكم (١). وهذا هو ما تذكره غالب روايات الإفك فإنها لم تذكر أزيد من أربعة أشخاص ، هم : ابن أبي ، مسطح ، حسان ، حمنة.

وزاد بعضهم : عليا ، وعبد الله بن جحش ، وعبيد الله بن جحش.

وزاد بعضهم : زيد بن رفاعة.

وقد ذكرنا : أن تهمة الثلاثة الأواخر لا تصح تاريخيا ، ويبقى الأربعة الأوائل .. وقد برأت عائشة حسان .. أو برأ نفسه ، وبرأه عدد من المؤرخين ، وأنكر مسطح أيضا : أن يكون ممن خاض في الإفك.

وعلي أيضا : ذكروا أنه برأها. وبرأه الزهري.

ولم يبق على الساحة سوى ابن أبي ، وحمنة بنت جحش.

إذا عرفنا هذا .. فلنعد إلى النص القرآني حول قضية الإفك ، لنجده يقول : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..).

والعصبة لغة : هي الجماعة من العشرة إلى الأربعين (٢).

وفسرها في أقرب الموارد بالعصابة ، وفسر العصابة ب «الجماعة من الرجال ، ومن الخيل ، ومن الطير ، وقيل : العشرة ، وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين» (٣).

وقال العسقلاني : «العصابة ـ بكسر العين ـ الجماعة من العشرة إلى الأربعين. ولا واحد لها من لفظها ..» (٤).

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٣٠ و ١٣٤ وراجع : مجمع الزوائد ج ٤ ص ١٨٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٥ وإرشاد الساري ج ٧ ص ٢٥٦ وج ٧ ص ٣٣٩ والكشاف ج ٣ ص ٢١٧ وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٢.

(٣) أقرب الموارد ج ٢ ص ٧٨١.

(٤) فتح الباري ج ١ ص ٦٠.

١٨٣

ويؤيد ذلك : أن عروة قال : «لم يسم من أهل الإفك غير عبد الله بن أبي ، وحسان ، وحمنة ، ومسطح في آخرين ، لا علم لي بهم ، غير أنهم عصبة ..» (١).

مما يعني : أن العصبة هم أكثر من ذلك.

وعليه .. فلا يمكن أن نصدق ما نسب إلى ابن عباس من تفسير العصبة بالأربعة فقط (٢) .. فإن ذلك خلاف اللغة والعرف .. وابن عباس من البلغاء الفصحاء ، لا يصدر عنه مثل ذلك.

وعلى كل حال .. فإن السبعة أو الثمانية لا يصدق عليهم : أنهم عصبة .. فكيف بالاثنين أو الأربعة .. سواء أفسرنا العصبة بالعشرة .. أو فسرناها بما بين العشرة والأربعين.

ومجرد إفاضة الناس في أمر الإفك .. لا يعني أن هؤلاء الناس هم الذين جاؤوا بالإفك .. كما هو ظاهر.

.. فأين ذهبت أسماء بقية العصبة؟ وكيف غفل الناس عن أمر هام كهذا الأمر؟!.

نعم .. لا بد أن يكون ذكر أسمائهم مضرا بمصالح الذين يهتمون برواية حديث الإفك على هذا النحو الذي ذكرناه.

ولعل هذه النقطة تجعلنا أكثر يقينا في القول : بأن الرواية تنطبق على مارية. حيث اشترك في الإفك عليها من لا يجمل بنا التصريح باسمه

__________________

(١) جامع البيان ج ١٨ ص ٦٩. وفتح الباري ج ٨ ص ٣٥٢ والدر المنثور ج ٥ ص ٣٢ عن ابن جرير ، وابن المنذر من دون ذكر العبارة الأخيرة.

(٢) الدر المنثور ج ٥ ص ٢٩ عن الطبراني.

١٨٤

وكانت السياسة تقضي بمحو كل الآثار الدالة على حقيقة الإفكين ـ ولربما يأتي بعض ما يدل على ذلك.

٧ ـ موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخالف القرآن :

هذا .. ولعل جميع الروايات متضافرة على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رتب الأثر على قول الإفكين ، وكان في ريب من عائشة ، حيث تغيرت معاملته لها ، ولم تعد تعرف منه ذلك اللطف وصار يقف على الباب ويقول : كيف تيكم؟ مع ما في هذه الكلمة من الإهانة ، ثم هو يطلب منها التوبة ، إن كان قد صدر منها ذنب ، ثم إنه قد استشار في أمرها عدة أشخاص ، وقرر بريرة وغيرها.

وفي رواية عمر : «فكان في قلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما قالوا».

ثم إن نفس عائشة تلومهم على ترتيبهم الأثر ، وشكهم .. حتى إنها تقول للذي بشرها بالبراءة : بحمد الله ، وذمكما ، تقصد أباها ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو : بحمدك لا بحمد صاحبك الذي أرسلك .. أو : بحمد الله لا بحمدك. أو نحو ذلك.

مع أن آيات الإفك توبخ على عدم الظن الحسن في هذا المورد وتقول : إنه كان يجب تكذيب هذه الفرية رأسا .. فقد قال تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

وقال : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

فمن لوازم الإيمان حسن الظن ، والنبي أحق من يتصف بهذه الصفة ،

١٨٥

وهو أبعد ما يكون عن الوقوع في الإثم ، وله مقام النبوة ، والعصمة الإلهية.

قال الزمخشري : «وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره ، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع ، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة ، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين ، فكيف بأم المؤمنين ..» (١).

ونلاحظ : أن روايات الإفك تقول : إن عشرة من الصحابة ، بل أكثر ، قد ظنوا بعائشة خيرا .. ولم يظن بها السوء إلا النبي وعلي «صلوات الله وسلامه عليهما».

وحتى علي فإن بعض الروايات تقول : إنه قد برأها .. فاللوم القرآني على هذا إنما توجه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقط ، لأنه هو الذي هجرها شهرا ، وأظهر الشك في براءتها.

أما أبو أيوب ، فقد ظن خيرا وقال : لما سمع بالإفك : سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (٢).

وكذلك سعد بن معاذ (٣).

وعثمان.

وعمر.

وزيد بن حارثة.

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ٢١٩.

(٢) راجع : المعجم الكبير ج ٢٣ ص ٧٦.

(٣) المصدر السابق ص ١٤٤ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٧٨.

١٨٦

وأسامة (١).

وبريرة.

وزينب بنت جحش.

وأم أيمن.

وعلي ، وغيرهم ، ممن استنكر مثل هذا الأمر ، وكذبه.

وقالت لها أم مسطح : أشهد أنك من الغافلات المؤمنات (٢).

فهل ذلك يعني : أن هؤلاء جميعا كانوا أعرف من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأشد إيمانا ، وأقوى يقينا وأتقى منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله». العياذ بالله من الزلل ، في القول والعمل.

واللافت أيضا : أنهم يذكرون : أن عائشة نفسها عند ما جاءها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وطلب منها الإقرار ، أو الاستغفار ، قالت : لقد سمعتموه وما أنكرتموه ، ولا غيرتموه .. هذا مطابق تقريبا لقوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

وعائشة تواجه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقولها : وما أنكرتموه ، فتسند إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عين ما أنكره الله على من أفاض في الإفك ولم ينكره .. فكيف غاب ذلك عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأدركته عائشة ، حديثة السن ، والتي لم تكن تعرف كثيرا من القرآن؟! وكانت تغفل عن

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٤٣ و ١٢٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٤٠.

(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١٧.

١٨٧

عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله؟!

إن ذلك لعجيب حقا ، وأي عجيب؟! لقد كانت النبوة إذن تليق بأحد هؤلاء : عائشة ، بريرة ، أبو أيوب ، عمر ، عثمان ، أسامة ، أبي زيد ، أم أيوب ، أم أيمن ، زينب بنت جحش ، سعد بن معاذ ، أبي بن كعب ، قتادة بن النعمان على ما في بعض الروايات ، وحتى علي «عليه‌السلام» ، حسبما ذكرته روايات أخرى أيضا .. دون النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!!!

أليس عجيبا أن يكون موقف كل هؤلاء موافقا للقرآن لكي يكون الأعجب من ذلك أن يكون موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو المناقض تماما لكتاب الله سبحانه؟!!

إن هذا بالذات : هو الانطباع الذي تسعى روايات الإفك إلى تقديمه كحقيقة تاريخية راهنة .. ولتكون من ثم أعجوبة الأعاجيب هي : أن يحرم هؤلاء الأفذاذ من مقام النبوة ، أو حتى الألوهية .. ويعطى مقام النبوة لمن يكون هذا حاله ، وإلى هذا المصير والمستوى يكون مآله!! حسبما صورته لنا رواية الإفك ، أعاذنا الله من الزلل إنه ولي المؤمنين.

ثم إنهم يقولون : إن زوجة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجوز أن تكون كافرة ، كامرأة نوح ، وامرأة لوط ، ولا يجوز أن تكون فاجرة ، لأن النبي مبعوث إلى الكفار ، ليدعوهم ، فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه ، والكفر غير منفر عندهم ، وأما الفاحشة فمن أعظم المنفرات (١).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٧ وتفسير النيسابوري هامش الطبري ج ١٨ ص ٦٤ والكشاف ج ٣ ص ٢٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٥ والميزان (تفسير) ج ١٥ ص ١٠٢.

١٨٨

فكيف أدرك هؤلاء هذه الحجة العقلية ، المثبتة واقعا ـ لا ظاهرا فحسب ـ نزاهة نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يدركها النبي نفسه ، ورتب الأثر على قول الإفكين ، وارتاب بأهله؟!! ..

ويقولون أيضا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أتى إلى عائشة ، وطلب منها الاعتراف قائلا : «.. إن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه».

وقد حمل عياض هذا الكلام على أنه قد طلب منها التوبة فقط (١).

ولكن هذا التوجيه يخالف ظاهر الكلام بصورة واضحة ..

كما أن نفس جواب عائشة ينافي كلام عياض ، فقد قالت : لئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر ، لتصدقني الخ ..

وعلى كل حال .. فيرد هنا سؤال ، على تقدير أن لا يكون صفوان بن المعطل عنينا : أنه قد كان اللازم ، هو أن يندبها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الكتمان ، كما فعل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع الذين جاؤوا ليعترفوا له بأمر من هذا القبيل ، حيث صرف وجهه عنهم عدة مرات ، وحاول تشكيكهم فيما يريدون الاعتراف به.

وأجاب الداودي : بالفرق بين أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيجب عليهن الاعتراف ، لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منهن ذلك .. بخلاف نساء الناس : فإنهن ندبن إلى الستر ، ولذا صح منه «صلى الله عليه

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٤ عنه.

١٨٩

وآله» طلب الاعتراف منها.

وهذه دعوى لا يمكن قبولها ، لا من الداودي ولا من غيره ، إذ إن حرمة إمساك من يقع منهن ذلك تكليف متوجه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وذلك لا يعني إلزام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالبحث عن هذا الأمر .. بل يحرم عليه الإمساك لو علم بهذا الأمر وفقا لأسلوب الشارع وطريقته ، وضمن حدوده وشرائعه ، التي منها التستر ، وعدم الرغبة في الإقرار به .. ولم يرد ما يدل على أنه يجب على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يتقصى هذا الأمر ، وأن يستخرجه ، ولو عن طريق الإصرار على الإقرار به.

كما أن ذلك لا يلزم منه وجوب اعتراف النساء أنفسهن بذلك .. ولا يكون ذلك دليلا على الفرق بينهن وبين نساء غير الأنبياء في هذا الأمر.

هذا ، بالاضافة إلى الحقيقة المسلمة عند كل أحد : أن أمرا كهذا لا يصدر من زوجات الأنبياء «عليهم‌السلام» ، فكيف عرفه الناس ولم يعرفه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!!

٨ ـ فأصلحوا بين أخويكم ، في من نزلت؟! :

إن بعض روايات الإفك ـ وهي رواية ابن عمر ـ أفادت : أن آية (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ..) قد نزلت في هذه المناسبة. وذلك عند ما تثاور الحيان : الأوس والخزرج ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المنبر ، فما زال يخفضهم حتى سكتوا.

مع أن المعروف والمشهور ، هو : أنها قد نزلت في مناسبة أخرى ـ غير حديث الإفك ـ فقد :

١٩٠

أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أنس قال : قيل للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق ، وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي سبخة ، فلما انطلق إليهم ، قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد ، وبالأيدي ، والنعال ، فأنزل فيهم : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ..) (١).

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، قال : ذكر لنا : أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار ، وكانت مماراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن عنوة ، لكثرة عشيرته ، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأبى. فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف (٢).

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي : أنها نزلت في رجل من الأنصار ، يقال له : عمران ، منع امرأته من زيارة أهلها ، فأرسلت إليهم ، فجاؤوا ليأخذوها ، فاستعان الرجل بأهله ، فتدافعوا ، واجتلدوا بالنعال ، فنزلت الآية ، فأصلح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بينهم (٣). فمن نصدق؟

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٩٠ وأسباب النزول للواحدي ص ٢٢٣ وصحيح البخاري أول كتاب الصلح ص ٣٧٠.

(٢) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ٩٠.

(٣) المصدر السابق.

١٩١

هل نصدق رواية عائشة ، التي توالت عليها العلل والأسقام ، وفيها تحاول عائشة تضخيم الأمر ، وجر النار إلى قرصها؟

أم نصدق الروايات التي لا مجال للتشكيك فيها سوى معارضتها برواية عائشة التي هذا حالها؟!!

٩ ـ آية رمي المحصنات :

وبالنسبة إلى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ..) ، نقول :

قال الزمخشري : «فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل المحصنات؟ (يعني بصيغة الجمع).

قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لا حق به ، وإذا أردن ـ وعائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ كانت المرادة أولا.

والثاني : أنها أم المؤمنين ، فجمعت إرادة لها ، ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان ، والغفلة ، والإيمان الخ ..» (١).

وقال الإسكندراني في حاشيته على الكشاف : «والأظهر : أن المراد عموم المحصنات ، والمقصود بذكرهن على العموم : وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد من قذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن ، وزوج سيد البشر «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ على أن

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ٢٢٤ وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٩.

١٩٢

تعميم الوعيد أبلغ وأقطع من تخصيصه» (١).

وقال البعض المراد عائشة ، والجمع للتعظيم (٢) ..

ونقول :

إن هذا كله قد قيل بسبب الإصرار على أن تكون آية : الطيبات للطيبين قد نزلت في عائشة ، مع أننا نرى أن البعض يقول : قد «نزلت الآية في مشركي مكة ، حين كان بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عهد ، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة ، وقالوا : إنما خرجت لتفجر» (٣).

هذا بالإضافة إلى عموم الآية الظاهرة في إعطاء ضابطة كلية ، يرجع إليها في الموارد المختلفة ، إذا أمكن تطبيق تلك الضابطة عليها.

١٠ ـ آية الإنفاق على مسطح :

وقالوا : إن قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ) قد نزل في خصوص أبي بكر ، ومسطح .. فإن أبا بكر كان قد حلف أن لا ينيل مسطحا خيرا أبدا بعد الذي كان منه في عائشة ، فلما نزلت الآية تحلل من يمينه ، وعاد إلى الإنفاق عليه.

وفي بعضها : أن مسطحا كان يتيما في حجره .. ونصوص الرواية كثيرة (٤).

ونقول :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٤.

(٢) تفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٩.

(٣) تفسير النيسابوري هامش الطبري ج ١٨ ص ٦٩.

(٤) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ٣٤ و ٣٥ وغيره.

١٩٣

إن ذلك لا يصح ، وذلك للأمور التالية :

أولا : روى عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، ومعمر ، قالا : أخبرنا هشام بن عروة ، عن عائشة ، أنها أخبرته : أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين يحلف بها ، حتى أنزل الله كفارة الأيمان ، فقال : والله لا أرى يمينا حلفت عليها غيرها خيرا منها ، إلا قبلت رخصة الله ، وفعلت الذي هو خير .. (١) والسند صحيح عند الراغبين في منح عائشة وأبيها الأوسمة والكرامات.

ومن المعلوم : أن آية كفارة الأيمان قد جاءت في سورة المائدة ، وهي قد نزلت في أواخر حياة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فكيف حنث أبو بكر في قضية مسطح ، ثم قال : «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا تحللتها ، وأتيت الذي هو خير ..»؟! (٢).

إن هذا القول ينافيه قول عائشة السابق ويدفعه ، إذ إن عائشة تقول : إن أبا بكر قد قال هذا القول عند ما نزلت آية كفارة الأيمان ، لا في مناسبة الإنفاق على مسطح .. وهو دليل على عدم حنثه بيمينه في مسطح ، إن كان قد حلف حقا.

ثانيا : أخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : كان ناس من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رموا عائشة بالقبيح ، وأفشوا ذلك ، وتكلموا فيه. فأقسم ناس من أصحاب رسول الله «صلى الله

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق : ج ٨ ص ٤٩٧ ، وفي هامشه قال : وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (مخطوط) ص ١٨١.

(٢) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٤ عن ابن المنذر.

١٩٤

عليه وآله» ، منهم أبو بكر : أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ، ولا يصلوه الخ .. (١) وروي مثل ذلك عن الضحاك أيضا (٢) ..

وهذا يعني : أن الآية لم تنزل في أبي بكر خاصة ، بل نزلت في ناس من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولعل قول الراوي : «منهم أبو بكر» قد جاء على سبيل الانصياع لرواية حديث الإفك التي تتوارد عليها العلل ، وتعبث بها الحقائق الثابتة أيما عبث.

ومهما يكن من أمر ، فإن السؤال هو : لماذا تحصر الروايات نزول الآية في خصوص أبي بكر؟!

أضف إلى ذلك : أن الطبرسي «رحمه‌الله» قد ذكر هذه الرواية في مجمعه ، لكنه لم يذكر فيها أبا بكر (٣).

ثم .. لماذا تخصيص أبي بكر بالذكر هنا من بين سائر من حلف من أولئك الصحابة .. فهل لقسمه خصوصية؟ أو طعم أو لون خاص؟! لست أدري!!

ولكن الذي يتبادر إلى ذهني : أن تكون رواية الطبرسي هي الصحيحة ، وأن ذكر أبي بكر هنا ليس إلا من تزيد الرواة .. ولا سيما بملاحظة ما سيأتي .. من أن مسطحا لم يكن ممن جاء بالإفك أصلا.

بقي أن نشير هنا : إلى أن رواية الطبرسي هذه هي الموافقة لظاهر القرآن ، الذي عبر عن هؤلاء الصحابة بصيغة الجمع ، كما أنه جاء بثلاثة

__________________

(١) جامع البيان ج ١٨ ص ٨٢ والدر المنثور ج ٥ ص ٣٥ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٥٠.

(٢) جامع البيان ج ١٨ ص ٨٢.

(٣) مجمع البيان ج ٧ ص ١٣٣.

١٩٥

أنواع من أناس ، قد حلف الصحابة على عدم نفعهم ، عبر عنهم كلهم بصيغة الجمع ، وهم : أولو القربى ، والمساكين ، والمهاجرون .. فجعل ذلك كله متوجها إلى رجل واحد ، هو مسطح ، خلاف الظاهر ..

ثالثا : لقد أنكر مسطح نفسه أن يكون ممن خاض في الإفك ، وأقسم أنه ما قذف عائشة ، ولا تكلم بشيء ، فقال له أبو بكر : لكنك ضحكت ، وأعجبك الذي قيل فيها ، قال : لعله قد كان بعض ذلك .. فأنزل الله في شأنه : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) الآية (١) ..

ولعل ما ورد في مرسلة سعيد بن جبير من قوله : «.. وخاض بعضهم ، وبعضهم أعجبه» (٢) .. ناظر إلى هذا.

إذن .. فكيف حلف أبو بكر أن لا ينفعه بنافعة أبدا؟.

وكيف تقول عائشة في روايتها : إنه كان قد خاض في الإفك حتى نزلت الآية الشريفة في حقه؟!

رابعا : في رواية عن ابن سيرين : أن أبا بكر حلف في يتيمين كانا في حجره ، أحدهما : مسطح ، الذي شهد بدرا ، والآية نزلت بهذه المناسبة (٣).

ونحن .. لا نعرف لماذا عبر ابن سيرين عن مسطح بأنه يتيم ، مع أنه قد

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٤ ، عن ابن أبي حاتم ، عن مقاتل.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٢ ، وأشار إليه النيسابوري ، هامش الطبري ج ١٨ ص ٦٨.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٢ عن ابن مردويه والدر المنثور ج ٥ ص ٣٥ عن ابن مردويه ، وعبد بن حميد .. وفي جامع البيان ج ١٨ ص ٨٢ : «إن أبا بكر حلف أن لا ينفع يتيما كان في حجره». ونقل رواية الحسن ومجاهد أيضا ، في مجمع البيان ج ٧ ص ١٣٣ ، ونص على يتمه أيضا في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٤ ، فراجع.

١٩٦

شهد بدرا ، فهل الذي يشهد بدرا يكون صغيرا بحيث يطلق عليه أنه يتيم في حجر من يربيه؟! أليس قد مضى على بدر من حين الإفك أكثر من أربع سنين؟! أليس شهوده بدرا يدل على أنه كان حينئذ في سن البلوغ على الأقل ، وقادر على الحرب ، ويجيد الطعن والضرب؟ وإلا لكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رده كما رد ابن عمر.

وهل يصح إطلاق عبارة : «يتيم في حجر فلان» على الرجل الكامل العاقل!

وإذا كان قد جلد حدا أو حدين ، كما في بعض الروايات ، فهل يجلد اليتيم القاصر؟!

خامسا : نقول كل ذلك .. مع غض النظر عن التناقض الشديد في الرواية التي تتحدث عن أبي بكر ومسطح ، كما ربما يظهر ذلك مما ذكرناه آنفا .. وأيضا مع غض النظر عن أن هذه الرواية لم ترو إلا عن عائشة ، وابن عباس من الصحابة .. وقد كان ابن عباس حين الإفك صغيرا ، يترواح عمره بين الست والتسع سنين ، لو كان الإفك في سنة ست ، فتبقى رواية عائشة فقط.

سادسا : قد روي من طرق شيعة أهل البيت «عليهم‌السلام» : أن سبب نزول هذه الآية : أنه جرى كلام بين بعض الأنصار ، وبين بعض المهاجرين ، فتظاهر المهاجرون عليهم ، وعلوا في الكلام ، فغضب الأنصار من ذلك .. وآلت بينها : أن لا تبر ذوي الحاجة من المهاجرين ، وتقطع معروفها عنهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فاتعظت الأنصار (١).

سابعا : إن إنفاق أبي بكر على مسطح غريب ، وعجيب .. ولا سيما في

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٣ ص ٢١٦.

١٩٧

فترة وقعة المريسيع .. التي كانت من الفترات الصعبة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأهل بيته ، حتى إنه ربما كانت تمضي عليه ثلاثة أيام بلا طعام. وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ، ولم تنفرج الحالة إلا بعد خيبر ، كما تقول عائشة في معرض وصفها لحالة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأهل بيته المقرحة للقلوب في هذه الفترة (١).

وقد ذكرت : أن الأنصار كانوا دائما يتفقدونهم بجفان الطعام ، وجفنة سعد بن عبادة مشهورة.

فإذا كان أبو بكر من أهل الفضل والسعة في المال ، كما تنص عليه الآية .. فلماذا لم يكن ينفق على ابنته ، فضلا عن أن يهدي للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأهل بيته ، كما كان يفعل سعد بن عبادة؟! وإذا كان يفعل ذلك ، فلماذا لم يرو لنا أحد شيئا يذكر من ذلك؟!

لا مال لأبي بكر لينفق على أحد :

ولقد كان أبو بكر خياطا ، ولم يكن قسمه في الغنائم إلا كواحد من المسلمين ، ولهذا احتاج إلى مواساة الأنصار له (٢) في المدينة.

وأما المال الذي يقال : إنه حمله من مكة إلى المدينة : خمسة آلاف أو ستة آلاف .. فنحن لا نجده أنفق منه على ابنته أسماء التي تزوجت الزبير ، وهو فقير لا يملك شيئا سوى فرسه ، فكانت تخدم البيت ، وتسوس الفرس ، وتدق النوى لناضحه ، وتعلفه ، وتستقي الماء .. وتنقل النوى على رأسها من

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ١٢٠ وليراجع من : ص ١١٣ حتى ١٢٠.

(٢) تلخيص الشافي ج ٣ ص ٢٣٧.

١٩٨

أرض الزبير التي أقطعه إياها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، على بعد ثلثي فرسخ من المدينة .. (١).

فلماذا لا ينفق على ابنته ، ويكفيها حاجاتها ، وهي بتلك الحالة من التعاسة ، والفقر؟!

نعم ، هي قد ادّعت : أن أبا بكر أرسل إليها خادما كفتها سياسة الفرس ، قالت : فكأنما أعتقني (٢) .. لكنها بقيت على ضنك العيش وشدته. ومكابدة الفقر وحدته .. ولم يلتفت إليها أبو بكر ، ولا أنفق عليها.

بل لقد هاجر وحمل ماله معه ، ولم يترك لهم شيئا حسبما يزعمون.

لكنه ينفق على مسطح لتنزل فيه الآيات القرآنية ، وينال الأوسمة .. لإنفاقه على مسكين ، مهاجر ، ذي قربى .. وكأن أسماء ابنته لا تجتمع فيها هذه الصفات الثلاث على أكمل وجه وأدقه ، فهي مهاجرة ، ومسكينة ، وذات قربى لأبي بكر.

وعن حديث الخمسة أو الستة آلاف درهم التي يقال : إن أبا بكر قد جاء بها من مكة إلى المدينة حين هاجر نقول : إننا نشك في وجودها .. بعد أن رأيناه أشفق من تقديم الصدقة اليسيرة ، ولو درهمين في قضية النجوى ، حتى نزلت آية قرآنية توبخه هو وسائر الصحابة باستثناء علي «عليه

__________________

(١) صحيح البخاري باب الغيرة في النكاح ، ومسلم كتاب النكاح ، باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق ، ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٤٧ ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٩٩.

(٢) المصادر السابقة.

١٩٩

السلام» ؛ لإشفاقهم أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة (١).

وبعد أن رأينا القصة التي تروى في سياق إثبات هذا المال ، فيها إشكال كبير .. وهي قصة مجيء أبي قحافة إلى أسماء بعد مهاجرة أبي بكر ، حيث سألها إن كان قد ترك أبو بكر لهم شيئا .. وكان أعمى حينئذ ، فجمعت أسماء له حصى ، ووضعته في مكان المال ، وأخذت يده ووضعتها على الحصى ، لتوهمه أنه ترك لهم مالا كثيرا.

نعم .. إن هذه القصة فيها إشكال كبير .. فإن أبا قحافة كان سليم العينين حينئذ صحيحهما ، «قال الفاكهي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال عبد الله ـ والظاهر أنه ابن مسعود ـ : لما خرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الغار ، ذهبت أستخرج ، وأنظر هل أحد يخبرني عنه ، فأتيت دار أبي بكر ، فوجدت أبا قحافة ، فخرج علي ، ومعه هراوة ، فلما رآني اشتد نحوي ، وهو يقول : هذا من الصباة الذين أفسدوا علي ابني» (٢).

وسند هذه الرواية : معتبر عند هؤلاء القوم ، فكيف يكون قد كف بصره في ذلك الوقت ، لتلمسه أسماء الحصى ، بحجة أنه مال؟!

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ٢ ص ١٣٠ وراجع : ج ٤ من هذا الكتاب ص ٢٤٨ ـ ٢٥٤.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٤٦٠ و ٤٦١.

٢٠٠