الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

١
٢

٣
٤

الباب الخامس

حديث الإفك

الفصل الأول : النصوص والآثار

الفصل الثاني : نقد أسانيد حديث الإفك

الفصل الثالث : لا حافظة لكذوب (تناقض الروايات)

الفصل الرابع : عائشة في حديث الإفك

الفصل الخامس : شخصيات ومضامين غير معقولة

الفصل السادس : مفارقات تاريخية

الفصل السابع : القرآن .. وروايات الإفك

الفصل الثامن : نصوص غير معقولة في حديث الإفك

الفصل التاسع : نقاط ضعف أخرى في حديث الإفك

الفصل العاشر : الكيد السياسي في حديث الإفك

الفصل الحادي عشر : الإفك على مارية

الفصل الثاني عشر : قضية مارية بين الأخذ والرد

الفصل الثالث عشر : نهاية المطاف في حديث الإفك

الفصل الرابع عشر : ما عشت أراك الدهر عجبا

٥
٦

بداية :

وحيث إنهم يذكرون «حديث الإفك» في مناسبة غزوة المريسيع ، فقد آثرنا أن نورده في نفس هذا المورد أيضا رغم اعتقادنا بأن الصحيح هو أنه قد حدث بعد ولادة إبراهيم ابن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مارية.

وإنما ذكرناه هنا ، لتيسير الوصول إليه على القارئ الكريم ، فنقول :

حديث الإفك في فصول :

إننا قبل أن ندخل في الحديث حول موضوع الإفك نذكر القارئ بالأمور التالية :

الأول : إن ما نذكره هنا ، وإن كان يعتمد بصورة أساسية وكبيرة على كتابنا : «حديث الإفك» ، الذي كان قد صدر قبل أكثر من عشرين سنة .. إلا أن ما أجريناه من توضيحات ، وتصحيحات ، واستدراكات .. ثم ما نال مطالبه من تقليم وتطعيم .. قد جعل هذه الدراسة أكثر فائدة ، وأوضح بيانا ، وأدق مضمونا ، وأعم فائدة ، ولأجل ذلك كان لابد من إيرادها في سياق حديث السيرة النبوية الصحيحة .. وهكذا كان.

الثاني : إن علماءنا الأبرار ، وهم جهابذة العلم ، والفكر والتحقيق يلتزمون ويؤكدون بإصرار بالغ على حقيقة : أن زوجة أي نبي من الأنبياء يمكن أن تكون كافرة كما ذكره الله سبحانه في سورة التحريم حين تعرض

٧

لامرأتي نوح ولوط عليهما وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام. ولكنها منزهة عن الفجور ـ والعياذ بالله ـ بدون أدنى شبهة أو ريب.

وذلك هو ما نريد أن يجعله القارئ الكريم نصب عينيه ، وأن يلتزم به ، ولا يفرط فيه.

فزوجات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذن منزهات مبرءات من كل تهمة من هذا القبيل.

الثالث : إنه قد يظهر من كلمات بعض علمائنا الأبرار : أن ثمة تسالما على أن الإفك إنما كان على عائشة.

فقد سئل العلامة الحلي «رحمه‌الله» : «ما يقول سيدنا في قصة الإفك ، والآيات التي نزلت ببراءة المقذوفة ، هل ذلك عند أصحابنا كان في عائشة ، أم نقلوا : أن ذلك كان في غيرها من زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

فأجاب :

«ما عرفت لأحد من العلماء خلافا في أن المراد بها عائشة» (١).

وقال الشيخ المفيد : «ولا خلاف أن حسان كان ممن قذف عائشة ، وجلده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قذفه» (٢).

غير أننا نقول : أما بالنسبة لكلام العلامة الحلي «رحمه‌الله» .. فيحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون «رحمه‌الله» قد فهم من السؤال : أن الحديث هو عن

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ١٢١.

(٢) كتاب الجمل (ط مكتب الإعلام الإسلامي سنة ١٤١٣ ه‍) ص ٢١٨.

٨

خصوص الإفك على زوجاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلا شأن لسراريه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإذا كان يرى أن مارية كانت من السراري لا الزوجات فيصح له أن يقول : إنه لم يرد حديث سوى عن عائشة ..

الثاني : وهو الأقرب : أن يكون «رحمه‌الله» غير مطلع على صنوف الأحاديث حول الإفك الذي تعرضت له مارية القبطية .. وسيأتي شطر مما رواه الشيعة والسنة في ذلك ..

ولأجل ذلك قال : «ما عرفت لأحد الخ ..». فنفى معرفته بذلك ، ولم ينف وجوده. وهو إنما كان مهتما بالفقه وعلم الكلام .. وما إلى ذلك كما يظهر من ملاحظة تآليفه «رحمه‌الله» ..

وأما بالنسبة للشيخ المفيد ، فإن من العلماء من اعتبر كلامه موجها لأهل السنة ووفق ما هو متسالم عليه عندهم ، وذلك إلزاما لهم بما يلزمون به أنفسهم.

ووجود الخلاف الذي ينفيه يحتم اللجوء إلى هذا الاحتمال ، أو الإقرار بأنه هو الآخر لم يطلع على هذا الخلاف ، بسبب عدم تقصيه وتتبعه للأقوال وللروايات ..

وأخيرا نقول :

إنه لا ريب في عدم دقة كلام الشيخ المفيد ، فقد اختلفت الأقوال في ضرب الإفكين وعدمه .. بل لقد أنكر قوم أن يكون حسان قد خاض في أمر الإفك من الأساس .. فلا معنى لقوله : لا خلاف أن حسانا كان ممن قذف عائشة الخ .. وستأتي أقوالهم في ذلك في فصل : (لا حافظة لكذوب) وفي غيره من الفصول إن شاء الله .. فانتظر ..

٩
١٠

آيات الإفك :

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ، لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ، لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ، وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ، وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ، يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي

١١

سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (١).

صدق الله العلي العظيم

__________________

(١) الآيات ١١ ـ ٢٦ من سورة النور.

١٢

الفصل الأول :

النصوص والآثار

١٣
١٤

بداية :

إن الأولوية في إيراد النصوص ستكون لروايات كتب الصحاح ، على أن تكون روايات صحيح البخاري هي الأساس في ذلك.

وسوف لا نتردد في إيراد ما ورد في سائر الكتب والمؤلفات ، وذلك ليمكن إعطاء صورة متكاملة ووافية ، لما قيل ويقال من تفاصيل لهذا الحدث فنقول :

النصوص الصريحة :

١ ـ الرواية المشهورة والمعروفة ، والتي أوردها أصحاب الصحاح وغيرهم ..

وهي ..

والنص للبخاري في كتاب التفسير من الصحيح : «حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث بن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة رضي‌الله‌عنها زوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرّأها الله مما قالوا. وكلّ حدثني طائفة من الحديث. وبعض حديثهم يصدّق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض .. الذي حدثني عروة عن عائشة زوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قالت :

١٥

كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معه. قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد ما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه ، فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزوته تلك وقفل ، ودنونا من المدينة قافلين : آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار (١) قد انقطع ، فالتمست عقدي ، وحبسني ابتغاؤه.

وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت ، وهم يحسبون أني فيه ـ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ، إنما تأكل العلقة من الطعام (٢) ـ فلم يستنكر القوم خفة الهودج الذي رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ..

فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب ، فأممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي. فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني ، فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي ، ثم الذكواني ، من وراء الجيش ، فأدلج (٣) فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما

__________________

(١) الجزع : نوع خرز فيه سواد وبياض. وظفار : بلد باليمن.

(٢) هي ما يمسك الريق.

(٣) أدلج : سار في الليل.

١٦

كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة.

فهلك من هلك ، وكان الذي تولّى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي .. أني لا أعرف من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيسلم ، ثم يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف ، فذاك الذي يريبني ، ولا أشعر حتى خرجت بعد ما نقهت ، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (١) ـ وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا .. وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ـ.

فانطلقت أنا وأم مسطح ـ وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبي بكر ، وابنها مسطح بن أثاثة ـ فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها (٢) ، فقالت : تعس مسطح.

فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا؟!

__________________

(١) هي المواضع التي يتخلى فيها لبول ، أو حاجة.

(٢) هو كساء واسع تأتزر المرأة به.

١٧

قالت : أي هنتاه (١) ، أولم تسمعي ما قال؟

قالت : قلت : وما قال؟!

فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي.

فلما رجعت بيتي ، ودخل علي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ تعني سلم ـ ثم قال : كيف تيكم؟!

فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت : فأذن لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ، ما يتحدث الناس؟

قالت : يا بنية ، هوّني عليك ، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا كثرن عليها ، قالت : فقلت : سبحان الله ، ولقد تحدث الناس بهذا؟!

قالت : فبكيت تلك الليلة ، حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، حتى أصبحت أبكي.

فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد (رض) حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود ، فقال : يا رسول الله ، أهلك ، وما نعلم إلا خيرا.

وأما علي بن أبي طالب ، فقال : يا رسول الله ، لم يضيق الله عليك ،

__________________

(١) أي هنتاه : يا هذه ، يا امرأة.

١٨

والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك.

قالت : فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بريرة فقال : أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك؟

قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله.

فقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، قالت : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك.

قالت : فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد : كذبت لعمرو الله ، لا تقتله ، ولا تقدر على قتله.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمرو الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

فتثاور الحيان : الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا. ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله «صلى الله عليه

١٩

وآله» يخفضهم ، حتى سكتوا وسكت.

قالت : فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم.

قالت : فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، لا أكتحل بنوم ، ولا يرقأ لي دمع ، يظنان أن البكاء فالق كبدي.

قالت : فبينما هما جالسان عندي ، وأنا أبكي ، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها : فجلست تبكي معي.

قالت : فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني.

قالت : فتشهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين جلس ، ثم قال :

أما بعد : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة ، فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ، وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.

قالت : فلما قضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقالته قلص (١) دمعي. حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما قال.

قال : والله ، ما أدري ما أقول لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقلت لأمي : أجيبي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقالت : ما أدري ما أقول لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) أي انقبض.

٢٠