الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

الفصل الرابع :

عائشة في حديث الإفك

١٠١
١٠٢

توطئة ، وبيان :

إن عائشة هي بطلة حديث الإفك ، ويبدو لكل متأمل : أن ثمة عناية ظاهرة بإزجاء الإطراء ، والمديح ، وتسطير الفضائل الكثيرة لها في هذه المناسبة.

وقد حفلت فصول هذا الكتاب بالكثير من الدلائل على ذلك .. وفي فصول أبواب حديث الإفك دلائل كثيرة ايضا ..

غير أن ذلك لا يغني عن عقد هذا الفصل الذي نورد فيه بعض الأمور التي احتاجت إلى بعض البيان لوجه الحق فيها ، بالإضافة إلى التذكير بأمور تضمنها حديث الإفك بالذات ..

مع العلم بأن في هذا الكتاب مناقشات قوية ، تؤكد بصورة قاطعة وجازمة عدم صحة كل تلك الفضائل المدعاة ..

ونحن نجمل ما أوردنا تفصيله أو إجماله في هذا الفصل مما يرتبط بحديث الإفك على النحو التالي ..

١ ـ تاريخ حديث الإفك :

إن قضية الإفك التي نتحدث عنها قد كانت في غزوة المريسيع بالإجماع.

١٠٣

وقد تقدم : أن هذه الغزوة قد كانت سنة ست (١) ، وقيل : سنة خمس ، وقيل : أربع ..

وقد ذكرنا تفصيل ذلك كله ، ومن قال بهذا أو بذاك ، وأثبتنا : أن القول الأول هو الصحيح في الجزء السابق من هذا الكتاب (٢) فأغنى ذلك عن إيراده هنا.

٢ ـ عمر عائشة :

قد ذكرت روايات الإفك : أن عائشة كانت حين قضية الإفك جارية حديثة السن ، لا تقرأ كثيرا من القرآن ، وأنها كانت تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله.

ونقول :

إن ذلك لا يمكن قبوله ، فقد ذكرنا في مجلد سابق من هذا الكتاب : أنها لم تكن جارية حديثة السن حين قضية الإفك ، بل كان عمرها حين تزوجها الرسول حوالي عشرين سنة ، إن لم يكن أكثر من ذلك بكثير ، بدليل أنها أسلمت في أول البعثة ، بعد ثمانية عشر إنسانا فقط ، بالإضافة إلى أمور أخرى ذكرناها هناك ، فراجع ..

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٦٢ و ١٦٣ عن ابن إسحاق ، وعن العصفري ، وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٤٣.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٠ ومصادر كثيرة أخرى ذكرناها في هذا الكتاب (الباب الرابع : غزوة المريسيع .. أحداث وقضايا) ج ١٢ ص ٢٣٣ وما بعدها.

١٠٤

٣ ـ جهل عائشة .. وفطنتها :

ثم إنهم من أجل التأكيد على حداثة سن عائشة ، ادّعوا :

١ ـ إنها كانت في ذلك الوقت لا تقرأ كثيرا من القرآن ..

٢ ـ إنها كانت تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله ، على حد التعبير المنسوب إلى بريرة.

ولنا مع هذا الكلام وقفات وتساؤلات ، نوجزها كما يلي :

أولا : إن من كان عمرها حوالي عشرين سنة ، وقد مضى على وجودها في بيت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حوالي خمس أوست سنوات ، كيف لم تقرأ حتى الآن كثيرا من القرآن؟!

ثانيا : إذا كانت في قلة الفطنة والوعي بحيث تنام عن عجين أهلها ، حتى تأتي الداجن فتأكله ، وهي بهذه السن العالية فمتى تجاوزت هذا الدور الطفولي الساذج يا ترى؟!

وكيف روت عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك القدر العظيم من الروايات ، حتى لا يضارعها أحد في ذلك كثرة ، اللهم إلا إن كان أبو هريرة؟!.

ثالثا : هل كانت الجارية حديثة السن ، التي تنام عن عجين أهلها ، تحسن القيام بذلك الدور التي تنسبه لنفسها في حديث الإفك؟ ثم التكلم بتلك الكلمات القوية ، ذات المغزى العميق التي يقال : إنها واجهت النبي بها وغيره؟!

هذا كله .. عدا عن مواقفها وأفعالها الذكية مع أم سلمة ، وزينب بنت جحش ، وسائر أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد قضية الإفك وقبلها.

واحتمل العسقلاني : أن يكون قولها : وكنت جارية حديثة السن ، يراد به : الإشارة إلى إقامة عذرها في حرصها على العقد ، وتركها إعلامها أهلها ،

١٠٥

ولذا أعلمت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بضياع عقدها في حادثة التيمم (١).

ولقد فات العسقلاني :

أولا : أن سياق الكلام ظاهر في أنها تقيم العذر على عدم التفاتهم لخفة الهودج ، بسبب صغر حجمها الناشئ عن صغر سنها.

ثانيا : إن حادثة التيمم ، كانت في نفس هذه السفرة أيضا كما سيأتي. فكيف انتبهت هناك ، وغفلت هنا ، مع أنها في كلتيهما كانت لا تزال جارية حديثة السن؟!

٤ ـ هزال عائشة المفرط :

ما ورد في الرواية : من أنهم رحلوا هودجها ، ولم يشعروا بأنها لم تكن فيه بسبب هزالها وخفتها ، يرد عليه :

أولا : قد روي عن عائشة نفسها أنها قالت : «أرادت أمي تسمنني لدخولي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلم أقبل منها بشيء مما تريد حتى أطعمتني القثاء والرطب ، فسمنت عليه أحسن السمن» (٢).

ثانيا : إننا نجد التصريح في الروايات : بأنها كانت في هذه الغزوة سمينة ، فقد روى في الإمتاع ، وروى الواقدي وغيرهما : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تسابق في هذه الغزوة ـ المريسيع ـ مع عائشة ، فتحزمت بقبائها ، وفعل

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٨.

(٢) كنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج ١ ص ٦٩٦ وسيرة ابن إسحاق ص ٢٥٥ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٢٧ وفي هامشه عن أبي داود رقم ٣٨٨٥ وعن سنن ابن ماجة رقم ٣٣٤٢ وعون المعبود ج ١٠ ص ٣٩٧.

١٠٦

هو كذلك ، ثم استبقا ، فسبقها رسول الله ، وقال لها : هذه بتلك التي كنت سبقتني ، يشير إلى مسابقة أخرى سابقة (١).

وينص ابن الجوزي : وأبو داود ، وغيرهما : أنها كانت في الغزوة التي سبقها فيها النبي قد سمنت وحملت اللحم (٢).

إذن ، فكيف تكون مهزولة تارة ، حتى لا يحس بها حاملوها ، وسمينة تحمل اللحم أخرى ، حتى يسبقها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!!

ثالثا : مهما فرض فيها من ضعف البنية ، وحتى لو فرضناها هيكلا عظميا فقط ، فإن وزنها لابد أن يكون ٣٠ كيلو غراما على الأقل ..

وعلى هذا .. فكيف لا يشعر الذين يحملونها في هودجها ، بأنها ليست فيه؟! إن ذلك لعجيب حقا! وأي عجيب!!

ويتأكد العجب والغرابة .. حينما نجدهم يقولون : إن الذين كانوا يحملونها في هودجها لا يزيدون على رجلين ، أحدهما أبو موهبة (٣) أو أبو مويهبة وحده (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٢٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٠.

(٢) راجع : سنن أبي داود ج ٣ ص ٥٣٠ وصفة الصفوة ج ١ ص ١٧٦ وقال : رواه الإمام أحمد ، وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجة.

(٣) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٢٧ و ٤٢٨.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٢ .. ثم احتمل الحلبي : أن يكون معه غيره يعاونه ، وقال البلاذري : شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع ، وكان يخدم بعير عائشة ، راجع : فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٧ وإرشاد الساري ج ٤ ص ٣٩١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٢٤.

١٠٧

حدث العاقل بما لا يليق له ، فإن لاق له ، فلا عقل له.

ومن الطريف هنا قولهم : إن عائشة نفسها قد شعرت بعدم معقولية ولا مقبولية دعوى أن لا يشعر بها حاملوها ، بسبب هزالها ، وضعفها ، فعللت ذلك بأن النساء كنّ يأكلن العلقة من الطعام.

ثم ادّعت : أنها جارية حديثة السن لأجل ذلك ولغيره ..

ولكن .. وبعد ما قدمناه ، هل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!

٤ ـ جمال عائشة المميز.

٥ ـ حظوة عائشة عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٦ ـ حسد ضرائرها لها وغيرتهن منها.

تنص الرواية على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يحب عائشة ، ولها حظوة عنده ، وكانت حسناء جميلة .. وأن لها ضرائر حسدنها ، فقلن فيها ، وأكثرن عليها ..

ونحن نقول :

قد تقدم أن جمال عائشة ، ومحبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها وغيرة زوجات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منها ، وحسدهن لها لهو من الأمور التي لا يمكن أن تصح ، والصحيح هو العكس تماما ، وهو الحقيقة التي كانت تؤلم عائشة ، وكانت تسعى لإشاعة ما يناقضها.

وقد تقدم الحديث عن ذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب (١) ، فلا مجال

__________________

(١) راجع : هذا الكتاب ج ٤ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٨.

١٠٨

لإعادته هنا.

فلا معنى لما تدّعيه لنفسها من جمال ووضاءة ، ولا لما يدّعى لها : من بياض ، فإنها كانت سوداء أو أدماء ، وكانت أشبه الناس بأبيها ، الذي لم يكن له حظ في الجمال ، كما يظهر من وصفهم له.

أما تسميتها بالحميراء ، فلعله كان لأجل صفرة أو حمرة في شعرها ، فإذا انضم ذلك إلى أدمة الوجه ، أو السواد فيه ، فإن الأمر يصبح أكثر مجانبة للحالات الجمالية ، لأنه يكون بعيدا كل البعد عن التناسق والانسجام .. ويصبح وصف الجمال له أشبه بالنكتة والدعابة.

وأما حظوتها ، فقد عرفنا : أنها أيضا بعيدة عن الحقيقة ، وأن غيرتها من سائر نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومن مارية لخير شاهد على ما نقول .. فلا وقع لدعواها : أن زينب بنت جحش وحدها هي التي كانت تساميها من بين سائر نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٧ ـ الإفك في خصائص عائشة :

وقد ذكرت روايات الإفك التي رويت عن عائشة ، وعن ابن عباس : أن عائشة قد اختصت بخصال : أربع ، أو تسع ، أو عشر ، مثل :

أن الملك نزل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصورتها.

وكان يأتيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الوحي ، وهو معها في لحاف واحد.

وأنها رأت جبرائيل.

وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبض في بيتها ، ولم يله أحد غيرها وغير الملك.

وأنها كانت أحب الناس إليه.

١٠٩

وأنه تزوجها لسبع ، وبنى بها لتسع.

وأنها نزل عذرها من السماء ، أو نزلت فيها آيات كادت الأمة تهلك فيها.

وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتزوج بكرا غيرها.

وأنه كان يصلي وهي معترضة بين يديه.

وأنها ، وأنها ..

فراجع : فصل : النصوص والآثار ، الحديث رقم ٤ لتجد مصادر حديث خصائص عائشة هذه ، والتي تضمنت الإشارة إلى حديث الإفك أيضا.

ونقول :

قد تحدثنا في هذا الكتاب وفي غيره عن موضوعات عديدة تعرضت لها هذه الروايات .. وأثبتنا عدم صحتها.

فقد ظهر مثلا عدم صحة قولها : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تزوجها لسبع ، وبنى بها لتسع.

وعدم صحة قولها : إنها كانت أحب الناس إليه ، وأحظى نسائه عنده.

وعدم صحة قولها : إنها رأت جبرائيل ، فإن من يرى جبرائيل يصاب بالعمى ، كما هو معلوم.

وقد تحدثنا عن هذا الأمر فيما سبق (١).

وقد أثبتنا أيضا عدم صحة قولها : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مات في بيتها ، بل هو قد توفي في بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، ودفن فيه.

وقد أثبت علماؤنا الأبرار عدم صحة قولها أيضا : إن النبي «صلى الله

__________________

(١) راجع : هذا الكتاب ج ١١ ص ٨٦ و ٨٧.

١١٠

عليه وآله» قد مات في حجرها ، بل هو قد مات في حجر علي.

وأما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يصلي وهي معترضة بين يديه ، فهذا من موجبات ذمها ، لأن هذا سوء أدب منها معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

هذا بالإضافة إلى ما أثبتناه في هذا الكتاب من عدم صحة حديث الإفك الذي نسبته إلى نفسها ، وبالتالي فلا يصح قولها : إن الله قد أنزل عذرها من السماء ، أو أنزل في حقها آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيها. وتقصد بها الآيات التي تحدثت عن الإفك.

وأما دعوى : أن الملك قد نزل بصورتها للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهي دعوى من تجرّ النار إلى قرصها ، ولا تستطيع أن تجد من يشهد لها بصحتها ، رغم : أن خديجة وغيرها من نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اللواتي لم يظهر منهن أي شيء يؤذيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو يعكر عليه صفو حياته ، ولم يظهر منهن أي بغض وأذى له ، ولا خرجن على وصيه ، ولا أظهرن الكره لسبطيه ، إن هؤلاء أولى بهذا الإكرام وأحق بهذه العناية الإلهية ، وقد كن جميعا محسودات من قبلها كما عرفنا ، من كل حدب وصوب ، ونحسب أن ذلك كله يكفي لإثبات عدم صحة روايات الإفك ، وكذلك الحال بالنسبة لروايات خصائص عائشة.

لم يتزوج بكرا غير عائشة :

بقي أن نشير إلى الشك الكبير الذي يراودنا فيما ذكرته روايات الإفك من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتزوج بكرا غير عائشة .. وهو الأمر الذي لم نزل نسمعها تردده على مسامع الناس ، ويتبجح به محبوها ؛ مع أن ذلك

١١١

موضع شك وريب ، كما يظهر من ملاحظة ما يلي :

أولا : قد تقدم في هذا الكتاب ما يدل على أن السيدة خديجة قد تزوجها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهي بكر ، إذ قد ظهر عدم صحة ما يدّعونه من أنها قد تزوجت قبل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأحد من الناس.

فلا تصح دعوى عائشة : أنه لم يتزوج بكرا غيرها.

وربما يجد الباحث في حرص عائشة على إتحاف نفسها بهذا الوسام ، وبغيره من أوسمة ثبت بطلان نسبتها إليها ، وحرمان سائر نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أية ميزة ثبتت لهن ، ربما يجد في ذلك ما يبرر الشك في أن تكون عائشة نفسها ومحبوها وراء الشائعات الباطلة عن زواج خديجة «عليها‌السلام» بغير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثانيا : قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، عن ابن أبي مليكة ، قال : «خطب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عائشة إلى أبي بكر ، وكان أبو بكر قد زوجها جبير بن مطعم ، فخلعها منه ، فزوجها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهي ابنة ست سنين الخ ..» (١).

فهو يصرح في هذا النص : بأنها كانت متزوجة برجل آخر قبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يمكن أن يقدم على خطبة امرأة متزوجة فإن هذا يعطينا : أن أبا بكر قد خلعها من زوجها ، ثم عرضها على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ٢٦.

١١٢

وأما أن عمرها كان آنئذ ست سنين ، فقد أثبتنا أنه غير صحيح ، بل كان عمرها حين تزوجها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حوالي عشرين سنة ، أو أكثر.

ثالثا : قال ابن سعد : أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن الأجلح ، عن ابن أبي مليكة ، قال : خطب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عائشة إلى أبي بكر الصديق ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت أعطيتها مطعما لابنه جبير ، فدعني حتى أسلها منهم فاستسلّها منهم ، فطلقها ، فتزوجها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

فهذا النص يصرح أيضا بحدوث طلاقها بسبب : أن أبا بكر قد استسلها منهم .. وهو نص صريح لا مجال للمناقشة فيه.

وهو يدل على : أن الحديث عن خطبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها ، ما هو إلا تزوير أريد به إعطاء امتياز لعائشة ، إذ لا يمكن أن يقدم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خطبة امرأة متزوجة ، أو لا يعلم أنها خلية ..

فالحديث عن طلاقها ، ثم زواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منها ، يدل على ما ذكرناه : من أن هذا الطلاق كان سابقا على تلك الخطبة ، ويؤيد ذلك :

ألف ـ ما روي عن ابن عباس : قال : خطب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أبي بكر الصديق عائشة ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قد كنت وعدت بها ، أو ذكرتها لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، لابنه جبير ، فدعني حتى أسلها منهم ، ففعل ، ثم تزوجها رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٨ ص ٥٩ وزوجات النبي لسعيد أيوب ص ٤٧.

١١٣

وآله» وكانت بكرا (١).

ويظهر من هذا النص وهو قوله : «ذكرتها لمطعم بن عدي .. لابنه جبير» أن أبا بكر هو الذي كان قد عرضها على مطعم ، لابنه جبير ..

الأمر الذي يجعلنا نظن ـ كما سيأتي ـ : أن أبا بكر أيضا هو الذي سعى بطلاقها من جبير ، ليزوجها من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وربما يجد في نفسه أكثر من سبب ومبرر لذلك.

ب ـ إن نصوصا أخرى تتحاشى التعبير بكلمة «تزوجها» ، وتلجأ إلى التعبير بأنها كانت مسماة له ، فسلها أبو بكر سلا رفيقا (٢).

وبعضها يكتفي بالقول : بأنها كانت تذكر لجبير بن مطعم ، وتسمى له (٣).

قال ابن الجوزي : «كانت مسماة لجبير بن مطعم ، فخطبها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال أبو بكر : دعني حتى أسلها من جبير سلا رفيقا. فتزوجها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمكة الخ ..» (٤).

ج ـ والنص الآنف الذكر مقتبس من الرواية التي تقول :

إن خولة بنت حكيم جاءت إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعرضت عليه التزوج بعائشة ، وبسودة بنت زمعة ، فقال لها : فاذهبي فاذكريهما علي ، فأتت أم رومان ، فأخبرتها بذلك ، فقالت أم رومان : وددت.

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ ص ٥٨ والمحبر ص ٨٠ و ٨١.

(٢) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٠٩.

(٣) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ١٩٠ وج ١٤ ص ٢٢.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ١٥ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٤ ص ١٦٤.

١١٤

ثم إنها لما كلمت أبا بكر قال لها : «وهل تصلح له؟! إنما هي ابنة أخيه؟! فرجعت إلى الرسول فأخبرته ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ارجعي إليه فقولي له : أنت أخي في الإسلام ، وأنا أخوك ، وابنتك تصلح لي.

فأتت أبا بكر فأخبرته ، فقال لها : انتظريني حتى أرجع.

فخرج ، حتى أتى المطعم بن عدي ، وإذا امرأته عنده ، فقالت العجوز له : لعلنا إن زوجنا ابننا ابنتك أن تصبئه ، وتدخله في دينك!!

فقال أبو بكر لزوجها : ما تقول هذه؟!

فقال : إنها تقول ذاك.

فخرج أبو بكر وقد أذهب الله العدة التي كانت في نفسه من عدته التي وعدها إياه فرجع ، وقال لخولة : ادعي لي رسول الله ، فدعته فجاء ، فأنكحه (١).

د ـ عن ابن أبي مليكة : «قال أبو بكر : كنت قد أعطيتها مطعما لابنه

__________________

(١) راجع المصادر التالية : المعجم الكبير للطبراني ج ٢٣ ص ٢٣ و ٢٤ وتاريخ الأمم والملوك (ط مطبعة الاستقامة) ج ٢ ص ٤١١ و ٤١٢ والمنتظم ج ٣ ص ١٦ و ١٧ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢١٠ و ٢١١ ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ٢ ص ٤١١ و ٤١٢ ، وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٢٥ و ٢٢٧ و ٢٢٦ عن الطبراني وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٥ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٨ وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج ٤ ص ٣٨١ و ٣٨٢ عن أحمد والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٩ و ١٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٤٢ و ١٤٣ و ١٤ عن أحمد والبيهقي والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٣١ و ١٣٢ و ١٣٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٦٥ و ١٦٦.

١١٥

جبير ، فدعني حتى أسألها منهم ، فاستلبثها» (١). (لعل الصحيح : حتى أسلها منهم فاستلها).

وفسر البعض كلمة «مسماة على جبير» : بأنها كانت مخطوبة لابنه من أبيها (٢).

ونستطيع أن نستفيد من النصوص المتقدمة عدة أمور ، هي :

١ ـ لا ندري : كيف يبادر رجل لعرض ابنته على رجل مشرك ، وقد قاطع المشركون المسلمين وحصروهم عدة سنوات ، ومنعوا من التزوج منهم والتزوج لهم. فحتى لو لم يكن قد نزل من الله نهي عن إنكاح المشركين ، وهو قوله تعالى : (.. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ..) (٣) ، فإن طبيعة الأمور تقضي بالترفع عن القبول بذلك ، فضلا عن قولهم : إن أبا بكر هو الذي ذكرها لهم ، وعرضها عليهم!!.

فما معنى أن نقرأ في الروايات المتقدمة : أنه ذكرها لمطعم ليزوجها بابنه جبير ، أو كانت مسماة له ، أو أنه أعطاها له ، أو وعده بها أو نحو ذلك؟!.

٢ ـ هل كان من عادات أهل ذلك الزمان حقا خطبة بناتهم سنوات ، ثم يكون العقد ، ثم يكون الزواج؟!! أم أن ذلك من خصوصيات عائشة التي يدّعى : أنها كانت صغيرة السن ، وبعمر ست سنوات فقط!!

__________________

(١) الإصابة ج ٤ ص ٣٥٩.

(٢) راجع شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج ٤ ص ٣٨١.

(٣) الآية ٢٢١ من سورة البقرة.

١١٦

مع أن الصحيح هو : أن عمرها كان حوالي عشرين سنة أو اكثر من ذلك ، حسبما حققناه في هذا الكتاب.

كما أننا نشك في : أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تزوجها فور وفاة خديجة «عليها‌السلام» ، لوجود ما يدل على أنه قد تزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين (١).

بل قال بعضهم : إن هناك رواية تقول : إنه تزوجها في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة (٢).

٣ ـ إذا كانت مسماة لجبير ، أو معطاة له ، أو أنه قد وعده بها ، أو أنه كان قد تزوجها .. فكيف يخطب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» امرأة هذه حالها ، ويرضى بأن تطلّق ، أو بأن تخلع امرأة من زوجها؟!

بل كيف يرضى بأن يسلها أبو بكر حتى من خطيبها ، المسماة له؟! ..

وقد حاول البعض أن يعتذر عن ذلك : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خطبها ، لأنه لم يعلم بالخطبة ، أو كان قبل النهي (٣).

ولكنه اعتذار بارد ، ورأي فاسد .. فإن النصوص قد ذكرت : أنه قد أخبره بأنه وعد بها ، أو ذكرها لفلان ، ثم استمهله ليسلها منهم.

أضف إلى ذلك : أن نفس هذا التصرف مما تدرك الناس خروجه عن حدود اللياقات على الأقل ، فهو مرفوض حتى لو لم يرد نهي عنه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٢.

(٢) زوجات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لسعيد أيوب ص ٤٧.

(٣) راجع : شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج ٤ ص ٣٨١.

١١٧

٤ ـ إن الروايات تصرح : بأن أبا بكر هو الذي عرضها على الزواج الأول ، ثم تصرح : بأنه كان يسعى لاستلالها منهم ، ويصرح بعضها : بأنه خلعها ، أو طلقها .. مما يعني : أن أبا بكر كان شديد الحرص على التفريق بينها وبين جبير.

فإذا ضممنا ذلك إلى قولهم : إن أم رومان قد عبرت عن فرحتها بقولها : «وددت» ثم قول بعضهم : «وفي رواية : أن أبا بكر استلها منهم قبل أن تخطبها خولة بنت حكيم السلمية امرأة عثمان بن مظعون لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله(١).

فإذا ضممنا بعض ذلك إلى البعض الآخر ، فإننا نسمح لأنفسنا بأن نحتمل : بأن أبا بكر كان هو الذي أرسل خولة بنت حكيم إلى رسول الله .. وبأنه قد خلعها من ذاك وطلقها منه ، ليفرضها على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحاجة في نفسه قضاها.

٥ ـ إن تلك الروايات تقول : إن أبا بكر قد تعجب من خطبة النبي لها ، لتوهمه أنها لا تحل له لكونها ابنة أخيه.

ويرد عليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن المراد بلا شك هو الأخوة في الإسلام والإيمان.

وحينئذ نقول : هل كان أبو بكر يظن : أنه لا يجوز للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يتزوج ابنة رجل مسلم .. لأن المؤمنين إخوة؟!

وإذا صح ذلك فهو يعني : أن لا يجوز زواج أي مسلم من أي مسلمة ، لنفس السبب ..

__________________

(١) زوجات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لسعيد أيوب ص ٤٧.

١١٨

أو هل كان يظن : أنه أخ للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما هو أبعد من أخوة الإسلام؟! وكيف؟!

٦ ـ إن ظاهر الروايات المتقدمة تارة هو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه قد جاء لخطبة عائشة.

وتارة أخرى : أنه أرسل خولة بنت حكيم ، فقامت بالمهمة ، ثم هيأ أبو بكر الأمر وطلب منها أن تدعو الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فدعته ، فزوجه ..

٧ ـ إن هناك نصا آخر يتحدث عن كيفية زواجه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعائشة يفيد : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى عائشة على أرجوحة ، فأعجبته ، فأتى منزل أبي بكر ، ولم يكن حاضرا ، فقالت له أم رومان : ما حاجتك يا رسول الله؟

قال : جئت أخطب عائشة.

قالت : إن عندنا يا رسول الله من هي أكبر منها.

قال : إنما أريد عائشة.

ثم خرج. ودخل أبو بكر. فأخبرته أمها بما قال رسول الله ، فخرج ، فزوجها إياه (١).

ويستوقفنا في هذا النص عدة أمور :

منها : مناقضته لسائر النصوص في أمور عديدة ، تظهر بالملاحظة.

ومنها : أنه يكذب قولها : إن الملك قد جاء بصورتها إلى رسول الله

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٤١١.

١١٩

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسرقة من حرير.

رابعا : ومما يدل أيضا على أن عائشة كانت متزوجة قبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برجل آخر ، ما يلي :

١ ـ لقد روى أبو داود وغيره بالأسانيد الصحيحة (١) عن عائشة : أنها قالت : يا رسول الله ، كل صواحبي (أو كل نسائك ، أو كنيت نساءك فاكنني ، أو) لهن كنى.

قال : فاكتني بابنك عبد الله.

قال الراوي : يعني عبد الله بن الزبير ، وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر.

وكانت عائشة تكنى بأم عبد الله حتى ماتت.

أضاف أحمد والصنعاني ، وأبو نعيم : قوله : ولم تلد قط (٢).

٢ ـ وفي نص آخر : أنه قال لها : اكتني بابنك ، يعني عبد الله بن الزبير ، فكانت تكنى أم عبد الله (٣).

٣ ـ وعنها قالت : كناني النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أم عبد الله ، ولم يكن

__________________

(١) الأذكار النووية ص ٢٩٥.

(٢) سنن أبي داود ج ٤ ص ٢٩٤ بعدة أسانيد ، والأذكار النووية ص ٢٩٥ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٣ ص ١٨ بعدة أسانيد ، وكنز العمال ج ١٦ ص ٤٢٤ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٠٧ و ٢١٣ و ١٥١ وذكر أخبار إصبهان ج ١ ص ٣١٥ و ٩٣ والمنصف للصنعاني ج ١١ ص ٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٨ وراجع : الغدير ج ٦ ص ٣١٥ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ٦٤ و ٦٣.

(٣) الأدب المفرد ص ١٢٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٦٤ وصفة الصفوة ج ٢ ص ١٥ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٨٦.

١٢٠