الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-185-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

هذا عدا عن أن الرواية مرسلة ، إذ قد أورد هذه الرواية ابن سعد ، وأحمد ، عن ابن أبي مليكة ، عن ذكوان ، فأسقط البخاري ذكوان من سند الرواية ، أو أنه أسقط غيره لا ندري ، فتكون مرسلة لا حجة فيها ، لأن ابن أبي مليكة لم يشهد ذلك ولا سمعه من ابن عباس حال قوله لعائشة من دون توسط ذكوان أو غيره (١).

ووجه العسقلاني ذلك : بأن من المحتمل أن يكون شهد ذلك لكنه نسيه ، فذكره به ذكوان (٢).

وبقي في المقام كلمات بعض التابعين ، كالضحاك ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وأضرابهم حول كون حديث الإفك في عائشة .. ويكفي إرسالها ضعفا فيها ، فضلا عن سوى ذلك.

خلاصة جامعة :

وحسبنا ما ذكرناه حول أسانيد روايات الإفك ، فإن فيما ذكرناه مقنعا للمنصف الخبير ، والناقد البصير ..

وتكون النتيجة بعد تلك الجولة هي : أنه لا روايات الصحاح ، ولا غيرها يصح الاعتماد عليها سندا لإثبات حديث الإفك ، ونسبته إلى عائشة .. وإن غالب ما ورد في ذلك إما مرسل ، أو معلق ، أو منقطع .. والمتصل منه ضعيف السند ، لا يصح الاعتماد عليه ..

وقد اتضح أيضا : أن عمدة تلك الأحاديث ، وجلها إن لم يكن كلها

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٧١ و ٣٧٢.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٧١ و ٣٧٢.

٨١

ينتهي إلى عائشة ، ويبدأ بها .. وفضلا عن أنها جميعا لم تسلم أسانيدها من الطعن والتضعيف : فإننا قد وجدناها متناقضة متباينة كما سيتضح ..

ولعله يجوز لنا هنا أن نسأل : إن قضية بهذه الأهمية ، وحصل لها مثل ذلك الشيوع والاشتهار ، حتى لم يبق بيت ، ولا ناد ، إلا طار فيه ، حتى إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خطب الناس لأجلها مرتين ، ونزلت فيها آيات قرآنية كثيرة ، نعم ، إن قضية هذا حالها ، كيف لم ترو إلا عن عائشة؟ أو على الأقل لا يمكن إثباتها إلا من قبلها؟! إن ذلك لعجيب حقا!! وأي عجيب!! ..

وأخيرا .. وإذا جاز للزهري : أن يتهم عائشة ، وعروة على بني هاشم وعلي «عليه‌السلام» ، وينسب إليها : أنها لا تتورع من أن تنسب لهم ما ليس بحق ، بدافع من حقدها عليهم ، وبغضها لهم.

فلماذا لا نجيز نحن لأنفسنا : أن نحتمل أن حب عائشة لنفسها ، أو على الأقل حب أتباعها لها ، وبغضهم لعلي ولا سيما عروة بن الزبير ، وذكوان ، ومسروق بن الأجدع ومن هو منها بسبب ، أو بسبيل ، قد دفعهم إلى نسبة القضية لعائشة وتزيدوا فيها ما شاءت لهم قرائحهم ، على اعتبار : أن ذلك يرفع من شأن عائشة ، لنزول آيات قرآنية فيها من جهة .. ويحرم عليا من فضل كشفه لحقيقة الإفك التي جرت لمارية ، ويبرئ أقواما قد دنسوا أنفسهم فيها؟

ولهذا نلاحظ : حرص رواية عائشة على اتهام علي «عليه‌السلام» بمجانبة الحق واتباع الهوى ، ولهذه القضية نظائر كثيرة.

وعلى كل حال .. فإننا سوف نرجئ إصدار حكم قاطع في ذلك بعد النظر في متون روايات الإفك هذه ، والتدبر فيها ؛ فإلى الفصول التالية.

٨٢

الفصل الثالث :

لا حافظة لكذوب (تناقض الروايات)

٨٣
٨٤

بداية :

إن من أمعن النظر في روايات الإفك المتقدمة ، وغيرها ، يجد التناقض والاختلاف الكثير الكثير فيما بينها واضحا بينا .. حتى إنه ليجد طائفة من هذه الاختلافات والتناقضات في الرواية الواحدة .. بل إننا نستطيع أن نؤكد أن كل كلمة فيها قد وقع الاختلاف والتغيير فيها ، كما لا يخفى على من يراجع الروايات.

وحيث إن استقصاء ذلك يستدعي إسهابا في القول ، ووقتا طويلا ، فقد آثرنا أن نقتصر على موارد محدودة من هذه التناقضات والاختلافات لنعرضها على سبيل المثال ، لا الحصر .. ونترك بقية ذلك إلى من يهمه الأمر ، وتقتضي حاجته الاستقصاء فنقول :

١ ـ اختلفت الروايات فيمن تولى كبر الإفك :

فبعضها يقول : هو عبد الله بن أبي فقط كمجاهد وغيره (١).

وبعضها يقول : هي حمنة.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٣ وراجع : البحار ج ٢٠ ص ٣١٤ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٣ ص ١٣٧ وقد تقدم عن البخاري وغيره في فصل النصوص والآثار.

٨٥

وفي رواية أنهم : ابن أبي ، وحسان ، ومسطح (١) ..

وثالث يذكر : أنهم حسان ، ومسطح ، وحمنة (٢).

ورابع يذكر ـ وهو قتادة ـ : «أن الذي تولى كبره رجلان من الصحابة ، أحدهما من قريش ، وآخر من الأنصار» (٣) .. ونظن أن المقصود هو : ابن أبي ، ومسطح ـ أو علي ـ.

وخامس يقول : الذي تولى كبره هو حسان ، كما في رواية مسروق ، عن عائشة.

وعند ابن هشام : أنه ابن أبي في رجال من الخزرج (٤) ومسطح ، أو حسان ، ومسطح (٥).

وعند الطبراني هم : ابن أبي ، ومسطح ، وحسان ، وحمنة (٦).

وبنو أمية يقولون : هو علي «عليه‌السلام» ..

٢ ـ واختلفت أيضا الروايات فيمن جلد الحد :

فبعضها يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر برجلين وامرأة فجلدا

__________________

(١) جامع البيان ج ١٨ ص ٧٠ والبحار ج ٢٠ ص ٣١٤ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٥٥ ـ ٣٣٨ وراجع : مسند أحمد ج ٦ ص ٦٠.

(٢) وهو قول الضحاك ، تفسير النيسابوري ، هامش الطبري ج ١٨ ص ٦٢.

(٣) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٣ عن عبد بن حميد.

(٤) السيرة النبوية ج ٣ ص ٣١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦١ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٢٦٧ والكامل ج ٢ ص ٢٦٧.

(٥) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٣٨.

(٦) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٣٧.

٨٦

الحد ، وفسر الرجلان بحسان ، ومسطح ، والمرأة ب «حمنة».

وورد التصريح بذلك في روايات أخرى ، وكتب السير والتاريخ تميل عموما إلى هذا ..

وصرح البعض : بأن ابن أبي لم يجلد (١).

ويذكر البعض بدل حمنة : «أم حسنة» بنت جحش (٢). ولربما تكون أم حسنة كنية لحمنة ..

وبعضها يقول : إنه ضرب ابن أبي حدين ، وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة ، فضربهم ضربا وجيعا ، ووجئ في رقابهم ..

وبعضها ، وهي رواية أبي اليسر : لا تذكر الوجأ في الرقاب (٣) كما أنها لم تذكر حسان بن ثابت.

وذكر ابن حبيب أسماء من حدّ من قريش ، فقال : «حد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه في قذفه عائشة رضي‌الله‌عنها بالإفك» (٤).

لكن ذلك لا يعني أنه لم يحد أحد من الأنصار.

وذكر المفيد : ضرب حسان الحد (٥).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٥ والتنبيه والإشراف ص ٢١٦.

(٣) الدر المنثور ج ٥ ص ٢٩ ، عن الطبراني ، وابن مردويه والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٨٠.

(٤) المنمق ص ٤٩٥ و ٤٩٦.

(٥) الجمل (ط سنة ١٤١٣ ه‍) ص ٢١٨.

٨٧

وفي بعضها : أنه أمر برجلين وامرأة ، فضربوا حدين.

وبعضهم : يقتصر على ذكر حسان ومسطح ، ولا يذكر حمنة (١).

والبعض يذكر : أنه ضرب الأربعة ، حسان ، ومسطح ، وابن أبي ، وحمنة ثمانين ثمانين (٢) ..

وبعضها يضيف إليهم : زيد بن رفاعة (٣).

وذكرت رواية أخرى : ثلاثة جلدوا ثمانين ، ولم تذكر ابن أبي (٤).

ويضيف البعض : عبيد الله بن جحش أيضا (٥).

وأضيف أيضا : عبد الله بن جحش.

ويقول البعض ، والعبارة لابن عبد البر : «.. وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك ، وجلد فيه».

وروي عن عائشة : أنها برأته من ذلك .. ثم ذكر أنها قالت في حال

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ٢٢١ وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ١٨ ص ٦٦.

(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٥٢ و ١١١ ـ ١١٧ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٨٠ وج ٩ ص ٢٣٦.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٩ ، وقال : كذا في معالم التنزيل ، والإكتفاء.

(٤) مسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٣٩ وأشار في الهامش إلى المصادر التالية : المصنف لعبد الرزاق برقم ٩٧٥٠ و ٩٧٤٩ وسنن أبي داود برقم ٤٤٧٥ و ٤٤٧٤ وسنن البيهقي ج ٨ ص ٢٥٠ وسنن ابن ماجة برقم ٢٥٦٧ والجامع الصحيح للترمذي برقم ٣١٨٠ ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٥.

(٥) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠.

٨٨

الطواف لأم حكيم ورفيقتها : «بل لم يقل شيئا» (١).

وقال الدياربكري : وفي السمط الثمين ، قال أبو عمر : وهذا عندي أصح ، لأنه لم يشتهر جلد حسان ، ولا عبد الله ، ولا من اشتهر من الجميع (٢) ..

وأخرج البيهقي عن فليح بن سليمان ، قال : وسمعت ناسا من أهل العلم يقولون : إن أصحاب الإفك جلدوا الحد ، ولا نعلم ذلك فشا (٣) ..

وصحح الماوردي : أنه لم يجلد أحد (٤) ..

وقال ابن الأثير عن حمنة : «فقال بعضهم : إنها جلدت مع من جلد ، وقيل : لم يجلد أحد» (٥).

وقال الواقدي : «قال أبو عبد الله : ويقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يضربهم ، وهو أثبت عندنا» (٦).

٣ ـ بعض تلك الروايات يقول : إن براءة عائشة ، والوحي نزل في حضور عائشة ، وإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشرها ببراءتها في نفس ذلك المجلس ، بعد أن طلب منها الإقرار به والتوبة ..

وفي بعضها عن عائشة : «أنها لم تكن حين نزول براءتها ، وإنما أمر النبي

__________________

(١) الإستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ٣٤٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٦ والرواية في الأغاني ج ٤ ص ١٥.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٩.

(٣) سنن البيهقي ج ٨ ص ٢٥٠ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٣٤.

(٤) نقل ذلك عن الماوردي في فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٨ و ٣٧٠.

(٥) أسد الغابة ج ٥ ص ٤٢٨.

(٦) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٣٤.

٨٩

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر أن يأتيها ويبشرها ، فجاء يعدو يكاد يعثر» (١).

٤ ـ وأما من الذي قرأ آية البهتان العظيم ، فهو أيضا غير واضح ، فبعضها يقول : إنه أبو أيوب ..

وبعضها يضيف : زيد بن حارثة ..

وثالثة : تنسب ذلك إلى سعد بن معاذ ..

ورابعة : تنسب ذلك إلى رجل أنصاري دون تعيين ..

وخامسة : إنه أسامة بن زيد ..

وسادسة : إنه أبي بن كعب ..

وسابعة : إن قتادة بن النعمان هو الذي قال ذلك ..

واحتمال أن يكون كل واحد من هؤلاء قد قرأ هذه الآية ، لكن كل راو قد أخبر بما رآه أو بما بلغه .. غير مقبول ، لأن ظاهر سياق الروايات هو : أن الذي قال ذلك هو واحد بعينه في حادثة بخصوصها.

٥ ـ بعض الروايات يقول : إن زيد بن حارثة كان حيا حينئذ ، وأنه قال :

سبحانك هذا بهتان عظيم ..

وبعضها يقول : إنه كان قد توفي ..

٦ ـ ظاهر طائفة من الروايات كرواية ابن إسحاق : أنها خرجت وحدها في تلك الغزوة ، حيث تقول : أقرع بين نسائه فخرج سهمي عليهن.

ويقول مغلطاي ، والسمهودي ، وفي رواية الواقدي ، وحديث ابن

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٣١ ، عن الطبراني ، وابن مردويه والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٠ و ١٢٣ و ١٢٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٠ و ٢٣٧.

٩٠

عمر (١) : أنها خرجت هي وأم سلمة.

٧ ـ رواية تقول : إنها فقدت قلادتها ، فحبسها ابتغاءها ..

وأخرى تقول : انفرط نظام قلادتها ، فاحتبست في جمعها ونظامها.

٨ ـ رواية تقول : إنها بعد عودتها من قضاء حاجتها يممت منزلها فمكثت فيه ، على أمل أن يعودوا إليها إذا فقدوها ..

ورواية ابن عمر تقول : إنها تبعتهم حتى أعيت ، فقامت على بعض الطريق ، فمر بها صفوان (٢).

٩ ـ رواية تقول : إن صفوان ركب ، وأردفها خلفه كما في مرسل مقاتل ..

وأخرى تقول : ركبت الراحلة ، وكان صفوان يقودها ..

١٠ ـ رواية تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استشار عليا وأسامة ، وقرر بريرة ، ثم ذهب إلى المسجد ، وخطب الناس ..

وأخرى تقول : إنه ذهب إلى المسجد قبل ذلك ..

١١ ـ رواية تقول : إنه صعد المنبر ، واستعذر من ابن أبي ، قبل أن تعلم عائشة بالأمر (٣).

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٦ ووفاء الوفاء ج ١ ص ١٤٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٩ وسيرة مغلطاي ص ٥٥ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٢٥ ـ ١٢٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٤٠ والدر المنثور ج ٥ ص ٢٨ و ٢٩ عن ابن مردويه ، والطبراني.

(٢) فتح الباري ج ٨ ص ٣٤٩ والمصادر في الهامش السابق.

(٣) كما في رواية علقمة في جامع البيان ج ١٨ ص ٧٦ ورواية عروة عن عائشة كما في مسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨ وراجع مسند أحمد ج ٦ ص ٦٠.

٩١

وبعضها يقول : إنها علمت بالأمر ، وذهبت إلى أهلها ، وكان ما كان من بكاء أبي بكر ، وسائر أهل الدار ، فبلغ ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاستعذر ممن يؤذيه.

ورواية تقول : إنها علمت الأمر قبل ذهابها لبيت أهلها ، فاستأذنت بالذهاب إليهم لتستيقن الخبر منهم.

وأخرى تقول : بل علمت بالأمر بعد ذهابها إليهم.

١٢ ـ وثمة رواية يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن استعذر عاد إلى عائشة ، وحاول تقريرها ، وهذا يتناقض مع استعذاره من ابن أبي ، وإظهاره حسن ظنه بصفوان في المسجد.

١٣ ـ بعض الروايات تقول : إنها لما وصلت إلى أمها وكلمتها في الأمر ، سمع أبو بكر ، فأقسم عليها أن ترجع إلى بيتها فرجعت .. ونزلت براءتها في بيتها عند النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ورواية مقاتل تقول : إن أباها طردها كما طردها الرسول ، فانطلقت تجول لا يؤويها أحد ، حتى أنزل الله عذرها (١).

وتناقضها رواية أخرى تقول : إن أبا بكر رفض إيواءها ، فأمره الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يؤويها ففعل.

١٤ ـ ورواية تقول : إنها علمت بالأمر من أم مسطح ، ثم ذهبت إلى أمها لتستيقن الخبر.

وأخرى تقول : إن أمها كانت حاضرة حينما علمت بالأمر من المرأة

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٣ ، عن الحاكم في الإكليل ، وبعض من تأخر عنه.

٩٢

الأنصارية.

١٥ ـ وواحدة تقول : إن أم مسطح المهاجرية أعلمتها بالأمر في طريقها إلى المناصع ذهابا ، أو إيابا.

وأخرى تقول : علمت بذلك من أنصارية ، وأمها كانت عندها.

ومن المضحك المبكي هنا محاولة العسقلاني رفع التنافي بالقول : بأنها علمت أولا من أم مسطح ، فذهبت إلى أمها لتستيقن الخبر ، فأخبرتها مجملا ، ثم جاءت الأنصارية ، فأخبرتها بمثل ذلك ، بحضرة أمها (١) .. فإن ذلك لا شاهد له ، ولا سيما بملاحظة : خصوصيات الروايات الأخرى ، كما لا يخفى على من راجعها .. وبملاحظة : أن الأنصارية قد أخبرت عائشة بالأمر في بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا في بيت أمها .. وأنها غشي عليها لما علمت بالأمر من الأنصارية. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.

١٦ ـ وعن أحوال مرضها ، رواية تقول : إنها مرضت بضعا وعشرين ليلة (٢).

ورواية الزهري تقول : مرضت شهرا كاملا.

وثالثة : سبعا وثلاثين يوما ، كما حكاه السهيلي عن بعض المفسرين ، وكذا الحلبي .. وعند ابن حزم : أن مدة المرض كانت خمسين يوما أو أزيد!!

وجمع العسقلاني : بأن رواية الزهري قد ألغت الكسر الذي في غيرها ..

__________________

(١) فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٦.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦١ عنه ، وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٢٦٨ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٩٦.

٩٣

ورواية الخمسين ، أو الأكثر : هي المدة التي كانت بين قدومهم المدينة ، ونزول القرآن ببراءتها ..

وأما التقييد بالشهر : فهو المدة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها (١).

ولكن قد فاته : أن نزول القرآن بالبراءة قد كان بعد قدومها بيت أبويها بمدة قليلة جدا أي ليلتين ويوما ، كما نصت عليه الرواية الأولى وفي الثانية ليلة واحدة ..

ولم يعرفنا العسقلاني : أي الكسرين هو الصحيح؟ هل هو كسر البضع والعشرين؟ أم كسر السبع والثلاثين؟

وقوله في وجه ذكر الخمسين : لم يقم على صحته دليل ، بل هو محض تخرص ، ورجم بالغيب.

١٧ ـ وثمة رواية تقول : إنها خرجت بعد أن نقهت ، أي برئت من مرضها ..

ونفس الرواية تعود فتقول : فازددت مرضا على مرضي.

ورواية تقول : أنها وعكت ومرضت عندما أخبرتها أم مسطح بالأمر .. ولم تكن قبل ذلك تجد شيئا.

وواحدة تقول : أخذتها الحمى النافض ، عندما أخبرتها أم مسطح ، قبل أن تصل إلى بيتها.

وأخرى تقول : أخذتها الحمى في البيت حينما أخبرتها الأنصارية.

١٨ ـ واحدة تقول : إنها نقهت من مرضها ، ثم ذهبت إلى بيت أبيها.

__________________

(١) راجع : فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٣.

٩٤

وأخرى تقول : إنها ذهبت ، ثم مرضت (١).

١٩ ـ وهناك رواية تقول : إن عليا «عليه‌السلام» أشار على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسؤال بريرة.

وأخرى تقول : إن الذي أشار بذلك هو : أسامة بن زيد ، وعلي أشار بطلاقها (٢).

٢٠ ـ وأيضا ، رواية تقول : إن عليا «عليه‌السلام» أشار بطلاقها ..

وأخرى تقول : إنه أشار ببراءتها ، ولم يذكر عن الطلاق شيئا ..

٢١ ـ رواية تقول : إن أم مسطح عثرت قبل قضاء عائشة حاجتها .. وأنها بعد أن علمت بالأمر رجعت دون قضاء حاجتها ، كأن الذي خرجت له لا تجد منه قليلا ولا كثيرا ..

ورواية أخرى تقول : إنها عثرت بعد قضاء الحاجة في حال رجوعها.

٢٢ ـ وأيضا فإن رواية تقول : إنها أخبرتها من حين العثرة الأولى.

ورواية علقمة (٣) : أنها أخبرتها في الثانية ..

ورواية ثالثة تقول : بعد الثالثة ..

٢٣ ـ وأيضا رواية تقول : عثرت في مرطها ..

وأخرى تقول : وقع السطل من يدها ..

وثالثة : إنها وطئت على عظم أو شوكة (٤) ..

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٥.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٣٠. ومصادر أخرى تقدمت في فصل النصوص والآثار.

(٣) جامع البيان ج ١٨ ص ٧٦.

(٤) راجع : فتح الباري ج ٨ ص ٣٥٤.

٩٥

٢٤ ـ وأيضا رواية : أنها ذهبت إلى المناصع مع أم مسطح من بيت أبي بكر (١).

وأخرى تقول : من بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) ..

٢٥ ـ هناك رواية تذكر : خروجها مع نساء منهن أم مسطح.

ورواية أخرى : تقتصر على ذكر أم مسطح التي حملت لها الأداوة إلى المناصع.

٢٦ ـ وأما ما جرى بعد رحيل الجيش ، فإن ثمة رواية تقول : والله ما كلمني بكلمة ، ولم أسمع غير استرجاعه.

وبعضها يذكر : أنه سألها عن سبب تخلفها عن الجيش ، فأخبرته بأمر القلادة ، وكلاما غير ذلك.

وثالثة تقول : إنه سألها فلم تجبه.

٢٧ ـ رواية تقول : إن البراءة أتتها وهي في بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأخرى تقول : أتتها البراءة وهي في بيت أبيها.

وحاول العسقلاني الجمع : بأن أبويها جاءا إليها في المكان الذي هي فيه : وهو بيت أبيها نفسه (٣).

ونحن لا ندري كيف يمكن فهم كلام العسقلاني هذا ، فمن فهم منه شيئا فليتفضل علينا به ، وله مزيد الشكر ، إذ أننا نجد التصريح في الروايات بأن أباها امرها بالعودة إلى بيتها.

وفي أخرى : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمره بإيوائها.

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦١ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٥.

(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٦ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٩٦.

(٣) فتح الباري ج ٨ ص ٣٦٣.

٩٦

وكلا الروايتين لا تنسجم مع كلام العسقلاني.

٢٨ ـ رواية تقول : إن صفوان قد عرفها فور رؤيته لها ، لأنه كان يراها قبل ضرب الحجاب.

ورواية ابن عباس ، وأبي هريرة ، تقول : إنه ظنها رجلا ، ولم يعرفها حتى عرفته بنفسها.

٢٩ ـ في رواية ابن عمر : أنها استأذنت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن تأتي أهلها فأذن لها وأرسل معها الغلام.

مع أن الرواية نفسها تنص على أنها قالت لأبيها : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طردها. فرفض أبو بكر حينئذ إيواءها.

وقال : أؤويك وطردك رسول الله؟! فلم يؤوها .. حتى طلب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه ذلك ، ففعل.

فإذا كان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد طردها حقا .. فلماذا تقول : إنها استأذنته ، فأذن لها ، وأرسل معها الغلام؟! وإن كان الرسول لم يطردها ، فلابد من التأمل في الدوافع التي دفعتها لأن تخبر أباها بغير الحقيقة.

٣٠ ـ لقد اختلفت الروايات في من استشارهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمر الإفك ، فذكرت تلك الروايات كلا أو بعضا : الأسماء التالية : عمر ، عثمان ، أم أيمن.

وفي رواية : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سأل زينب بنت جحش عن أمرها.

وفي أخرى : أنه سأل زيد بن ثابت.

ولكننا نجد : أن رواية ابن عمر المتقدمة تصرح بأنه «صلى الله عليه

٩٧

وآله» إذا أراد أن يستشير في أمر أهله لم يعد عليا وأسامة!!

٣١ ـ وبعضها يقول : إن عائشة سألت أمها عن علم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر ، فأخبرتها.

وأخرى تقول : إن المسؤول والمجيب ، هو المرأة الأنصارية بحضور أم رومان.

٣٢ ـ وفي بعضها : أنه قد هجرها القريب والبعيد ، حتى الهرة.

وفي بعضها : أن أبويها ، ولا سيما أمها ، كانا عندها يخففان من مصابها ، وأن امرأة من الأنصار كانت تبكي حالها ، وكذا أم مسطح ..

بل في بعضها : أن الهرة أيضا كانت تبكي حالها (١) ..

٣٣ ـ وثمة رواية تقول : إنها لما خاض الناس في الإفك أرسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى عائشة قالت : «فجئت وأنا انتفض من غير حمى» (٢).

فسألها عما يقول الناس : فقالت : إنها لا تعتذر حتى ينزل عذرها من السماء.

وفي رواية أم رومان : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه قد جاء فوجدها قد أخذتها حمى بنافض ، لأنهم أخبروها بقول أهل الإفك ، فقالت : والله لئن حلفت لا تصدقوني ..

إلى أن تقول : وانصرف ولم يقل شيئا ، فأنزل الله عذرها.

٣٤ ـ وفي رواية : أنه لما استعذر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ممن أفك على أهله ، تثاور الحيان الأوس والخزرج ، فلم يزل يخفضهم وهو قائم على المنبر

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٥.

(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٦٠ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٨٢.

٩٨

حتى سكتوا وسكت.

وظاهر رواية ابن عمر عن عائشة أيضا ذلك.

لكن رواية أخرى تقول : إن الأوس والخزرج تواعدوا في الحرة ، فلبسوا السلاح ، وخرجوا إليها ، فأتاهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هناك (١).

٣٥ ـ وثمة نص يقول : إنها بكت ليلتين ويوما.

ونص آخر يقول : إنها بكت يومين وليلتين (٢).

٣٦ ـ وفي رواية : «أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل عليها وقد اكتنفها أبواها عن يمينها وعن شمالها ، فسألها ، فأجابته ، فنزل الوحي ببراءتها» ..

وفي أخرى : «أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل بيتها ، وبعث إلى أبويها ، فأتياه ، فحمد الله ، وأثنى عليه الخ ..» (٣).

٣٧ ـ ثم هناك رواية تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فوض عليا «عليه‌السلام» تقرير بريرة ، فقررها.

وأخرى تقول : إنه هو «عليه‌السلام» والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معا خليا بجاريتها يسألانها عنها (٤).

ورواية ثالثة تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي سأل بريرة فبرأتها.

__________________

(١) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٦٨.

(٢) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١٦٨ وراجع ٧٢.

(٣) المعجم الكبير ج ٢٣ ص ١١١ ـ ١١٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣٠.

(٤) الجمل ص ٤٢٦.

٩٩

ختام :

وحسبنا ما ذكرناه هنا .. فإن استقصاء كل ذلك صعب ، ويحتاج إلى وقت طويل ، وصبر جميل .. ولا سيما إذا أردنا تتبع الاختلاف فيما يؤثر من الأقوال والأفعال .. فإنك تكاد لا تجد صيغة واحدة متفقا عليها ، حتى في روايات الراوي الواحد.

فإن رواية الزهري من طريق فليح تختلف اختلافا بينا عنها من طريق صالح بن كيسان مثلا.

وعلى كل حال .. فإن الاختلاف لا يكاد يخفى على المتتبع الخبير ، والناقد البصير .. وفيما ذكرناه كفاية.

١٠٠