الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-184-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٣

أسر جويرية بنت الحارث :

ويقولون : إن عليا «عليه السّلام» كان قد أسر جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية ، ثم المصطلقية (١). وكانت متزوجة من ابن عمها عبد الله ، كذا في السمط الثمين.

وفي غيره : اسمه الشغر بن مسافع. وقتل في غزوة المريسيع (٢).

وقال البعض : كانت تحت مسافع بن صفوان (٣). وتحت صفوان بن مالك (٤). ولا يهمنا تحقيق ذلك.

ويقولون : إنها وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، أو ابن عم له ، أو في سهمهما معا ، فكاتبته. ثم سألت رسول الله «صلى الله عليه وآله» إعانتها ، فأدى «صلى الله عليه وآله» عنها ، وتزوجها وهي بنت عشرين سنة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ وكشف اليقين ص ١٣٦ وفيه : أن عليا «عليه السّلام» أيضا قتل مالكا وابنه.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤ وراجع : الإصابة ج ٤ ص ٢٦٦.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ٢٦٦ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٢٦٥ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٢٠٧.

(٤) الإصابة ج ٤ ص ٢٦٥ عن ابن سعد ، عن الواقدي.

٢٦١

وكان اسمها برة ، فحوله «صلى الله عليه وآله» إلى جويرية ، كره أن يقال : خرج من عند برة ، كذا في المشكاة (١).

وعن عمر بن الخطاب : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يقسم لها كما يقسم لنسائه وضرب عليها الحجاب (٢).

ويذكر أيضا : أن ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش ، وزينب بنت أبي سلمة ، كانت أسماؤهن أيضا : برة ، فغيره رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٣).

وزعم البعض أيضا : أن ثابت بن قيس جعل لابن عمه نخلات له في

__________________

(١) راجع : ما تقدم كلا أو بعضا في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ ، وراجع المصادر التالية : الإصابة ج ٤ ص ٢٦٥ وكراهته «صلى الله عليه وآله» الخروج من عند برة في ص ٢٦ عن صحيح مسلم. وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٣ والوفا ص ٦٩٢ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٢٥٨ ـ ٢٦١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٢ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٤ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٨ وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٦٤ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٠ ـ ٤١٢ وراجع : نهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٥ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ٢٠٧ وأنساب الأشراف للبلاذري ج ١ ص ٣٤١.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٣.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ والروض الأنف ج ٤ ص ١٩ والإصابة ج ٤ ص ٢٥٠ و ٢٥١ و ٢٦٥ و ٣١٣ و ٤١١ و ٤١٧ و ٢٦٦ عن صحيح مسلم والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ص ٢٦١ و ٣١٤ و ٣١٩ و ٤٠٥.

٢٦٢

المدينة مقابل حصته في برة ، ثم كاتبها على تسع أواق (١) فأداها عنها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وتزوجها.

زواج النبي صلى الله عليه وآله من جويرية برواية عائشة :

ونذكر هنا حديث عائشة حول زواج النبي «صلى الله عليه وآله» ببرة هذه ، فهي تقول :

كانت جويرية امرأة ملاحة تأخذها العين. لا يكاد يراها أحد إلا ذهبت بنفسه ، فجاءت تسأل رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كتابتها. فلما قامت على الباب ، فرأيتها كرهت مكانها ، وعرفت : أن رسول الله سيرى منها مثل الذي رأيت ، فقالت : يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث ، سيد قومه ، وكان من أمري ما لا يخفى عليك ، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، وإني كاتبته على نفسي ، فجئت أسألك في كتابتي.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : فهل لك فيما هو خير لك؟!

فقالت : وما هو يا رسول الله؟!

قال : أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك.

قالت : قد فعلت.

فأدى عنها كتابتها ، وأعتقها ، وتزوجها.

قالت : فتسامع الناس : أن رسول الله قد تزوج جويرية ، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي ، فأعتقوهم ، وقالوا : أصهار رسول الله لا ينبغي أن تسترق.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ وراجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٠ ـ ٤١٢ وراجع : طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦٤.

٢٦٣

قالت : فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة منها ، وأعتق بسببها مئة أهل بيت من بني المصطلق.

خرجه بهذا السياق أبو داود (١) ، واعتبر الواقدي هذا الحديث هو الأثبت (٢).

ونقول :

لقد توالت على هذه الرواية العلل والأسقام ، وظهرت الاختلافات والتناقضات بينها وبين سائر الروايات في أكثر الموارد ، بصورة ملفتة ومثيرة للعجب.

وفي محاولة منا لاستعراض جانب من هذه الاختلافات نقول :

__________________

(١) تاريخ الخمس ج ١ ص ٤٧٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ وراجع ص ٢٨٣.

وراجع المصادر التالية : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٦ والإصابة ج ٤ ص ٢٦٥ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٢٦٦ وسيرة مغلطاي ص ٥٥ ونهاية الأرب ج ١٨ ص ١٨٣.

وراجع : بعض ما تقدم أو كله في : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٢ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٦٤ والتنبيه والإشراف ص ٢١٥ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٨ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٠٧ و ٣٠٨ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢١٧ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤١١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٠٢.

وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٥٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٤٩ و ٥٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٤٥ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٢٠٧ عن أبي داود.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢.

٢٦٤

أولا : هل تزوج صلى الله عليه وآله جويرية لجمالها؟!

لقد ظنت عائشة أن جمال جويرية سوف يؤثر على مشاعر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأحاسيسه ، ويدعوه إلى اتخاذها زوجة ، فكرهتها لأجل ذلك.

ونحن وإن كنا لا نستغرب غيرة عائشة هذه ، فقد لمسناها منها بالنسبة إلى جميع زوجاته «صلى الله عليه وآله» ، حيث كانت تغار منهن ، وتحسدهن ، وتكرههن ، وتدبر في الخفاء للكيد لهن. كما دلت عليه النصوص التاريخية والحديثية المتضافرة والمتواترة.

كما أننا لا ننكر على النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أن يتزوج المرأة ذات الجمال ، فإن ذلك هو ما تقتضيه الجبلة الإنسانية ، ويدعو إليه الذوق السليم ، والطبع السوي ، وهو أيضا ما حبذته نصوص الشريعة الإلهية السمحة.

إلا أننا ننكر على عائشة أن تفكر هي أو غيرها : أن الجمال والجمال فقط هو المعيار والفيصل في إقدام النبي «صلى الله عليه وآله» أو إحجامه في هذا المجال ، فإنه هو نفسه «صلى الله عليه وآله» قد ذكر ، أن ثمة معايير أخرى إسلامية وإنسانية هي التي تتحكم في القرار الحاسم في أمر الزواج.

والذي يظهر لنا هو : أن عائشة ـ كما يظهر في موارد كثيرة ـ كانت تنظر إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكأنه رجل عادي جدا ، تستخفه فتأسره مسحة جمال عارضة ، وينشد وينجذب إليها ، دون اختيار ، فتفرض عليه موقفا هنا ، وتصرفا هناك ، تماما كما هو الحال بالنسبة لأي مراهق ناشئ ، تثيره غرائزه ، وتسيطر عليه أهواؤه وشهواته.

وحاشا نبي الإسلام الأعظم «صلى الله عليه وآله» أن تصدق فيه ظنون عائشة وأوهامها ، وهو النبي المعصوم ، الذي لا شك في طهارته ، ونبله ،

٢٦٥

ورجاحة عقله ، وبعد نظره ، وعزوفه عن الدنيا ، بكل ما فيها من زبارج وبهارج ومغريات. لا سيما وأنه يقترب من سن الستين ، الذي يكون فيه حتى الإنسان العادي قد تجاوز سن المراهقة ، وبدأ يتجه نحو عقلنة طموحاته ، والسيطرة عليها ، فكيف بنبي الإسلام الأكرم «صلى الله عليه وآله».

ثانيا : التناقض والاختلاف في أمر جويرية :

هناك تناقضات كثيرة في قصة جويرية هذه ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ هذه الرواية تقول : إن الناس حين عرفوا بأن النبي «صلى الله عليه وآله» تزوجها أرسلوا ما في أيديهم من أسرى بني المصطلق.

وعند الواقدي : «فلما أعتقني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم» (١).

وفي نص آخر : «فلما أعتقني وتزوجني ما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني بفك الأسرى ، فحمدت الله تعالى» (٢).

مع أن هناك ما يناقض ذلك كله :

فقد قيل : جعل «صلى الله عليه وآله» صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٥٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٠٣.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٥٠.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٨٣ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٥٠ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢.

٢٦٦

وقيل : عتق أربعين من قومها (١).

ويقال : إنه أعتقها وتزوجها على عتق مئة من أهل بيت قومها (٢).

وقيل : إن النبي «صلى الله عليه وآله» وجه إلى أبيها ، حين جاء بفدائها ، ثم خطبها «صلى الله عليه وآله» وتزوجها ، وأصدقها أربع مئة درهم (٣).

وقال البعض : «كان الأسرى أكثر من سبع مئة ، فطلبته فيهم ليلة دخل بها ، فوهبهم لها» (٤).

وقيل : بل جعل صداقها عتقها (٥)

فأي ذلك كله نصدق يا ترى؟

٢ ـ متى وكيف تزوجها النبي «صلى الله عليه وآله»؟ فهل تزوجها بعد قضائه عنها مال كتابتها ، كما ذكرت رواية عائشة؟

أم أن أباها هو الذي افتداها من ثابت بن قيس ، ثم خطبها النبي «صلى الله عليه وآله» إليه ، فزوجها إياه؟ (٦)

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٦٣ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٥٠ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٠٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٥٩.

(٢) أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤١ و ٣٤٢.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٢ و ٢٨٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٢٠٧ وستأتي بقية المصادر لذلك.

(٤) الجامع للقيرواني ص ٢٨٤ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٣.

(٦) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢.

٢٦٧

أم أنه افتداها من رسول الله «صلى الله عليه وآله» مباشرة؟ حيث إنه كما يروي لنا ابن هشام وغيره : لما انصرف «صلى الله عليه وآله» من غزوة بني المصطلق ، ومعه جويرية بنت الحارث ، وكان بذات الجيش ، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار ، وأمره بالاحتفاظ بها. وقدم «صلى الله عليه وآله» المدينة.

فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق. ثم أتى إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فقال : يا محمد ، أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟

فأسلم الحارث حينئذ ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما ، ودفع الإبل إلى النبي «صلى الله عليه وآله». ودفعت إليه ابنته جويرية فأسلمت ، وحسن إسلامها.

فخطبها إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربع مئة درهم. وكانت قبله تحت ابن عم لها يقال له : عبد الله (١).

ونص رابع يذكر : أن النبي أمر الحارث أن يخبر ابنته بإسلامه ، فأخبرها ، ثم طلب منها أن لا تفضح قومها بالرق. فاختارت الله ورسوله ، فرضي أبوها

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤ و ٤٧٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٠٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٢ و ٢٨٣ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٠٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٥٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٥١ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٧.

٢٦٨

بذلك (١). فأعتقها «صلى الله عليه وآله» ، وجعلها في جملة أزواجه (٢).

٣ ـ وعن فداء جويرية نقول : هل اشترى النبي «صلى الله عليه وآله» جويرية من ثابت بن قيس؟ (٣).

أم أنه «صلى الله عليه وآله» أدى عنها كتابتها ثم تزوجها كما تقول رواية عائشة؟

أم أن ثابت بن قيس وهبها للنبي «صلى الله عليه وآله»؟! (٤).

أم أن النبي «صلى الله عليه وآله» أخذها من السبي ، فلما بلغ ذات الجيش دفعها إلى رجل من الأنصار ليحتفظ بها ، كما تقدم عن ابن هشام وغيره؟!

أم أن أباها هو الذي افتداها من ثابت بن قيس (٥).

أو من رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٦).

٤ ـ ثم هل تزوجها النبي بعد رجوعه إلى المدينة كما تشير إليه الروايات المتقدمة؟

أم أنه «صلى الله عليه وآله» تزوجها ـ كما تقول عائشة ـ حين كان لا

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٧ وراجع : كشف اليقين ص ١٣٦ المناقب لابن شهرآشوب (ط دار الأضواء) ج ١ ص ٢٥٣.

(٢) راجع المصادر المتقدمة باستثناء دحلان.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٧٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠.

(٤) حبيب السير ج ١ ص ٣٥٨.

(٥) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤١٢.

(٦) تقدمت مصادر ذلك حين ذكرنا للتناقضات والاختلافات تحت رقم ٢.

٢٦٩

يزال على ماء المريسيع؟! كما صرح به البعض (١).

أو تزوجها في الطريق (٢).

وحسبنا ما ذكرناه من تناقضات واختلافات ، ومن أراد استقصاء ذلك فيمكنه المراجعة للروايات والمقارنة بينها.

ثالثا : تغيير اسم برة إلى جويرية :

ذكرت الروايات المتقدمة : أنه «صلى الله عليه وآله» غيّر اسمها من برة إلى : جويرية (٣) وذلك لأنه كره أن يقال : خرج من عند برة.

ونقول :

إننا لا ندري ما وجه كراهته «صلى الله عليه وآله» ذلك ، فإنه اسم حسن الإيقاع ، ومقبول الإيحاء والدلالة.

كما أننا لا ندري لماذا اقتصر «صلى الله عليه وآله» على تغيير اسم ميمونة ، وزينب بنت جحش ، وبنت أم سلمة ، بالإضافة إلى جويرية؟ ولم يأمر بتغيير اسم باقي من سمين ببرة ، فلم يغيّر اسم برة بنت أبي نجراة وبرة بنت سفيان السلمية ، أخت أبي الأعور ، وبرة بنت عامر بن الحارث. وغيرهن.

بل إنه «صلى الله عليه وآله» لم يغير اسم إحدى جواريه ، التي كان

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ و ٢٨١ و ٢٨٢ وفي ٢٨٥ عن جويرية نفسها ما يدل على ذلك.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٤.

(٣) وقد تقدمت مصادر ذلك ، في أوائل الحديث عن جويرية ، فراجع.

٢٧٠

اسمها برة أيضا (١).

ولا ندري أخيرا ، لماذا لم يكره الناس هذا الاسم ، فلم يبادروا إلى تغييره من عند أنفسهم ، حين علموا بإصرار نبيهم الأكرم «صلى الله عليه وآله» على تغييره بالنسبة لهذه وتلك وسواها؟

ثم لماذا لم يمتنعوا عن التسمية به بعد ذلك؟

رابعا : أبو جويرية :

قد ذكرت الروايات المتقدمة : أن الحارث بن أبي ضرار هو الذي افتدى ابنته جويرية ، ثم خطبها النبي «صلى الله عليه وآله» إليه ، فزوجه إياها.

مع أن المؤرخ الثبت الأقدم ابن واضح اليعقوبي يقول عن جويرية : «فكان ممن سبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار. وقتل أبوها ، وعمها ، وزوجها ، فوقعت في سهم ثابت بن قيس الخ ..» (٢).

خامسا : تخيير جويرية :

جاء في مرسل أبي قلابة بسند صحيح ـ كما يزعمون ـ أن النبي «صلى الله عليه وآله» سبا جويرية وتزوجها ، فجاءها أبوها ، فقال : إن بنتي لا يسبى مثلها فخل سبيلها.

فقال : أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت؟!

__________________

(١) راجع : الإصابة ج ٤ ص ٢٥٠ و ٢٥١ و ٢٥٤ و ٤١١ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٢٥١ و ٢٥٢ و ٤٠٥ وغير ذلك كثير.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٣.

٢٧١

قال : بلى.

فأتاها أبوها ، فذكر لها ذلك ، فقالت : اخترت الله ورسوله (١).

وفي نص آخر : أنه قال لها حين خيرها : يا بنية لا تفضحي قومك.

قالت : اخترت الله ورسوله.

ونقول :

١ ـ قد شكك البعض في هذه الرواية على أساس : أنه لا يعقل أن يأمره النبي «صلى الله عليه وآله» بتخييرها ، بعد أن تزوجها (٢). إلا إذا كان «صلى الله عليه وآله» يريد من وراء ذلك أن يثبت لأبيها : أنها لا توافق على العيش في أجواء الشرك والانحراف.

ولكن يرد هذا قولهم : إن الحارث قد أسلم مع ابنين له.

٢ ـ قد تقدم : أن أباها وعمها وزوجها قتلوا في غزوة المريسيع (٣).

٣ ـ إننا لا يمكن أن نصدق أن يأتي أبوها ، الذي كان قد حشد تلك الحشود ، ويكلّم النبي «صلى الله عليه وآله» بهذا الأسلوب الجاف ، الممتلئ بالعنجهية.

٤ ـ إنه إذا كانت الروايات المتقدمة في أول هذا الفصل قد صرحت بأن جميع بني المصطلق قد أسروا ، ولم يفلت منهم أحد ، فلا معنى لقولهم :

إن أباها قدم على النبي «صلى الله عليه وآله» بعد ذلك ، وفدى ابنته. ثم

__________________

(١) الإصابة ج ٤ ص ٢٦٥.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٣.

٢٧٢

تزوجها النبي «صلى الله عليه وآله».

أو أنه وجد ابنته قد تزوجت النبي «صلى الله عليه وآله» ، فطلب منه أن يطلق سراحها. وانجر الأمر إلى تخييرها ، فاختارت الله ورسوله.

إلا أن يكون قد أطلق فيمن أطلق فذهب ، ثم عاد : أو أنه لم يكن في جملة الأسرى ولا القتلى ، بل كان قد تمكن من النجاة بنفسه.

٥ ـ إنه إذا كان قد وجد ابنته معتقة ومتزوجة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فلا معنى لأن يقول له : ابنتي لا يسبى مثلها. بعد أن زالت عنها آثار السبي بالعتق ، وبالزواج من أعظم رجل شرفا ، وسؤددا وشأنا في الجزيرة العربية ، بل وفي العالم بأسره.

٦ ـ قد ذكرت الروايات المتقدمة : أن الحارث بن أبي ضرار قد أسلم مع ابنين له.

فما معنى أن يخير بعد هذا ابنته جويرية بين الإسلام والشرك ، لا سيما وأنها كانت قد تزوجته «صلى الله عليه وآله» وآمنت به وآمن به أبوها وأخواها؟

فلا يعقل : بعد هذا أن يطرح أبوها مع النبي ومعها موضوع الانفصال عنه «صلى الله عليه وآله» ، والالتحاق بأبيها.

كلمات أخيرة حول جويرية :

يقول الديار بكري : كانت جويرية عند النبي «صلى الله عليه وآله» خمس سنين ، وعاشت بعده خمسا وأربعين سنة ، وتوفيت بالمدينة سنة خمسين ، وفي رواية سنة ست وخمسين ، وهي بنت خمس وستين سنة ، وصلى عليها مروان بن

٢٧٣

الحكم ، وكان حاكما على المدينة من قبل معاوية (١).

ملاحظات لا بد من تسجيلها :

ونذكر القارئ أخيرا بما يلي :

١ ـ إن جويرية كانت من بيت عز وشرف ، وقد عاشت حياتها بطريقة لا تنسجم ، لا من قريب ولا من بعيد ، مع حياة الرق والعبودية ، والإسلام هو الذي يقول : ارحموا عزيز قوم ذل.

٢ ـ إنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد لهذه المرأة أن تعيش بالمهانة في ظل الإسلام ، بل يريد أن تلمس : أن الإسلام يحترم إنسانيتها ، ويحفظ لها كرامتها.

٣ ـ إن إكرام قومها وأبيها بها إن كان أبوها لم يقتل في المريسيع قبل سبيها لسوف يهيئهم نفسيا للتفاعل مع تعاليم الإسلام ، والانسجام مع قيمه ومثله ، لأنهم عاشوها واقعا حيا ، تجسد موقفا وسلوكا. وكان له تأثير على حياتهم ، ووجودهم ، ومصيرهم.

٤ ـ إن علينا : أن لا ننسى أنه لم يكن من المصلحة القسوة على قوم هم من قبائل خزاعة التي كانت عيبة نصح لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بل كان لا بد من درء الخطر أولا ، ثم تهيئة الأجواء لإعادة الاعتبار لهؤلاء الناس ، الذين كان لهم موقف أكثر عقلانية وواقعية من غيرهم.

فماذا لو أنهم لمسوا : أن هذه الواقعة منهم قد أثمرت ثمرات خيرة ، وصالحة وعزيزة ، واستطاعت أن تغير من مسار ومصير هذه القبيلة التي

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٥.

٢٧٤

تنتمي إليهم ، ولهم فيها أدنى ارتباط؟

٥ ـ أما اللفتة المثيرة للإعجاب ، فهي : أن تكون جويرية قد رأت في شخص رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الرجل القادر على أن يدرك مشكلتها ، وأن يتعامل معها بواقعية وبإنسانية ، ومن خلال القيم المثلى ، وبالطريقة الفضلى.

مع أن هذا الرجل هو نفسه الذي قاد الجيش الذي أسرها ، وأنزل في قومها الضربة المؤثرة والمثيرة ..

٦ ـ ولا شك أنها قد لمست في الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» بعض ما حباه الله به من مزايا ، وأكرمه به من خصال.

وربما تكون أيضا قد استجابت لعامل الشعور بالعزة والأنفة من أن تطلب المساعدة من أي كان من الناس ، فكان طموحها متناسبا تماما مع واقعيات حياتها في بيت العزة والسؤدد ، حين كان أبوها السيد المطاع في قومه.

٢٧٥
٢٧٦

الفصل الثالث :

ليخرجن الأعز منها الأذل

٢٧٧
٢٧٨

لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ :

يقول المؤرخون : إنه بعد أن هزم بنو المصطلق ازدحم على الماء ـ وكان قليلا ـ جهجاه بن سعد الغفاري ـ وكان أجيرا لعمر بن الخطاب ، يقود له فرسه (١) ـ وسنان بن وبرة (أو فروة) (أو أنس بن سيار كما في تفسير القمي).

وقال قتادة : (الجهني) حليف عمرو بن عوف من الخزرج ـ وفي المدارك : كان حليفا لابن أبي ـ فاقتتلا ؛ فأعان جهجاها رجل من فقراء المهاجرين ، يقال له : جعال ، ولطم وجه سنان ؛ فاستغاث سنان : يا للأنصار ، يا للخزرج!

واستغاث جهجاه : يا لكنانة ، يا لقريش!

أو قال : يا معشر المهاجرين.

وفي نص آخر : أن جهجاها ضرب سنانا ، فسال الدم.

وقيل : كسعه ، أي دفعه. فتسارع إليهما القوم ، وعمدوا إلى السلاح. فمشى

__________________

(١) ادّعى البعض : أن جهجاها كان يريد أن يملأ قربا للنبي «صلى الله عليه وآله» ، وأبي بكر وعمر فوجد الناس يزدحمون على الماء ، فأمرهم بالإمساك ليملأ القرب المذكورة ، فنازعه أنصاري كان أجيرا لابن أبي : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٧٠.

٢٧٩

جماعة من المهاجرين إلى سنان فقالوا : اعف عن جهجاه. ففعل فسكنت الفتنة وانطفأت نائرة الحرب.

زاد الحلبي وغيره قوله : فخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، فأخبر بالحال ، فقال : دعوها ، فإنها منتنة.

أو قال : من دعا دعوى الجاهلية كان من محشي جهنم.

قيل له : وإن صام وصلى ، وزعم أنه مسلم؟

قال : وإن صام وصلى ، وزعم أنه مسلم.

وقال «صلى الله عليه وآله» : لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما ، إن كان ظالما فلينهه ، فإنه ناصر ، وإن كان مظلوما فلينصره (١).

فسمع عبد الله بن أبي بالأمر فغضب وعنده رهط من قومه ، فيهم زيد بن أرقم ، ذو الأذن الواعية ، وهو غلام حديث السن.

فقال ابن أبي : أفعلوها؟ قد نافرونا ، وكاثرونا في بلادنا؟!

وقال : ما صحبنا محمدا إلا لنلطم؟ والله ، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك.

أما والله ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يقصد بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ثم أقبل على من حضر من قومه ، فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم! أما والله ، لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولتحولوا إلى غير بلادكم. فلا تنفقوا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٦.

٢٨٠