الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-184-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٣

الفصل السابع :

بعد العاصفة

٢٠١
٢٠٢

هاجهم وجبريل معك :

روى البخاري ، عن البراء : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لحسان بن ثابت يوم قريظة : اهجهم ، أو : هاجهم وجبريل معك.

وفي نص آخر : أنه «صلى الله عليه وآله» قال يوم قريظة لحسان بن ثابت : اهج المشركين ، فإن جبريل معك (١).

ونقول :

إننا نشك في ذلك.

فأولا : لم نجد لحسان ولا لغيره مهاجاة بينه وبينهم ، بمعنى أنهم هجوه وهجاهم ، بل وجدناه يهجوهم في مقطوعة سنذكرها فيما يلي ، وسنرى : أنها إنما قيلت في غزاة بني النضير. وهناك مقطوعة أخرى ، تشرح المصير السيء الذي لقيه بنو قريظة ، وهي إنما قيلت بعد استئصال شأفتهم ، مع وجود بعض الإشكالات فيها ، كما سنرى. فلم يكن ثمة مهاجاة بينهم وبين حسان. فإن المهاجاة إنما تكون من طرفين ولم نجد أي ردة فعل منهم في

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٠ عنه. وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٣١ وقال : وقد رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي من طرق ، عن شعبة ، بدون الزيادة التي ذكرها البخاري : يوم بني قريظة.

٢٠٣

مجال مهجاة حسان أو غيره. فلا يصح أنه «صلى الله عليه وآله» قال له : هاجهم ، أو اهجهم.

إلا أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد أمر حسانا بهجائهم بعد قتلهم. ولا نجد لذلك مبررا مقبولا أو معقولا. كما أن المناسب والحالة هذه هي أن يقول له : اهجهم لا أن يقول له : هاجهم ، لأن المهاجاة تكون من الطرفين.

ثانيا : إذا كان العدو الحاضر ، بعد هزيمة المشركين ، هم اليهود ، فلا معنى لأن يأمر حسانا بهجاء المشركين دونهم. كما دل عليه النص الآخر ..

وبعد .. فإن ما روي عن حسان في شأن بني قريظة هو ما يلي :

ألف : قال حسان بن ثابت :

لقد لقيت قريظة ما ساءها

وما وجدت لذل من نصير

أصابهم بلاء كان فيه

سوى ما قد أصاب بني النضير

غداة أتاهم يهوي إليهم

رسول الله كالقمر المنير

له خيل مجنبة تعادى

بفرسان عليها كالصقور

تركناهم وما ظفروا بشيء

دماؤهم عليها كالعبير

فهم صرعى تحوم الطير فيهم

كذاك يدان ذو العند الفجور

فأنذر مثلها نصحا قريشا

من الرحمن إن قبلت نذيري (١)

لكن قوله : فهم صرعى تحوم الطير فيهم .. مما لا تؤيده النصوص التاريخية ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٣٥ و ١٣٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٥٩.

٢٠٤

لأنها تقول حسبما تقدم : إنه «صلى الله عليه وآله» خندق لهم خنادق وقتلهم وجعلهم فيها ورد عليهم التراب ، فلم يكن ثمة مجال للطير لتحوم فيهم.

ب : قالوا : وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة :

تعاقد معشر نصروا قريشا

وليس لهم ببلدتهم نصير

هم أوتوا الكتاب فضيعوه

وهم عمي من التوراة بور

كفرتم بالقرآن وقد أتيتم

بتصديق الذي قال النذير

فهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير (١)

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فقال :

أدام الله ذلك من صنيع

وحرق في طوائفها السعير

ستعلم أينا منها بنزه

وتعلم أي أرضينا تضير

فلو كان النخيل بها ركابا

لقالوا : لا مقام لكن فسيروا (٢)

ونقول :

قد تقدم : أن هذه الأبيات قد قيلت في غزاة بني النضير. وهذا هو الأنسب بمضمونها لأنها إنما تتحدث عن حرق النخيل. وهو إنما كان في تلك الغزاة ، لا في غزوة بني قريظة.

لكن روى أبو عوانة ، عن محمد بن يحيى ، عن الهيثم بن جميل ، عن

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٣٦. وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١ والإكتفاء ج ٢ ص ١٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٥٩.

(٢) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٣٦ والإكتفاء ج ٢ ص ١٩٦ وسيرة ابن كثير ج ٣ ص ٢٥٩ و ٢٦٠.

٢٠٥

زائدة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : «أن النبي «صلى الله عليه وآله» حرّق على بني قريظة ، والنضير نخلا لهم ، فقال حسان (رض) :

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير

قال الهيثم : كنت معه بأرض الروم ، فحدثني بهذا الحديث وأمر بالحريق» (١) ولا ندري مدى دقة ابن عمر في روايته هذه إن صحت عنه. ولم نعهد من هذا الرجل نباهة ودقة في النقل وهو الذي لم يحسن أن يطلق امرأته ، وقصته في ذلك مشهورة (٢).

لن تغزوكم قريش :

ويقولون : إنه لما انقضى شأن بني قريظة قال «صلى الله عليه وآله» : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكن تغزونهم» فكان كذلك (٣).

ورجع «صلى الله عليه وآله» عن بني قريظة يوم الإثنين لأربع خلون من ذي الحجة (٤).

ونقول :

__________________

(١) مسند أبي عوانة ج ٤ ص ٩٧.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ٥٤ ومسند أحمد ج ٢ ص ٥١ وصحيح مسلم ج ٤ ص ١٨٠ و ١٨١ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٦٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٩٢ والغدير ج ١٠ ص ٣٩.

(٣) راجع : سيرة مغلطاي ص ٥٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٣ و ٣٤٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٩.

(٤) المحبر ص ١١٤ والجامع للقيرواني ص ٢٨٠.

٢٠٦

قد تقدم : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك بعد الخندق ، وهذا هو الأنسب والأوفق بظاهر الحال ، لأن قريشا إنما غزت المسلمين في الخندق ، لا في بني قريظة.

إلا أن يكون القضاء على بني قريظة قد زاد من يأس قريش ، لأنها أدركت بذلك أنه لم يعد لها في منطقة المدينة من يمكنها أن تعتمد عليه في شيء.

ابن معاذ الشهيد :

وقد ذكرنا في الجزء السابق من هذا الكتاب : أن سعد بن معاذ كان قد أصيب بسهم في أكحله في غزوة الخندق ، فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة ، فاستجاب الله له.

وبعد أن حكم فيهم بحكم الله انفجر جرحه ، فمات شهيدا «رحمه الله» (١).

وفي نص آخر : «فإذا سعد يسيل جرحه دما له هدير» (٢).

ولا ندري مدى صحة هذه الفقرة الأخيرة!!

ويقولون : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان قد كواه مرتين ، فانتفخت يده فيهما.

فدعا الله سبحانه : إن كانت الحرب قد وضعت بينهم وبين قريش أن يفجر الجرح ، ففجره الله.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٣ وراجع : مرآة الجنان ج ١ ص ١٠ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٨ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٥.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٩.

٢٠٧

فأتاه «صلى الله عليه وآله» في نفر من أصحابه يعوده ، فوجدوه قد سجي في ملاءة بيضاء ، وهو في السياق.

وكان سعد رجلا أبيض طويلا ، فجلس «صلى الله عليه وآله» عند رأسه ، وجعل رأسه في حجره ، ثم قال :

«اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك ، وصدق رسولك ، وقضى الذي عليه ، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق».

ففتح سعد عينيه حين سمع ذلك وقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أشهد أنك قد بلغت رسالته (١). فوضع «صلى الله عليه وآله» رأس سعد من حجره ، ثم قام وانصرف ؛ فمات سعد بعد ذلك بساعة أو أكثر (٢)

وقيل : حضر النبي «صلى الله عليه وآله» سعدا حين توفي (٣).

وزعم البعض : أن عنزا مرت على سعد ، وهو مضطجع ، فأصابت الجرح بظلفها فما رقأ حتى مات (٤).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٥ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢ وتاريخ الإسلام (المغازي) ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٦ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٦.

(٤) عيون الأثر ج ٢ ص ٧٦ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٩٣ وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٧٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٩ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨.

٢٠٨

اهتز العرش لموت ابن معاذ :

ولما مات سعد لم يشعر أحد بموته ، حتى نزل جبريل فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بموت سعد ، وأن عرش الرحمن قد اهتز لموته ، فخرج «صلى الله عليه وآله» فزعا إلى خيمة كعيبة ، يجر ثوبه مسرعا ، فوجد سعدا قد مات ، فاحتملوه إلى منزله ؛ فخرج «صلى الله عليه وآله» في أثره (١).

وقد روي حديث اهتزاز العرش لموت سعد ، عن جابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأسيد بن حضير ، ورميثة بنت عمرو ، وأسماء بنت يزيد بن السكن ، وعبد الله بن بدر ، وابن عمر ، وحذيفة ، وعائشة ، وسعد بن أبي وقاص ، والحسن ، ويزيد بن الأصم مرسلا (٢).

وقال العسقلاني : «جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ ، عن عشرة من الصحابة أو أكثر ، وثبت في الصحيحين (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٦ وراجع المصادر التالية : دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٨ و ٢٩ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢١٢ ومرآة الجنان ج ١ ص ١٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٢ وبهجة المحافل وشرحه ج ١ ص ٢٧٦ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٧ و ١٨٨ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٥ و ٧٦ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٩ و ٥٩٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٧.

(٢) عمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ وراجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦ فقد ذكر أيضا قسما منهم.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٩٤.

٢٠٩

وحضر جنازته سبعون ألف ملك ، واهتز له عرش الرحمن (١).

وحديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ ، موجود في مختلف المصادر التاريخية (٢).

وقد قال رجل من الأنصار :

وما اهتز عرش الله من موت هالك

علمنا به إلا لسعد أبي عمرو (٣)

__________________

(١) سيرة مغلطاي ص ٥٧ ومرآة الجنان ج ١ ص ١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٦ و ٢٤٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٨ و ٢٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٧ و ٢٧٦ وإرشاد الساري ج ٦ ص ٣٣١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٧ و ١٢٨ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ وج ١٧ ص ١٩٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٩ وحاشية السندي على البخاري ج ٣ ص ٢٣ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٤ وراجع ص ٢٦٨ و ٢٧٠ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٠ وراجع : عيون الأثر ج ٢ ص ٧٦.

(٢) راجع : بالإضافة إلى المصادر التي ذكرناها في الهامش السابق : الإكتفاء ج ٢ ص ١٨٨ وجوامع السيرة النبوية ج ١٥٦ والروض الأنف ج ٣ ص ٣٨٥ وهامش صحيح مسلم ج ٧ ص ١٥٠ وإرشاد الساري ج ٦ ص ١٥٨ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٢٠٠ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٣ و ٩٤ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٦ ص ٢٢ وشذرات الذهب ج ١ ص ١١ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٨ و ٥٩٩ والثقات ج ١ ص ٢٧٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٣. ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢١٢ إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة التي لا مجال ، بل لا حاجة لتتبعها ، واستقصائها.

(٣) مرآة الجنان ج ١ ص ١٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٩ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٨.

٢١٠

وقد حاول البعض : التشكيك في المراد من هذا الحديث.

فقد روي عن ابن عمر : اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا ، حتى تفسخت أعواده على عواتقنا.

قال ابن عمر : يعني عرش سعد الذي حمل عليه (١).

وعن البراء بن عازب : المراد : أن سرير سعد اهتز (٢).

ونقول :

١ ـ وقد أنكر جابر على البراء قوله هذا ، وقال : كانت بين هذين الحيين من الأنصار ضغائن ، سمعت رسول الله يقول : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ (٣).

٢ ـ كما أن العلماء لم يلتفتوا لقول البراء هذا (٤).

وقال القسطلاني : سياق الحديث يأباه ، إذ إن المراد منه فضيلته ، وأي

__________________

والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٩ و ١٣٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٣.

(١) إرشاد الساري ج ٦ ص ١٥٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٣ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٨ وراجع : تاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٧٠ وراجع : لسان العرب ج ٦ ص ٣١٣.

(٢) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٢٠٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٧.

(٣) راجع : الهامش السابق.

(٤) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦.

٢١١

فضيلة في اهتزاز سريره ، إذ كل سرير يهتز إذا تجاذبته أيدي الرجال (١).

وقال أيضا : «قال جماعة : المراد اهتزاز سرير الجنازة ، وهو النعش.

وهذا القول : باطل ، يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم : اهتز لموته عرش الرحمن الخ ..» (٢).

٣ ـ هذا بالإضافة إلى شعر الأنصاري المتقدم الذي يصرح فيه باهتزاز عرش الله ، هذا كله عدا عن صراحة الروايات الكثيرة بذلك أيضا.

واعتراض العيني على كلام جابر : بأن البراء أيضا هو من قبيلة الأوس مثل ابن معاذ (٣) ، والحقد إنما كان بين الأوس والخزرج ، لا بين الأوس أنفسهم ، غير مقبول ، لأن جابرا يتحدث عن علم ومشاهدة ، فقد يكون بين حيين أوسيين ضغائن أيضا.

وأجاب العسقلاني : بأن جابرا كان خزرجيا ، فكأنه تعجب من البراء الذي هو أوسي ، ثم قال : أنا وإن كنت خزرجيا فلا يمنعني ذلك من قول الحق.

ثم اعتذر العسقلاني عن البراء : بأنه فهم ذلك ، فجزم به ، ولم يقصد تغطية فضل سعد (٤).

أما ابن عمر : فلعله ينطق في موقفه هذا من موقع كونه مهاجريا ، لا يريد إثبات فضيلة لسعد الأنصاري ، الذي جعله رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) إرشاد الساري ج ٦ ص ١٥٨.

(٢) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨.

(٣) عمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٣.

(٤) راجع : فتح الباري ج ٩٣٧.

٢١٢

وآله» سيد المهاجرين والأنصار على حد سواء ، حسبما تقدم.

٤ ـ وأخيرا ، فإننا لم نستطع أن نفهم كيف صح إطلاق العرش ، على النعش الذي يحمل عليه الميت ، فإننا لم نجد مبررا لذلك ، لا في اللغة ، ولا فيما بلغنا من نصوص عن العرب ، شعرية أو نثرية.

وما يذكره أهل اللغة في كتبهم ، فإنما هو نفس حديث اهتزاز العرش لسعد ، ثم أقوال المفسرين للرواية ، فراجع (١).

سبب كراهة مالك لرواية هذا الحديث :

وروى عن مالك : أنه كره أن يقال : اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ، ولم ير التحدث بذلك. مع صحة نقله وكثرة الرواة له (٢).

وقد تعجب السهيلي من هذه الرواية عن مالك : وقال : «لا أدري ما وجه ذلك ، ولعلها غير صحيحة عنه ، فقد خرجه البخاري» (٣) ، وهو حديث صحيح ، وقال أبو عمر : هو ثابت من طرق متواترة (٤).

قال ابن سيد الناس ، بعد أن ذكر صحة هذا الحديث : «قلت : هذا يقتضي أن يكون إنكار مالك محمولا عنده على أمر عنده يرجع إلى الإسناد .. وليس

__________________

(١) راجع : لسان العرب ج ٦ ص ٣١٣.

(٢) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٦ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٤ عن كتاب : العتيبة.

(٣) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ وراجع : شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٦.

(٤) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٦.

٢١٣

كذلك. بل قد اختلف العلماء في هذا الخبر ، فمنهم من يحمله على ظاهره ، ومنهم من يجنح فيه إلى التأويل. وما كانت هذه سبيله من الأخبار المشكلة فمن الناس من يكره روايته ، إذا لم يتعلق به حكم شرعي ، فلعل الكراهة المروية عن مالك من هذا الوجه» (١).

وقال ابن رشد في شرح العينية : إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل : أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته ، كما يقع للجالس منا على كرسيه ، وليس العرش بموضع استقرار الله ، تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه (٢).

قال العسقلاني : «الذي يظهر : أن مالكا ما نهى عنه لهذا ، إذ لو خشي من هذا لما أسند في الموطأ حديث ينزل الله إلى سماء الدنيا ، لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش.

ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة ، وعلماء السنة : أن الله منزه عن الحركة ، والتحول ، والحلول ، ليس كمثله شيء.

ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده ، فأمر بالكف عن التحدث به ، بخلاف حديث النزول ، فإنه ثابت ، فرواه ، ووكل أمره إلى فهم أولي العلم ، الذين يسمعون في القرآن : (.. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ..)(٣) ، ونحو ذلك.

وقد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة ، أو

__________________

(١) عيون الأثر ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ٩٤.

(٣) الآية ٥٤ من سورة الأعراف والآية ٣ من سورة يونس والآية ٢ من سورة الرعد والآية ٥٩ من سورة الفرقان والآية ٤ من سورة السجدة والآية ٤ من سورة الحديد.

٢١٤

أكثر ، وثبت في الصحيحين ، فلا معنى لإنكاره» (١).

ونقول :

إن السلف الذين يتحدث عنهم العسقلاني لا ينزهون الله على النحو الذي ذكره فإن عامة أهل الحديث ، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل قائلون بالتشبيه والتجسيم ، وكلماتهم تكاد تكون صريحة في ذلك ، بل هي كذلك بالفعل.

فراجع كتاب العلامة السيد مهدي الروحاني «رحمه الله» : بحوث مع أهل السنة والسلفية. فإنه قد أوضح هذا الأمر ، من خلال كلماتهم أيما إيضاح.

الخلاف في المراد من اهتزاز العرش :

وقد اختلفوا في معنى اهتزاز العرش لموت سعد ، فقيل المراد : سرور أهل أو حملة العرش بروحه ، فهو على تقدير حذف مضاف.

أو المراد : ارتياح العرش بروحه حين صعد به ، لكرامته على ربه. أو تحركه فرحا ، أو غير ذلك من وجوه ذكرها المؤلفون (٢). وليس تحقيق ذلك

__________________

(١) فتح الباري ج ٧ ص ٩٤.

(٢) راجع : جوامع السيرة النبوية ص ١٥٦ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٥ وهامش صحيح مسلم ج ٧ ص ١٥٠ وإرشاد الساري ج ٦ ص ١٥٨ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٩٣ و ٩٤ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٦ ص ٢٢ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٧ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٦ و ٢٧٨ ولسان العرب ج ٦ ص ٣١٣.

٢١٥

بالأمر المهم ..

لكن لا بد من اعتماد الوجوه التي لا تنافي أحكام العقل ، وما ثبت بالنصوص الصحيحة والصريحة.

مراسم تجهيز وتشييع ودفن سعد :

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» أسرع المشي إلى سعد ، فشكا ذلك إليه أصحابه ، فقال : إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله ، كما غسلت حنظلة.

فانتهى «صلى الله عليه وآله» إلى البيت وهو يغسّل وأمه تبكيه ، وتقول :

ويل أم سعد سعدا

حز أمه وجدا

فقال : كل نائحة تكذب إلا أم سعد (١).

ودخل «صلى الله عليه وآله» على سعد ، وما في البيت أحد ، فجعل يتخطى ، فسئل عن ذلك ، فقال : ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه فجلست. ورسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول : هنيئا لك أبا عمرو ، هنيئا لك أبا عمرو (٢).

ثم غسل سعد ، وكفن (في ثلاثة أثواب) ، ورئي «صلى الله عليه وآله» يحمله بين عمودي سريره ، حين رفع من داره إلى أن خرج (٣).

__________________

(١) تاريخ الإسلام (المغازي) ج ٢ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ وراجع ص ٢٦٩.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٦ و ٥٢٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤.

(٣) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢.

٢١٦

وغسله الحارث بن أوس بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن وقش بحضرة رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

وصلى عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٢).

وكان سعد جسيما «من أعظم الناس وأطولهم» (٣).

وسألوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن سبب خفة جنازته مع أنه كان جسيما.

وقد ادّعى المنافقون : أنه خف لأنه حكم في بني قريظة ..

فقال «صلى الله عليه وآله» : كذبوا ولكنه خف لحمل الملائكة (٤).

قالوا : «ونزع رسول الله «صلى الله عليه وآله» رداءه ، ومشى في جنازته

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢ وراجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٧٨.

(٢) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٠ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠. والثقات ج ١ ص ٢٧٩.

(٣) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٩.

(٤) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٣ وإرشاد الساري ج ٦ ص ١٥٩ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٦ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ وج ١٧ ص ١٩٣ عن الترمذي ، وطبقات ابن سعد وفتح الباري ج ٧ ص ٩٤ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٩ وقال : إسناده جيد ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٩ عن ابن سعد ، والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٥ وراجع ص ٢٦٨ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٨.

٢١٧

بغير رداء» (١).

وزعموا : أنه «صلى الله عليه وآله» مشى أمام جنازته (٢).

لكن هذا يخالف ما هو الثابت من طريق أهل البيت «عليهم السلام» من كراهة المشي أمام الجنازة (٣). ودفن بالبقيع (٤).

وفي نص آخر : دفن إلى أس دار عقيل بن أبي طالب (٥).

وذكروا : أنهم وهم يحفرون قبره كان يفوح عليهم ريح المسك (٦).

ونزل في حفرته أربعة نفر : الحارث بن أوس ، وأسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن وقش ، وأبو نائلة ، مالك بن سلامة (٧) ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» واقف على قبره على قدميه (٨).

__________________

(١) إعلام الورى ص ٩٤.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٠ والثقات ج ١ ص ٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢

(٣) راجع : وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٤٩.

(٤) تاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٧٠.

(٥) تاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٨.

(٦) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٩ عن ابن سعد ، والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢٦٨ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٠ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨.

(٧) الثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢.

(٨) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٢.

٢١٨

وكان عمره حين استشهد سبعا وثلاثين سنة (١).

وقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وقد أهديت له من صاحب دومة الجندل بغلة وحلة سندس : لمناديل سعد في الجنة أحسن (ألين ، خير) من هذه (٢).

ضغطة القبر :

ويقولون : إنه لما وضع سعد في لحده تغير وجه رسول الله ، وسبح «صلى الله عليه وآله» وسبح معه المسلمون ثلاث مرات ، ثم كبر وكبروا ثلاث مرات ، حتى ارتج البقيع ، فسئل «صلى الله عليه وآله» عن ذلك ، فقال : تضايق على صاحبكم قبره ، وضمّ ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد ، ثم فرج الله عنه (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٠.

(٢) عيون الأثر ج ٢ ص ٧٦ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٢٠٠ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٥٠ و ١٥١ راجع : سيرة مغلطاي ص ٥٧ ومرآة الجنان ج ١ ص ١٠ والطبقات الكبير لابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٧٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٩ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٠ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٧١ السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٢٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٥٣ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٧ و ١٢٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٩ و ٣٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٥٠٠ والمواهب اللدنية ج ١

٢١٩

وعن عائشة : إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ (١).

وروي من طريق محمد بن المكندر قال : قبض إنسان قبضة من تراب قبر سعد ، فذهب بها ، ثم نظر إليها بعد ذلك ، فإذا هي مسك. فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : سبحان الله ، سبحان الله ، مرتين تعجبا من كون تراب قبره مسكا.

ثم قال : الحمد لله ، شكرا له على تفريجه عن سعد. لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد. ضم ضمة ، ثم فرج الله عنه (٢).

واستفادوا من ذلك : «أن فيه إثبات عذاب القبر وأنه حق يجب الإيمان به» (٣).

سبب ضمة القبر لسعد :

وأما عن سبب ضمة القبر لسعد ، فإنهم يقولون : إن النبي «صلى الله

__________________

ص ١١٨ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٨. وراجع : تاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٥.

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٣ وراجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٨ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٨ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦٩ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٤.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٢٠ عن ابن سعد ، وأبي نعيم.

(٣) شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٧.

٢٢٠