الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-184-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٣

الأحكام المستخرجة :

ويقولون : إن تحكيم سعد بن معاذ يشير إلى الأمور التالية :

١ ـ يدل على أن التعظيم بالقيام جائز لمن يستحق الإكرام ، كالعلماء والصلحاء (١)

قال النووي : «احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام. قال القاضي : وليس هذا من القيام المنهي عنه ، وإنما ذلك في من يقومون عليه وهو جالس ، ويمثلون قياما طول جلوسه.

قلت : القيام للقادم من أهل الفضل مستحب ، وقد جاء فيه أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء في جزء ، وأجبت فيه عما توهم النهي عنه» (٢).

٢ ـ وفي هذه القضية أيضا : جواز تحكيم الأفضل ممن هو مفضول (٣).

٣ ـ وجواز الاجتهاد مقابل النص ، قالوا : «وفيها جواز الاجتهاد في زمن النبي «صلى الله عليه وآله». وهي خلافية في أصول الفقه. والمختار الجواز ، سواء كان بحضور النبي «صلى الله عليه وآله» أم لا.

وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع. ولا يضر ذلك ، لأنه بالتقرير يصير قطعيا. وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته «صلى الله

__________________

(١) هامش صحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٠ وراجع : فتح الباري ج ١١ ص ٤١ و ٤٦ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ٩٣ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٤.

(٢) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ٩٣ وفتح الباري ج ١١ ص ٤١ و ٤٦.

(٣) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٧.

١٠١

عليه وآله» ، كما في هذه القصة الخ ..» (١).

ونقول : هذا الكلام لا يصح.

أولا : لأن حكم ناقضي العهد ، والمحاربين ، الذين لهم حالة بني قريظة ليس ظنيا ، بل هو قطعي ، يعرفه كل أحد. وكان سعد يعرفه ، كما كان معتب بن قشير ، وحاطب بن أمية ، والضحاك بن خليفة يعرفونه.

ولأجل ذلك : نجد هؤلاء الثلاثة قد صرحوا : بأن نهاية بني قريظة هي القتل بمجرد أن قال لهم سعد : إنه سوف يحكم فيهم بحكم الله ، ولن تأخذه في الله لومة لائم.

فالحكم الشرعي في هذه المسألة كان معروفا لدى الجميع ، وليس من قبيل الاجتهاد الظني ، كما يزعم هؤلاء.

ثانيا : لو سلمنا أن هذه المسألة إجتهادية ، فالإجتهاد إنما هو في تحديد موضوع الحكم المعلوم. لا في استنباط الحكم نفسه ، فهو من قبيل حكم السرقة المعلوم لكل أحد. لكن القاضي يبحث عن كون هذا السارق مستجمعا لشرائط قطع اليد في السرقة ، التي هي عشرة شرائط ، أم ليس مستجمعا لها.

مبررات الأوس لطلب العفو :

ومن يراجع المبررات التي استند إليها الأوس الذين طلبوا الرفق ببني قريظة ، يجدها ترتكز على أمور أنشأتها الروح القبلية ، وصنعتها وغذتها

__________________

(١) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١٧ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٧ إلى قوله : أم لا.

١٠٢

مفاهيم الجاهلية ، وتعاملت بها وعلى أساسها.

فهم يبررون طلبهم ذاك بالحلف الذي كان بين الأوس وقريظة ضد الآخرين ، وهو حلف لا يأبى الظلم والتعدي ، ويهدف إلى تسجيل النصر في كل من ظروف الدفاع والتعدي على حد سواء ، ولا يبتعد عن أجواء العنجهية والابتزاز ، والدعوة الجاهلية.

مع أن الأوس أنفسهم قد رأوا بأم أعينهم كيف نقض بنو قريظة عقدهم وعهدهم مع رسول الله «صلى الله عليه وآله». وكان ذلك في مواجهة سعد بن معاذ الأوسي نفسه قبل أيام. مع ما رافق ذلك من إهانات لسعد سيدهم ، وللنبي ، وللمسلمين. كما تقدم توضيحه في غزوة الخندق.

والغريب في الأمور : أنهم اعتبروا ندم قريظة على ما فرط منهم من نقض العهد كافيا لاستحقاقهم الإحسان إليهم ..

مع أن هذا الندم لم يأت من خلال قناعات نشأت عندهم بقبح ما فعلوه ، بل هو ندم نشأ عن خوف البوار والدمار ، وحين رأوا البأس.

أما حين كان ثمة أمل لديهم بأن تدور الدائرة على النبي والمسلمين ، وذلك حين كان الأحزاب يحاصرونهم ، فلم نجد لدى بني قريظة هذا الندم ، ولا لاحظنا أي تردد منهم في أمر إبادة المسلمين ، واستئصال شأفتهم ، وخضد شوكتهم.

تكريس المنطق القبلى مرفوض :

أما بالنسبة لقول الأوس ـ والمقصود هو بعضهم ـ لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، عن بني قريظة : يا رسول الله ، حلفاؤنا دون الخزرج ، فهو

١٠٣

يعطينا : أن قبول النبي «صلى الله عليه وآله» هذا المنطق منهم معناه : الإقرار منه «صلى الله عليه وآله» بالتعامل على أساس المنطق القبلي ، وتكريس حالة الانقسام فيما بين الحيين : الأوس ، والخزرج ، الذين لم يزل النبي «صلى الله عليه وآله» يعمل على إزالة الحساسيات من بينهم ، بل وصهرهم في بوتقة واحدة هي الإسلام. ثم إن ذلك معناه الفصل بين قضايا الدين ، وقضية القبيلة والفئة.

فالاستجابة لهم على أساس قبول منطق الأوس السابق يعتبر هدما لما بناه ، وتخليا عن الأسس التي لم يزل ينطلق منها لبناء المجتمع الإسلامي الناشئ.

وإذا كان سعد قد اعتبر المعترضين على حكمه مجموعة من المنافقين ، فكيف يمكن أن نتوقع من النبي أن يوافقهم على ما يريدون ، ويحقق لهم ما يشتهون؟

وقد أشار البعض أيضا : إلى هذه النقطة بالذات ، فقال : «يبدو أن الأوس الذين طلبوا التسامح مع بني قريظة اعتبروها غير وفية لمحمد ، وليس للأوس.

وهذا يعني : أن أنصار الشفقة كانوا يعتبرون أنفسهم قبل كل شيء أفراد الأوس وليس أفراد الأمة الإسلامية».

إلى أن قال : «لقد أدرك رجل بعيد النظر كسعد : أن السماح للعصبية القبلية بالتغلب على الولاء للإسلام يؤدي للعودة إلى الحروب الأخوية التي كانت تأمل المدينة بالتخلص منها بمجيء محمد» (١).

__________________

(١) محمد في المدينة ص ٣٢٨.

١٠٤

حراجة الموقف والحكمة النبوية :

ومن الأمور التي تؤيد سعدا في اتهامه للمعارضين لحكمه ـ بأنهم لا خير فيهم حتى ولو كانوا من الأوس ـ : أن هؤلاء الناس قد اتخذوا ابن أبي أمثولة لهم ، واعتبروا أن الحكم على بني قريظة بما يسوءهم لا يعدو أن يكون عملا شريرا وسيئا.

ومن الواضح : أن هذا يشير إلى أن المعارضين للحكم كانوا عددا يسيرا معلوم الحال ، لا يوجب اتهامهم بذلك أي خلل في كيان الأوس ، ولا في تماسكهم ، ولا يحط من قدر الأوسيين ، ولا يذهب شرف جهادهم وكفاحهم من أجل هذا الدين.

وقد كان يمكن لنشاط هؤلاء القلة القليلة أن يكون مؤثرا في إثارة جو من التشكيك والبلبلة لولا حكمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في معالجة الموقف ، حيث إنه «صلى الله عليه وآله» قد أحرجهم ، وتخلص من إلحاحهم ، وأبعد شبح الخلاف والاختلاف ، وأفقدهم إمكانية التأثير على السذج والبسطاء حين جعل الحكم إلى رجل أوسي ، وبالذات إلى سعد بن معاذ ، الرجل الحكيم والفذ ، والسيد المطاع فيهم.

وقد أكد «صلى الله عليه وآله» على سيادة سعد ، وعلى موقعه ومكانته حين قال لهم : قوموا إلى سيدكم.

هل كذبوا؟ أم فهموا خطأ؟!

ويلفت نظرنا هنا قولهم لسعد : إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم .. مع أن النبي لم يوله أمرهم لذلك ، وإنما ليحكم فيهم بالحق.

١٠٥

قومهم وعشيرتهم :

ويستوقفنا أيضا قول حاطب بن أمية ، حين أحس من سعد : أنه ينوي أن يحكم فيهم بحكم الله : ذهب قومي آخر الدهر.

وصاح الضحاك : وا قوماه.

فهم إذن يعتبرون هؤلاء اليهود قومهم وعشيرتهم.

ولعل ابن معاذ قد قصد هؤلاء بالذات ، حين قال عن الكارهين قتل بني قريظة : ما كرهه من الأوس من فيه خير.

لو كان الكلام أكثر دقة :

ويقول البعض : «لما رأى بنو قريظة جيش المسلمين خارت قواهم وأيقنوا بالهلاك فتبرموا مما ارتكبوه من الغدر ، وسألوا الرسول العفو ، فأبى ذلك عليهم ، وشدد الحصار عليهم خمسة وعشرين يوما حتى نزلوا على حكمه ، وسألوا حلفاءهم الأوس أن يتوسطوا في إطلاقهم الخ ..» (١).

ونقول :

قوله : إنهم سألوا الرسول العفو ، غير دقيق ، إذ إنهم قد أبوا في البداية أن ينزلوا على حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الأمر الذي يشير إلى تشكيكهم في عدالة حكمه ونزاهته. ثم إنه ليس للغادر المحارب أن يشترط لاستسلامه أي شرط كان. إلا أن باستطاعته أن يلتمس العفو وتخفيف العقوبة. أو يقدم المبررات لخيانته ولحربه ، إن كان يرى أنها تكفي للإقناع.

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ج ١ ص ١٢٠.

١٠٦

إذن .. فلم يسألوا الرسول «صلى الله عليه وآله» العفو ، فأبى ذلك عليهم ، كما يدّعي هذا الكاتب.

ومن جهة ثانية : فإن قوله أخيرا : إنهم نزلوا على حكمه «صلى الله عليه وآله» ليس دقيقا ، بل نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، ورفضوا النزول على حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الأمر الذي يستبطن إعلانا بعدم الثقة بحكمه بالعدل والحق.

فلو أن هذا الكاتب كان أكثر دقة لسلم كلامه من مغبة الإيحاء بأن الرسول إنسان قاس ، لا يعفو عن طالب العفو منه ، بل يصر على أن يقتله ، ويسبي النساء والأطفال ويصادر الأموال.

عدالة الحكم على بني قريظة :

ويبقى هنا سؤال : أليس هذا الحكم في حق بني قريظة قد جاء قاسيا وقويا إلى درجة ملفتة؟!

ألم يكن من المناسب أن يستفيد بنو قريظة من عفو الإسلام وصفح النبي الكريم ، كما استفاد إخوانهم بنو النضير ، وبنو قينقاع من قبل ؛ فيكتفي بإجلائهم ، وتقسيم أموالهم وأراضيهم؟!

وقد طلبوا هم أنفسهم أن يعاملهم «صلى الله عليه وآله» بنفس ما عامل به بني النضير من قبل ، فرفض طلبهم ، وأصر أن ينزلوا على حكمه.

لقد «انتقد بعض الكتاب الأوروبيين هذا الحكم ووصفوه بأنه وحشي ،

١٠٧

وغير إنساني» (١).

ونحن في مقام التوضيح نلمح إلى الأمور التالية :

أولا : إن بني قريظة أنفسهم قد رفضوا النزول على حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقبلوا بالنزول على حكم حليفهم سيد الأوس ، سعد بن معاذ ، الأمر الذي يشير إلى أنهم كانوا يسيئون الظن فيما يرتبط بحكم رسول الله عليهم ، ولا يثقون به.

أو فقل : لا يعتمدون على كرمه وحلمه وسماحته ، وإمكانية صفحه عنهم ، رغم أننا لا نستبعد صفحه «صلى الله عليه وآله» لو أنهم قبلوا بالنزول على حكمه.

ويرون أن سعد بن معاذ وهو من الأوس ـ حلفائهم في الجاهلية ـ أقرب إلى أن يعاملهم بالصفح والعفو والكرم. وذلك حسب منطقهم الجاهلي ، الجاهل بحقيقة الإسلام ، وبما أحدثه في عقلية الناس ونفوسهم من تغيرات.

ثانيا : إن جريمة بني قريظة تختلف في حجمها وفي خطورتها على الإسلام والمسلمين ولا تقاس بجريمة بني النضير وقينقاع.

فقد تحرك بنو قريظة في خط الخيانة ، وتوغلوا فيها إلى درجة أصبح معها أساس الإسلام في خطر أكيد ، وشديد ، لا سيما وأن ما بنوا عليه كل مواقفهم هو استئصال شأفة الإسلام وإبادة الوجود الإسلامي بصورة تامة وحاسمة. ولم يكن بنو النضير ولا بنو قينقاع قد توغلوا في أمر الخيانة إلى هذا الحد.

مع الإشارة إلى : أن هدف بني قريظة كان في مستوى الحسابات العملية

__________________

(١) محمد في المدينة ص ٣٢٧.

١٠٨

التي اعتمدوا عليها قريب المنال ، وقد خطوا خطوات عملية لإنجاز هذا المهم ، وللوصول إلى ذلك الهدف ، حتى على مستوى التحرك العسكري ، الذي يستهدف تمكين الأحزاب وهم معهم من اجتياح الوجود الإسلامي ، وسحقه ، وإبادة المسلمين ، خصوصا النبي وبني هاشم.

أما نقض بني النضير للعهد ، فقد بقي في حدود الإصرار على إظهار التمرد ، والغطرسة ، والطغيان. فلا يمكن أن تتساوى عقوبة بني قريظة مع عقوبة بني النضير ، وقد طلب القريظيون أن يعاملهم كبني النضير ، فرفض إلا أن ينزلوا على حكمه.

ثالثا : لا ريب في أن سكوت النبي على الغطرسة اليهودية ، ثم القبول بترميم العلاقات مع اليهود ولو جزئيا ، لا يبقي مصداقية للعهود والمواثيق ، لما يتركه نقضها من سلبيات خطيرة في هذا المجال ، حيث يضعف تأثيرها في ضبط الأمور ، وحفظ الكيان العام ، وسيزيد من الاعتماد على القوة المسلحة في حسم الأمور على مستوى العلاقات فيما بين القوى المتجاورة ، وتقل فرص التعايش السلمي بين الفئات المختلفة في داخل الدولة الواحدة ، وحتى على مستوى العلاقات بين الدول والقوى المختلفة.

أضف إلى ذلك : أن التساهل في مواجهة الأعمال الخيانية ، التي بهذا الحجم ، لسوف يسهّل على الآخرين خيانات قد تكون أشد خطرا ، وأعظم أثرا في التدمير ، على قاعدة : إن كان ثمة نجاح فهو غاية المنى ، وإن فشلت المحاولة ، فلن تكون النتيجة في غاية السوء ، وإن كانت سيئة إلى حد ما ، لكنها تسمح بانتظار فرص أكبر ، وحظ أوفر.

رابعا : إن حكم سعد بن معاذ قد جاء وفق ما يحكم به اليهود أنفسهم

١٠٩

على الآخرين ، في حالات هي أدنى من حيث المبررات الموضوعية من الحالة التي توغل فيها بنو قريظة.

فاليهود هم الذين كتبوا في توراتهم المحرفة عن المدينة التي يدخلونها عنوة : «وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء ، والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة ، كل غنيمتها ، فتغتنمها لنفسك. وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك» (١).

وثمة نصوص أخرى : أكثر عنفا وقسوة في هذا المجال فراجع هذا الكتاب (٢) فإنها تأمر بإحراق المدينة بكل ما فيها مع بهائمها ، وقتل جميع سكانها بحد السيف ، ثم إحراق المدينة بالنار فتكون تلا إلى الأبد (٣).

خامسا : ما الذي يضمن أن لا يعود بنو قريظة إلى نقض العهد ، وتسديد الضربة القاصمة والقاضية ، حين تسنح لهم الفرصة لذلك.

فإن ظروفا طارئة خارجة عن حدود اختيارهم أوجبت فشلهم في تنفيذ خطتهم الجريئة ، وذلك بسبب الخندق ، ثم ضربة علي «عليه السّلام» القاصمة لقيادة جيش الشرك ، ثم التدخل الإلهي ، بإرسال الريح والجنود.

بالإضافة إلى الخلافات التي نشأت بينهم وبين الأحزاب ، ثم ارتحال الأحزاب وغير ذلك من أمور تقدمت.

ولولا ذلك لتحققت أهدافهم الشريرة ، وكان الإسلام والمسلمون في خبر كان.

__________________

(١) سفر التثنية ، الإصحاح العشرون ، الفقرة رقم ١٣ و ١٤.

(٢) الجزء الرابع ص ٣١٧ الطبعة الرابعة ، وفي الجزء الخامس ص ٢٠٨ من هذه الطبعة.

(٣) وراجع أيضا سفر العدد. الإصلاح ٣١ الفقرة ٧ ـ ١٠ و ١٣ ـ ١٦.

١١٠

ولو كان «صلى الله عليه وآله» تركهم ، ثم عادوا إلى الخيانة ، فإن استئصالهم والحالة هذه قد يكون أصعب ، بل قد يصبح متعذرا ، بعد أن تلقى الناس صفحه عنهم في المرة الأولى بالقبول.

وقد يفهم الكثيرون : أنه قد جاء عن استحقاق منهم للعفو ، وأنه لا يحق له أن يتخذ في حقهم أي إجراء آخر.

والذي لا بد من الوقوف عنده هنا ، هو حكم سعد بن معاذ فيهم ، الذي جاء موافقا للحكم الشرعي الإلهي ، ومنسجما معه ، وذلك هو حكم العقل والفطرة ، والضمير الحي ، والوجدان الرضي. وقد ارتضوا هم أنفسهم بحكم سعد مسبقا ، بل هم الذين اختاروه للحكم.

سادسا : قال الدكتور إسرائيل ولفنسون : «وأما المنافقون فقد خفت صوتهم بعد يوم قريظة ، ولم نعد نسمع لهم أعمالا وأقوالا تناقض إرادة النبي وأصحابه ، كما يفهم ذلك من قبل» (١).

وبعد .. فهذه هي جريمة القيادات المنحرفة التي تدمر كل شيء ، ولا تشكر النعمة الإلهية على حد قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)(٢).

عهد قريظة مع الأوس وعهدهم مع النبي صلّى الله عليه وآله :

والغريب في الأمر : أن نجد بني قريظة يلجأون إلى سعد بن معاذ نفسه لينقذهم من ورطتهم ، وذلك استنادا إلى الحلف الذي كان بينهم وبين

__________________

(١) السيرة النبوية للندوي ص ٣٠٠ عن : اليهود في بلاد العرب ص ١٥٥.

(٢) الآيتان ٢٨ و ٢٩ من سورة إبراهيم.

١١١

الأوس. مع أنهم هم أنفسهم قد نقضوا حلفهم مع محمد «صلى الله عليه وآله» وأعلنوا بذلك صراحة لسعد بن معاذ نفسه ، وقالوا له : أكلت (كذا) (١) أبيك. فهذا النقض للحلف ، الذي جرهم لهذا المصير الأسود ، قد كان سعد الطرف الرئيس فيه ، وقد حاول معالجته لصالحهم ، فلم يفلح ، وأظهروا من الخبث ما جعله يعرفهم على حقيقتهم ، ويطمئن لما هم فيه من سوء نية ، وخبث طوية. وها هم اليوم يطالبون سعدا بترميم ما نقضوه من عهد استنادا إلى عهد آخر.

لكن الفرق بين العهدين كالنار على المنار ، وكالشمس في رابعة النهار ، وكان سعد مدركا لذلك بلا ريب ، فإن عهدهم مع الأوس قد فرضته ظروفهم الجاهلية ، التي لا تتبنى العدل وقضايا الإنسان والإنسانية أساسا لما تبرمه من عهود أو تقوم به من تحالفات.

أما عهدهم مع النبي والمسلمين ، فقد فرضته قضية الإنسان ، وضرورات الحياة الكريمة ، والفاضلة ، والحرص على إنسانية الإنسان ، وبهدف إسعاده ، وإبعاد الشرور والآفات عنه.

تحكيم ابن معاذ لطف إلهي :

ولا ننسى هنا : أن تحكيم سعد بن معاذ بالذات له دلالته الهامة ، فإن ذلك من التوفيقات والألطاف الإلهية بالمسلمين ، وذلك من أكثر من جهة.

١ ـ فمن جهة كان سعد رئيس الأوس ـ بل كان سيد الأوس

__________________

(١) كلمة فاحشة يقبح التصريح بها ، تراجع في المصادر.

١١٢

وغيرهم ، كما أشار إليه النبي «صلى الله عليه وآله» بقوله للصحابة : قوموا إلى سيدكم.

ونود أن نمعن النظر جيدا في تأكيد النبي على سيادة سعد هنا ، ثم أمره الصحابة بأن يقوموا لسيدهم.

وإذا حكم الرئيس ، فإن الجميع يرى حكمه ملزما ونافذا ، ويراه صادرا وفق مصلحة مرؤوسيه ، ومن خلال حسابات دقيقة ، وعن إشراف تام على مختلف الحيثيات التي ينبغي ملاحظتها في حكم خطير كهذا. فليس ثمة أية رعونة في اتخاذ القرار ، ولا يعاني القرار من جهل في الحيثيات الموضوعية والاجتماعية والسياسية التي لا بد من أخذها بنظر الاعتبار في إصدار أي حكم.

٢ ـ ومن جهة ثانية : فإن هذا الحكم من سعد كما أنه أحرق كل خيوط الأمل لبني قريظة ، فإنه أيضا قد أحرق قلوبهم ، لأنه جاء من أولئك الذين يرون أنهم يهتمون بالحفاظ على حياتهم أكثر من الآخرين.

وإذ بهم يهتمون بالقضاء عليهم ويصرون على ذلك فيحكمون عليهم بالموت ، ثم يشاركون ـ عملا ـ في تنفيذ ذلك الحكم الصادر.

فأي فجيعة لهم ، أكثر من تلك الفجيعة ، التي زادها ألما وضرما ، ما يرونه من رسوخ الدعوة المحمدية ، وعلو نجمها ، واشتداد شوكتها ، واتساع نفوذها يوما بعد يوم ، بل وساعة بعد ساعة.

قبول النبي صلّى الله عليه وآله بتحكيم سعد بن معاذ :

وأما فيما يرتبط بقبول النبي «صلى الله عليه وآله» بتحكيم سعد بن معاذ فقد تجلت فيه مرونة وانعطاف جديران بأن يبطلا كل المبررات التي

١١٣

قد يستفيد منها أولئك الأوسيون المتعاطفون مع حلفائهم ، لإثارة أجواء مسمومة حول صوابية القرار النبوي في حق بني قريظة ، أو تصويره على أنه قاس ، أو مجحف ، أو ما إلى ذلك. ثم هو يسقط الذرائع التي كانوا يتذرعون بها لممارسة ضغوط على النبي «صلى الله عليه وآله» لمنعه من تنفيذ حكم الله فيهم.

ثم هو قد ألجم بني قريظة أنفسهم ، ووضع حدا لمحاولاتهم تأليب الرأي العام ضد القرار النبوي ، والاستفادة من سذاجة بعض المسلمين ، ومن سوء سريرة البعض الآخر منهم ، خصوصا أولئك الذين اتهمهم ابن معاذ بعدم الإخلاص في نواياهم ، وحتى في دينهم.

١١٤

الفصل الخامس :

القتلى والشهداء

١١٥
١١٦

حكم سعد بن معاذ في طريقه إلى التنفيذ :

وقد تقدم قولهم : إن سعدا حكم على بني قريظة بقتل الرجال ، وسبي النساء ، وغنيمة الأموال.

لكن الظاهر أنه حكم عليهم : «أن يقتل كل من حزّب عليه ، وتغنم المواشي ، وتسبى النساء والذراري ، وتقسم الأموال.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (١).

فكلمة حزّب عليه ، أصبحت بعد تصحيفها وإضافة كلمة واحدة إليها للتوضيح هكذا : جرت عليه الموسى (٢).

ويؤيد : أنه «صلى الله عليه وآله» قتل من حزّب عليه ما سيأتي من الاختلاف الفاحش في عدد المقتولين.

ويصرح ابن شهرآشوب : أن عدد بني قريظة كان سبع مئة ، لكن المقتولين منهم كانوا أربع مئة وخمسين (٣).

__________________

(١) الوفا ص ٦٩٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١.

(٣) مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج ١ ص ٢٥٢.

١١٧

وهو المناسب أيضا لقوله تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)(١).

بداية النهاية :

قال القمي : أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأخدود ، فحفرت بالبقيع (٢).

وقال آخرون : إنه «صلى الله عليه وآله» حفر لهم خنادق في سوق المدينة ، فضرب أعناقهم فيها (٣).

وقالت بعض المصادر : «قتلوا عند دار أبي جهل (جهم) بالبلاط ، ولم

__________________

(١) الآية ٢٦ من سورة الأحزاب.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ١٩١ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وراجع : كشف الغمة ج ١ ص ٢٠٨ و ٢٠٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٦ وج ٤ ص ١٢٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٧٣ والإرشاد للمفيد ص ٦٤ و ٦٥ والبحار ج ٢٠ ص ٢٦٢ و ٢٦٣ ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج ١ ص ٢٥٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٢٤ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٧ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٩٢ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٧ و ٣٠٨ والإكتفاء ج ٢ ص ١٨٢ وتاريخ الإسلام (المغازي) ص ٢٦١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٣٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٢ و ٢٣ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٧ وراجع عن ضرب أعناقهم في الخنادق : تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ص ٣٢.

١١٨

تكن يومئذ بلاط ، فزعموا : أن دماءهم بلغت أحجار الزيت بالسوق» (١).

وعند الواقدي : «فأمر بخدود فخدت في السوق ، ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسوق» (٢).

وجلس «صلى الله عليه وآله» ومعه علية أصحابه ، ودعا برجال بني قريظة ، فكانوا يخرجون رسلا ، رسلا ، تضرب أعناقهم.

ثم يذكرون كيف أنهم كان يلوم بعضهم بعضا.

وكان اللذين يليان قتلهم علي والزبير (٣).

وفي بعض المصادر : أنهم كانوا يخرجونهم أرسالا. وحسب نص اليعقوبي : عشرة عشرة ، ويلي قتلهم علي والزبير ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» جالس هناك (٤).

وفي نص آخر : «تمادى القتل فيهم إلى الليل. فقتلوا على شعل السعف» (٥).

قال محمد بن كعب القرظي : قتلوا إلى أن غاب الشفق ، ثم رد عليهم

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٦٠.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥١٢ و ٥١٣ سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢.

(٣) راجع المصادر في الهوامش السابقة.

(٤) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٩٣ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٥. والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٥٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٤٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥١٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢.

(٥) راجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥١٧.

١١٩

التراب في الخندق (١).

و «عند قتلهم صاحت نساؤهم ، وشقت جيوبها ، ونشرت شعورها ، وضربت خدودها وملأت المدينة بالنوح والعويل» (٢).

ونقول :

إننا نشير هنا إلى الأمور التالية :

١ ـ قولهم : إنهم كانوا يخرجونهم أرسالا ، أو عشرة عشرة ، يقابله قول البعض : «فلما أمسى أمر بإخراج رجل رجل ، فكان يضرب عنقه» (٣).

ولا بد من ملاحظة التناقض بين قولهم : تمادى القتل فيهم إلى الليل ، فقتلوا على شعل السعف ، أو إلى أن غاب الشفق. وبين قولهم : فلما أمسى أمر بإخراجهم رجلا رجلا ليضرب أعناقهم.

ثم ملاحظة التناقض بين قولهم : إنهم قتلوا ورسول الله «صلى الله عليه وآله» جالس ، ومعه أصحابه ، وبين ما سيأتي من أن النبي قد حضر قتل أربعة منهم فقط.

٢ ـ وعن ذكر الزبير إلى جانب علي «عليه السّلام» ، وأن هذا كان يقتل عشرة ، وذاك عشرة.

نقول : إنه موضع شك وريب ، وذلك لما يلي :

أ : يقول نص آخر : «وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى موضع

__________________

(١) راجع : المصادر الثلاثة المتقدمة في الهامش السابق.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٧ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤٠.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ١٩١ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣٦.

١٢٠