الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

لم يكن أحد فالمعن بالسيف» (١).

ز : حراسة العسكر ورصد العدو : أما بالنسبة لحراسة العسكر ورصد تحركات العدو ، فإن القمي يقول : «كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل ، وكان أمير المؤمنين «عليه السلام» على العسكر كله بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم ، وكان أمير المؤمنين «عليه السلام» يجوز الخندق ، ويصير إلى قرب قريش ، حيث يراهم ، فلا يزال الليل كله ، قائما وحده يصلي ، فإذا أصبح رجع إلى مركزه.

ومسجد أمير المؤمنين «عليه السلام» هناك معروف ، يأتيه من يعرفه ، فيصلى فيه ، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة (٢)» (٣).

وقفات مع ما تقدم :

ونقول :

إن الحذر من العدو ، وسد المنافذ في وجهه ، وحرمانه من فرصة تسديد ضربة هنا وضربة هناك ، بهدف إرباك صفوف الجيش الإسلامي ، أو إحداث ثغرات خطيرة فيه ، وهو الذي كان بأمس الحاجة إلى التماسك والتقوي ببعضه البعض ـ إن ذاك ـ هو أولى مهمات القيادة الحكيمة والواعية ، التي تريد أن تصل إلى أهدافها بأقل قدر ممكن من الخسائر ، وأعلى درجة من الانضباطية والانسجام.

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠١ عن الطبراني ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٩.

(٢) غلوة نشابة : مقدار رمية سهم.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣٠ عنه.

٦١

ومن الواضح : أن الأساليب الأمنية التي كان النبي «صلى الله عليه وآله» ينتهجها كانت ولا تزال كسائر أفعاله ، وأقواله ، ومواقفه مصدر إلهام لكل المؤمنين والواعين ، الذين رأوا في هذا النبي الكريم أسوة وقدوة لهم. في كل الحالات والظروف.

وقد تمثل النشاط الأمني للمسلمين في غزوة الأحزاب ـ بعد إيجاد الموانع الطبيعية ، التي يصعب على العدو اختراقها مثل حفر الخندق ، وتشبيك سائر المنافذ بالبنيان ـ في الأمور التالية :

١ ـ جعل الحرس على أبواب الخندق ، بطريقة يصعب على العدو إيجاد مواضع نفوذ فيها ، حين جعل الحرس من فئات شتى ، ومتنافسة يرقب بعضهم بعضا ، حيث اختار من كل قبيلة رجلا لهذه المهمة ، كما تقدم بيانه.

٢ ـ إن من الواضح : أن جعل الحرس في نقاط ثابتة ربما يهيئ للعدو فرصة للتخطيط للنفوذ إلى الداخل ، بطريقة يتحاشى معها الصدام بنقاط الحراسة ، أو حتى إمكانية التفاتها إلى حقيقة ما يجري فكانت الطريقة الأفضل والأمثل هي أن تنضم إليها دوريات للحراسة غير خاضعة لقيد الزمان ولا المكان. الأمر الذي يضيع على العدو الإحساس بالأمن والنجاح والفلاح في أية محاولة يبادر إليها ، ويقدم عليها. فكان «صلى الله عليه وآله» يبعث بالحرس على المدينة خوفا من بني قريظة ، وكانوا يتجولون فيها ، ويظهرون فيها التكبير.

٣ ـ بديهي أن التعرض للنساء يمثل ضربة روحية قاسية للمسلمين والمقاتلين ، الذي قد يصل إلى درجة الإحباط لدى البعض ، ويدفع البعض الآخر إلى التحرك بصورة غير واعية ، ولا مسؤولة ، الأمر الذي يؤثر على درجة

٦٢

الانضباط والتماسك. والنبي «صلى الله عليه وآله» يعرف : أن العدو لن يتأخر عن تسديد ضربة في هذا الاتجاه لو سنحت له الفرصة ، ويعتبر ذلك من الأهداف الإستراتيجية والهامة له. فكان تجميع النساء والأطفال في الآطام من شأنه أن يسهل أمر حمايتهم من أي اعتداء ، مع كونه يهيئ للمسلمين جوا من الطمأنينة وتمركزا في مواضع الاهتمام والتحرك لو دهم أمر.

كما أنه لا بد من الاحتياط للأمر ، وعدم الاكتفاء بالحراسة الثابتة والمتنقلة ، فوضع فيما بينه وبين النساء رمزا يمكن الاستفادة منه لإفشال أية محاولة تستهدفهن وحين يرين أن الحالة الأمنية غير مؤايتة ، مع عدم وجود أحد يمكن الاعتماد عليه في المواجهة ودفع غائلة العدو.

قال «صلى الله عليه وآله» لهن : «إن لم يكن أحد فالمعن بالسيف».

ويلاحظ هنا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد اعتمد هذا الأسلوب ، ولم يطلب منهن الصراخ والاستغاثة ونحوها مما يمثل إثارة عاطفية للمقاتلين والمسلمين ، وقد ينشأ عنها حالة من التضعضع والإرباك وانشغال الخواطر إلى درجة الإخلال بالنشاط الحربي المطلوب ، في مواجهة أحزاب الشرك في الجهة الأخرى.

٤ ـ وغني عن القول أخيرا : أن بني واقف كانوا يخطئون في ترددهم إلى أهليهم بأنصاف النهار بلا سلاح ، وقد يطمع ذلك العدو فيهم ، وقد يفاجئهم العدو وهم على غير استعداد فتقع الكارثة.

أضف إلى ذلك : أنه لا بد من الابتعاد عن النساء والأطفال في أيام الحرب ، لأن ذلك يثبط من عزائم المقاتلين ويشدهم إلى الأرض ويمنعهم من السمو في تفكيرهم وفي طموحاتهم وتصبح التضحيات واقتحام الأهوال ، والصبر على

٦٣

المكاره أكثر صعوبة عليهم ، وأشد وقعا على نفوسهم ، ويهيئهم نفسيا للابتعاد عن مواطن الخطر ، أو التعب والضرر ، ولو كان ذلك بتوطين أنفسهم على مواجهة عار الهزيمة ، وخزي عصيان أمر النبي «صلى الله عليه وآله».

٥ ـ ونلمح في النص المتقدم إصرارا من بني واقف على زيارة نسائهم وعوائلهم في الأطم الذي كانوا فيه رغم نهي النبي «صلى الله عليه وآله» لهم وربما يكون أمر النبي «صلى الله عليه وآله» لهم بحمل السلاح يرمي إلى الإيحاء غير المباشر لهم بأجواء الحرب ، والاحتفاظ بدرجة من الاستعداد الروحي والنفسي لها ، بالإضافة إلى أن ذلك هو مقتضى العمل بالحيطة والحذر ، وهما الأمران المطلوبان في ظروف كهذه بصورة أكيدة وقاطعة ، ولا أقل من أن ذلك يفيد في نطاق التعليم والتأسي لكل من يأتي بعده «صلى الله عليه وآله».

٦ ـ والأهم من ذلك هو حراسة العسكر ، الذي كان يتولاه علي «عليه السلام» ، هذا العسكر الذي كان بأمس الحاجة إلى بعض الشعور بالامن والراحة في هذه الأجواء المثقلة بالهموم والشدائد ، والمشحونة بالخوف الذي يصل لدى الكثيرين إلى حد الرعب. حتى لقد بلغت القلوب الحناجر ، وظنوا بالله الظنون الباطلة والسيئة.

ولقد كانت أدنى حركة في أي موضع في أطراف ذلك العسكر كفيلة بإحداث إرباك خطير في ذلك العسكر كله.

فكانت هذه الحراسة ضرورية لهذا الجيش ، الذي يطمئن إلى أنه لن يؤخذ والحال هذه على حين غرة ، بل هناك من يبصر له وينذره في الوقت المناسب.

٧ ـ وكان لا بد من رصد جيش الأعداء أيضا ، لأن حراسة المعسكر ،

٦٤

وإن كانت تعطي قدرة إلى حد ما على التصدي ، إلا أن معرفة تحركات العدو ، وحجمها ، واتجاهها في وقت مبكر يعطي هو الآخر ، فرصة أكبر من مواجهته بالأساليب وبالمستوى الملائم ، ويمنع من العجلة والتشويش في اتخاذ الإجراءات المؤثرة في دفع غائلة هذا العدو.

وكان علي «عليه السلام» ، يقوم بدور الراصد لكل تحركات الأعداء ، وكان هو العين الساهرة في المواقع المتقدمة في خط المواجهة ، التي لم يكن يجرؤ عليها أحد سواه ، كما ظهر من تجربة المسلمين مع عمرو بن عبدود.

٨ ـ وبعد ، فرغم أن الله قد وفق لبقاء المسجد الذي يشهد لجهاد وتضحيات علي «عليه السلام» ، وكان هذا المسجد معروفا ، ويقصده المؤمنون للصلاة فيه ، فإننا لا نكاد نجد لعلي «عليه السلام» ذكرا في هذا المجال.

ولا ندري إن كان هذا المسجد قد استطاع أن يصمد طويلا أمام حقد الحاقدين على كل ما يمت لعلي وأهل بيته «عليهم السلام» بصلة ، حتى انتهى ميراث هذا التجلي الوقح والغبي إلى من يطلق عليهم اسم : الوهابيين الذين لا تزال تظهر في كلماتهم وفي أفعالهم بوادر كثيرة تدل على حقد وكراهية وامتهان ، ليس فقط لقدسية علي وأهل البيت «عليهم السلام» ، بل وحتى لمقام النبوة الأقدس بالذات.

وقد أسلفنا بعضا مما يشير إلى ذلك : في الجزء الأول من هذا الكتاب ، ولا بأس بمراجعة الجزء الثالث من كتابنا : «دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام» ، وبحث : «إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم».

٦٥

فضائل موهومة لسعد ولعائشة :

رووا عن عائشة ما ملخصه : أنه كان في الخندق موضع لم يحسنوا ضبطه ، إذ أعجلهم الحال ، وكان «صلى الله عليه وآله» يختلف إليه ويحرسه بنفسه ، خوفا من عبور المشركين منه.

ورجع مرة من الخندق ، وكانت تدفئه عائشة في حضنها ، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة.

قالت : فبينا رسول الله في حضني قد دفئ ، وهو يقول : ليت رجلا صالحا يحرس الليلة هذا الموضع (أو قال : يحرسني ، أو : يحرس هذه الثلمة الليلة) ، إذ سمع قعقعة السلاح ، فقال : من هذا؟!

قال : سعد بن أبي وقاص.

فأمره أن يحرس هذا الموضع : فذهب سعد يحرسه ، فنام النبي «صلى الله عليه وآله» حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ (١).

ونقول :

إننا نشك في صحة هذه القصة ، ونعتقد أن المقصود بها هو تسجيل فضيلة لسعد ، ولعائشة على حد سواء ، وسبب شكنا هو ما يلي :

أولا : إذا كان في الخندق موضع لم يحسنوا ضبطه ، فلماذا لا يبادرون إلى ضبطه ، وما المبرر لأن يترك ليكون مصدر خوف للمسلمين من عبور

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤ و ٤٨٥. وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٦٦

المشركين منه؟!

مع أن سلمان حين رأى مكانا يمكن أن تطفره الخيل ، قال لأسيد بن حضير ، بعد أن ردوا عمرو بن العاص الذي كان في حوالي مئة رجل يريدون العبور من ذلك الموضع ، قال سلمان لأسيد : «إن هذا مكان من الخندق متقارب ، ونحن نخاف تطفره خيلهم ، وكان الناس عجلوا في حفره ، وبادروا فباتوا يوسعونه ، حتى صار كهيئة الخندق ، وأمنوا أن تطفره خيلهم» (١).

فلماذا يبادر سلمان للأمر بإصلاح ذلك الموضع ، فيتم ما أراده في ليلة ، ولا يبادر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى مثل ذلك؟!.

ثانيا : لماذا يتمنى «صلى الله عليه وآله» : «أن يأتي رجل صالح ليحرس ذلك الموضع في تلك الليلة»؟ ألم يكن بإمكانه أن يأمر جماعته بحراسة ذلك الموضع؟! والناس كلهم تحت أمره ، ورهن إشارته؟!.

ثالثا : حين كان يرجع إلى عائشة لتدفئه في حضنها!! من الذي كان يحرس تلك الثلمة؟! فلو أن العدو استطاع أن يتسلل منها في ذلك الوقت ألم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي فرّط في هذا الأمر ، وتسبب به؟!.

ولا نريد أن نسجل تحفظنا على دعوى : أن عائشة كانت تدفئ النبي «صلى الله عليه وآله» في حضنها!!.

ولا على حديث : أنه «صلى الله عليه وآله» نام حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ!!

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠.

٦٧

نساء النبي صلى الله عليه وآله في غزوة الخندق :

يقول البعض : «كان النبي يعقب بين نسائه ، فتكون عائشة أياما ، ثم تكون أم سلمة ، ثم تكون زينب بنت جحش. فكان هؤلاء الثلاث اللاتي يعقب بينهن في الخندق. وسائر نسائه في أطم بني حارثة ، ويقال : كن في «المسير» (النسر) أطم في بني زريق ، وكان حصنا ، ويقال : كان بعضهن في فارع ، وكل هذا قد سمعنا» (١).

ونقول :

إننا نشك في صحة ذلك :

أولا : لقد صرحت أم سلمة بقولها : «كنت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الخندق فلم أفارق مقامه كله ، وكان يحرس الخ ..» (٢).

ثانيا : لا يمكننا أن نقبل بأن يصدر من النبي «صلى الله عليه وآله» ترجيح وميل لبعض زوجاته على حساب البعض الآخر ، إذ لماذا يعقب بين خصوص هؤلاء : دون سائر زوجاته ، ولم نسمع أن إحداهن تنازلت عن حقها لرفيقاتها في غزوة الخندق ، وإن كان ذلك محتملا في حد ذاته.

والذي نظنه : أنه لو صح حديث ذلك البعض ، فالسبب في ذلك هو أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن عنده سوى هؤلاء الثلاث ، بالإضافة إلى سودة بنت زمعة ، التي كانت مسنة ، وكانت قد وهبت ليلتها إلى عائشة. فلا بد من

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٤ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٨ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٤.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٤.

٦٨

مراجعة تاريخ زواجه «صلى الله عليه وآله» بزوجاته.

ونظن أن النتيجة ستكون هي ما ذكرناه ، فمن أراد التوسع فعليه أن يقوم بذلك.

المواجهة بين الفريقين :

«وأمر رسول الله صلوات الله عليه وآله المسلمين بالثبات في مكانهم ، ولزوم خندقهم ... ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ، فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم ، وخيلهم ، ورجلهم ، ويدعون المسلمين : ألا هلم للقتال والمبارزة.

فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ، ولا يرد عليهم فيه شيئا. ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله «صلوات الله عليه وآله» ، قد عسكروا في الخندق ، وأظهروا العدة ، ولبسوا السلاح ، ووقفوا في مواقفهم. وتهيّب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم. فلما طال ذلك ، ونفذت أكثر أزوادهم ، اجتمعوا الخ ... (١).

ثم يذكر ما جرى لعمرو بن عبدود.

القتال بين المسلمين والمشركين :

تقول النصوص التاريخية :

«وصار المشركون يتناوبون ، فيغدو أبو سفيان في أصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عمرو بن العاص يوما ، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ، ويغدو ضرار بن الخطاب

__________________

(١) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٢ ملخصا.

٦٩

يوما ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويفترقون مرة ، ويجتمعون أخرى ، ويناوشون أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، أي يقربون منهم ، ويقدمون رجالهم فيرمون.

ومكثوا على ذلك المدة المتقدمة ، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصا» (١).

وذكر البعض : أن ذلك كان في أكثر الأيام (٢).

«وكان المشركون يتناوبون الحرب ، لكن الله تعالى لم يمكنهم من عبور الخندق ، فإن شجعان الصحابة كانوا يمنعونهم بالنبال والأحجار» (٣).

واستمر الأمر على ذلك «حتى عظم البلاء ، وخاف الناس خوفا شديدا» (٤).

لكن البعض يذكر : أن الحرب كانت «ثلاثة أيام بالرمي بغير مجالدة

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥. وراجع : نهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧١ و ١٧٢ وراجع المصادر التالية : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠ و ٢٣١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ و ٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٠ والمغاري للواقدي ج ٢ ص ٤٦٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٨.

والفقرة الأخيرة موجودة أيضا في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٦ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٠ والإرشاد للشيخ المفيد ص ٥١ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٠ والسيرة النبوية لابن كثيرة ج ٣ ص ٢٠٠ و ٢٠١ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠١ و ٣٠٧ عن ابن إسحاق.

(٢) حبيب السير ج ١ ص ٣٦٣.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤.

(٤) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٨.

٧٠

ولا مبارزة» (١) سوى ما كان من قتل الفرسان الذين عبروا الخندق.

وكان أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق ، فراماهم المسلمون حتى رجعوا (٢).

وفي مرة أخرى : كان عمرو بن العاص في نحو الماءة يريدون العبور من الخندق من مكان تطفره الخيل ، فراماهم أسيد بن حضير ، ومن معه من الحرس بالنبل والحجارة حتى ولوا.

وكان مع المسلمين في تلك الليلة سلمان ، فقال لأسيد : إن هذا مكان من الخندق متقارب ، ونحن نخاف تطفره خيلهم. وكان الناس عجلوا في حفره ، وبادروا فباتوا يوسعونه ، حتى صار كهيئة الخندق ، وأمنوا أن تطفره خيلهم (٣).

«وكان عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد كثيرا ما يطلبان غرّة ومضيقا ، من الخندق يقتحمانه ، فكان للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي» (٤).

وقال ضرار بن الخطاب :

نراوحهم ونغدو كل يوم

عليهم في السلاح مدججينا (٥)

__________________

(١) راجع : مرآة الجنان ج ١ ص ١٠ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٢ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٦ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٢ وراجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠.

(٢) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠.

(٣) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠.

(٤) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٥ السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨.

(٥) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٦.

٧١

«ثم إن خالد بن الوليد كرّ بطائفة من المشركين يطلب غرّة للمسلمين ، أي غفلتهم ، فصادف أسيد بن حضير على الخندق في ماءتين من المسلمين ، فناوشوهم ، أي تقاربوا منهم ساعة ، وكان في أولئك المشركين وحشي ، قاتل حمزة رضي الله عنه ، فزرق (١) الطفيل بن النعمان ، فقتله.

ثم بعد ذلك صاروا يرسلون الطلائع بالليل ، يطمعون في الغارة ، أي في الإغارة ، فأقام المسلمون في شدة من الخوف» (٢).

لكن صاحب تجارب الأمم يقول : تفرق ذلك الجمع من غير قتال إلا ما كان من عدة يسيرة اتفقوا على الهجوم على الخندق ، يحكى : أن فيهم عمرو بن عبدود فقتلوا (٣).

إلا أن يكون المراد : أنه لم يكن قتال بالسيوف والرماح ، أما الرمي بالنبل والحصا فليس محط نظره.

ملاحظة :

وقبل أن نمضي في الحديث : نلفت نظر القارئ إلى هذا الاهتمام الظاهر بإبراز دور أسيد بن حضير ، الذي قلنا : إن السياسة كانت تهتم بشأنه ، وتعمل على تكريس وتكديس الفضائل له ، مكافأة له على هجومه على بيت فاطمة «عليها السلام» ، وقيامه بدور فاعل في تشييد خلافة قريبه أبي بكر.

__________________

(١) زرق فلانا : رماي بالمزراق ، أي الرمح القصير.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣.

(٣) تجارب الأمم ج ٢ ص ١٥٣.

٧٢

كلام العلامة الحسني رحمه الله :

وذكر العلامة الحسني : أن المشركين ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة المسلمين ، فأتت كتيبة أبي الأعور السلمي من فوق الوادي ، وكتيبة عيينة بن حصن من الجنب ، ووقف أبو سفيان ومن معه في الناحية الثانية من الخندق (١).

لكننا قدمنا في فصل : الأحزاب إلى المدينة : أن أبا الأعور لم يكن له أي دور في الخندق ، وأن أباه هو الذي شارك فيها.

روايات مشبوهة :

عن محمد بن مسلمة قال : كنا حول قبة رسول الله «صلى الله عليه وآله» نحرسه ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» نائم نسمع غطيطه إذ وافت أفراس على سلع ، فبصر بهم عباد بن بشر ، فأخبرنا بهم.

قال : فامض إلى الخيل.

وقام عباد على باب قبة النبي «صلى الله عليه وآله» آخذا بقائم السيف ينظرني ، فرجعت فقلت : خيل المسلمين أشرفت عليها سلمة بن أسلم بن حريش ، فرجعت إلى موضعنا.

ثم يقول محمد بن مسلمة : كان ليلنا بالخندق نهارا حتى فرجه الله (٢).

وعن محمد بن مسلمة : أن خالد بن الوليد تلك الليلة أقبل في مئة فارس ، من جهة العقيق حتى وقفوا بالمذاد وجاه قبة النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) سيرة المصطفى ص ٤٩٩.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٨.

٧٣

وآله» فنذرت بالقوم ، فقلت لعباد بن بشر ـ وكان على حرس قبة النبي «صلى الله عليه وآله» وكان قائما يصلي ـ أتيت ، فركع ، ثم سجد ، وأقبل خالد في ثلاثة نفر هو رابعهم ، فأسمعهم يقولون : هذه قبة محمد ، إرموا.

فرموا ، فناهضناهم حتى وقفنا على شفير الخندق ، وهم بشفير الخندق من الجانب الآخر.

فترامينا ، وثاب إلينا أصحابنا ، وثاب إليهم أصحابهم ، وكثرت الجراحة بيننا وبينهم.

ثم اتبعوا الخندق على حافتيه وتبعناهم ، والمسلمون على محارسهم ، فكلما نمر بمحرس نهض معنا طائفة ، وثبت طائفة ، حتى انتهينا إلى راتج ، فوقفوا وقفة طويلة ، وهم ينتطرون قريظة ، يريدون أن يغيروا على بيضة المدينة ، فما شعرنا إلا بخيل سلمة بن أسلم يحرس ، قد أتت من خلف راتج.

فلاقوا خالدا ، فاقتتلوا واختلطوا ، فما كان إلا حلب شاة حتى نظرت إلى خيل خالد مولية. وتبعه سلمة بن أسلم حتى رده من حيث جاء.

فأصبح خالد ، وقريش ، وغطفان ، تزري عليه وتقول : ما صنعت شيئا فيمن في الخندق ، ولا فيمن أصحر لك.

فقال خالد : أنا أقعد الليلة ، وابعثوا خيلا حتى أنظر أي شيء تصنع» (١).

ونقول :

إن هذه الرواية موضع ريب وشك ، لأن إصحار سلمة بن أسلم ومن معه لخالد ومن معه واختلاطهم بهم يصعب تصديقه ، لأن عبور سلمة وأصحابه

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٦.

٧٤

إلى الجانب الآخر من الخندق أو مجيئهم من خلف راتج ، من طرف الخندق ، إلى جهة المشركين ينطوي على مخاطرة كبرى لما فيه من تعريض أنفسهم للإبادة الحتمية على يد ألوف المقاتلين من المشركين الذين كانت تعج بهم المنطقة.

ويلفت نظرنا هنا : أن الرواية لم تشر إلى مبادرة خالد لمطاولة هذه الجماعة القليلة ، ثم طلب المدد من الجيش الذي هو أحد قواده. وقد كان عليه أن ينتهزها فرصة ذهبية نادرة ليلحق بالمسلمين نكبة هائلة ومروعة.

ثم إن تلك الرواية قد تحدثت : عن أن خالدا كان في مئة فارس ، ولكنه حين أراد أن يرمي قبة النبي «صلى الله عليه وآله» كان في ثلاثة نفر هو رابعهم.

وحين ترامى خالد وأصحابه ، ومحمد بن مسلمة وأصحابه أين كان عنه أصحابه ، حتى يقول الراوي ـ وهو محمد بن مسلمة ـ وثاب إلينا أصحابنا ، وثاب إليهم أصحابهم؟!

وما معنى قوله : ثم اتبعوا الخندق على حافتيه وتبعناهم. فهل كان خالد وأصحابه على حافتي الخندق؟! الأمر الذي يعني أن خالدا ومن معه قد عبروا الخندق إلى جهة المسلمين ، أو العكس.

ثم إننا لا ندري مدى صحة هذه الرواية التي لم يروها لنا إلا محمد بن مسلمة ، الرجل الذي كانت تهتم السلطة في إعطائه الأدوار الحساسة ، لأنه كان من أعوانها.

ولكن الغريب في الأمر : أننا نجد المؤرخين لم يعيروا هذه الرواية أي اهتمام رغم أهمية وحساسية المعلومات التي تدّعيها فيما يرتبط بحرب الخندق.

٧٥

دعوى قتل طليعة للنبي صلى الله عليه وآله :

وعن مالك بن وهب الخزاعي : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعث سليطا وسفيان بن عوف الأسلمي طليعة يوم الأحزاب ، فخرجا حتى إذا كانا بالبيداء التفت عليهما خيل لأبي سفيان ، فقاتلا حتى قتلا ، فأتي بهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فدفنا في قبر واحد. فهما الشهيدان القرينان (١).

ونحن نشك في صحة ذلك ، لما يلي :

أولا : بالنسبة لسنده ، قال البزار : «لا نعلم روى مالك إلا هذه» (٢).

وقال : الهيثمي : «فيه جماعة لم أعرفهم» ، وقريب من ذلك عند العسقلاني (٣).

وثانيا : إن من الواضح : أن سفيان بن عوف الأسلمي وهو الغامدي ، هو الذي كان يغير على أطراف علي «عليه السلام» ، ويرتكب الجرائم ، ويهتك الحرمات ، وقد ذكره أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله : «وإن أخا غامد الخ ..» وكان من قواد معاوية الأساسيين ، وكان يعظمه. وقد مات سنة اثنتين أو ثلاث ، أو أربع وخمسين (٤).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٤ وكشف الاستار عن مسند البزار ج ٢ ص ٣٣٢ و ٣٣٣ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٣٥ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٩٧ عن أبي نعيم وأبي موسى والإصابة ج ٣ ص ٣٥٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥ وراجع : الرسول العربي وفن الحرب ص ٢٤٥.

(٢) كشف الأستار عن مسند البزار ج ٢ ص ٣٣٣.

(٣) مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٣٥ والإصابة ج ٣ ص ٣٥٨.

(٤) راجع : الإصابة ج ٢ ص ٥٦ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٨٣ ـ ١٨٥ وغير ذلك من كتب التراجم.

٧٦

ولنا أن نحتمل : أن تكون دعوى صحابية سفيان هذا قد جاءت لأجل إعطائه بعض المصونية والشأن الرفيع ، حفاظا على سيده معاوية من جهة ، وإضعافا لموقف علي «عليه السلام» من جهة ثانية ، وتبريرا لمواقفه المخزية ، وجرائمه الخطيرة التي ارتكبها بحق المسلمين الذين أغار عليهم وقتلهم ، وهتك حرماتهم من جهة ثالثة.

حديث أم سلمة :

عن أم سلمة قالت : كنت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الخندق ، فلم أفارقه مقامه كله ، وكان يحرس بنفسه في الخندق ، وكنا في قرّ شديد. فإني لأنظر إليه قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته ، ثم خرج فنظر ساعة ، ثم قال : هذه خيل المشركين تطيف بالخندق ، من لهم؟.

ثم نادى : يا عباد بن بشر!

قال : لبيك.

قال : أمعك أحد؟.

قال : نعم ، أنا في نفر من أصحابي حول قبتك.

قال : فانطلق في أصحابك ، فأطف بالخندق ، فهذه خيل المشركين تطيف بكم ، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة ، اللهم ادفع عنا شرهم ، وانصرنا عليهم ، واغلبهم ، لا يغلبهم غيرك.

فخرج عبّاد في أصحابه ، فإذا هو بأبي سفيان في خيل المشركين يطيفون بمضيق الخندق ، فرماهم المسلمون بالحجارة والنبل ، فرجعوا منهزمين.

ثم جاء عبّاد إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فوجده يصلي ، فأخبره ،

٧٧

قالت أم سلمة : فنام حتى سمعت غطيطه (١).

ويستوقفنا في هذا الحديث :

١ ـ قول أم سلمة أنها كانت مع رسول الله في غزوة الخندق. وأنها لم تفارقه فيها أصلا. وهذا يكذّب ما يقوله البعض : من أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعقب بينها وبين عائشة وزينب بنت جحش.

٢ ـ عبارة أم سلمة : فنام حتى سمعت غطيطه. لا ندري مدى صحة حصول الغطيط منه «صلى الله عليه وآله» ، ونحن نتوقع منه خلاف ذلك.

فإن الغطيظ من المنفرات التي يتنزه عنها النبي «صلى الله عليه وآله».

٣ ـ قولها : وكنا في قرّ شديد. قد تقدم في الفصل الأول ما يوجب الشك في هذا الأمر.

٤ ـ لا ندري كيف لم يلتفت عبّاد بن بشر ومن معه إلى خيل المشركين وهي تطيف بالخندق ، وكيف رآها النبي «صلى الله عليه وآله» دونهم؟ فهل علم «صلى الله عليه وآله» ذلك عن طريق الوحي؟! إن ظاهر الرواية : هو أنه «صلى الله عليه وآله» علم ذلك بواسطة عينه الباصرة.

٥ ـ أين كان سائر المسلمين عن حراسة خندقهم ، ألم يكونوا يتناوبون عليه يحرسونه ، ويطوفون به؟ لكن ذلك لا يعني أن تكون الرواية كاذبة من أساسها ، فلعل النبي «صلى الله عليه وآله» قد نبه المسلمين لمحاولة تسلل من المشركين لم يكونوا قد التفتوا إليها ، لا نشغالهم بحديث فيما بينهم.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٤. ولا بأس بمراجعة : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٩ و ٥٣٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٧٨

حديث آخر ينسب لأم سلمة :

عن أم سلمة قالت : والله ، إني لفي جوف الليل في قبة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهو نائم إلى أن سمعت الهيعة (١) ، وقائل يقول : يا خيل الله (وكان رسول الله قد جعل شعار المهاجرين : يا خيل الله) ففزع «صلى الله عليه وآله» بصوته ، وخرج من القبة ، فإذا نفر من الصحابة عند قبته يحرسونها منهم عباد بن بشر ، فقال «صلى الله عليه وآله» : ما بال الناس؟

قال عباد : يا رسول الله هذا صوت عمر بن الخطاب ، الليلة نوبته ، ينادي : يا خيل الله ، والناس يثوبون إليه ، وهو من ناحية حسيكة ، ما بين ذباب ومسجد الفتح.

فأمر «صلى الله عليه وآله» عبادا أن يأتيه بالخبر ، فذهب ثم رجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فقال : يا رسول الله ، هذا عمرو بن عبد في خيل المشركين ، معه مسعود بن رخيلة في خيل غطفان ، والمسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة.

قالت : فدخل «صلى الله عليه وآله» فلبس درعه ومغفره وركب فرسه ، وخرج معه أصحابه ، حتى أتى تلك الثغرة ، فلم يلبث أن رجع وهو مسرور ، فقال : صرفهم الله ، وقد كثرت فيهم الجراحة.

ثم دخل «صلى الله عليه وآله» فنام ، فسمعوا هائعة أخرى ، فانتبه «صلى الله عليه وآله» فأخبروه أنه ضرار بن الخطاب ، فلبس «صلى الله عليه وآله» درعه ومغفره وركب فرسه إلى تلك الثغرة ، وعاد في وقت السحر ، وهو

__________________

(١) الهيعة : الصوت المفزع.

٧٩

يقول : رجعوا مفلولين قد كثرت فيهم الجراحة (١).

ونقول :

قد يمكن للبعض أن يشكك في صحة هذه الرواية ، على اعتبار : أن الروايات الأخرى قد تحدثت عن هزيمة عمر بن الخطاب أمام ضرار ، وأنه كاد أن يقتله ، ثم كف عنه ، لأنه كان لا يقتل قرشيا قدر عليه ، كما سيأتي.

كما أن الطبري وغيره يذكرون : أنه قد اختبأ هو وطلحة وغيرهما في بستان إبان حرب الخندق ، كما سيأتي عن قريب.

ولكن هذا التشكيك يمكن دفعه : بأن عمر لم يواجه حربا بنفسه هنا ، بل واجهها بغيره ، أي بواسطة المسلمين الذين تصدوا للمشركين ، وليس بالضرورة أن يصل به الرعب والخوف إلى حد الهزيمة من ساحة الحرب ، حتى حين يكون المتحاربون هم الآخرون.

غير أن ما يلفت نظرنا هنا : هو ما نراه بوضوح من محاولات جادة لإيجاد دور ما لأشخاص بأعيانهم ، كان لهم دور سلطوي بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، أو دور في تركيز دعائم السلطة بعده «صلى الله عليه وآله» أو مناوأة آل أبي طالب بشكل أو بآخر ، فنجد الاهتمام بإبراز دور ما لأبي بكر ، ولعمر ، وللزبير ، ولمحمد بن مسلمة ، ولسلمة بن أسلم ، وعباد بن بشر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسيد بن حضير.

والمطلع على تاريخ هؤلاء يجد : أنهم كانوا على العموم من المناوئين

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٦ و ٤٦٧ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٠ و ٢٣١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٥.

٨٠