الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

ونحن لا نشك : في عدم صحة هذه النصوص ، ولا أقل من أنها لم تتحر الدقة في نقل الوقائع والأحداث ، فإن الرسول «صلى الله عليه وآله» كان يبشر المؤمنين بنصر الله وعونه ، ابتداء من حفر الخندق ، ثم حين نقض بني قريظة لعهدهم ، وفي غير ذلك من مناسبات.

فلم يكن هو ليعاني من حالة الرعب والخوف ، وهو الذي كان مصدر السكينة والأمن والطمأنينة للناس.

بل إننا إذا كنا نرى أن القرآن يتحدث عن المؤمنين بأنهم كانوا على درجة من التسليم والتصديق بوعد الله ، وما زادهم مجيء الأحزاب ، ورؤيتهم لهم إلا إيمانا وتسليما ؛ فإن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» لن يكون أقل إيمانا منهم.

والذي نراه : هو أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تعب كثيرا في إنجاز المهام حين صار أصحابه يتركونه ، حتى بقي في قلة قليلة منهم.

بل إن بعضهم حتى طلحة وعمر قد تركوه ، واختبأوا في حديقة هناك ، وقد كشفت عائشة أمرهم ، وأحرجتهم بصورة ظاهرة كما ذكرناه في موضعه فيمكن أن يكون بعض المؤرخين خلط بين التعب والمعاناة للنبي «صلى الله عليه وآله» وبين الخوف ، فنسب إليه الخوف ، مع أن الصحيح هو نسبة التعب كما قالته أم سلمة وغيرها فليلا حظ ذلك.

إتهام أحد البدريين بالنفاق :

وقد ذكرت النصوص المتقدمة : أن متعب بن قشير هو الذي قال : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر الخ ...

٢١

مع أن ابن هشام يقول : قيل : لم يكن متعب من المنافقين ، وقد شهد بدرا (١).

وقال العسقلاني : «ذكروه في من شهد العقبة. وقيل : إنه كان منافقا ، وأنه الذي قال يوم أحد : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا)(٢).

وقال : إنه تاب ، وقد ذكره ابن إسحاق في من شهد بدرا» (٣).

وقال أبو عمر : «شهد بدرا وأحدا ، وكان قد شهد العقبة.

ويقال : إنه الذي قال : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا)(٤).

ولا نريد تتبع سائر المصادر التي أشارت إلى بدرية متعب بن قشير. فكيف نوفق بين وصف القرآن له بالنفاق ، وبين بدريته ، التي توجب ـ حسبما يزعم هؤلاء ـ أن يغفر له كل ذنب ، ويطهر من كل رجس ، وقد تحدثنا عن هذا الأمر في غزوة بدر فراجع.

هيكل يخطئ في تصويراته وتصوراته :

قال محمد حسين هيكل : «لأهل يثرب أبلغ العذر إن كان بلغ منهم الفزع وزلزلت قلوبهم ، ولمن قال منهم العذر في أن يقول : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وللذين بلغت قلوبهم الحناجر العذر في أن تبلغها. أليس هو الموت

__________________

(١) عيون الأثر ج ٢ ص ٦٠.

(٢) الآية ١٥٤ من سورة آل عمران.

(٣) الإصابة ج ٣ ص ٤٤٣.

(٤) الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٤٦٢.

٢٢

الذي يرون آتيا تقدح بالشرر عينه ، مصورة في بريق هذه السيوف تلمع في أيدي قريش ، وفي أيدي غطفان ، وتدب إلى القلب مخافته ، متسللة من منازل قريظة الغدرة الخائنين»؟ (١).

ونقول :

لقد اشتبه هيكل في تصوره وفي تصويره أيما اشتباه ، وذلك لأمور :

الأول : أن الله سبحانه قد حكى طائفة مما ذكر آنفا عن المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض ، فقال : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً)(٢).

فهل كان المنافقون والذين في قلوبهم مرض على حق في قولهم هذا؟!

وقد صرح المؤرخون ـ حسبما تقدم وسيأتي أيضا ـ : بأن المنافقين هم الذين قالوا : يعدنا محمد كنوز كسرى الخ ...

الثاني : إن هذه الأقوال ـ كما تقدم ـ إنما صدرت بادئ الأمر من المنافقين قبل مجيء الأحزاب ، وقبل نقض بني قريظة للعهد ، إذ قد صرحت الروايات بأنهم قد قالوا ذلك حين حفر الخندق ، توقعا لمجيء قريش والأحزاب ، ثم قالوا بعد اشتداد الحصار.

فلو سلمنا لهيكل قوله ذاك ، نقول له : ما هو المبرر لرعبهم قبل مجيء

__________________

(١) حياة محمد (الطبعة الثانية سنة ١٣٥٤ ه‍. ق دار الكتب المصرية) ص ٣٢٥.

(٢) الآيتان ١٢ و ١٣ من سورة الأحزاب.

٢٣

الأحزاب ولم يكن ثمة ما يوجب الخوف إلى هذه الدرجة؟

الثالث : إننا لا نوافق أن من حقهم أن يقولوا ذلك ، حتى لو كان القائلون هم المؤمنون ، وذلك لأنهم قد رأوا من الآيات والخوارق والكرامات للنبي «صلى الله عليه وآله» وهم يحفرون الخندق الشيء الكثير. فكان من المفروض فيهم أن يتيقنوا بنصر الله سبحانه لهم ، وبصدق ما أخبر به نبيهم الأكرم «صلى الله عليه وآله».

ولكن لم تكن تلك الكرامات تقتصر على مجرد التصور العقلي لهم. بل كانت تتعدى ذلك لتكون ممارسة حسية لكل فرد منهم ، كما كان الحال بالنسبة لإطعام أهل الخندق جميعا من وليمة جابر.

الرابع : إن مراجعة الآيات القرآنية تعطينا : أن الذين زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم حناجرهم ، وظنوا بالله الظنون هم غير المؤمنين الذين كانوا ثابتين في حصون الإيمان. لكن هؤلاء المؤمنين قد تأثروا من حالة إخوانهم ، فوقعوا في البلاء والزلزال ، فقد قال تعالى مخاطبا المسلمين :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)(١).

فترى أنه تعالى قد تحدث عن المؤمنين بطريقة الحديث عن الغائبين ، مع أنه لو كان المراد جميع المسلمين لكان السياق يقتضي أن يقول : «هنالك ابتليتم وزلزلتم».

__________________

(١) الآيتان ١٠ و ١١ من سورة الأحزاب.

٢٤

أضف إلى ما تقدم : أنه لو كان الأمر كذلك لم يقل : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ) بل كان عليه أن يقول : وابتليتم. فكلمة «هنالك» تشير إلى أن الابتلاء للمؤمنين قد حصل حينما ظننتم بالله الظنون ، وبلغت قلوبكم حناجركم.

على أن من الواضح : أن ظن الظنون بالله لا ينسجم مع الإيمان بل هو ينافيه. وقد تحدث تعالى عن المؤمنين فذكر أنهم لم يظنوا الظنون هنا ، بل زاد إيمانهم عمقا ورسوخا.

فقال تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(١).

بقي أن نشير هنا : إلى أن المراد بابتلاء المؤمنين هو أن مسؤولياتهم أصبحت أكبر وأخطر من ذي قبل ، وأصبحت كل المصائب والآلام الناتجة عن هذا الحصار ، من انهزام المسلمين روحيا ، والخوف على الذراري والنساء ، وما صاحب ذلك من تحمل مشقات وجهد وسهر ـ إن ذلك كله ـ قد انصب على رؤوس ثلة قليلة مجاهدة صابرة ، قد لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين أو حتى اليد الواحدة.

إذ إن من الغني عن البيان : أن تحقيق وعد الله ورسوله لهم بالنصر ، لا يعني أن لا يتحملوا المشقات والمصاعب والآلام الكبيرة وأن لا يبتليهم بالمواجهات الخطيرة ، التي تصل إلى درجة الاستشهاد بالنسبة إلى بعض

__________________

(١) الآيتان ٢٢ و ٢٣ من سورة الأحزاب.

٢٥

الأفراد ، لأن الوعد إنما هو للمجموع العام ولأهل هذه الدعوة بصفتهم العامة ، وإن كان أفراد كثيرون يستشهدون ، أو يمتحنون بالمصائب والبلايا والرزايا.

٢٦

الفصل الثامن :

عقد عيينة .. مكذوب

٢٧
٢٨

العقد المزعوم مع عيينة بن حصن :

قال ابن المسيب : «حصر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه بضع عشرة حتى خلص إلى كل منهم الكرب ... إلى أن قال : فبينما هم على ذلك من الحال أرسل رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى عيينة الخ ..» (١).

وذكر نص آخر : أنه بعد أن حوصر المسلمون ، ونقض بنو قريظة العهد ، وضاقت الأمور على المسلمين ، وأحيط بهم ، وهمّ بالفشل بنو حارثة ، وبنو سلمة ، بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى عيينة بن حصن ، والحرث بن عوف : أن يرجعا ، ويخذلا الأعراب ، ولهما ثلثا ثمار المدينة ـ كما في بعض المصادر ـ لكن أكثر المصادر تقول : ثلث ثمار المدينة.

زاد في نص آخر قوله : «فجرى بينهما المراوضة في الصلح حتى كتبوا الكتاب ، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح» (٢).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٧ وراجع : المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٧.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٥ وراجع المصادر التالية : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٦ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٢ و ١٧٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٠ والإرشاد للمفيد ص ٥١ و ٥٢ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٨ ـ

٢٩

وشاور «صلى الله عليه وآله» في ذلك : سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة فأبيا ، وقالا : يا رسول الله ، أشيء أمرك الله به فلا بد منه؟! أم شيء تحبه ، فتصنعه ، فنصنعه لك؟! أم شيء تصنعه لنا؟!

قال : بل أصنعه لكم ، إني رأيت أن العرب رمتكم عن قوس واحدة.

فقال سعد بن معاذ : قد كنا معهم على الشرك والأوثان ، ولا يطمعون منا بتمرة شراء ولا بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟! والله ، لا نعطيهم إلا السيف.

فصلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

__________________

والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ والبحار ج ٢٠ ص ٢٥٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٤ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٢ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٦ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠١.

(١) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٠ وراجع : المصادر التالية : سيرة المصطفى ص ٤٩٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ و ٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠١ و ٢٠٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٦ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٧ وشرح نهج البلاغ للمعتزلي الشافعي ج ١٠ ص ١٨٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٦ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣١ وراجع : الإرشاد للمفيد ص ٥٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٦ وجوامع السيرة النبوية ص ١٤٩ و ١٥٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٠ و ١٨١ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ـ ص ٢٠٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ و ١٠٥ والبحار ج ٢٠ ص ٢٥٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٢ و ١٧٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٠ و ٤٣١ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٤ وتهذيب سيرة ابن هشام ١٩٢ و ١٩٣ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٧ و ٣٦٨ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٣ و ٢٩٤.

٣٠

زاد البعض هنا قوله : «فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : الآن قد عرفت ما عندكم ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فإن الله تعالى لن يخذل نبيه ، ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده.

ثم قام رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المسلمين ، يدعوهم إلى جهاد العدو ، ويشجعهم ، ويعدهم النصر من الله تعالى (١) «وترك ما كان هم به من ذلك» (٢).

وقد تفننت بعض الروايات في تصوير وقائع هذه القصة فهي تقول : إنه «صلى الله عليه وآله» أرسل إلى رئيسي غطفان : عيينة بن حصين والحارث بن عوف أن يجعل لهما ثلث ثمار المدينة ، ويرجعان بمن معهما.

فجاءا متخفيين من أبي سفيان مع عشرة من قومهما إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فطلبا نصف ثمار المدينة ، فأبى عليهما إلا الثلث فرضيا ، فجرى بينه وبينهم الصلح ، وأحضر رسول الله «صلى الله عليه وآله» الصحيفة والدواة ، وأحضر عثمان بن عفان ، حتى كتب كتاب الصلح ، ولم يقع الإشهاد.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ص ٥٢ وراجع : كشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٣ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٥٢. ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨.

(٢) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٦ وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٠ و ١٨١.

٣١

وعند الواقدي والمقريزي : أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان الصلح ، وعبادة بن بشر على رأس رسول الله «صلى الله عليه وآله» مقنع بالحديد.

ولما أرادوا أن يكتبوا الشهادة جاء أسيد بن حضير ، فرأى عيينة بن حصن قد مد رجله بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وعلم ما جاء له فأقبل إلى عيينة وقال :

يا عين الهجرس ، أتمدّ رجلك بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! فو الله ، لولا مجلس رسول الله لأنفذت جنبك بهذا الرمح.

ثم أقبل بوجهه إلى النبي فقال : يا رسول الله ، إن كان هذا شيئا أمرك الله به لا بد لنا من عمله ، أو أمرا تحبه ، فاصنع ما شئت ، ما نقول فيه شيئا ، وإن كان غير ذلك ، فو الله ما نعطيهم إلا السيف ، متى كانوا يطمعون منا؟!

فسكت النبي «صلى الله عليه وآله» ولم يقل شيئا.

وعلى حد تعبير الواقدي : فأسكت رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فدعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فاستشارهما فيه (خفية) ، فقالا مثل ما قال أسيد (وأبوا إعطاء الدنية ، فأمره النبي «صلى الله عليه وآله» بشق الكتاب) فاعتذر «صلى الله عليه وآله» بأنه قد رأى العرب رمتهم عن قوس واحدة.

إلى أن تقول الرواية : فتناول سعد ، أي ابن معاذ ، الصحيفة وأخذها من عثمان فمحا ما في الكتاب ، ومزق الكتاب.

ثم تذكر الرواية : محاورة بين عبادة بن بشر وعيينة. ثم ذكر رجوع عيينة والحارث.

٣٢

وعلما : أن لا يد لهم في المدينة ، لما رأيا من إخلاص الأنصار ، واتفاقهم مع رسول الله ، ودخل في أمرهما فتور وتزلزل (١).

وتشير بعض النصوص إلى دور لسعد بن الربيع أيضا (٢).

نقاط ضعف في هذا الإتفاق :

لقد حفلت هذه القصة بنقاط ضعف كثيرة لا نرى ضرورة للتعرض لها بالتفصيل ونكتفي هنا بالإشارة إلى الأمور التالية :

١ ـ التناقض والاختلاف :

إننا نلاحظ هنا : تناقض واختلاف نصوص هذه الرواية ، الأمر الذي

__________________

(١) راجع في النصوص المتقدمة باختصار تارة وبإسهاب أخرى المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٥ و ٤٨٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٧ و ٤٧٨ وفي تفصيلات لا مجال لإيرادها. والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٨ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٢ و ١٧٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ وراجع : شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٦ وتاريخ الإسلام السياسي ج ١ ص ١١٨ و ١١٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٥ و ٢٣٦. وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٠ و ٥٣١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٩. وراجع : حول هذا العقد المزعوم أيضا : الرسول العربي وفن الحرب ص ٢٤٦ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٦٠ وج ١٧ ص ١٩٩ وخاتم النبيين ص ٩٣٦ و ٩٣٢ و ٩٣٣ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٥ وسيرة المصطفى ص ٥٠٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٦.

٣٣

يعني أنه لا بد من استبعاد طائفة من هذه النصوص حتى لا يبقى ثمة تناقض واختلاف فيما بينها.

فليلاحظ مثلا : اختلافها في أنه «صلى الله عليه وآله» أعطاهما ثلث ثمار المدينة ، أم الثلثين؟!

وهل كتب كتاب ، ثم رفض السعدان أم رفضا ذلك قبل أن يكتب الكتاب. وهل استشار السعدين ، أم استشار السعود.

٢ ـ الحارث بن عوف :

وقد تقدم : أن البعض ينكر مشاركة الحارث بن عوف في حرب الخندق ، وإن كان الواقدي يصر على هذه المشاركة ، فراجع فصل : الأحزاب إلى المدينة. فقرة : تحفظ تاريخي.

٣ ـ سعد بن الربيع :

قد ذكرت بعض النصوص : أنه قد كان لسعد بن الربيع دور في هذه القضية أيضا. مع أن سعدا هذا قد استشهد في حرب أحد ، وهي قبل الخندق بزمان طويل ، فراجع.

٤ ـ استشارة السعود ، وإعطاء الدنية :

بعض النصوص تقول : إن عيينة بن حصن جاء مهددا متوعدا فهي تقول : إنه قال : يا محمد ناصفنا تمر المدينة ، وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا.

فقال : حتى أستأمر السعود : سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن ربيعة ، وسعد بن مسعود.

٣٤

فكلمهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» في ذلك ، فقالوا : لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية ، فكيف وقد جاء الله تعالى بالإسلام؟

فرجع الحارث فأخبره ، فقال : غدرت يا محمد (١).

فما معنى هذا التهديد والوعيد من عيينة ، ألم يملأها حتى الآن خيلا ورجالا؟!

وهل بقي عنده خيل ورجال غير هؤلاء لم يأت بهم لحرب محمد؟!

والملفت في هذا النص : أن جميع الذين يريد النبي «صلى الله عليه وآله» أن يستشيرهم اسمه سعد ، فما هذه المصادفة العجيبة!! ألم يكن في الأنصار أحد من الرؤساء له اسم آخر؟!

وأمر ثالث يلفت النظر هنا : وهو أنهم اعتبروا أن ذلك معناه إعطاؤه الدنية. فهل كان النبي بصدد أن يعطي الدنية للأعداء؟

ألم يكن يعلم أنهم لم يعطوها في الجاهلية ، فكيف وقد جاء الله تعالى بالإسلام؟!

٥ ـ المراوضة وكتابة الصلح :

والأمر الذي يصعب علينا تفسيره وهو : أنه كيف تمت كل هذه المراحل ، من دون علم السعدين ، أو السعود الأربعة ، وغيرهم من زعماء الأنصار؟! فالنبي «صلى الله عليه وآله» يرسل للأعداء ويستقدمهم ، ويأتون إليه وتجري مراوضة في شأن الصلح ، ثم يرسل النبي «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٢.

٣٥

وراء عثمان ويأتي ، ويكتب الكتاب. كل ذلك يحصل ولا أحد من زعماء الأنصار يعرف بشيء ، حتى يرسل إليهم النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويحضرهم.

فهل كانوا لا يحضرون مجلس النبي ، إلا أن يحضرهم إليه «صلى الله عليه وآله» نفسه؟!

وهل صحيح أنهم كانوا يغيبون عنه فترات طويلة هذا المقدار ولا سيما في حرب الخندق ، التي يفترض فيها تواجدهم حوله باستمرار ليتلقوا الأوامر؟!

وكيف غاب جميع من كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» بحاجة إلى استشارتهم ولم يحضر ولا أحد منهم ولو صدفة؟! إلا أن أسيد بن حضير حضر بصورة مفاجئة!!

٦ ـ العجز والفشل :

ولا ندري بعد هذا كيف يقدم النبي «صلى الله عليه وآله» على أمر لا يثق من قدرته على إنجازه؟

أم يعقل : أنه كان واثقا من ذلك ثم فوجئ بما أحبط سعيه ، وخيب أمله؟!

٧ ـ رأي النبي صلى الله عليه وآله ورأي غيره :

هل صحيح أن للنبي «صلى الله عليه وآله» آراء يطلقها من عند نفسه ، ولا تنتهي إلى الإرادة الإلهية؟!

وكيف نفهم قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ

٣٦

يُوحى)؟! (١).

أم أن هذه الآية تتحدث عن خصوص ما ينطق به من أي القرآن أو عن أمور يطلب منه تبليغها كالأحكام الشرعية ، ونحوها؟! وكيف وبماذا نخصص الآية بما ذكر؟! وإذا سلمنا ذلك جدلا ، فهل صحيح أن للنبي بعض الآراء التي يخطئ فيها ، أم أنه ذو اجتهاد صواب دائما؟!

وبعد ما تقدم : لا بد أن نسأل عن الوسائل التي يمكننا أن نفرق فيها بين ما هو رأي واجتهاد له ، وبين ما يأتي به من قبل الله سبحانه.

٨ ـ اتهام النبي صلى الله عليه وآله :

ولا ندري أيضا : كيف نفسر قولهم للنبي : «أم شيء تحبه ؛ فنصنعه لك» فهل يتصورون أن النبي «صلى الله عليه وآله» يمكن أن يقوم بعمل خطير كهذا لأنه يحب أن يصنع شيئا لنفسه دونهم؟! وهل هذه إلا إساءة أدب وسوء ظن خطير برسول الله «صلى الله عليه وآله» يصل إلى حد التهمة؟!

٩ ـ فصلب رسول الله صلى الله عليه وآله :

ويستوقفنا هنا قولهم : فصلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فهل كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد ضعف أمام أعدائه ، فبدأ يقدم لهم التنازلات ويعطيهم الامتيازات؟

إن نصا آخر ذكرناه آنفا : يكاد يكون صريح الإيحاء بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان بصدد التخلي عن جهاد العدو ، حيث يقول : «ثم

__________________

(١) الآية ٣ من سورة النجم.

٣٧

قام رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المسلمين ، يدعوهم إلى جهاد العدو ، ويشجعهم ، ويعدهم النصر من الله تعالى وترك ما كان هم به من ذلك.

١٠ ـ الاحتفاظ بسرية هذا العقد :

كيف استمر هذا الأمر خافيا على أبي سفيان ، وكيف لم يسر به النبي والمسلمون إلى مسامع زعيم قريش ، ليكون مثار خلاف فيما بين زعماء الأحزاب أنفسهم ، كما جرى لبني قريظة؟ فإنه إذا كان الأمر بالنسبة لبني قريظة لم يبعد حدود الإعلام بهدف تدمير حالة الثقة القائمة بينهم وبين المشركين ، فإن الأمر هنا أصبح أكثر واقعية ، بعد أن قطع المتفاوضون مراحل واسعة باتجاه عقد الاتفاق ، حتى لقد كتب الكتاب ، وإن لم تقع الشهادة والصلح.

إلا ان يقال : إن تسريب أمر خطير كهذا سوف يكون مضرا بالمسلمين ، لأنه يعطي للمشركين انطباعا عن ضعف المسلمين وانهيار معنوياتهم ، الأمر الذي ربما يثير لدى قوى الشرك شهية مواصلة الحصار ، ومضاعفة الضغوط للوصول بالمسلمين إلى حالة الإنهيار الكامل.

كما أن هذا التسريب لم يكن في صالح زعماء غطفان ؛ لأنه سوف يعقد العلاقات مع حلفائهم ، ويثير لهم معهم مشاكل هم في غنى عنها.

أما المنافقون : فلعلهم لم يجدوا في تسريب معلومات كهذه ما يخدم مصالحهم ، أو يفيد في إخراجهم من الورطة التي يجدون أنفسهم فيها.

١١ ـ أدب عيينة ، وغيرة ابن حضير :

ولا يفوتنا الإلماح : إلى أن عيينة بن حصن يمد رجليه بين يدي رسول

٣٨

الله ولا يزجره النبي «صلى الله عليه وآله» ، ولا أحد من الصحابة الحاضرين ولا حتى عمر بن الخطاب ، ولا أبو بكر ، اللذين لم نسمع لهما ذكرا في هذه القضية ولا في غيرها إلا في مواقع ما كنا نحب أن نراهما فيها.

والأهم من ذلك : أن عليا «عليه السلام» أيضا لا يعترض ، ويبقى الجميع ينتظرون قدوم أسيد بن حضير ليقف هو فقط ذلك الموقف الغيور والنبيل والشجاع. حتى إنه يتهدد عيينة بأن ينفذ جنبه بهذا الرمح لولا احترامه مجلس رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ولا بد من تسطير الفضائل لأسيد هذا ؛ لأنه من المهاجمين لبيت فاطمة «عليها السلام» ، ومن موطدي الأمر لأبي بكر ، والقائمين به ، لما بينهما من قرابة ، ولأمور أخرى لا مجال للإفاضة فيها الآن.

١٢ ـ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وآله :

والأكثر غرابة هنا : ما ذكره الواقدي في هذا السياق من جرأة على مقام النبوة الأقدس ، حين ذكر : أنه بعد أن قال أسيد بن حضير ما قال «فأسكت رسول الله».

يا لها من جرأة قاسية ، وإهانة وقحة لنبي الإسلام «صلى الله عليه وآله» ، من قبل أناس لا يرون إلا مصالحهم ، ولا يهمهم إلا تمشية سياساتهم ، حتى ولو على حساب كل القيم والمثل الإسلامية والإنسانية.

هذا كله : عدا عن ظهور نبرات فيها ظلال ثقيلة من الاعتداد بالنفس والتحدي في كلمات أسيد في مواجهة النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله». فراجع كلماته وتأمل.

٣٩

هذا ما أحببنا الإلماح إليه في هذا المجال ، ولننظر الآن ماذا يقول الآخرون الذين يهتمون بالتبرير ، ويبرعون في التصوير ، فنقول :

المساس بشرف الإسلام :

قد حاول البعض شرح ما جرى ، بطريقته الخاصة ، فهو يقول : «على الرغم من المجاعة التى قاساها المسلمون ، والضيق الذي ألم بهم من جراء الحصار المتطاول ، والسهر والحراسة الموصولين ، فقد رأوا أن في القبول بمثل هذا الذل جرحا لكرامتهم.

وقال الأنصار الذين عنتهم هذه المساومة المقترحة مباشرة : إنهم لم يدفعوا أي جزية إليهم حتى في الجاهلية ، فكيف يطيقون الإذعان لهم ، خاصة وأن في الأمر مساسا بشرف الإسلام نفسه» (١).

وليت شعري كيف يقدم النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» على أمر فيه مساس بشرف الإسلام؟! إلا أن يكون «صلى الله عليه وآله» لم يدرك أن الأمر ينطوي على المخاطرة بهذا الشرف الراسخ ، والعز الباذخ؟! أو أن شرف الإسلام لم يكن يعنيه كثيرا ، وكان يعنيهم هم وحدهم دونه؟!

إستفادات وتوجيهات :

١ ـ لقد استفادوا من هذا الحدث فوائد وعوائد ، فقد قال أبو زهرة : «قد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين :

أولهما : أن النبي «صلى الله عليه وآله» علم عزمة أصحابه ، وأنهم

__________________

(١) حياة محمد ورسالته ص ١٦٨.

٤٠