الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

وزعموا : أن أبا لبابة قد تاب من ذنبه هذا ، وربط نفسه إلى سارية في المسجد حتى أنزل الله توبته ، فحله رسول الله بيده ، ولم يثبت لنا صحة ذلك ، كما سنرى.

وحين نزلوا على حكم سعد ، أمر بهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكتفوا ، وجعلوا ناحية ، وجعل النساء والذرية ناحية.

وجاؤوا بالأسرى إلى المدينة ، وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ، ودار بنت الحارث ... وجعل السلاح والأمتعة في دار بنت الحارث أيضا.

وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مائة وخمسين ، وقيل : كانوا تسع مائة ، وقيل : كانوا ألفا.

وكان سعد يداوى من جرحه في خيمة رفيدة أو كعيبة ، فجاؤوا به ، وكلمه بعض الناس من الأوس في أمر العفو عن بني قريظة ، فلم يجبهم. ثم أصدر حكمه بقتل من حزّب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» منهم.

فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (١).

فقتل النبي «صلى الله عليه وآله» من أنبت ممن حزّب عليه من بني قريظة ، وأمر «صلى الله عليه وآله» بأخدود فخدّت ، فضربت أعناقهم فيها ، ثم رد عليهم التراب.

وكان علي «عليه السلام» هو الذي قتلهم مع رؤسائهم.

وقيل : إن الزبير قد شاركه أيضا. ولا مجال لتأكيد ذلك.

__________________

(١) الرقعة : السماء عموما.

٢٦١

وقيل أيضا : إن الأوس قد شاركوا في عملية القتل هذه.

وقيل : إن نباتة النضيرية ، وأرفة بنت عارضة كانتا من جملة القتلى. وأسلم بعضهم ، مثل رفاعة بن سموأل ، فلم يقتل.

وقد اختلفت كلمات المؤرخين في عدد من قتل منهم ، فبلغت ثلاثة عشرة قولا ، تتراوح ما بين الثلاث مائة رجل ، والألف.

ويظهر من النصوص : أن بني قريظة لم يقتلوا كلهم ، بل قتل منهم خصوص من حزّب على النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين.

أما من استشهد من المسلمين ، فلعله لا يزيد على رجلين أو ثلاثة.

ثم جمعت أمتعتهم ، وأخرج الخمس منها ، ثم قسمت للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرسا ، أو ثمانية وثلاثين.

أما السبي فبيع في من يزيد ، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة.

وبعث «صلى الله عليه وآله» ببعض السبي إلى نجد ، أو الشام فبيع هناك ، واشتري بثمنه سلاح وخيل ، وقسم «صلى الله عليه وآله» ذلك بين المسلمين.

وبعد أن انتهى أمر بني قريظة ، انفجر جرح سعد بن معاذ ، ودام نزفه حتى مات «رحمه الله» شهيدا ، فكرمه الرسول «صلى الله عليه وآله» مزيد تكريم ، وحزن عليه ، وبكاه أبو بكر وعمر ، ورثاه حسان بن ثابت.

٢٦٢

الفصل الأول :

المسير إلى حصون قريظة

٢٦٣
٢٦٤

بداية :

لقد انتهت حرب الأحزاب «الخندق» التي كان المسلمون فيها يعانون من الجوع ، والسهر ، والخوف ، والإشفاق من مهاجمة ذراريهم ونسائهم من قبل أعدائهم.

وكان من الطبيعي أن يتنفسوا الصعداء حين رأوا عدوهم يغادر أرضهم خائبا ، خائفا ، خاسئا ، وكانوا يتمنون أن يصلوا إلى أهلهم ، وذويهم ، وبيوتهم ، ليرتاحوا من ذلك العناء الطويل.

ولكن هل يمكن لهم أن يطمئنوا على مصيرهم ومستقبلهم وإلى جوارهم أولئك الذين حزبوا الأحزاب ، ورموهم بذلك البلاء العظيم ، الذي كاد أن يقضي على الإسلام والمسلمين ويستأصل شأفتهم؟

ومن جهة ثانية : ما هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه النبي «صلى الله عليه وآله» من بني قريظة الذين كانوا السبب في كل ما حصل؟

«ولو افترضنا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» جدد العهد معهم في تلك الفترة فما الذي يمنعهم من نقضه والخروج عليه مرة ثانية كما فعلوا بالأمس؟ في حين أنهم لم يجدوا منه إلا الصدق والوفاء كما اعترف بذلك

٢٦٥

زعيمهم حينما دعاه حيي بن أخطب للاشتراك مع الغزاة» (١).

لقد كان منطق الحرب ، ومنطق الحذر يدعو إلى مهاجمتهم ، لأنهم العدو القريب ، الذي يتربص الدوائر بالإسلام وبالمسلمين وحربهم امتداد لحرب الأحزاب ... وأحد فصولها ، التي لا بد من إنجازها.

ويبقى أن نشير إلى : أن لا مجال لاحتمال أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» حين رأى سرعة أصحابه للعودة إلى المدينة ، قد فكر في أن يعطيهم فرصة للراحة فإنه لا مبرر لاحتمال كهذا وفق أي تقييم لما حدث ويحدث ، فهذا الأمر الإلهي قد جاء ليظهر أن الله سبحانه يأبى أن يمهل الغدرة الفجرة ، فربما يجدون أكثر من وسيلة للتملص والتخلص أو حتى لفرار البعض منهم ... من مواجهة الجزاء العادل لما اقترفته أيديهم.

وقد كان حيي بن أخطب وكعب بن أسد يتوقعان هذه الحرب وقد أخذ كعب بن أسد العهد على حيي أن يدخل معهم في حصنهم ويصيبه ما أصابهم إن رجعت قريش وغطفان. وذلك بعد أن دفع حيي كعبا إلى نقض عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

متى كانت غزوة بني قريظة :

قد تقدم الحديث عن تاريخ غزوة قريظة والخندق.

وقد رجحنا أنهما كانتا في السنة الرابعة للهجرة بل قال ابن حزم : «فكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة متصلا بأول ذي الحجة في السنة

__________________

(١) سيرة المصطفى ص ٥١١.

٢٦٦

الرابعة من الهجرة» (١).

ونحن نكتفي بما ذكرناه في ذلك الموضع فليراجعه من أراد.

من هم بنو قريظة؟!

قريظة : «فخذ من جذام إخوة النضير.

ويقال : إن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل ، ثم نزلوا بجبل يقال له : «قريظة» ، فنسبوا إليه.

وقد قيل : إن قريظة اسم جدهم» (٢).

«وذكر عبد الملك بن يوسف في كتاب الأنواء : أنهم كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله «عليه السلام». وهو بمحتمل (كذا) فإن شعيبا كان من قبيلة جذام ، القبيلة المشهورة. وهو بعيد جدا» (٣).

ولا يهمنا هنا تحقيق ذلك ، ولا تتبع مصادره.

نقض قريظة للعهد :

وقد تقدم : أنه كان بينهم وبين رسول الله «صلى الله عليه وآله» صلح فنقضوه ، ومالوا مع قريش. فوجه إليهم سعد بن معاذ ، وآخرين ، فذكروهم العهد ، فأساؤوا الإجابة.

ويقول البعض : إن قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ

__________________

(١) جوامع السيرة النبوية ص ١٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٢ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٣١٣ ووفاء الوفاء ج ١ ص ١٦٢.

٢٦٧

عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١) قد نزل في شأن بني قريظة ، كما قاله مجاهد ؛ فإنهم كانوا قد عاهدوا النبي «صلى الله عليه وآله» على أن لا يضروا به ، ولا يمالئوا عليه عدوا ، ثم مالؤوا عليه الأحزاب يوم الخندق ، وأعانوهم عليه بالسلاح ، «وعاهدوا مرة بعد أخرى ، فنقضوا» (٢).

ولم نجد فيما بأيدينا من نصوص تاريخية ما يدل على تكرر نقض العهد من بني قريظة ، إلا ما رواه البخاري عن ابن عمر ، قال : «حاربت النضير وقريظة ، فأجلى بني النضير ، وأقر قريظة ، ومن عليهم ، حتى حاربت قريظة ، فقتل رجالهم ، وقسم نساءهم ، وأموالهم وأولادهم بين المسلمين ، إلا بعضهم لحقوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، فأمنهم وأسلموا ، وأجلى يهود المدينة كلهم : بني قينقاع ، وهم رهط عبد الله بن سلام ، ويهود بني حارثة ، وكل يهودي بالمدينة.

ورواه أبو داود بنحوه ، إلا أنه قال : حتى حاربت قريظة بعد ذلك ، يعني بعد محاربتهم الأولى وتقريرهم.

ويؤخذ من ذلك : أن إجلاء من بقي من طوائف اليهود بالمدينة كان

__________________

(١) الآيات ٥٦ ـ ٥٨ من سورة الأنفال.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٥٥٢ والبحار ج ٢٠ ص ١٩١ وراجع : الدر المنثور ج ٣ ص ١٩١ عن ابن أبي شيبة وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ عن مجاهد باستثناء العبارة الأخيرة.

٢٦٨

بعد قتل بني قريظة» (١).

وروي عن الزهري ومجاهد أن قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ..) قد نزل في بني قريظة (٢).

وروي أيضا : أنها نزلت في بني قينقاع (٣).

ونقول :

إن الآية لا تنطبق على بني قريظة ، لأنهم قد نقضوا العهد ، وخانوا بالفعل ، والآية إنما تتحدث عن خوف النبي «صلى الله عليه وآله» من خيانة قوم ما.

وأما انطباقها على بني قينقاع فقد يكون له وجه ، إذ إن ما فعلوه لا يصل إلى درجة ما فعله بنو قريظة ، ولأجل ذلك جاء عقابهم أخف من عقاب أولئك.

على أننا نقول : إن الآية الكريمة وإن كانت قد نزلت في هذه المناسبة إلا أنها أرادت أن تعطي قاعدة عامة صالحة للانطباق في كل زمان.

آية نزلت في بني قريظة :

وقد روي عن مجاهد : أن قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٩.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ١٩١ عن أبي الشيخ عن الزهري ، وعن ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد. وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٨ وراجع ص ٣٠٩ عن الزهري.

(٣) أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٨ وراجع ص ٣٠٩.

٢٦٩

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(١) نزل في بني قريظة (٢).

وكذا روي عن قتادة (٣) وسعيد بن جبير (٤).

ويؤيد ذلك بل يدل عليه : أن الضمير في «ظاهروهم» يعود إلى الذين كفروا في الآية السابقة ، الذين هم الأحزاب ، والذين ظاهروا الأحزاب ، وأنزلهم الله من صياصيهم ، وقتل المسلمون فريقا منهم وأسروا فريقا ، وهم بنو قريظة بالذات.

رؤيا كرؤيا عاتكة في بدر :

قالوا : لما انصرف المشركون من الخندق ، خافت بنو قريظة خوفا شديدا ، وقالوا : محمد يزحف إلينا. وكانت امرأة نباش بن قيس قد رأت (٥) ـ والمسلمون في حصار الخندق ـ الخندق ليس به أحد. وأن الناس تحولوا إليهم في حصونهم ، فذبحوهم ذبح الغنم.

فذكرت ذلك لزوجها ، فذكره للزبير بن باطا ، فقال الزبير : ما لها ، لا نامت عينها؟ تولي قريش ، ويحصرنا محمد ، والتوراة؟ ولما بعد الحصار أشد منه (٦).

__________________

(١) الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة الأحزاب.

(٢) الدر المنثور ج ٥ ص ١٩٢ عن الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٨.

(٣) الدر المنثور ج ٥ ص ١٩٣ عن ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) الدر المنثور ج ٥ ص ١٩٣ عن ابن سعد.

(٥) أي رأت في منامها.

(٦) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

٢٧٠

تعبير الرؤيا :

ونريد أن نسجل هنا :

١ ـ أن الإنسان يهتم كثيرا بكل ما يمس مصيره ومستقبله ويتحرك حتى على أساس التخيل والتوهم لمواجهة أي احتمال قادم إليه من المجهول. فنجده يلتجئ حتى لقارئة البخت التي يعلم أنها تكذب عليه ، فإذا تكلمت بكلمات عامة وغائمة ، تقولها عادة لكل إنسان ، فإنه يتلقفها بلهفة ، وبحساسية وشفافية متناهية ، ويبدأ بتطبيقها على حاله وأحواله.

فإذا قالت له مثلا : ستأتيك رسالة من صديق ، تخيل أن فلانا الغائب هو الذي سيرسل إليه تلك الرسالة.

ثم إذا قالت له : هناك من يحسدك أو يكرهك ، وهو أمر قد يحدث لكل إنسان ، فإنه يطبق ذلك على فلان أو فلان ، وتضطرب الانفعالات في نفسه تجاهه ، وهكذا ..

أما إذا كان الذي يأتيه من المجهول ، ويلامس مستقبله وحياته ومصيره له درجة من الواقعية مهما كانت هزيلة وضئيلة ، فإن إحساسه بالخطر سوف يتعاظم إلى درجة كبيرة وخطيرة. ولسوف يؤثر على توازنه في حركته وفي مواقفه ، بل وقد يفقده ثقته بكثير من خططه المستقبلية ، ويفسدها عليه.

ومن الواضح : أن المنامات والرؤى قد أثبتت لها التجربة درجة من الواقعية ، ولكنها درجة ضعيفة وخفيفة ، ولكن هذا الإنسان يتعامل معها بجدية وباهتمام أكبر وأكثر مما تفرضه واقعيتها تلك.

والذي يدل على واقعية الرؤيا ، وأن لها تعبيرا ، ما ذكره الله تعالى في سورة يوسف ، وأن يوسف «عليه السلام» قد عبر الرؤيا لصاحبي السجن ،

٢٧١

ثم لملك مصر ، وصدقت الرؤيا ، وصدق يوسف «عليه السلام» هذا بالإضافة إلى رؤيا إبراهيم «عليه السلام» في قضية ذبح ولده إسماعيل «عليه السلام».

٢ ـ إنه لا شك في أن للأحلام من حيث مناشئها حتى الكاذبة منها صلة بالواقع ، بنحو أو بآخر. فالكاذبة لها صلة بالحالة النفسية والجسدية للشخص ، فقد تنشأ عن تأثير بعض المآكل أو المشاهدات ، أو أي شيء يواجهه الشخص في حال يقظته مما كان له أثر في النفس أو اختزنته ذاكرته ، أو ما إلى ذلك.

وللصادقة صلة من نوع ما بالقوى الظاهرة والخفية والنواميس الطبيعية المهيمنة التي تؤثر في مسيرة الحياة ، إيجابا أو سلبا. وليس بمقدورنا تحديد حقيقة تلك لقوى ولا تحديد نوع تلك النواميس ، كما أننا لا نستطيع تحديد أبعاد ، ومدى ، وكيفية ذلك التأثير الذي يربط بين عالم الرؤيا ، وعالم الواقع الخارجي الكوني وقواه ونواميسه.

والذي يزيد في حيرتنا هو ما نجده من تأثير حقيقي لتعبير الرؤيا في الواقع الخارجي ، وتوجيهه باتجاه معين ، لينتج واقعا محسوسا يختلف عن واقع محسوس آخر ، وأثر تعبير الرؤيا في إبعاد ذاك ، ثم في حلول هذا مكانه.

فما هو نوع هذا التأثير ، ومداه؟! وما هي مقتضياته؟! وكيف تم ذلك؟ ولماذا؟!

كل ذلك وسواه لا يزال مجهولا لدينا ، وربما يبقى كذلك مجهولا ، والمشيئة في ذلك كله إلى الله سبحانه.

٣ ـ وواضح أن رؤيا هذه المرأة القريظية ، قد جاءت لتقدم إنذارا لأولئك

٢٧٢

الذين اعتادوا على نقض العهود والمواثيق ، ولتريهم مصيرهم الذي ينتظرهم. وهي من الرؤى الصادقة ، تماما كرؤيا عاتكة التي حصلت لها قبل حرب بدر ، فإنها هي الأخرى قد جاءت إنذارا لأهل مكة المشركين ، وإقامة للحجة عليهم ، بطريقة تلامس الوجدان الإنساني ، وتثير ضميره ، وتهزه روحيا من الأعماق.

تزوير التاريخ :

يقول بعض المستشرقين عن قبيلة قريظة : «ظلت هذه القبيلة على الحياد فيما يتعلق بالعمل العسكري ، ولكنها قامت بمفاوضات مع أعداء محمد ، ولو أنها وثقت من قريش وحلفائهم من البدو لانقلبت على محمد.

وقد هاجم محمد قريظة ، بعد أن تخلص من أعدائه ، ليظهر أن الدولة الإسلامية الفتية لا تسمح بمثل هذا الموقف المشبوه.

وانسحبت قريظة إلى أطمها ، ولم ترد على الهجوم بحماس ، ثم أرسلت تطلب الاستسلام بنفس الشروط التي استسلم بها بنو النضير ، فأجيبت : أن عليها أن تستسلم بدون قيد أو شرط.

فطلب اليهود استشاره أبي لبابة ، فلبى نداءهم.

أما ما جرى بينهما ، فلا يزال سرا الخ ...» (١).

ونقول :

إننا نسجل على هذا الكلام النقاط التالية :

١ ـ إنه يظهر : أن هذا الكاتب يريد تخفيف ذنب بني قريظة ، وإبهام

__________________

(١) محمد في المدينة ، لمونتجمري وات ص ٣٢٦.

٢٧٣

حقيقة تصرفاتهم ، وما صدر منهم ، بهدف إظهار أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد ظلمهم واعتدى عليهم ، وعاقبهم عقوبة لا يستحقونها.

فهو يوحي : أن قريظة لم تنقلب على محمد ، لأنها لم تثق بقريش وحلفائها!!

وهو يدّعي : أنها لم ترد على الهجوم بحماس!! وانسحبت إلى أطمها.

ويدّعي أيضا : أن موقف قريظة لم يزد على أن كان موقفا مشبوها. وقد هاجمها النبي «صلى الله عليه وآله» ، ليظهر أن الدولة الإسلامية لا تسمح بمثل هذا الموقف المشبوه!! وقريظة بزعمه قد عرضت الاستسلام بشروط قبلها النبي «صلى الله عليه وآله» من بني النضير ، لكنه رفضها من بني قريظة!! بل كان «صلى الله عليه وآله» ـ على حد زعمه ـ يريد أن تستسلم قريظة دون قيد أو شرط مع ما يتضمنه ذلك من معاني التحدي والعنفوان الإسلامي مع الإمعان في إذلال قريظة وتحقيرها.

وهو يدّعي كذلك سرّية ما جرى بين أبي لبابة وبني قريظة. ربما ليضفي ـ هذا القائل ـ المزيد من الغموض على حقيقة ما صدر من يهود قريظة ، لأنه لا يصرح بتلاومهم على ما صدر منهم ، ولا يصرح بمعرفتهم بحقيقة الحكم الذي سيصدر في حقهم ـ ليظهر أنهم قد أخذوا على حين غرة منهم ـ لا ينتج ذلك أنهم قد أخذوا خداعا وغدرا.

٢ ـ لقد ادّعى ذلك المستشرق : أن ما صدر هو مجرد مفاوضات مع أعداء محمد «صلى الله عليه وآله» ، لم تنته إلى اتفاق ، وبقيت قريظة على ولائها ، ولم تنقلب على محمد «صلى الله عليه وآله».

متناسيا حقيقة : أنهم نقضوا العهد ، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» أرسل إليهم سعد بن معاذ ، وآخرين ليقنعوهم بالعودة عن موقفهم ،

٢٧٤

فرفضوا العودة عن نقض العهد ، وأسمعوهم ما يكرهون.

وتناسى أيضا : أنهم كانوا قد أرسلوا من تحرش بالنساء المسلمات في أطمهم ، وقتلت صفية «رحمها الله» واحدا منهم.

ثم تناسى أنهم أرسلوا إلى قريش بأحمال الطعام ، فاستولى المسلمون على القافلة ، وجرى لهم معها قتال ، وكان هناك جرحى ، وتناسى وتناسى ..

إلى آخر ما هنالك من حقائق دامغة.

٣ ـ قد زعم هذا القائل : أن قريظة انسحبت إلى أطمها ، ولم ترد على الهجوم بحماس ، مع أن بعض النصوص التاريخية تقول : إنهم قد ناجزوا المسلمين خارج حصونهم وألحقوا بهم بعض الهزائم ، كما سيأتي ، فما معنى قوله : أنهم لم يردوا على الهجوم بحماس؟!

إننا لا ندري : من أين استنتج حقيقة أنهم لم يردوا على الهجوم بحماس؟ وهم قد قاتلوا المسلمين بإصرار خارج حصونهم ، ثم تحصنوا في داخلها مدة طويلة ـ سيأتي أنها استمرت أياما كثيرة تراوحت الأقوال فيها ما بين عشرة أيام إلى شهر ـ ولم يفكروا بالاستسلام إلا بعد أن سمعوا عليا «عليه السلام» يقسم على أنه لن يرجع عنهم حتى يفتح الله عليه.

٤ ـ قوله : إن ما جرى بينهم وبين أبي لبابة قد بقي سرا ، غير صحيح فقد ذكرنا موجزا عما جرى بينهم وبين أبي لبابة سيأتي في موضعه من هذا الجزء فراجع.

جبريل يأمر بالمسير إلى بني قريظة :

وتحدّثنا الروايات في مختلف المصادر التاريخية : أن النبي «صلى الله عليه

٢٧٥

وآله» سار إلى بني قريظة عند منصرفه من الخندق ، وذلك يوم الأربعاء (كما ذكره الواقدي وغيره) لسبع بقين من ذي القعدة ، وكانوا على بعد يوم من المدينة.

وأضاف الواقدي : أنه انصرف عنهم لسبع خلون من ذي الحجة (١).

ولما انصرف «صلى الله عليه وآله» من الخندق ، ودخل المدينة ، ووضع السلاح جاءه جبرئيل «عليه السلام» بأمر الله سبحانه في شأنهم بعد صلاة الظهر ، فأمر «صلى الله عليه وآله» المسلمين أن لا يصلي أحد منهم العصر إلا في بني قريظة ، كما ذكره البخاري وغيره (٢).

وعن ابن إسحاق : أنه «صلى الله عليه وآله» أمر بلالا فأذن في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة (٣). لكن ذكر مسلم

__________________

(١) راجع المصادر التالية : التنبيه والإشراف ص ٢١٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٦ ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج ١ ص ٢٥١ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٨٨.

(٢) راجع : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣١ ووفاء الوفاء ص ٦٩٥ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٢ والثقات ج ١ ص ٢٧٤ وجوامع السيرة النبوية ص ١٥٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٨٧ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٥ والإكتفاء ج ٢ ص ١٧٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٤٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٢٤ ، والمغازي للذهبي ص ٢٥٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٦ و ٧.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٣١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٩.

٢٧٦

وآخرون أنه «صلى الله عليه وآله» قال : لا يصلين أحد الظهر (١).

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» بعث يومئذ مناديا ينادي : «يا خيل الله اركبي» (٢).

في بيت عائشة أم في بيت فاطمة عليها السّلام؟!

ولتفصيل القول فيما تقدم نقول :

قد ذكر المؤرخون : أن جبرئيل جاء إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهو في بيت عائشة فغسل رأسه ، واغتسل ، ودعا بالمجمرة ليجمر ، وقد صلى الظهر ، فأتاه جبرئيل على بغلة .. على ثناياه النقع ، فوقف عند موضع الجنائز ، فنادى : عذيرك من محارب.

فخرج «صلى الله عليه وآله» فزعا.

فقال له جبرئيل : ألا أراك وضعت اللامة ، ولم تضعها الملائكة بعد. لقد طردناهم إلى حمراء الأسد. إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة ، فإني عامد إليهم

__________________

(١) راجع في ذلك : إرشاد الساري ج ٦ ص ٣٢٨ و ٣٢٩ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٨٩ و ١٩٠ وفتح الباري ج ٧ ص ٣١٣ و ٣١٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤ و ٣٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ٩٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣٢ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٨ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٢.

(٢) عيون الأثر ج ٢ ص ٦٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣.

٢٧٧

فمزلزل بهم حصونهم ، فدعا «صلى الله عليه وآله» عليا «عليه السلام» الخ .. (١).

ويقول نص آخر عن عائشة : سلّم علينا رجل ، ونحن في البيت ، فقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» فزعا. فقمت في أثره ، فإذا بدحية الكلبي.

فقال : هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة.

قالت : فكأني برسول الله «صلى الله عليه وآله» يمسح الغبار عن وجه جبرئيل «عليه السلام» (٢).

أو قالت : بينا هو عندي إذ دق الباب (أو : سمع صوت رجل) فارتاع لذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ووثب وثبة منكرة ، وخرج ، وخرجت في أثره ، فإذا رجل على دابة ، والنبي «صلى الله عليه وآله» متكي على معرفة الدابة يكلمه فرجعت .. فسألته عن ذلك الرجل ، فأخبرها أنه جبرئيل (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٧ وراجع : طبقات ابن سعد (ط دار الأضواء) ج ٢ ص ٧٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤١ و ٢٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٨ و ٩ و ١٠ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣١ و ٣٣٢ و ٣٣٣.

(٢) راجع : عمدة القاري ج ١٧ ص ١٩٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٨ وتاريخ الإسلام (المغازي ص ٢٥٤).

(٣) راجع : عيون الأثر ج ٢ ص ٦٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٧ عن البيهقي ودلائل النبوة للأصبهاني ص ٤٣٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤١ عن الطبراني في الأوسط ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٨ و ١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٧٨

ونحن نرتاب في صحة هذه الروايات وأضرابها ، وذلك لما يلي :

أولا : هي مضطربة ومتنافرة إلى حد كبيرة ونشير إلى موردين فقط من موارد التنافر والاختلاف هما :

١ ـ أن عائشة تذكر : أنها خرجت في أثر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فرأته «صلى الله عليه وآله» متكئا على معرفة دابة جبريل ، فرجعت ، فلما دخل النبي «صلى الله عليه وآله» سألته عنه ، فأخبرها.

لكن في رواية أخرى تقول عائشة : كأني أنظر إلى جبريل من خلل الباب ، قد عصب رأسه العنان (الغبار) (١).

وفي نص ثالث : كأني أنظر إلى رسول الله يمسح الغبار عن وجه جبريل ، فقلت : هذا دحية الكلبي يا رسول الله؟!

فقال : هذا جبرئيل (٢).

٢ ـ كان في بيت عائشة ساعتئذ ، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فجاءه جبريل (٣).

مع أن ما تقدم آنفا يقول : فغسل رأسه واغتسل ، ودعا بالمجمر ليجمر ، وقد صلى الظهر ، فأتاه جبرئيل.

__________________

(١) الوفا ص ٦٩٤ و ٦٩٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٧ و ١١٨ و ١٢٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ وفتح الباري ج ٧ ص ٣١٨ وراجع : مسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٧١ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٧.

(٢) سيرة ابن إسحاق ص ٣٩٧.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣ وراجع : ابن سعد ج ٢ ص ٧٥ و ٧٦ وفيه : أنه نادى في الناس : أن ائتوا حصن بني قريظة ، ثم اغتسل فأتاهم عند الحصن.

٢٧٩

وفي نص ثالث : أنه وضع لامته واغتسل واستجمر (١).

ثانيا : قد ذكرت عائشة : أنها رأت جبرئيل من خلل الباب قد عصب رأسه العنان.

وسيأتي : أن كثيرين من الصحابة قد رأوه ، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أخبرههم أنه جبرئيل.

ولكن قد روي في المقابل : أن الذي يرى جبرئيل «عليه السلام» يبتلى بالعمى فما رآه أحد إلا طمست عيناه.

فلماذا لم تبتل عائشة ، ولا أحد من الصحابة بالعمى بسبب رؤيتهم جبرئيل؟!

وستأتي الأحاديث الدالة على ذلك عن قريب.

ثالثا : ذكرت الروايات المتقدمة أنه «صلى الله عليه وآله» كان حين جاءه جبريل في بيت عائشة ، مع أن ثمة روايات أخرى تخالفها في ذلك ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ إنه «صلى الله عليه وآله» كان حين جاءه جبرئيل في بيت زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه.

وفي الدر المنثور : يغسل رأسه ، وقد غسلت شقه إذ جاء جبرئيل فقال : الخ .. (٢).

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٩ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٤٣٨ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ عن الطبراني وسبل الهدي والرشاد ج ٥ ص ٨ و ٩.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣١ والدر المنثور ج ٥ ص ١٩٣ عن ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٢٨٠