الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

من البعيد جدا (١).

ونقول :

إننا نوافق المعتزلي على ما قاله.

ولكننا نقول له : كيف صار هذا من البعيد جدا ، ولم تكن موافقات عمر للقرآن (٢) على اختلافها وتنوعها ، من البعيد جدا أيضا؟!.

أم أن عبقرية عمر ليست لغيره من البشر ، حتى الأنبياء وأوصيائهم ، فضلا عن النساء؟ أم أن حق التأليف القرآني محفوظ لعمر بن الخطاب بالإشتراك مع العزة الإلهية؟! تعالى الله عما يقول الجاهلون والوضاعون لفضائل عمر علوا كبيرا.

الآن نغزوهم ، ولا يغزوننا :

وذكروا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال يوم الأحزاب ، حين أجلاهم الله سبحانه : الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم.

أو قال : لن تغزوكم قريش بعد عامهم (أو عامكم) هذا ، أو نحو ذلك (٣). فلم تغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي ج ١٤ ص ٢٦٢.

(٢) راجع على سبيل المثال : تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ٣٢ ـ ٣٤ والغدير للعلامة الأميني ج ٥ ص ٤٣ ـ ٦٥.

(٣) راجع المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٩ عن أحمد ، والبخاري ، والبزار ، والبيهقي ، وأبي نعيم ، وفتح الباري ج ٧ ص ٣١٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٤ ، و ٤٥٧ و ٤٥٨ والسيرة النبوية ـ

٢٤١

متى قال النبي صلى الله عليه وآله كلمته؟!

وقد صرح المفيد والمعتزلي : بأنه «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك حين قتل عمرو وأصحابه. لكن المؤرخين الآخرين يذكرون ذلك بعد جلاء الأحزاب.

والظاهر هو : أنه لا فرق بين القولين ، لأن جلاء الأحزاب كان في اليوم الثاني ، أو الثالث من قتل الفرسان. فلم يكن هناك فاصل زماني يعتد به. ولا حدثت بعد قتلهم أحداث متميزة ومهمة سوى ما أرسله الله سبحانه

__________________

لابن دحلان ج ٢ ص ١٢ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٩ ص ٦٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٥١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٨ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٥٨ و ٢٧٣ و ٢٠٩ والإرشاد للمفيد ص ٦٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٦ وراجع ص ٧٦ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٥ عن ابن إسحاق ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٤ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٢١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢.

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي ج ١٤ ص ٢٦٢.

٢٤٢

على الأحزاب من الريح.

ولعل البعض : قد حاول تعمية الأمر هنا ، لأجل أن يقلل من أهمية الإنجاز الكبير الذي حققة علي «عليه السلام» ، الذي ابتلي بأناس لا يزالون يحاولون إنكار فضائله ، وإطفاء نور جهاده الرسالي الرائد.

لماذا لن تغزوهم قريش بعد اليوم؟!

لقد أشاع المشركون بعد حرب أحد : أن المسلمين قد هزموا ، وتكبدوا خسائر فادحة ، رغم أن نهايات حرب أحد كانت كبداياتها قد أرعبت جيش الشرك ، وهزمته روحيا وعسكريا ، وإن كانت قد حصلت نكسة في أواسط المعركة ، تكبد المسلمون بسببها خسارة كبيرة.

ولكنهم بفضل جهاد علي «عليه السلام» ، ثم عودة الخلص من المسلمين للقتال قد استعادوا زمام المبادرة ، وانتهت الحرب بهزيمة المشركين وكسر عنفوانهم ، وتكبدوا هم أيضا خسائر كبيرة على مستوى القيادات وغيرها.

ولكن الخسارة التي مني بها المسلمون كانت أكبر ـ كما قلنا ـ فكان أن أشاع المشركون أنهم قد انتصروا في حرب أحد ، كمحاولة دعائية فارغة لرد الإعتبار.

ثم حزبوا الأحزاب ، وجمعوا الجموع ، واتفقوا مع يهود بني قريظة ، فانتعشت آمالهم من جديد ، وبدا واضحا لهم : أن أمر المسلمين قد انتهى ، وأصبحت المسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.

وقد كانت المشاركة الشاملة للقبائل الفاعلة في المنطقة تطمئن زعماء قريش ، الذين حشدوا كل ما لديهم من قوى بشرية ومادية لحسم هذا

٢٤٣

الأمر ، والتخلص من هذا الكابوس الجاثم على صدورهم.

ولكن وجود الخندق ، وحسن إدارة الرسول «صلى الله عليه وآله» لأمر الحرب معهم ، قد هيأ للمسلمين فرصة للمطاولة في أمر الحرب ، حتى مل الأحزاب طول الحصار ، وأصبحوا يواجهون مشكلات على مستوى التموين وغيره.

ثم ظهرت خلافات زعزعت الثقة فيما بين الفرقاء المؤتلفين ، حيث فسد الأمر بينهم وبين بني قريظة وكان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» السبب في ظهورها ، حسبما أوضحناه.

ثم كان قتل علي «عليه السلام» لعمرو ، فارس الأحزاب وكبش كتيبتهم ، ولمن معه ، وفرار الباقين ، هو الضربة القاصمة لهم ، والمرعبة لقلوبهم.

وجاءت الريح لتثير في نفوسهم المزيد من الخوف والرهبة ، والإحساس بالوحشة والوحدة. حيث يجد كل منهم نفسه مسؤولا عن حفظ نفسه في مواجهة طغيان هذه الريح. ولا أحد يستطيع مساعدته والدفع عنه.

فآثروا الفرار على القرار ، خوفا من أن يبطش بهم سيف الإسلام من جديد ، دون أن يتمكنوا من لم شعثهم ، وتسوية صفوفهم. بل وحتى دون أن يتمكنوا من رؤية ما حولهم ، لأنهم أصبحوا في ظلمة شديدة ، وحالة مزرية إلى أبعد الحدود.

فكانت الهزيمة ، وكان الخزي والعار لهم ، دون أن يتمكنوا من تحقيق أي شيء سوى أنهم قتلوا أفرادا قليلين ، قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة وقد خسروا في المقابل ما يعادل نفس هذا العدد ، إلا أن من بينهم فارس قريش والعرب عمرو بن عبدود العامري لعنه الله.

٢٤٤

فإذا كان هذا أكبر حشد يمكن لقوى الشرك والكفر في المنطقة كلها أن تقوم به ، وقد طار صيت هذا الحشد في مختلف البلاد ، وشدت إليه الأنظار ، وانتظر الناس أخباره في الليل والنهار ، وتوقعت القبائل نتائجه في مختلف أرجاء الجزيرة العربية بفارغ الصبر لا سيما وأن الهدف الذي أعلنوه لهذه الحرب ، هو استئصال محمد ومن معه ، حسبما تقدم (١).

فإن النتائج التي قدمها هذا الحشد كله ، قد جاءت بمثابة زلزال هز المنطقة من الأعماق ، وبث روح الفشل والوهن في كل قلب ، وزرع الخوف والرعب في كل بيت.

وحدثت الهزيمة الساحقة والماحقة لكل عنفوان الشرك ، وجبروت الكفر حيث فهم الجميع أن أقصى ما يمكن لهم أن يفعلوه ضد الإسلام ونبي الإسلام قد فعلته قريش والأحزاب ولم ينته إلى نتيجة.

وكانت النتيجة كذلك هي أن قريشا قد فقدت الكثير من نفوذها ومكانتها ، ولم تعد الكثير من القبائل تجد نفسها ملزمة بالخط أو الموقف الذي تريد قريش إلزامها به.

ولم يعد بالإمكان إقناع الكثير من القبائل بالمخاطرة بمستقبلها ، والدخول في حرب جديدة مع الإسلام ومع المسلمين.

أضف إلى ذلك : أنه لم يعد بالإمكان تحصيل درجة كافية من الوثوق

__________________

(١) راجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤١ وخاتم النبيين ج ٢ ص ٩٤٢ والمغازي للواقدي ج ٢ وبقية المصادر ـ وهي كثيرة جدا ـ تجدها في فصل : الأحزاب إلى المدينة ، وفي فصل : غدر بني قريظة.

٢٤٥

بالآخرين ، الذين لا بد من ضمان مشاركتهم الفاعلة حتى النهاية. بعدما أثبتت التجربة مع بني قريظة ، بل وفيما بين فئات المشركين أنفسهم ، أن الرهان على ذلك رهان فاشل ، بل هو رهان على يباب وسراب.

وهكذا فإن القبائل التي باتت على يقين من عجزها عن مواجهة الإسلام تسير باتجاه ترميم علاقاتها ، وتحسينها مع التيار الإسلامي الجديد ، الذي لا يزال يتنامى ويتعاظم في المنطقة بصورة مطردة.

وظهر مصداق قوله «صلى الله عليه وآله» : الآن نغزوهم ولا يغزوننا أو ما هو قريب من هذا.

وأصبح زمام المبادرة العسكرية على الخصوص بيد المسلمين ، منذ هزيمة الأحزاب واليهود في حرب الخندق.

(.. وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(١).

غلط حسابات المعتزلي :

وقد ادّعى المعتزلي : أن النبي «انتصر يوم بدر ، وانتصر المشركون عليه يوم أحد وكان يوم الخندق كفافا ، خرج هو وهم سواء لا عليه ولا له ، لأنهم قتلوا رئيس الأوس ، وهو سعد بن عبادة ، وقتل منهم فارس قريش ، وهو عمرو بن عبدود ، وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك التي كانت» (٢).

وقد اشتبه الأمر على المعتزلي في موضعين :

أحدهما : قوله : إن المشركين انتصروا على النبي «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) الآية ٢٥ من سورة الأحزاب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٢٠.

٢٤٦

يوم أحد.

وقد بينا في غزوة أحد : أن النصر فيها كان للمسلمين ، وأن المشركين قد فروا من ساحة الحرب ، خوفا من أن ينال المسلمون منهم بصورة أشد وأعنف.

نعم .. قد حصلت نكسة للمسلمين في وسط المعركة ، ثم تجاوزوها بفضل جهاد علي ، وقتله العديد من قادة كتائب المشركين ، فراجع.

الثاني : دعواه : أنه يوم الأحزاب لم يكن النصر لأحد ، مع أن النصر فيها كان للمسلمين ، وذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان. وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم من نصوص وبحوث.

إلا أن يكون محط نظر المعتزلي هو عدد القتلى الذين سقطوا من الفريقين في هذه المعارك.

ولكن من الواضح : أن تعبيره بالنصر والهزيمة ـ والحالة هذه ـ يصبح بلا مبرر.

الشهداء والقتلى :

١ ـ الشهداء من المسلمين :

قال مالك : لم يستشهد يوم الخندق إلا أربعة ، أو خمسة (١).

وقال أبو زهرة : خمسة (٢).

__________________

(١) الوفاء ج ١ ص ٣٠٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢ عن الوفاء والجامع للقيرواني ص ٢٨١.

(٢) خاتم النبيين ج ٢ ص ٩٣٨.

٢٤٧

وقيل : كان الشهداء ستة ، منهم سعد بن معاذ.

وزاد الكازروني : أنهم من الأنصار (١).

وقال البعض : استشهد سعد في سبعة من الأنصار (٢).

وقال البعض : قتل من المسلمين ثمانية ، مضيفا الرجلين اللذين قيل : إنهما كانا طليعة للمسلمين فقتلا (٣). وقد تقدم عدم صحة ذلك.

وحسب بعض المصادر ، فالشهداء هم : ثلاثة من بني عبد الأشهل : سعد بن معاذ ، رمي بسهم ، وأنس بن أوس ، قتله خالد بن الوليد ، وعبد الله بن سعد ، رماه رجل من بني عويف فقتله.

واثنان من بني جشم ، هم : الطفيل بن النعمان ، قتله وحشي ، وابن عتمة ، قتله هبيرة بن أبي وهب.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٣ وراجع : البداء والتاريخ ج ٤ ص ٢٢٠ ومختصر التاريخ ص ٤٣ والوفاء ص ٦٩٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٠ و ٢٤١ ، ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ وبهجة المحافل وشرحه ج ١ ص ٢٧٢ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٤ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٠ و ٥٥١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٥ و ٤٩٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٥ و ١١٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٢٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٥٢ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٨ و ١٧٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ٢٠٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣.

(٢) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٢.

(٣) الرسول العربي وفن الحرب.

٢٤٨

وواحد من بني النجار (أو دينار) هو كعب بن زيد ، أصابه سهم غرب فقتله ، وقيل : قتله ضرار بن الخطاب.

وزاد الدمياطي في الشهداء من المسلمين : قيس بن زيد بن عامر ، وعبد الله بن أبي خالد ، وأبا سنان بن صيفي بن صخر ، ذكر الحافظ في الكنى : أنه شهد بدرا ، واستشهد في الخندق (١).

٢ ـ القتلى من المشركين :

وقتل من المشركين ثمانية (٢).

وقيل : ثلاثة (٣).

وقيل : أربعة جميعهم من قريش (٤). وقد سمعت بعض المصادر القتلى.

والقتلى الثلاثة من المشركين هم : منبه بن عثمان (أو عثمان بن أمية بن منبه) أصابه سهم فمات بمكة. ونوفل بن عبد الله ، وعمرو بن عبدود (٥) ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥١ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٧ و ٦٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠.

(٣) راجع المصادر التي تقدمت للقول بأن شهداء المسلمين ستة.

(٤) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٢ والرسول العربي وفن الحرب ص ٢٥٤ وروح المعاني ج ٢١ ص ١٧٥.

(٥) راجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٤٠ و ٢٤١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٠ و ٥٥١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٥ و ٤٩٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٥ و ١١٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٢٢ وتاريخ الإسلام للذهبي

٢٤٩

وعبيد بن السباق (١). فليتأمل في هذا الأخير وليراجع كلام ابن إسحاق.

وتقدم : أن حسل بن عمرو بن عبدود قد قتل هو الآخر مع أبيه. فراجع الفصل السابق.

وقال ابن شهر آشوب : إن عليا «عليه السلام» قتل يوم الأحزاب : عمرو بن عبدود وولده ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة ، ومنبه بن عثمان العبدري ، وهبيرة بن أبي هبيرة المخزومي (٢).

العودة إلى المدينة :

قالوا : «وأصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالخندق ، وليس بحضرته أحد من عساكر المشركين ، قد هربوا وانقشعوا إلى بلادهم.

فأذن للمسلمين في الانصراف إلى منازلهم. فخرجوا مبادرين مسرورين بذلك.

فكره رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن تعلم بنو قريظة حب رجعتهم إلى منازلهم ، فأمر بردهم ، فبعث من ينادي في أثرهم ، فما رجع منهم رجل

__________________

(المغازي) ص ٢٥٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٨ و ١٧٩ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ٢٠٦ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٤ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٧٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٣ والبحر المحيط ج ٧ ص ٢٢٤ وروح المعاني ج ٢١ ص ١٧٥.

(١) البحر المحيط ج ٧ ص ٢٢٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٨٣.

٢٥٠

واحد» (١).

زاد في نص آخر قوله : «من القر والجوع ، قالا : وكره رسول الله «صلى الله عليه وآله» سرعتهم ، وكره أن يكون لقريش عيون.

قال جابر : فرجعت إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فلقيته في بني حرام منصرفا ، فأخبرته ، فضحك «صلى الله عليه وآله» (٢).

ويقول القمي عن الأحزاب : «ففروا منهزمين ، فلما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لأصحابه : لا تبرحوا.

فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة ، وبقي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في نفر يسير» (٣).

ويقول الراوندي : «إن النبي «صلى الله عليه وآله» صلى بالناس الفجر ، ونادى مناديه : لا يبرحن أحد مكانه إلى أن تطلع الشمس.

فما أصبح إلا وقد تفرق عنه الجماعة إلا نفرا يسيرا.

فلما طلعت الشمس انصرف رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ومن كان معه ، فلما دخل منزله الخ ..» (٤).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٠ والمغازي ج ٢ ص ٤٩١. وفي إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٩ اكتفى بالقول : «وأصبح «صلى الله عليه وآله» ، فأذن للمسلمين بالانصراف ، فلحقوا بمنازلهم».

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٠ عن الطبراني ، والواقدي. والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٩٢.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣١.

(٤) الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٨ عنه.

٢٥١

وكان انصرافه «صلى الله عليه وآله» من غزوة الخندق لسبع ليال بقين من ذي القعدة (١).

وكان المنافقون بناحية المدينة يتحدثون بنبي الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه ، ويقولون : ما هلكوا بعد؟!.

ولم يعلموا بذهاب الأحزاب ، وسرهم أن جاءهم الأحزاب ، وهم بادون في الأعراب (٢).

عثمان وبنت النبي صلى الله عليه وآله في الخندق :

وقد روى قطب الدين الراوندي : قصة المغيرة بن أبي العاص في غزوة الخندق وملخص ما هو محط نظرنا منها :

أن المغيرة بن أبي العاص ادّعى : أنه رمى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكسر رباعيته ، وشق شفتيه وكذب ، وادّعى أنه قتل حمزة وكذب.

فلما كان يوم الخندق ضرب الله على أذنيه ، فنام ولم يستيقظ حتى أصبح ، فخشي أن يجيء الطلب فيأخذوه ، وجاء إلى منزل عثمان ، وتسمى باسم رجل من بني سليم كان يجلب إلى عثمان الخيل والغنم والسمن ؛ فأدخله عثمان منزله ، فلما علمت امرأة عثمان ما صنع بأبيها وعمها صاحت ، فأسكتها عثمان.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٦ وراجع : نهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٥ وفتح الباري ج ٧ ص ٣١١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٠.

٢٥٢

ثم خرج إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فطلب منه الأمان للمغيرة ثلاث مرات ، والنبي يحول وجهه عنه حتى آمنه في الثالثة ، وأجله ثلاثا ، ولعن من أعطاه راحلة ، أو رحلا ، أو قتبا ، أو سقاء ، أو قربة ، أو إداوة ، أو خفا ، أو نعلا ، أو زادا أو ماء ؛ فأعطاه عثمان هذه الأشياء.

ولم يوفق للخروج من محيط المدينة فأعلم جبرئيل النبي «صلى الله عليه وآله» بمكانه ، فأرسل زيد بن حارثة والزبير ، فقتله زيد لأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان قد آخى بين زيد وحمزة.

فرجع عثمان إلى امرأته ، واتهمها بأنها كانت قد أخبرت أباها بمكان عمه ، فحلفت له بالله ما فعلت ، فضربها بخشبة القتب ضربا مبرحا كان سبب وفاتها في اليوم الثاني ، وقد منع النبي «صلى الله عليه وآله» عثمان ـ الذي كان قد ألم بجاريته ليلة وفاتها ـ من حضور جنازتها (١).

ولكن قد تقدم بعد غزوة حمراء الأسد : أن هذه القضية قد حصلت بعد واقعة أحد. وربما تكون رواية الراوندي أقرب والله هو العالم.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ٩٤ ـ ٩٦ والبحار ج ٢٢ ص ١٥٨. وقال في هامش الخرائج : ورواه : بنحو آخر في الكافي ج ٣ ص ٢٥١ والتهذيب ج ٣ ص ٣٣٣ وأخرجه في الوسائل ج ٢ ص ٨١٨.

٢٥٣
٢٥٤

الباب الثالث

غزوة بنى قريظة

الفصل الأول : المسير إلي حصون قريظة

الفصل الثاني : حصار وإنهيار

الفصل الثالث : فشل المفاوضات وخيانة أبي لبابة

الفصل الرابع : حكم الله من فوق سبعة أرقعة

الفصل الخامس : القتلى والشهداء

الفصل السادس : الغنائم والأسرى ملحق : بلوغ المرأة

الفصل السابع : بعد العاصفة

٢٥٥
٢٥٦

آيات في غزوة بني قريظة :

قيل : إن بعض الآيات قد نزلت في غزوة بني قريظة وهي :

قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١).

وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢).

صدق الله العلي العظيم.

__________________

(١) الآيات ٥٦ ـ ٥٨ من سورة الأنفال.

(٢) الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة الأحزاب.

٢٥٧
٢٥٨

خلاصات عن غزوة بني قريظة :

ونقدم هنا خلاصة عن غزوة بني قريظة ، إذ بدون ذلك فسيكون من الصعب لملمة خيوطها من ثنايا ما قمنا به من بحوث موسعة نسبيا ، فرضتها علينا التزاماتنا التي أخذنا على عاتقنا مراعاتها في هذا الكتاب.

ولسوف تكون هذه الخلاصة بمثابة عناوين عامة ، وكليات لن يغني الاطلاع عليها عن الاطلاع على التفاصيل ، والمناقشات ، والاستفادات ، والتحليلات التي رأينا من المناسب التعرض لها ، حسبما اقتضاه الحال ، وسمحت به المناسبة.

وما نريد أن نلمح إليه هنا هو ما يلي :

إنه قد تقدم : أنه كان بين بني قريظة وبين رسول الله «صلى الله عليه وآله» عهد فنقضوه ، فأرسل رسول الله «صلى الله عليه وآله» سعد بن معاذ وآخرين إليهم ، لاستطلاع الأمر ، فحاول سعد إقناعهم بالتخلي عن فكرة نقض العهد ، فسمع منهم ما يكره ، ولم يزدهم ذلك إلا استكبارا وإصرارا.

فلما انقضى شأن الأحزاب في الخندق ، بالهزيمة الذليلة ، بعد قتل فارسهم عمرو بن عبدود ، ومن عبر الخندق معه ، عاد النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمون إلى المدينة ، فجاءه جبرئيل فورا ، وأمره بالمسير إلى بني قريظة.

٢٥٩

وكان «صلى الله عليه وآله» ـ على ما هو الأظهر ـ حينئذ في بيت فاطمة «عليها السلام» فدعا «صلى الله عليه وآله» عليا «عليه السلام» ، وأمره بالتقدم إلى بني قريظة في مجموعة من المسلمين ، ففعل.

ثم أمر «صلى الله عليه وآله» المسلمين بأن لا يصلوا العصر ، أو الظهر ـ على ما هو الأرجح ـ إلا في بني قريظة.

وسار «صلى الله عليه وآله» على حمار عري ، يقال له : يعفور ، حتى نزل على بئر لبني قريظة ، يقال له : بئر «أنا» بأسفل حرة بني قريظة ، وتلاحق به الناس.

وجاء المسلمون أرسالا ، ووصل بعضهم بعد العشاء الآخرة ، ومنهم من لم يكن قد صلى الظهر أو العصر بعد.

وحاصر المسلمون بني قريظة أشد الحصر ـ ودعاهم «صلى الله عليه وآله» في بادئ الأمر إلى الإسلام ، فأبوا ـ واستمر الحصار أياما قيل : عشرة أيام ، وقيل أكثر من ذلك ، وتصاعدت الأقوال إلى شهر.

وأرسل «صلى الله عليه وآله» إليهم أكابر أصحابه ، فهزموهم ، فبعث عليا «عليه السلام» فكان الفتح على يديه ، وكلموا رسول الله بالنزول على ما نزلت عليه بنو النضير ، فأبى عليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك ، وأسلم ثعلبة ، وأسيد إبنا سعية ، وكذلك أسد بن عبيد ، وانضموا إلى صفوف المسلمين.

واستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم النبي «صلى الله عليه وآله» ، فأشار إليهم بيده إلى حلقه : إنه الذبح.

فنزلوا على حكم سعد بن معاذ.

٢٦٠