الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

لكن هناك نص يقول : إنهم قد طلبوا الرهائن حين كلمهم حيي بن أخطب في نقض العهد ، فإنهم طلبوا منه : أن يأخذ لهم رهائن من قريش وغطفان تكون عندهم ، تسعين رجلا من أشرافهم (١) ، وذلك قبل إسلام نعيم.

وقد حاول البعض : أن يحل هذا الإشكال ، فقال : «قد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان بعثوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة» (٢).

وهو حل غير مقبول : لأنهم بعد أن يئسوا من انتظام أمرهم مع المشركين ، وصيرورتهم في الموقف الأضعف ، وأصبحوا يخشون على أنفسهم من مغبة غدرهم ، وعواقب خيانتهم وما جنته أيديهم ، لم يكونوا ليجرؤوا على اشتراط إرجاع بني النضير إلى أراضيهم.

أضف إلى ذلك : أن هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير لا يحل إشكال أن يكون طلب الرهائن قبل إسلام نعيم. حسبما أوضحناه.

ثالثا : إننا لا نكاد نصدق دعوى نعيم : أن قريظة قد أرسلت بحضوره إلى النبي «صلى الله عليه وآله» تعده بأخذ سبعين ، أو تسعين رهينة من أشراف قريش وغطفان ليقتلهم.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٣ و ١٠٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠١.

(٢) البداية والنهاية ج ٤ ص ١١٣.

٢٠١

إذ إن نعيم بن مسعود نفسه كان من غطفان ، فهل يجهر بنو قريظة أمام غطفاني ـ مهما كانت درجة إخلاصه لهم ـ بأنهم يريدون أخذ أشراف قومه ليسلموهم إلى القتل؟!.

وهل يمكن أن يصدقه المشركون : أنه قد سمع ذلك حقا من بني قريظة؟!.

رابعا : لو صحت قصة نعيم على النحو المذكور آنفا ، لكان يجب أن نتوقع من حيي بن أخطب موقفا آخر من بني قريظة. فيتملص من تعهداته لهم ، ولا يسلم نفسه إلى القتل بدخوله معهم في حصنهم بعد رحيل قريش ، لأن لديه حجة واضحة ، وهي أن الإخلال وإفشال ما جمعه من كيد إنما من قبل بني قريظة أنفسهم ، فإنهم هم الذين أخلّوا بتعهداتهم تجاه قريش ، وليس العكس.

خامسا : هناك العديد من الروايات التي تؤكد على أن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» نفسه هو الذي أفسد العلاقة بين قريش والمشركين من جهة ، وبين بني قريظة من جهة أخرى. وليس نعيم بن مسعود بل كان هو الآخر غافلا عن حقيقة التدبير النبوي في هذا المجال.

والنصوص المشار إليها هي التالية :

١ ـ قال ابن عقبة : إن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث ، فاتفق أنه مرّ بالقرب من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذات يوم عشاء ، فأشار إليه «صلى الله عليه وآله» أن تعال ، فجاء ، فقال : ما وراءك؟!.

فقال : إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فينا جزوك.

٢٠٢

فقالت قريظة : نعم ، فأرسلوا إلينا بالرهن.

قال : فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إني مسر إليك شيئا فلا تذكره.

قال : «إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح ، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم». وإنما قال له «صلى الله عليه وآله» ذلك على سبيل الخدعة الجائزة في الحرب.

فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان.

وقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : الحرب خدعة. وعسى أن يصنع لنا.

فأتى نعيم غطفان وقريشا فأعلمهم ؛ فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه ـ فاتفق ذلك ليلة السبت ـ يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم ، فاعتلت اليهود بالسبت. ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة ، فأوقع الله بينهم واختلفوا (١).

ونعتقد : أن هذه الرواية هي الأقرب إلى الصواب ، ويشهد لذلك ما يلي :

٢ ـ قال القمي : إنه لما بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» نقض بني قريظة للعهد ، قال «لعناء ، نحن أمرناهم بذلك. وذلك أنه كان على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» عيون لقريش ، يتجسسون خبره» (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١١٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٦ و ٢١٧ وراجع : الأمالي للشيخ الطوسي ص ٢٦٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٤ و ٤٠٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٢٣ عنه.

٢٠٣

٣ ـ عن علي «عليه السلام» قال : الحرب خدعة. إذ حدثتكم عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» حديثا ، فو الله ، لأن أخرّ من السماء أو تخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب على رسول الله «صلى الله عليه وآله». وإذ حدثتكم عني ، فإن الحرب خدعة.

فإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بلغه : أن بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان : أنكم إذا التقيتم أنتم ومحمد «صلى الله عليه وآله» أمددناكم وأعنّاكم.

فقام النبي «صلى الله عليه وآله» ، فخطبنا فقال : إن بني قريظة بعثوا إلينا : أنّا إذا التقينا نحن وأبو سفيان أمددونا وأعانونا.

فبلغ ذلك أبا سفيان ، فقال : غدرت يهود ، فارتحل عنهم (١).

٤ ـ عن عائشة : كان نعيم رجلا نموما ، فدعاه «صلى الله عليه وآله» ، فقال : إن يهود قد بعثت إليّ : إن كان يرضيك عنا : أن نأخذ رجالا رهنا من قريش وغطفان ، من أشرافهم ، فندفعهم إليك فتقتلهم ، فخرج من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فأتاهم ، فأخبرهم بذلك.

فلما ولى نعيم ، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إنما الحرب خدعة (٢).

٥ ـ ويروي الواقدي عن أبي كعب القرظي : أنه لما جاء حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد يريده على نقض العهد قال له : لا تقاتل حتى تأخذ سبعين رجلا من قريش وغطفان رهانا عندكم.

__________________

(١) راجع : قرب الإسناد ص ٦٣ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٦ عنه وج ١٠٠ ص ٣١ والوسائل ج ١١ ص ١٠٢ و ١٠٣.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٤٧ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٩.

٢٠٤

وذلك من حيي خديعة لكعب حتى ينقض العهد. وعرف أنه إذا نقض العهد لحم الأمر ، ولم يخبر حيي قريشا بالذي قال لبني قريظة ، فلما جاءهم عكرمة يطلب منهم أن يخرجوا معه البست (أي يوم السبت) ، قالوا : لا نكسر البست ، ولكن يوم الأحد. ولا نخرج حتى تعطونا الرهان.

فقال عكرمة : أي رهان؟!

قال كعب : الذي شرطتم لنا.

قال : ومن شرطها لكم؟.

قالوا : حيي بن أخطب.

فأخبر أبا سفيان ذلك ، فقال : يا يهودي ، نحن قلنا لك كذا وكذا؟

قال : لا ، والتوراة ما قلت ذلك.

قال أبو سفيان : بل هو الغدر من حيي.

فجعل حيي يحلف بالتوراة ما قال ذلك (١).

وفي نص آخر : قال كعب : يا حيي ، لا نخرج حتى نأخذ من كل أصحابك من كل بطن سبعين رجلا رهنا في أيدينا.

فذكر ذلك حيي لقريش ولغطفان ، وقيس. ففعلوا ، وعقدوا بينهم عقدا بذلك حتى شق كعب الكتاب.

فلما أرسلت إليه قريش تستنصره قال : الرهن ، فأنكروا ذلك واختلفوا (٢).

__________________

(١) المغازي ج ٢ ص ٤٨٥ و ٤٨٦ وذكر ابن عقبة أيضا ما فعله عكرمة راجع السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٩.

(٢) المغازي ج ٢ ص ٤٨٦ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٠١

٢٠٥

٦ ـ قال نص آخر ما ملخصه : حدثني معمر ، عن الزهري : أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان : أن ائتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم ، فسمع ذلك نعيم بن مسعود ، وكان موادعا للنبي «صلى الله عليه وآله» فأقبل إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فأخبره ، فقال «صلى الله عليه وآله» : فلعلنا أمرناهم بذلك.

فقام نعيم بكلمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث ، فلما ولىّ من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذاهبا إلى غطفان ، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، ما هذا الذي قلت؟ إن كان هذا الأمر من الله تعالى فأمضه ، وإن كان هذا رأيا من قبل نفسك ، فإن شأن بني قريظة هو أهون من أن تقول شيئا يؤثر عنك.

فقال «صلى الله عليه وآله» : بل هو رأي رأيته ، الحرب خدعة. ثم أرسل «صلى الله عليه وآله» في أثر نعيم فدعاه ، فقال «صلى الله عليه وآله» له : أرأيت الذي سمعتني قلت آنفا؟ اسكت عنه ، فلا تذكره فإنما أغراه.

فانصرف من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى عيينة ومن معه من غطفان ، فقال لهم : هل علمتم محمدا قال شيئا قط إلا كان حقا؟!

قالوا : لا. قال : فإنه قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة : «فلعلنا نحن أمرناهم بذلك» ثم نهاني أذكره لكم.

فأخبر عيينة بن حصن أبا سفيان بذلك ، فقال : إنما نحن في مكر بني قريظة.

فقال أبو سفيان : نرسل إليهم الآن فنسألهم الرهن ، فإن دفعوا الرهن إلينا ، فقد صدقونا ، وإن أبوا ذلك فنحن منهم في مكر.

فأرسلوا إليهم يطلبون الرهن ليلة السبت ، فامتنعوا من إعطائه لأجل السبت.

٢٠٦

فقال أبو سفيان ورؤوس الأحزاب : هذا مكر بني قريظة ، فارتحلوا فقد طالت إقامتكم ، فأذنوا بالرحيل ، وبعث الله تعالى عليهم الريح ، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله. فارتحلوا ، فولوا منهزمين.

ويقال : إن حيي بن أخطب قال لأبي سفيان : أنا آخذ لك من بني قريظة سبعين رجلا رهنا عندك حتى يخرجوا فيقاتلوا ، فهم أعرف بقتال محمد وأصحابه ، فكان هذا الذي قال : إن أبا سفيان طلب الرهن.

قال ابن واقد : وأثبت الأشياء عندنا قول نعيم الأول (١).

ونقول :

إننا نلاحظ : أن هذه الرواية ، وكذلك رواية جعل ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن ، تظهر : أن سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب ، يعتقدان أن النبي «صلى الله عليه وآله» يتصرف أحيانا انطلاقا من هدى الوحي ، ووفق التدبير والتسديد الإلهي ، ويتصرف أحيانا أخرى إنطلاقا من رأيه الشخصي ، ووفقا لهواه الذي قد يصيب وقد يخطئ. وهذا بالذات هو ما عبر عنه عمر بن الخطاب هنا.

ثم أظهرت هذه الرواية وتلك : أنه «صلى الله عليه وآله» قد اعترف هو نفسه بهذا الأمر وقرره بصراحة ووضوح.

مع أن نبينا الأكرم أجل من أن يتصرف أو يتكلم بوحي من الهوى وبغير إذن من الله سبحانه. ولا يخرج من بين شفتيه إلا الحق والصدق ، والهدى ، ولا شيء غير ذلك.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨٦ و ٤٨٧ والمصنف ج ٥ ص ٣٦٨ و ٣٦٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٩٢ و ٢٩٣ عن ابن جرير.

٢٠٧

وملاحظة أخرى نسجلها على هذه الرواية وهي : أن نعيم بن مسعود قد أخبر عيينة بن حصن ومن معه من غطفان بمقالة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بالطريقة التي لا بد أن يعرفوا منها : أن نعيما هو الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بما أرسلت به قريظة إليهم. وهو ينطوي على مخاطرة واضحة حين يكتشف عيينة وغطفان أن نعيما قد خانهم وأفشى سرهم ، ولن يسكتوا عن هذا الأمر أبدا.

إلا أن يكون الرواي قد نقل أصل الحدث ذاهلا عن الصياغة الحقيقية التي أظهرها نعيم لقومه.

اللمحات الأخيرة :

١ ـ قد يظهر من بعض النصوص المتقدمة : أن نعيم بن مسعود كان يتجسس للمشركين. وأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان عارفا بأمره ، فاختاره «صلى الله عليه وآله» ليلقي إليه قوله ذاك الذي انتهى بتخذيل الأحزاب ، وشكهم ببعضهم البعض.

٢ ـ ثم إن لنا تحفظا آخر هنا : وهو أن تسليم سبعين رهينة من أشراف قريش وغطفان إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليقتلهم ، إنما يعني أن يستقل اليهود من بني قريظة بعداوة الأحزاب وكل من له بهم صلة أو هوى في المنطقة بأسرها ، ولا طاقة لليهود بهؤلاء جميعا. بل إن ذلك يحمل معه أخطار إبادتهم عن بكرة أبيهم. فكيف يمكن أن يصدق المشركون أن يقدم اليهود على أمر كهذا؟!.

وهذا يعني : أن ما ذكرته النصوص الأخرى المتقدمة أقرب إلى الصواب.

٢٠٨

وأولى بالاعتبار.

٣ ـ وقد تقدم في الجزء السابق : أن نعيم بن مسعود وحسان بن ثابت قد أظهرا تعاطفا واضحا مع بني النضير حينما أجلاهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» فتصدى لهما أبو عبس ورد عليهم بقوة (١) ، فراجع.

وقد يستفيد البعض من ذلك : أن نعيم بن مسعود كان حينئذ مسلما.

فما معنى قولهم هنا : إنه قد أسلم في غزوة الخندق؟!.

التبرير بلا مبرر :

ويقول البعض : «كان لوحدة الصف الإسلامي ، وانضباط المسلمين ووقوفهم صفا واحدا خلف قائدهم أثر كبير في تطور الموقف ونتائجه ، سيما وأن خصومهم كانوا على نقيض ذلك. وهذا ما سهل كثيرا مهمة الدبلوماسية الإسلامية ، التي اعتمدت اعتمادا رئيسيا على هذه الناحية ، فنجحت في تفريق صفوف الأحزاب ، وتشتيت شملهم» (٢).

ونقول :

إن هذا الكاتب قد نسي : المتخاذلين والمنافقين ، الذين كانوا يتسللون لواذا ، ويتركون النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويحتجون لانسحابهم من المعركة بحجج واهية. وكان لهم دور رئيس في تخذيل الناس ، وبث الرعب والخوف في نفوس الكثيرين منهم.

ونسي أيضا : تخاذلهم عن عمرو بن عبدود ورفاقه ، وهم أقل عددا من

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٥.

(٢) الرسول العربي وفن الحرب ص ٢٥٦.

٢٠٩

أصابع اليد الواحدة.

نعم ... لقد نسي ذلك ، وجاء ليدعي أن الصف الإسلامي كان على غاية من القوة والتماسك خلف قائده. مع أنهم يذكرون ـ كما تقدم وسيأتي إن شاء الله ـ : أنه «صلى الله عليه وآله» قد بقي في ثلاث مئة من أصحابه.

بل ذكرت بعض النصوص : أنه لم يبق معه سوى اثني عشر رجلا فقط.

كما أن هذا الكاتب لم يعرف : أن نعيم بن مسعود لم يكن هو بطل القصة. بل كان المحرك والمحور الأساس فيها هو رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه حسبما أوضحناه آنفا.

الشائعات والحرب النفسية :

قد روي عن علي «عليه السلام» ، أنه قال : سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول يوم الخندق : الحرب خدعة ، ويقول : تكلموا بما أردتم (١).

وقد اتضح مما تقدم أيضا : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعمل على إيقاع الشك والريب فيما بين الأحزاب بالطريقة الإعلامية الذكية والواعية ، حتى تحقق له «صلى الله عليه وآله» ما أراد ، واستطاع من خلال ذلك أن يفشل كل مخططاتهم ، ويبطل كل ما بذلوه من جهد وكيد.

وقد تجلت لنا من خلال ذلك أهمية الإعلام الحربي الموجه ، وأنه قد يهزم الجيوش ، ويثل العروش ، إذا كان هادفا وواعيا وذكيا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ ص ١٠٢ وفي هامشه عن التهذيب ج ٢ ص ٥٣.

٢١٠

الدعاء والابتهال :

لقد دعا النبي «صلى الله عليه وآله» على الأحزاب ، فاستجاب الله تعالى له.

يقول المؤرخون والمحدثون : إنه «صلى الله عليه وآله» أتى مسجد الأحزاب يوم الإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ؛ فدعا عليهم يوم الأربعاء بين الصلاتين ، قال جابر : فعرفنا البشر في وجهه (١).

وفي نص آخر : انتظر «صلى الله عليه وآله» حتى زالت الشمس ، ثم قام في الناس ، فقال : يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإن لقيتم العدو فاصبروا ، واعلموا : أن الجنة تحت ظلال السيوف (٢).

ثم قال : اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم ، وانصرنا عليهم وزلزلهم (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٠ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٠ و ٤٩١ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ١٠٠ والكافي (ط دار الاضواء) ج ٨ ص ٢٣٣ والبحار ج ٢٠ ص ٢٦٨ و ٢٦٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٤ وفيه : «الأحاديث التي جاءت بذم يوم الأربعاء محمولة على آخر أربعاء في الشهر».

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣.

(٣) راجع المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١١ عن الصحيحين ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٠٩ و ١١٠ (ط مؤسسة آل البيت) ، والجعفريات ص ٢١٨ وتيسير المطالب ص ٢٤٦

٢١١

وعن ابن المسيب : أنه «صلى الله عليه وآله» لما اشتد عليهم الحصار قال : «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد» (١).

وعند الراوندي : أنه «صلى الله عليه وآله» صعد مسجد الفتح ، فصلى ركعتين ، ثم قال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض بعدها ، فبعث الله ريحا قلعت خيم المشركين الخ ..

إلى أن قال : ثم رجع من مسجد الفتح إلى معسكره ، فصاح بحذيفة بن اليمان ، وكان قد ناداه قريبا ثلاثا الخ ..

ثم ذكر إرساله لكشف خبرهم (٢).

وقد ذكرت أدعية أخرى عديدة له «صلى الله عليه وآله» في يوم

__________________

وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٧٢ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٨ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٣.

وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٥٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٠ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٥٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ و ١٢ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤١ وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٣ و ٤٠٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٧ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٧.

(٢) الخرائج والجرائح ج ١ ١٥٦ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٨ وراجع : ص ٢٣٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦ وغير ذلك.

٢١٢

الأحزاب فلتراجع في مصادرها (١).

ولعله «صلى الله عليه وآله» قد دعا بذلك كله في مواقف مختلفة.

وآخر ما نذكره نحن هنا :

ما عن الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ، هل من شيء نقوله ، فقد بلغت القلوب الحناجر.

قال : نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا.

قال : فصرف الله تعالى ذلك (٢).

ونقول :

إن لنا هنا وقفات :

إحداها : أن رواية عبد الله بن أبي أوفى المتقدمة موضع ريب وشك ، لأن المسلمين لم يتمنوا لقاء العدو آنئذ ، بل كان الحال يزداد شدة وصعوبة عليهم يوما بعد يوم. وكان الخوف مسيطرا على الكثيرين ، فإن كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال كلاما من هذا النوع ، فلا بد أن يكون قد قاله في مناسبة أخرى ، غير مناسبة الخندق.

أضف إلى ذلك : أننا نستبعد كثيرا : أن يقول النبي «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ج ٩١ ص ٢١٢ و ٢١٣ ومهج الدعوات ص ٧٠ و ٧١ والوسائل ج ١٠ ص ٢٧٦ و ٢٧٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١١ عن أحمد ، وابن أبي حاتم ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ و ١٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٩.

٢١٣

كلاما من هذا النوع ، وذلك لما يحمل في طياته من تضعيف وتخذيل لم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» ليقدم عليه في حالات الحرب.

الثانية : إننا نجد النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» يلتجئ للصلاة وللدعاء ، ويوجه الناس إلى الله سبحانه في هذه الظروف الحرجة ، التي يكون فيها الإنسان أكثر من أي وقت مضى مؤهلا للتفاعل مع الحالات الروحية.

يساعد على ذلك أنه في هذه الظروف بالذات تكون نظرته إلى الأمور واقعية وسليمة ، لا تشوبها نوازع نفسية ، ولا أهواء ولا غيرها مما من شأنه أن يضخم الأمور له ، أو يمنعه من رؤيتها على حقيقتها.

وذلك لأنه حين تصبح القضية لها مساس بمصيره وبحياته ، فإنه لا بد له من أن يحدق بها ، ويكشف كل خباياها وخفاياها ، وتتبلور فيه حساسية خاصة تجاه أية بادرة يلاحظها ، إذا كانت تصب في نفس الاتجاه الذي يسير فيه ، أو تؤثر على الواقع الذي يتعامل معه ، سلبا كان ذلك التأثير أو إيجابا.

وإذا كان ثمة ارتباط في هذه الناحية بالذات بالغيب ، وبالله سبحانه على الخصوص ، فإن التأثير يصبح أكثر عمقا وأصالة وشمولية ، لأنه يرتكز على الناحية العقيدية والإيمانية والشعورية ومداها ، قبل أن يدخل في الحسابات المادية وفي نطاقها.

فإذا كانت الناحية الإيمانية تقوم على أساس فكري راسخ وتستند إلى القناعة من خلال الدليل الصحيح والقاطع ، فإنها تستمد حينئذ من اللامحدود ، وتستند إلى المطلق ، الذي يملك القدرة على استيعاب المحدود ، مهما كانت قوته ، ومهما اشتد وتعاظم خطره.

٢١٤

الثالثة : من الواضح أن التربية الروحية بحاجة إلى القول وإلى العمل ، فإن ذلك يفيد في نيل درجات القرب ، ويؤثر أيضا في التصفية والتزكية ، بما توحي به الكلمة من معان ، وتنشره من ظلال روحية ، وتثيره من نسمات إيمانية أنيسة ودافئة.

كما أن العمل العبادي بما يمثله من تجسيد للحالة الروحية والنفسية يستطيع أن يرسخ الوعي في المشاعر وفي الخواطر ، فتثير لديه وعيا جديدا ، وأملا وليدا.

الريح والملائكة :

قد عرفنا فيما تقدم : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد دعا على الأحزاب ، في مسجد الأحزاب ، يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء.

١ ـ قالوا : فلما كان ليلة السبت بعث الله الريح على الأحزاب ، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله ، ولا يقر لهم قدر ولا بناء.

وقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلي إلى أن ذهب ثلث الليل.

وكذلك فعل ليلة قتل كعب بن الأشرف ، وكان إذا حزبه أمر أكثر من الصلاة (١) ، وكان ذلك في أيام شاتية (٢) ، وبرد شديد (٣).

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٨ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ و ١٢ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٢ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٥.

(٣) الجامع للقيرواني ص ٢٨١.

٢١٥

وقال البعض : أرسل الله تعالى الريح ، فهتكت القباب ، وكفأت القدور ، ودفنت الرجل ، وقطعت الأوتاد ، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد ، وأنزل الله الخ ..» (١).

وكانت الريح التي أرسلها الله سبحانه عليهم هي ريح الصبا ، فأكفأت قدورهم ، وطرحت آنيتهم ، ونزعت فساطيطهم (٢).

وفي نص آخر : بعث الله عليهم ريحا وظلمة ، فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء ، حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة. فلما بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك ، قال : عوجل الشيخ (٣).

ويقول نص آخر : «كان الله عز وجل قبل رحيلهم قد بعث عليهم بالريح بضع عشرة ليلة ، حتى ما خلق الله لهم بيتا يقوم ، ولا رمحا ، حتى ما كان في الأرض منزل أشد عليهم ولا أكره إليهم من منزلهم ذلك ، فأقشعوا (٤) والريح أشد ما كانت ، معها جنود الله لا ترى ، كما قال الله عز وجل الخ .. (٥).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠ و ١٢.

(٢) راجع : البحار ج ٢٠ ص ١٩٢ عن مجمع البيان ج ٨ ص ٣٣٩ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ وراجع : الخرائج والجرائح (منشورات مصطفوي) ص ١٥٢ والبحار. ج ٢٠ ص ٢٤٩.

(٤) أقشعوا : تفرقوا.

(٥) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٦.

٢١٦

ولكن هذا النص الأخير : لا ينسجم مع ما تقدم ، وما سيأتي في حديث حذيفة أيضا : من أن إرسال الريح عليهم إنما كان بعد دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم ، وذلك بعد قتل عمرو بن عبدود ، وأن ذلك لم يدم إلا مدة يسيرة انتهت بفرارهم. بل لقد أخبرهم النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الأحزاب بالريح ، كما صرحت به النصوص.

كما أننا لا نرى مبررا لأن يصمدوا أمام هذه الريح العاتية هذه المدة الطويلة.

والنصوص التاريخية حول ما صنعته الريح بهم كثيرة ، وسيأتي في حديث حذيفة المزيد.

أما بالنسبة : لإرسال الملائكة ، فإن النصوص فيه أيضا كثيرة.

ويذكر المفسرون : أن آية قرآنية قد ذكرت إرسال الريح والملائكة على الأحزاب ، وهي قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(١).

ويظهر من بعض النصوص : أن ما فعلته الريح هو نفس ما فعلته الملائكة ، وأن حركة الريح هي حركة الملائكة بالذات ، فهو يقول :

وكثر يومئذ تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، وكانوا ألفا. ولم تقاتل يومئذ ، وسمعوا قعقة السلاح ، ولكن قلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في

__________________

(١) الآية ٩ من سورة الأحزاب.

٢١٧

بعض ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فارتحلوا ، وتركوا ما استثقلوه من متاعهم (١).

١ ـ وقيل : إن الملائكة لم يقاتلوا يومئذ ، بل كانوا يشجعون المؤمنين ، ويجبنون الكافرين (٢).

٢ ـ في رواية : أن الملائكة قطعت أوتاد الخيام ، وأطفات نيرانهم ، ورأى الجيش أنه لا خلاص لهم إلا بالفرار (٣).

٣ ـ قال البعض : وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم ، حتى إذا اجتمعوا عنده قال : النجاة النجاة ، أتيتم (٤) ، لما بعث الله عليهم من الرعب.

٤ ـ قال البلاذري : «وغشيتهم الملائكة تطمس أبصارهم» (٥).

٥ ـ قيل إنما بعث الله الملائكة تزجر خيل العدو وإبلهم ، فقطعوا مدة ثلاثة أيام في يوم واحد فارين منهزمين (٦).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٨ عن ابن ظفر في الينبوع ، والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ وراجع : سعد السعود ص ١٣٨.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٣٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٩٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩١.

(٣) حبيب السير ج ١ ص ٣٦٤.

(٤) راجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٦ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٦ ولم يذكر الملائكة. والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٨ وسعد السعود ص ١٣٨.

(٥) أنساب الأشراف ص ٣٤٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٦.

(٦) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٦.

٢١٨

٦ ـ جاءت الملائكة ، فقالت : يا رسول الله ، إن الله قد أمرنا بالطاعة لك ، فمرنا بما شئت.

فقال : زعزعي المشركين وأرعبيهم ، وكوني (وكونوا) من ورائهم ... أي فهي قد نفثت الرعب في قلوبهم (١).

٧ ـ وقالوا : إن الملائكة لم تقاتل يومئذ (٢).

مهمة حذيفة بن اليمان :

وبعد أن بقي النبي «صلى الله عليه وآله» في اثني عشر رجلا (٣) ـ أو في ثلاث مئة رجل ـ كما في روايات أخرى عن حذيفة ـ يحدثنا حذيفة عن تلك الليلة التي قام الرسول فيها على التل ، الذي عليه مسجد الفتح ـ في ليلة ظلماء ذات قرة (٤).

وكان المسلمون صافين قعودا ، والأحزاب فوقهم ، وقريظة أسفل منهم ، يخافونهم على ذراريهم. ونحن نلخص كلامه هنا ، فقد قال :

__________________

(١) راجع : الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٦ و ١٥٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٨ وراجع ص ٢٣٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠ والسيرة الحليبة ج ٢ ص ١٠ و ٣٢٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٥ عن البيهقي ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٦ وراجع السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣١ وتلخيصه للذهبي بهامشه.

(٤) إعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ١٠١ والكافي ج ٨ ص ٢٧٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٦٨ وراجع ص ٢٣٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦.

٢١٩

ما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحا منها ، في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه. فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله ، ويقولون : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ)(١). فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، فيتسللون ، ونحن ثلاث مئة ، أو نحو ذلك.

فطلب النبي «صلى الله عليه وآله» أن يأتيه أحدهم بخبر القوم ، ثلاث مرات ، فلم يجبه أحد من شدة الجوع والقر والخوف ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ابعث حذيفة.

فلما كلم النبي «صلى الله عليه وآله» حذيفة تقاصر إلى الأرض ، كراهية أن يقوم ، فأمره «صلى الله عليه وآله» بالقيام ، فقال له «صلى الله عليه وآله» : إنه كائن في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم.

وفي نص آخر : إن الله قد أخبرني : أنه قد أرسل الرياح على قريش فهزمهم.

فشكى إليه البرد ، فقال له «صلى الله عليه وآله» : لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي.

فذكر له أنه يخاف الأسر والتمثيل به فقال : إنك لن تؤسر ، فخرج حذيفة ، فدعا له النبي «صلى الله عليه وآله» ، فذهب الفزع ، والبرد عنه.

قال حذيفة : فمضيت كأنما أمشي في حمام (٢). فلما وليت دعاني ، فقال : يا

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الأحزاب.

(٢) في تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣١ : أنه بعد أن اجتاز الخندق شعر كأنه يمشي في حمام. وراجع : الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٧.

٢٢٠