الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

درجة كبيرة من الشجاعة النادرة ، أو فقل إلى درجة عالية من الوقاحة الفاجرة.

وهذا ما حصل بالفعل : حيث نجد بعضهم ليس فقط لا يذكر لعلي «عليه السلام» خبرا ، ولا يورد في مواقفه أثرا. بل هو يكاد يجهر بإنكار تلك المواقف الرسالية الرائدة.

حيث يقول أحدهم : «ولم يكن بين القوم قتال إلا الرمي بالنبل والحصا ، فأوقع الله بينهم التخاذل ، ثم أرسل الله عليهم في ظلمة شديدة من الليل ريح الصبا الشديدة في برد شديد ، فأسقطت خيامهم ، وأطفأت نيرانهم ، وزلزلتهم ، حتى جالت خيولهم بعضها في بعض في تلك الظلمة فارتحلوا خائبين» (١). ثم يذكر إرسال الزبير بن العوام لكشف خبر القوم.

بينما نجد رجلا مسيحيا ، لا يرغب بالاعتراف للمسلمين بشيء ذي بال ، يعتبر قتل علي «عليه السلام» لعمرو ولصاحبه «سبب هزيمة الأحزاب على كثرة عددهم ، ووفرة عددهم» (٢).

فشتان ما بين هذا الرجل ، وبين أولئك ، ولا حول ولا قوة بالله.

من تشكيكات الجاحظ وتعصباته :

قد ادّعى ابن تيمية : أن عمرو بن عبدود لم يعرف له ذكر إلا في هذه

__________________

(١) حدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٠ وراجع : الزمخشري في الكشاف ج ٣ ص ٥٢٦ وقد تعجب منه في سعد السعود ص ١٣٨ و ١٣٩.

(٢) تاريخ مختصر الدول ص ٩٥.

١٨١

الغزوة (١).

وقد حاول الجاحظ أن يدّعي : أن شهرة عمرو بن عبدود بالشجاعة مصنوعة ، من قبل محبي علي ، حتى تركوه أشجع من عامر بن الطفيل ، وعتيبة بن الحارث ، وبسطام بن قيس ، مع أنه لم يسمع لعمرو ذكر في حرب الفجار ، ولا في الحروب بين قريش ودوس.

وقد رد عليه الإسكافي بما حاصله : أن أمر عمرو بن عبدود أشهر من أن يذكر ، ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل. ثم ذكر شعر مسافع بن عبد مناف ، وشعره الآخر في رثائه له.

وليس أحد يذكر عمروا إلا قال : كان فارس قريش وشجاعها ، وقد شهد بدرا ، وجرح فيها ، وقتل قوما من المسلمين. وكان عاهد الله عند الكعبة أن لا يدعوه أحد إلى إحدى ثلاث خصال إلا قبلها ، وآثاره في أيام الفجار مشهورة.

كما أنه لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم ، جبن المسلمون كلهم عنه ، وهو يوبخهم ويقرعهم ، وملكهم الرعب والوهل ، فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه ، أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب وأذلهم وأفشلهم.

وإنما لم يذكر مع الفرسان الثلاثة لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب ، وأهل بادية ، وقريش أهل مدينة ، وساكنوا مدر وحجر ، لا يرون الغارات ، ولا ينهبون غيرهم من العرب ، وهم مقيمون ببلدتهم ، فلم يشتهر اسمه

__________________

(١) منهاج السنة ج ٤ ص ١٧٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢ وسيرة الرسول ص ٢٢٠.

١٨٢

كاشتهار هؤلاء (١).

هذا كله : بالإضافة إلى أنه كان قد نذر في بدر أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا. وكان أيضا معروفا بفارس يليل ، وقد ذكر ذلك مسافع بن عمرو في شعره الذي يرثيه فيه.

وقد وصفه النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي بأنه فارس يليل أيضا.

هذا وقد قتل عمرو في بدر عمير بن أبي وقاص ، وسعد بن خيثمة (٢) وكان على ميسرة قريش في بدر (٣).

المعركة التي لا حقيقة لها :

قالوا : ولما قتل عمرو ، ورجع المنهزمون إلى أبي سفيان قال : هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء ، ارجعوا.

فنفرت قريش إلى العقيق ، ورجعت غطفان إلى منازلها ، واستعدّوا يغدون جمعيا ، ولا يتخلف منهم أحد. فباتت قريش يعبئون أصحابهم ، وكذلك غطفان ، ووافوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالخندق ، قبل طلوع الشمس. ولم يتخلف منهم أحد ، وعبأ «صلى الله عليه وآله» أصحابه ، وحضهم على القتال ، ووعدهم النصر إن صبروا. والمشركون قد جعلوا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٩١ وراجع الملحق آخر العثمانية ص ٣٣٥ ـ ٣٣٩.

(٢) قد تقدمت مصادر كثير مما ذكرناه. وراجع أيضا : شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٠٧ وراجع أيضا السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٠.

(٣) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٤ ص ١٢٠.

١٨٣

المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم ، فأحدقوا بكل وجه من الخندق ، ووجهوا نحو خيمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتيبة غليظة ، فيها خالد بن الوليد ، فقاتلوهم إلى الليل ، وكان القتال من وراء الخندق.

فلما حان وقت صلاة العصر دنت الكتيبة فلم يقدر النبي ، ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا ، فانكفأت الكتيبة مع الليل ، فزعموا أنه «صلى الله عليه وآله» قال : شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطوبهم (أو قبورهم) نارا.

وفي نص آخر : أنه «صلى الله عليه وآله» ما قدر على صلاة ظهر ، ولا عصر ، ولا مغرب ، ولا عشاء ، فجعل أصحابه يقولون : ما صلينا.

فيقول : ولا أنا ـ والله ـ ما صليت.

حتى كشف الله المشركين ، فرجعوا متفرقين ، ورجع كل من الفريقين إلى منزله.

وقام أسيد بن حضير في ماءتين على شفير الخندق ، فكرت خيل المشركين يطلبون غرة ، وعليها خالد بن الوليد ، فناوشهم ساعة ، فزرق وحشي الطفيل بن النعمان. وقيل : الطفيل بن مالك بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراقة ، فقتله ، كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد.

فلما صار رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى موضع قبته أمر بلالا ، فأذن وأقام للظهر ، وأقام بعد لكل صلاة إقامة ، فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف.

أضاف البعض هنا قوله «صلى الله عليه وآله» : ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله تعالى في هذه الساعة غيركم.

١٨٤

وقال يومئذ رسول الله «صلى الله عليه وآله» : شغلنا المشركون عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا.

«ولم يكن لديهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا ، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل طمعا بالغرة» (١).

ونحن نشك في صحة ذلك ، لما يلي :

أولا : صرح بعض المؤرخين : بأنه بعد قتل عمرو ورفاقه لم يحصل أي قتال ، فقال :

«ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا ، حتى انصرفوا ، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل ، يطمعون بالغارة» (٢).

ثانيا : إنه إذا كان القتال بهذا العنف ، فأين القتلى والجرحى ، لا سيما مع اجتماع ألوف من الناس؟ أم يعقل أن تكون جميع تلك السهام والحجارة ،

__________________

(١) راجع هذه النصوص باختصار تارة ، وبتطويل أخرى في المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٦ ـ ٥٣٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٢ ـ ٤٧٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٤ و ١٧٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٨ والوفاء ص ٦٩٤ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠١ و ٤٠٢ وبهجة المحافل وشرحه ج ١ ص ٢٦٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٩ و ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٠ ـ ٢١٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٦ عن ابن سعد ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٨.

١٨٥

والحصى ، كانت تذهب سدى ولا تصيب أحدا؟!.

ثالثا : إن القتال لا يمنع من الصلاة بصورة نهائية ، فقد كان من الممكن أن يصلوا منفردين ، أو أفواجا.

وقد ذكر الفقهاء : أن الصلاة لا تسقط حتى عن الغريق ، فكيف بالمقاتلين؟ وصلاة المطاردة حال القتال مذكورة في الكتب الفقهية ، وإذا كان المسلمون لا يعرفونها ، فالنبي «صلى الله عليه وآله» كان يعرفها ، فلماذا لم يصلّها؟!.

رابعا : إن تناقص الروايات في كثير من خصوصياتها يفقدنا الثقة بها ، وبالمراجعة والمقارنة يتضح ذلك بجلاء.

ويكفي أن ننبه : إلى اختلاف الروايات في الصلاة أو الصلوات التي فاتت النبي والمسلمين ، فهل فاتتهم صلاة فقط كما في حديث جابر (١) وعلي (٢) وابن

__________________

(١) راجع المصادر المتقدمة ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٠ وتاريخ الإسلام (المغازي) للذهبي ص ٢٤٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٢ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٤٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٩ عن الشيخين ، والترمذي ، والنسائي ، وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٨ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ وبهجة المحافل وشرحه ج ١ ص ٢٦٨.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٥٧٦ وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ٨١ و ٨٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٩ عن الخمسة إلا ابن ماجة ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٠ ومسند أحمد ج ١ ص ٨١ و ٧٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٨ وعن فتح الباري ج ٦ ص ١٠٥ وج ٧ ص ٤٠٥ ـ والدر المنثور ج ١ ص ٣٠٣ عن الستة ، وعن عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، وابن أبي حاتم ، وراجع : مسند الطيالسي ص ١٦ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٠ عن البخاري ، والبيهقي ، وعبد الرزاق ، وأحمد ، وأبي عبيد في فضائله ، والعدني ، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وأبي عوانة ، وابن زنجويه ، وعبد بن حميد وغير ذلك.

١٨٦

عباس (١) وحذيفة وابن حبيبة (٢).

أم أنهم شغلوا عن الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، كما عن جابر أيضا ، وأبي سعيد وابن مسعود (٣)؟

أو عن الظهر والعصر ، كما عن سعيد بن المسيب وابن عباس وعمر وعلي «عليه السلام» (٤)؟

__________________

(١) كنز العمال ج ١ ص ٢٤٠ عن الطبراني وص ٢٨٦ عن البيهقي.

(٢) كنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٣ و ٢٨٨.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢١ و ٣٢٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٨ عن أحمد ، والنسائي ، وأحمد عن ابن مسعود ، وعن البزار عن جابر ، وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ١١٠ و ١١١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٤٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٢ و ٢١٣ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥ عن مصادر عديدة وص ٢٨٨ عن ابن أبي شيبة.

(٤) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٥٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ عن الموطأ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٤٠ ومجمع الزوائد ج ١ ص ٣٠٩ عن الطبراني والدر المنثور ج ١ ص ٣٠٤ و ٣٠٣ عن الطبراني ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، ومسلم والنسائي والبيهقي وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٠.

١٨٧

أو الظهر والعصر والمغرب كما في رواية أبي هريرة ، وأبي سعيد (١)؟

وفي الموطأ : أن الفائتة هي الظهر (٢) ، وكذا عن جابر وأم سلمة وعلي وابن مسعود (٣).

وبعض الروايات : عن ابن عباس وحذيفة ، لم تعين الصلاة أو لم تعين العدو.

قال المقريزي : «فاحتمل أن يكون كله صحيحا ، لأنهم حوصروا في الخندق ، وشغلوا بالأحزاب أياما» (٤).

وقد جمع النووي بين هذه الروايات بأن فوات الصلاة قد حصل مرتين لأن الحرب استمرت في الخندق عدة أيام (٥).

إستفادات غير موفقة :

وقد حاول البعض : أن يستفيد من هذا الحديث المشكوك أحكاما

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١١٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٢.

(٢) شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٨.

(٣) راجع : مجمع الزوائد ج ١ ص ٣٠٩ و ٣١٠ والدر المنثور ج ١ ص ٣٠٤ عن البزار وص ٣٠٣ عن مصادر أخرى ، وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٣٩ عن مصادر كثيرة وكشف الأستار عن مسند البزار ج ١ ص ١٩٦ و ١٩٧.

(٤) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٣.

(٥) راجع : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ ومحمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لمحمد رضا ص ٢٣.

١٨٨

شرعية وغيرها ، فقال بعضهم :

«إن هذا يدل على جواز الجمع بين الصلاتين جمع تأخير لعذر الحرب ، وأجازه أحمد وغيره ، وقال : وتكون الصلاة المؤخرة أداء لا قضاء» (١).

واستدلوا على ذلك أيضا ، أي على جواز التأخير لعذر القتال بقوله «صلى الله عليه وآله» : لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة ، فمنهم من صلاها في الطريق ، ومنهم صلاها بعد الغروب في بني قريظة ، ولم يعنف واحدا من الفريقين.

وقالوا : إن هذا قد نسخ بتشريع صلاة الخوف ، ولو كانت مشرعة لم يؤخروها (٢).

لكن هذا الكلام لا يصح ، إذا كان «صلى الله عليه وآله» والمسلمون قد أجبروا على تأخير الصلاة بحيث لم يكن لديهم أي خيار في ذلك ، ولا يصح بناء على قول من قال : إن تأخير الصلاة يوم الخندق كان نسيانا (٣).

وقد صرحت بذلك رواية عن ابن عباس ، قال : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نسي الظهر والعصر يوم الأحزاب فذكر بعد المغرب ، فقال :

__________________

(١) خاتم النبيين ج ٢ ص ٩٤٠ وراجع ص ٩٥١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١١ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٨ وفقه السيرة ص ٣٠٣.

(٢) البداية والنهاية ج ٤ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١١ و ٢١٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤.

(٣) راجع المصادر المتقدمة.

١٨٩

اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم نارا (١).

وعن أبي جمعة : إن النبي «صلى الله عليه وآله» صلى المغرب ، فلما فرغ قال : هل أحد منكم علم أني صليت العصر؟!

فقالوا : يا رسول الله ما صليت ، فأمر المؤذن فأقام الصلاة ، فصلى العصر ، ثم أعاد المغرب (٢).

أضاف الحلبي : «أقول : يحتاج إلى الجواب عن إعادة المغرب. وقد يقال : أعادها مع الجماعة» (٣).

الصحيح في القضية :

وأخيرا ... فنحن لا نمانع من أن يكون قد حصل تأخير في أداء الصلاة إلى حد يصدق معه الاضطرار ليمكن للمكلف أن يصلي صلاة المضطر ، أو صلاة المطاردة. فإن قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ...)(٤) قد ورد في سورة البقرة ، النازلة في أوائل الهجرة.

وقد روي : أن النبي «صلى الله عليه وآله» صلى يوم الأحزاب إيماء (٥).

ومعنى ذلك : هو أن الآية المذكورة قد نزلت في غزوة الخندق.

وهذه الآية هي غير الآية التي تحدثت عن صلاة الخوف جماعة فراجع.

__________________

(١) الدر المنثور ج ١ ص ٣٠٤ عن الطبراني.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٢.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣.

(٤) الآية ٢٣٩ من سورة البقرة.

(٥) تفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٩٩ ومجمع البيان ج ١ ص ٣٤٤.

١٩٠

السر والسبب :

١ ـ إننا بعد أن استظهرنا عدم صحة ما ذكروه نرى : أن السبب الذي يدعو البعض لإشاعة أمور كهذه هو الرغبة في تبرير تهاون الحكام بصلاتهم ، وتأخيرهم لها عن أوقاتها ـ كما ذكرناه في الجزء الأول من هذا الكتاب ـ ولا يهمهم أن يكون ذلك على حساب كرامة النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، والنيل من عصمته ، وعقله وحكمته.

٢ ـ قد يكون السبب هو ما جرى لعمر بن الخطاب حين فاتته الصلاة في غزوة الخندق ، حيث قال : يا رسول الله ، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.

قال النبي «صلى الله عليه وآله» : والله ما صليتها.

فنزلنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى بطحان ، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب (١).

٣ ـ إن دعوى وجود قتال ضار استمر ثلاثة أيام ، أو أكثر أو أقل ، قد يكون الهدف منها هو التضخيم والتهويل في قوة المشركين ، والتأكيد على شوكتهم وعلى ارتفاع معنوياتهم بعد قتل عمرو بن عبدود ورفاقه ، الأمر الذي ينتج عنه أن لا يكون علي «عليه السلام» قد حقق إنجازا ذا بال ،

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٢ وتاريخ الإسلام (المغازي) للذهبي ص ٢٤٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٤٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٠ عن الشيخين ، والترمذي ، والنسائي.

١٩١

فضلا عن أن يكون ما جرى قد أسهم في هزيمة المشركين بطريقة أو بأخرى.

٤ ـ إن ذلك أيضا سوف يحدث ترديدا وتشكيكا في قيمة الأوسمة التي حباه بها رسول الله ، وفي استحقاقه «عليه السلام» لها ، وفي جدارته لحملها.

١٩٢

الفصل الثالث :

كيف انتهت الحرب الخندق؟!

١٩٣
١٩٤

ما فعله نعيم بن مسعود :

لقد حاول المؤرخون والمحدثون الذين توجههم التيارات والقوى والتعصبات السياسية ، والمذهبية ، والأحقاد ـ حاولوا ـ التعتيم على النصر المؤزر الذي سجله علي أمير المؤمنين «عليه السلام» في حرب الأحزاب بطريقة أخرى غير طريقة تضخيم الأمور ، وادعاء حصول قتال شغلهم عن صلاة العصر ، وغيرها.

فادعوا : أن نعيم بن مسعود قد قام بدور فاعل وأساس في تخذيل القوم ، وإلقاء الريب والشك ببعضهم البعض فيما بينهم.

فيدعي المؤرخون : أن نعيم بن مسعود الغطفاني جاء إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» مسلما ـ وكان من دواهي العرب ـ فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فأمرني بما شئت أنته إليه (١).

__________________

(١) يقول القمي في تفسيره ج ٢ ص ١٨١ والبحار ج ٢٠ ص ٢٢٣ عنه : إن قريظة قد نقضوا العهد نهارا ، فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام.

ونقول : لماذا أخّر نعيم مجيئه إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليعلن إسلامه هذه المدة الطويلة؟! وآثر البقاء في صفوف أهل الشرك.

١٩٥

فقال له «صلى الله عليه وآله» : إنما أنت رجل واحد فينا ، وإنما غناؤك أن تخذل عنا ما استطعت ، وعليك بالخداع ، فإن الحرب خدعة.

وحسب نص المقدسي : أنه «صلى الله عليه وآله» قال له : إن الحرب خدعة ، فاحتل لنا.

فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة ، وكان نديما لهم ، فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم.

قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتهم.

فقال لهم : إن قريشا وغطفان ومن التف معهم جاؤوا لحرب محمد ، فإن ظاهرتموهم عليه ، فليسوا كهيئتكم ، وذاك أن البلد بلدكم ، به أموالكم ، وأولادكم ، ونساؤكم ، لا تقدرون أن تتحلوا إلى غيره. فأما قريش وغطفان ، فإن أموالهم ، وأبناءهم ، ونساءهم ببلاد غير بلادكم ، فإن رأوا نهبة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل. والرجل ببلادكم لا طاقة لكم به ، وإن خلا لكم.

زاد الواقدي : «وقد كبر عليهم جانب محمد ، أجلبوا عليه بالأمس إلى الليل ، فقتل رأسهم عمرو بن عبدود وهربوا منه مجرحين» ، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ، ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه.

قالوا : لقد أشرت علينا برأي ونصح.

ثم خرج حتى أتى قريشا.

فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه : يا معشر قريش ، قد عرفتم ودّي إياكم ، وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر رأيت حقا علي أن أبلغكم ، نصحا

١٩٦

لكم ، فاكتموا عليّ.

قالوا : نفعل.

قال : اعلموا : أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا ـ وأنا عندهم ـ أن قد ندمنا على ما صنعنا ، فهل يرضيك عنا : أن نأخذ من القبيلتين (مئة رجل ، كما عند المقدسي) من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم ، وكبرائهم ، ونعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم؟

أضافت بعض المصادر : «وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم ـ يعنون بني النضير» ، فإن بعثت إليك يهود ، يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.

فوقع ذلك من القوم.

وخرج حتى أتى غطفان ، فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أصلي وعشيرتي ، وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني.

قالوا : صدقت.

قال : فاكتموا عليّ.

قالوا : نفعل.

ثم قال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذرهم مثل ما حذرهم.

فأرسل أبو سفيان (١) ، ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي

__________________

(١) وذكرت بعض المصادر : أن اليهود هم الذين أرسلوا عزال بن سموأل يطلبون التواعد على الزحف بشرط اعطائهم رهائن من أشرافهم سبعين رجلا ، فلم

١٩٧

جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقال لهم :

إنا لسنا بدار مقام ، وقد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه.

فأرسلوا إليه : أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا (وكان قد أحدث فيه بعض الناس شيئا فأصابه ما لم يخف عليكم) ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم (سبعين رجلا) ، يكونون بأيدينا ثقة حتى نناجز محمدا ، فإننا نخشى ـ إن ضرستكم الحرب ، واشتد عليكم القتال ـ أن تشمروا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد.

وأرسلت غطفان مسعود بن رخيلة في رجال بمثل ما راسلهم به أبو سفيان ..

فلما رجعت الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله ، إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق.

فأرسلوا إلى بني قريظة : إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا (١).

__________________

ـ يرجعوا إليهم بجواب. أضافت بعض المصادر : أن نعيما عاد إلى بني قريظة وأخبرهم : أن أبا سفيان قال بعد أن ولى عزال : لو طلبوا مني عناقا ما رهنتها ، راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٣ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨٢ و ٤٨٥ والسيرة الحليبة ج ٢ ص ٣٢٥ و ٣٢٦.

(١) ويذكر الواقدي : أن الزبير بن باطا قد نصحهم بعدم طلب الرهن من قريش ، لأنها لا تعطيهم إياه ، وهم أكثر عددا ومعهم كراع ولا كراع مع بني قريظة ـ

١٩٨

فقالت بنو قريظة حين أدت إليهم الرسل : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل. فأرسلوا إلى القوم : إنا ـ والله ـ لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا.

قالوا : وتكررت رسل قريش وغطفان إلى بني قريظة ، وهم يردون عليهم بما تقدم ، فيئس هؤلاء من نصر هؤلاء. وتخاذل القوم ، واتهم بعضهم بعضا. وذلك في زمن شات ، وليال باردة ، كثيرة الرياح ، تطرح أبنيتهم ، وتكفأ قدورهم الخ ..

ولما طالب أبو سفيان حيي بن أخطب بالأمر ، حاول حيي أن يقنع بني قريظة بالعدول عن ذلك ، فلم يفلح (١).

__________________

«وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه ، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض ثمار المدينة ، فأبى أن يعطيهم إلا السيف» فلم يوافق الزبير أحد من قومه ، فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان الخ .. راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤٣ و ٥٤٤.

(١) تجارب الأمم ج ١ ص ١٥٠ ـ ١٥٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٨١ ـ ٤٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٤١ ـ ٥٤٥ ، وتجد هذه القضية بتلخيص أو بدونه في المصادر التالية : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٦ ـ ٢٣٨ والبداية والنهاية ج ٢ ص ١١١ و ١١٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٤٢ و ٢٤٣ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٤٠ ـ ٢٤٢ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨١ و ١٨٢ و ١٨٥ و ١٨٦ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٣ و ٢٢٤ و ٢٢٨ و ٢٢٩ و ٢٠٧ و ٢٠٨ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٥ ـ ١٧٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٠ ـ

١٩٩

ورواية القمي : تختلف عن هذه الرواية فلتراجع (١).

ونقول :

كان ما تقدم هو النص الذي يذكره أكثر المؤرخين مطولا أو ملخصا ، لهذه القضية. وتساورنا شكوك حول صحة ذلك ، ونرى أن ما جرى لم يكن بهذا الشكل ، وذلك بالنظر إلى الأمور التالية :

أولا : يقول البعض عن دور نعيم : «يمكن أن يكون في ذلك مبالغة ، لأن القصة تروى عن نعيم نفسه ، بواسطة رواة أشجع» (٢).

ثانيا : بالنسبة لطلب الرهائن تقول رواية نعيم بن مسعود : إن ذلك قد كان بعد نقض بني قريظة للعهد مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، وبعد أن طال الحصار على قريش ، وبإيحاء من نعيم بن مسعود بالذات.

__________________

والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ص ٢ ص ٣٠ و ٣١ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٣ وجوامع السيرة النبوية ص ١٥١ و ١٥٢ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٧٢ ـ ١٧٤ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٤ ـ ٢١٦ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤١ و ٢٤٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٤ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٩ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٤ ـ ١٩٦ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٤٦ ـ ٢١٩ و ٢٢٠ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٨ وبهجة المحافل وشرحه ج ١ ص ٢٦٧ ـ ٢٧١.

(١) راجع : تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٢٤ وفيه أن نعيم بن مسعود حرض أبا سفيان على طلب الرهن من بني قريظة ، عشرة رجال من أشرافهم.

(٢) محمد في المدينة ص ١٣٩.

٢٠٠