الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

وقال الحلبي : «وهذا يدل على ما قيل : إن حسان بن ثابت كان من أجبن الناس كما تقدم» (١).

وقد صرحوا : بأن حسانا لم يشهد مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» مشهدا قط لأنه كان جبانا (٢). وكان حسان ضاربا وتدا في ناحية الأطم ، فإذا حمل أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» على المشركين حمل على الوتد فضربه بالسيف ، وإذا أقبل المشركون ترك الوتد كأنه يقاتل قرنا. كان يرى أنه يجاهد جبنا عن القتال (٣).

وقال الإسكافي : «لو كان الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف ، وترك الحرب وأن ذلك يشاكل فعل النبي ، لكان أوفر الناس في الرياسة ، وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت» (٤).

وقال ابن الكلبي : «كان حسان بن ثابت لسنا ، شجاعا ، فأصابته علة ، أحدثت فيه الجبن ، فكان لا ينظر إلى قتال ولا يشهده» (٥).

وقالت صفية : «كنت أعرف انكشاف المسلمين وأنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم» (٦).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٧.

(٢) المعارف (ط سنة ١٩٦٠ م) ص ٣١٢ وغرر الخصائص الواضحة ص ٣٥٨ وأسد الغابة ج ١ ص ٦.

(٣) كنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٦.

(٤) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١٣ ص ٢٨٢.

(٥) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٦٤.

(٦) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٦ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٢٨٨.

١٠١

وكلام ابن الكلبي هذا : يدل على عدم صحة ما رد به السهيلي وغيره على هذا بحجة أنه لو صح أنه كان جبانا لهجاه به الشعراء ، لأنه كان يهاجيهم كضرار وابن الزبعري. فلعل حسانا ـ لو صح أنه كان مع النساء في الأطم ـ كان معتلا بعلة منعته من شهود القتال (١).

أضف إلى ذلك : أن المؤرخين قد حكموا على حسان بالجبن بصورة مطلقة معللين إبقاءه مع النساء بذلك ، الأمر الذي يظهر منه أن جبنه كان معروفا لديهم ، لا أنهم استندوا في ذلك إلى خصوص هذه الرواية.

وأما لماذا لم يعيّر الشعراء حسانا بالجبن ، فقد قال الزرقاني : «إن ابن إسحاق لم ينفرد به ، بل جاء بسند متصل حسن كما علم ، فاعتضد حديثه.

وقال ابن السراج : سكوت الشعراء عن تعييره بذلك من أعلام النبوة لأنه شاعره «صلى الله عليه وآله» (٢).

ونزيد نحن على ذلك : أن هجاءهم لحسان لا مبرر له ، وإنما هم يريدون هجاء الإسلام ، ورسول الإسلام ، وجماعة المسلمين ، ولا يهمهم حسان كشخص من قريب ولا من بعيد.

وهذا بالذات هو ما يطغى على شعرهم المتبادل فيما بينهم.

ب : قصة حسان في الخندق أم في أحد؟!

وقد رويت قصة جبن حسان ، وقتل صفية لليهودي في غزوتي أحد

__________________

(١) راجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٨١ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٢ و ٣٠٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٦٤.

(٢) هامش السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٤٠ تحقيق الأبياري ، والسقا ، وشلبي.

١٠٢

والخندق معا (١).

وقد تقدمت هذه الرواية في غزوة أحد أيضا.

ونرجح أنها كانت في الخندق لأن اليهود إنما غدروا في الخندق (٢) ، وهذا هو ما رجحه السمهودي أيضا استنادا إلى ذلك ، وإلى أن الطبراني قد روى بسند رجاله رجال الصحيح عن عروة مرسلا : أنها كانت في الخندق ، وممن ذكر القصة في الخندق ابن إسحاق أيضا (٣).

ج : تأثير هذه القضية على اليهود :

قد ذكرت بعض النصوص المتقدمة : أن قتل صفية لليهودي قد جعل اليهود يعتقدون : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد جعل أناسا لحماية النساء والذرية ، وليحفظوا مؤخرة الجيش عن أن تتعرض لأي عمل حربي ، حيث قالت اليهود : إنه لم يك يترك أهله خلوفا ، ليس معهم أحد.

وذكر في نص سابق : أن عشرة من اليهود «جعلوا يستترون ويرمون الحصن ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» في نحر العدو ، ولا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذا أتانا آت».

ولكننا نشك في صحة ذلك : إذ قد كان ثمة حرس للمدينة يبلغ حوالي خمس مئة مقاتل ، وقد كان يكفي لرد هؤلاء العشرة عشرة مثلهم ، فضلا عن

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٢ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٢٨٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٥ و ١٦.

(٢) وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٩.

(٣) المصدران السابقان.

١٠٣

المئات.

ثم إن وصول عشرة من بني قريظة إلى مكان قريب من الجيش الإسلامي ، وفي قبال ذلك الجيش ، مع احتمالهم أن يكون ثمة حرس يعتبر مجازفة منهم ، لا نرى أن اليهود يقدرون عليها.

وقلنا : إن موضع النساء قريب من جيش المسلمين ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» كما تقدم قد طلب من النساء أن يلمعن بالسيف إذا تعرضن لأي مكروه.

فلماذا لم يلمعن بالسيف كما صنعن في قصة أحد بني جحاش ، الذي تم التخلص منه بهذه الطريقة بالذات؟

إلا أن يكون الناس في ذلك الوقت قد شغلتهم الحرب حتى لا يستطيع أحد منهم ، ولا حتى مفرزة صغيرة بمقدار خمسين فارسا : أن تنجد النساء والأطفال.

ونحن لا نظن : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يحسب حسابه لساعات كهذه ، وترك الأمر يتطور إلى أن يصل إلى هذه الدرجة من الخطورة.

ولهذا فنحن نعتقد : أن هذه مبادرة من صفية «رحمها الله» لمواجهة رجل تسلل إلى موضع قريب ، وقد نجحت في المهمة التي أحبت أن تبادر لإنجازها ، ثم زاد الآخرون ما شاؤوا على ذلك إكراما لولدها الزبير ، ولآل الزبير. ولعل هذه الزيادات لا تبعد كثيرا عن نشاطات عروة ونظرائه ممن يسيرون في نفس الخط الذي هو فيه.

١٠٤

د : ربط السيف على الذراع وتناقض الرواية :

ولا ندري كيف يربط السيف على الذراع ، ولا ندري أيضا كيف يمكن تفسير هذه الاختلافات والتناقضات لنصوص هذه الرواية ، فإن ذلك مما يضعف وثوقنا بها أيضا.

غنيمة المسلمين من المشركين :

وقال أبو سفيان لحيي بن أخطب : قد نفدت علافتنا فهل عندكم من علف؟! فقال حيي : نعم.

فكلم كعب بن أسد ، فقال : مالنا مالك. فأرسل المشركون إليهم عشرين بعيرا ، فحملوها لهم شعيرا ، وتمرا وتبنا ، وخرجوا بها إلى قريش ، فلما كانوا بصفنة ، وهم يريدون أن يسلكوا العقيق ، جاؤوا جمعا من بني عمرو بن عوف ، وهم يريدون منازلهم بأنصاف النهار ، يطلبونهم ، وهم عشرون رجلا ، فيهم أبو لبابة ، وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي ، خرجوا لميت مات منهم في أطمهم ليدفنوه.

فناهضوا الحمولة ، وقاتلهم القرشيون ساعة ، وكان فيهم ضرار بن الخطاب ، فمنع الحمولة ، ثم جرح وجرح ، ثم أسلموها ، وكثرهم المسلمون ، وانصرفوا بها يقودونها ، حتى أتوا بني عمرو بن عوف ، فدفنوا ميتهم ، ثم ساروا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بها.

فكان أهل الخندق يأكلون منها ، فتوسعوا بذلك ، وأكلوه حتى نفد ، ونحروا من تلك الإبل أبعرة في الخندق ، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة.

فلما رجع ضرار بن الخطاب أخبرهم الخبر ، فقال أبو سفيان : إن حييا

١٠٥

لمشؤوم ، ما أعلمه إلا قطع بنا ، ما نجد ما نتحمل عليه إذا رجعنا (١).

ولكننا نسجل تحفظا هنا : ينطلق من كلام أبي سفيان هذا ، فإن حييا لم يقطع بهم. كما أن هذه الغنيمة لم تكن خيلا ولا إبلا بل كانت شعيرا وتمرا وتبنا ، وبعض الإبل ، فما معنى قوله : ما نجد ما نتحمل عليه إذا رجعنا.

الجن الذين في المدينة :

وكان رجال يستأذنون أن يطلعوا إلى أهليهم ، فيقول «صلى الله عليه وآله» : إني أخاف عليكم بني قريظة ، فإذا ألحوا يأمرهم بأخذ السلاح معهم.

«وكان فتى حديث عهد بعرس ، فأخذ سلاحه وذهب ، فإذا امرأته قائمة بين البابين ، فهيأ لها الرمح ليطعنها ، فقالت : اكفف حتى ترى ما في بيتك ، فإذا بحية على فراشه ، فركز فيها رمحه ، فاضطربت ، وخر الفتى ميتا. فما يدري أيهما كان أسرع موتا.

فقال رسول الله ـ لما أخبر بذلك ـ : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان» (٢).

__________________

(١) راجع القصة في : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٩ و ٥٤٠ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٣.

(٢) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٨ والمغازي ج ٢ ص ٤٧٥.

١٠٦

والذي يلفت نظرنا في هذا النص :

ألف : لماذا يؤاذنونه ثلاثة أيام ، لا أقل ولا أكثر؟! فإن الجن إذا كان مؤمنا ، فإنه لا يعتدي على الناس ، ولا يأخذ فراش الناس ، ويكون فيه.

ب : لماذا يبادر إلى طعن زوجته بالرمح إذا رآها بين البابين ألم يكن بوسعه أن يسألها عن سبب كونها في ذلك المكان؟ وهل وجودها في هذا المكان دليل خيانة وانحراف؟!

ج : هل الجن قادر على مواجهة الإنسان بهذه الصورة؟

وهل لم يكن بوسع تلك الحية الجنية أن تتخلص من رمح ذلك الفتى؟!

وهل إذا مات الجن يبقى جسده ماثلا للعيان؟ ويكون من لحم ودم؟!.

إشتباك مع الإخوة :

وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا ، فالتقتا ، ولا يشعر بعضهم ببعض ، ولا يظنون إلا أنهم العدو ، فكانت بينهم جراحة وقتل ، ثم نادوا بشعار الإسلام : حم ، لا ينصرون.

فكف بعضهم عن بعض ، وجاؤوا ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : جراحكم في سبيل الله ، ومن قتل منكم فإنه شهيد. فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعض نادوا بشعارهم (١).

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٧ و ٥٣٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢١.

١٠٧

لعن الله الراكب والقائد والسائق :

قال سبط بن الجوزي : إن الإمام الحسن «عليه السلام» قال لمعاوية : «نظر النبي «صلى الله عليه وآله» إليك يوم الأحزاب ، فرأى أباك على جمل يحرض الناس على قتاله ، وأخوك يقود الجمل ، وأنت تسوقه ، فقال : «لعن الله الراكب والقائد والسائق» (١).

آية قرانية في خوات بن جبير :

محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، وأحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، جميعا عن صفوان بن يحيى ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أحدهما «عليهما السلام» في قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ...) الآية (٢).

فقال : نزلت في خوات بن جبير الأنصاري ، وكان مع النبي «صلى الله عليه وآله» في الخندق وهو صائم ، فأمسى وهو على تلك الحال ، وكانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حرم عليه الطعام والشراب.

فجاء خوات إلى أهله حين أمسى ، فقال : هل عندكم طعام؟!

فقالوا : لا تنم حتى نصلح لك طعاما.

فاتكأ فنام ، فقالوا له : قد فعلت؟

قال : نعم.

__________________

(١) تذكرة الخواص ص ٢٠١ والغدير ج ١٠ ص ١٦٩ عنه.

(٢) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

١٠٨

فبات على تلك الحال ، فأصبح ثم غدا إلى الخندق ، فجعل يغشى عليه ، فمر به رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فلما رأى الذي به أخبره كيف كان أمره ، فأنزل الله عز وجل فيه الآية : (.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ...)(١).

والحديث صحيح السند : كما هو ظاهر ، لكن صرح في رسالة المحكم والمتشابه بأن ذلك كان حين حفر الخندق في شهر رمضان المبارك ، وأن اسم الرجل هو مطعم بن جبير.

ونقول :

١ ـ الذي نعرفه في رجال الصحابة هو جبير بن مطعم ، لا العكس.

٢ ـ قد وصف رواية القمي والسيد المرتضى خوات بن جبير بأنه كان حينئذ شيخا كبيرا ضعيفا.

مع أنهم يقولون : إن خوات بن جبير قد توفي سنة أربعين ، أو اثنتين وأربعين وهو ابن أربع وسبعين سنة (٢) ، ومعنى ذلك هو أنه كان يوم الخندق

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٩٩ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٤٤ و ١٤٥ وتفسير القمي ج ١ ص ٦٦ ومن لا يحضره الفقيه (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ٢ ص ١٣٠ و ١٣١ والوسائل ج ٧ ص ٨٠ و ٨١ ورسالة المحكم والمتشابه ص ١٠ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤١ و ٢٤٢ وتفسير البرهان ج ١ ص ١٨٦ و ١٨٧ عن الكافي والقمي ، وعن تفسير العياشي. ومجمع البيان ج ١ ص ٢٨٠.

(٢) راجع : الإصابة ج ١ ص ٤٥٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٣٣٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ١٢٦ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صار) ج ٣ ص ٤٧٧ و ٤٧٨ والثقات ج ٣ ص ١٠٩ ومشاهير علماء الأمصار ص ٣٩ وخلاصة تذهيب تهذيب ـ الكمال ص ١٠٨ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤١٢ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٣٣٠.

١٠٩

في عز شبابه ، وغاية نشاطه وقوته.

وقيل : كان سنه حين توفي إحدى وسبعين سنة (١) عن ابن نمير. وإن كان الإستيعاب قد سجل أربعا وتسعين سنة (٢) ، ولعلها تصحيف سبعين ، فإن الاشتباه بينهما كثير.

٣ ـ إن الرواية تقول : إنها نزلت في خوات ، لكن روايات أخرى ذكرت : أنها نزلت في صرمة بن قيس أو غيره (٣).

٤ ـ الرواية تقول : إن المسلمين كانوا إذا نام أحدهم قبل أن يفطر حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ـ وهذا هو المروي بكثرة عجيبة ـ من طرق غير أهل البيت «عليهم السلام».

ونقول :

إن هذه كانت طريقة أهل الكتاب. وقد نزلت الآية لردع المسلمين عنها (٤) فلعل بعض المسلمين بسبب انبهاره قد انساق وراء أهل الكتاب في ذلك فنزلت الآية لتردعهم عنه ، وقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضا : فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر (٥).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ج ٣ ص ١٧١.

(٢) الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ١ ص ٤٤٤ وكذا في تهذيب الأسماء ج ١ ص ١٧٩.

(٣) الدر المنثور ج ١ ص ١٩٧ و ١٩٨ عن مصادر كثيرة.

(٤) الدر المنثور ج ١ ص ١٩٨ عن عبد بن حميد.

(٥) الدر المنثور ج ١ ص ١٩٨ عن ابن أبي شيبة وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي.

١١٠

الفصل الثاني :

ضربة علي عليه السلام يوم الخندق

تعادل عبادة الثقلين

١١١
١١٢

عبور الخندق :

يقول المؤرخون : إنه بعد أن جرح سعد بن معاذ أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا ، وجاؤا يريدون مضيقا يقحمون منه خيلهم إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فوجدوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون ، فلم تدخله خيولهم ، فعبره عكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله المخزومي ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب وعمرو بن عبدود.

وزاد المفيد «رحمه الله» : مرداسا الفهري.

وزاد البعض : حسل بن عمرو بن عبدود في من عبر الخندق أيضا.

ووقف سائر المشركين وراء الخندق (١).

__________________

(١) راجع : المصادر التالية : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٢ و ٥٣٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٥ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٨٦ والإرشاد للمفيد ص ٥٢ ومناقب آل أبي طالب ج ٨ ص ١ ص ١٩٨ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ١٩٧ و ١٩٨ و ٢٠٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٩ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٢ و ٢٥٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٥ وتهذيب سيرة ابن ـ

١١٣

ويقول القاضي النعمان : إن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر عليا بأن يمضي بمن خف معه ليأخذ الثغرة عليهم ، وقال : «فمن قاتلكم عليها فاقتلوه» (١).

فخرج علي أمير المؤمنين «عليه السلام» في نفر من المسلمين ، حتى أخذ الثغرة وسلمها إليهم.

وتقدم عمرو ، فلما رأى المسلمين ، وقف هو والخيل التي معه ، وقال : هل من مبارز (٢).

__________________

هشام ص ١٩٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٦ و ٤٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٩ ص ٦٢ وجوامع السيرة النبوية ص ١٥٠ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٠٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٨ و ٢٣٩ وراجع : الوفاء ص ٦٩٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٠.

(١) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٤.

(٢) راجع المصادر التالية : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ والإرشاد للمفيد ص ٥٢ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٧ و ٢٠٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٩ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ١٠٠ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٣٠٢ و ٢٥٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٥ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٧ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٨ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٦ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٩.

١١٤

وكان ذلك كما يقول القاضي النعمان بعد شهر من الحصار (١) وقال غيره غير ذلك ، كما ذكرناه في موضع آخر.

وصفهم لعمرو :

قالوا : وكان عمرو قد بلغ تسعين سنة ، وقد حرم الدهن حتى يثأر بمحمد وأصحابه. وذلك أنه في بدر قد أثبتته الجراحة ، وارتث فلم يشهد أحدا (٢).

ونعتقد : أنهم يبالغون في مقدار عمر عمرو ، ولعله بهدف بيان أنه كان في هذا الوقت قد ضعف وشاخ ولم يعد قتله بذلك الأمر المهم. ولكن جبن المسلمين عن مواجهته ـ كما سنرى ـ وهم جيش بأكمله ، وكذلك ما قاله النبي «صلى الله عليه وآله» في حق قاتله ، وغير ذلك مما سيأتي ، يبطل كيد الخائنين ، إن شاء الله تعالى.

وقالوا أيضا : كان عمرو بن عبدود فارس قريش (٣) ، وكان يعد بألف

__________________

(١) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٣.

(٢) راجع المصادر التالية ، فقد تعرضت لذلك كله أو بعضه : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٩ ص ٦٢ و ٦٣ وج ١٥ ص ٨٥ و ٨٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠٢ و ٢٠٣ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٩ ووفاء الوفاء ص ٦٩٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٠.

(٣) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٧.

١١٥

فارس (١) ، ويسمى فارس يليل (٢) ، لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا هو بيليل ، وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد ، فقال لأصحابه : امضوا.

فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم من أن يصلوا إليه ، فعرف بذلك (٣).

وكان : «من مشاهير الأبطال ، وشجعان العرب» (٤).

وعن علي «عليه السلام» : «وفارسها (أي قريش) وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود يهدر كالبعير المغتلم ..

إلى أن قال : والعرب لا تعد لها فارسا غيره» (٥).

وسيأتي : أن مسافع بن عبد مناف يبكي عمروا ، ويقول :

عمرو بن عبد كان أول فارس

جزع المذاد ، وكان فارس يليل

وقال أبو زهرة : «كان ـ كما قيل ـ لم يهزم في مبارزة قط» (٦).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٦ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦١ وينابيع المودة ص ٩٥.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٣ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٣ و ٢٢٦ وج ٤١ ص ٨٨ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨٣ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٣٥.

(٣) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٢ وج ٤١ ص ٨٨ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٣٥.

(٤) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٦.

(٥) الخصال ج ٢ ص ٣٦٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٤ والإختصاص ص ١٦٧ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٨٧.

(٦) خاتم النبيين ج ٢ ص ٩٣٨.

١١٦

«وكان أشد من فيهم وأنجدهم ، يعرف له ذلك جميعهم» (١).

وكان عمرو يلقب بعماد العرب ، وكان في مئة ناصية من الملوك ، وألف مقرعة من الصعاليك (٢).

المواجهة بين عمرو والمسلمين

وذكر القمي «رحمه الله» : أنه لما جاء الفرسان إلى الخندق ليعبروه كان «صلى الله عليه وآله» قد صف أصحابه بين يديه ، فلما طفروا الخندق ، صاروا قبال رسول الله «صلى الله عليه وآله» مباشرة ، والمسلمون خلف ظهر النبي «صلى الله عليه وآله».

رواية مشكوكة :

وادعى بعضهم : أن بعض المهاجرين قال لرجل من إخوانه بجنبه : أما ترى هذا الشيطان عمروا؟! لا والله لا يفلت من يديه أحد ، فهلموا ندفع إليه محمدا ليقتله ، ونلحق نحن بقومنا ، فأنزل الله على نبيه في ذلك الوقت قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ...) إلى قوله : (... وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٣)» (٤).

وصرح في موضع آخر : أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب لما قال

__________________

(١) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٣٤ والبحار ج ٤١ ص ٨٨ عنه.

(٣) الآيتان ١٨ و ١٩ من سورة الأحزاب.

(٤) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٢ و ١٨٣ والبحار ج ٢٠ ص ٢٢٥.

١١٧

لعبد الرحمن بن عوف : هلم ندفع محمدا إلى قريش ونلحق بقومنا : يحسون الأحزاب لم يذهبوا الخ .. (١).

ونقول :

إن هذه الرواية موضع شك وريب.

أولا : إن مضمون الآيات لا ينسجم مع هذا الحدث الذي تقول الرواية : إن الآية نزلت لأجله ، ولا يتطابق معه ، بل هي لا تشير إليه لا من قريب ولا من بعيد.

ثانيا : ما معنى قوله : هلموا ندفع إليه محمدا ليقتله ونلحق نحن بقومنا؟ فهل إن محمدا ، الذي معه سائر المهاجرين والأنصار أصبح الآن خاضعا لابن عوف ولرفيقه ، وأصبحا هما أصحاب القرار في أمره؟!

ثالثا : ولو أنهما جهرا بهذا القول ، ألم يكونا يخافان بأس علي «عليه السلام» وصولته ، فضلا عن غيره من أصحابه المخلصين؟!

أخذ الثغرة على عمرو وأصحابه :

وقد لا حظنا : أن عليا «عليه السلام» قد بادر إلى أخذ الثغرة التي عبر منها الفرسان ، عليهم ، حتى لا يمكنهم الرجوع منها ، وليمنع بقية قوى الأحزاب من عبورها لمساعدة عمرو ومن معه.

وهذه المبادرة تعتبر من وجهة نظر عسكرية هي الإجراء الأمثل والأفضل لأنها أيضا قد أدت إلى محاصرة المجازفين ، والسيطرة على الموقف ،

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣٢.

١١٨

وإفشال خطتهم.

ولكن علينا : أن لا نهمل التذكير بأن هؤلاء الذين جاؤوا مع علي «عليه السلام» ، وأخذوا الثغرة على عمرو ومن معه ، ما كانوا ليجرؤوا على الوقوف في مواقعهم لولا وجود علي «عليه السلام» إلى جانبهم ، ثم اطمئنانهم إلى أنه سيكون هو الذي ينجدهم لو تعرضوا لأي مكروه من قبل عدوهم عمرو وأصحابه.

فإنما إلى علي «عليه السلام» استندوا ، وعلى مبادرته لحمايتهم ، والدفاع عنهم اعتمدوا ، يدلنا على ذلك : أن المسلمين كانوا كأن على رؤسهم الطير خوفا وفرقا من عمرو كما سنرى.

طلب البراز ، وخروج علي عليه السلام لعمرو :

لما وقف عمرو وأصحابه على الخندق قالوا : والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، فقال عمرو :

يا لك من مكيدة ما أنكرك

لا بد للملهوب من أن يعبرك

ثم زعق على فرسه في مضيق ، فقفز به إلى السبخة ، بين الخندق وسلع (١).

وجعلوا يجيلون خيلهم فيما بين الخندق وسلع ، والمسلمون وقوف لا يقدم أحد منهم عليهم.

وجعل عمرو بن عبدود يدعو للبراز ـ وكان قد أعلم ليرى مكانه ـ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨.

١١٩

ويعرض بالمسلمين ، فقال «صلى الله عليه وآله» على ما في الروايات : من لهذا الكلب؟ فلم يقم إليه أحد.

فلما أكثر قام علي «عليه السلام» ، فقال : أنا أبارزه يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، انتظارا منه ليتحرك غيره.

وأعاد عمرو النداء والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير ، لمكان عمرو ، والخوف منه وممن معه ، ومن وراءه.

فقال عمرو : أيها الناس ، إنكم تزعمون : أن قتلاكم في الجنة ، وقتلانا في النار؟ أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة ، أو يقدم عدوا له إلى النار؟.

فلم يقم إليه أحد.

فقام علي «عليه السلام» دفعة ثانية ، قال : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس.

فجال عمرو بفرسه مقبلا مدبرا ، وجاءت عظماء الأحزاب ، ووقفت من وراء الخندق ، ومدت أعناقها تنظر ، فلما رأى عمرو : أن أحدا لا يجيبه قال :

ولقد بححت من النداء

بجمعهم هل من مبارز

ووقفت مذ جبن المشجع

موقف القرن المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرعا قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز

فقام علي «عليه السلام» ، فقال : يا رسول الله ائذن لي في مبارزته. فلما طال نداء عمرو بالبراز ، وتتابع قيام أمير المؤمنين «عليه السلام» ، قال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ادن مني يا علي.

فدنا منه ، فقلده سيفه (ذا الفقار) ، ونزع عمامته من رأسه ، وعممه بها ،

١٢٠