الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-183-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

١
٢

٣
٤

الفصل السابع :

معنويات الجيشين والرعب والخوف أيام الحصار

٥
٦

الحالة المعنوية لجيش الأحزاب :

لقد حاصر المشركون المسلمين في المدينة مدة طويلة ، سنتحدث عنها في الفصل التالي. ولا شك في أن جيش الشرك كان مطمئنا إلى أنه سوف يحقق في مسيره ذاك لحرب المسلمين نتائج طيبة ومثيرة وربما حاسمة ، وذلك استنادا إلى ذلك الحشد الهائل الذي استطاع أن يوفره ، والذي لم يسبق له مثيل.

ثم فوجئ بالخطة الدفاعية التي اعتمدها المسلمون في المواجهة ، ولكنه لم يفقد الأمل ، وحرص على متابعة الإعداد والاستعداد ، بحمله بني قريظة على نقض العهد ، وذلك على أمل أن يجد الوسيلة لتجاوز عقدة الخندق ، للتوصل إلى المواجهة الحاسمة التي كان يأمل.

فكان من الطبيعي : أن نجد جيش الأحزاب يتظاهر بالأنفة والشموخ والعنجهية ، والاستعلاء والفرح.

قال ابن شهر آشوب : «كان الكفار على الخمر ، والغناء ، والمدد ، والشوكة» (١).

وكيف لا يكونون كذلك ، وهم يرون أنفسهم في موقع من يحاصر

__________________

(١) (الشوكة : السلاح) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٧٢.

٧

أعداءه ، ويضيق عليهم الخناق. ويتسبب لهم بالمزيد من الألم والأذى والخوف والرعب ، مع ما يعانون من جوع وحاجة ، وشدة.

وإن كان فيما بعد ـ وبعد قتل علي لطليعة فرسانهم ـ انقلب السحر على الساحر كما سنرى.

وما يهمنا هنا هو بيان حالة المسلمين في مواجهة الأحزاب فنقول :

المسلمون في مواجهة الأحزاب :

قد تحدث القرآن عن حالة المسلمين بصورة عامة في يوم الأحزاب ، وتحدث عن حالات المنافقين ومواقفهم وأساليبهم في هذه المناسبة ، وذكر أيضا حالة أهل الإيمان والإخلاص ، وميّزهم عن غيرهم.

ونحن نذكر هنا : الآيات التي تعرضت للفرقاء الثلاثة فنقول :

الحالة العامة :

لقد كان ثمة حالة من الخوف والرعب تهيمن على الأجواء العامة للمسلمين ، الذين لم يستحكم الإيمان في نفوسهم وقلوبهم حتى زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١).

حيث يذكر المفسرون : أن هذه الآية قد نزلت يوم الأحزاب وقيل :

__________________

(١) الآية ٢١٤ من سورة البقرة.

٨

نزلت في أحد (١).

وقد زاد هذا الخوف والرعب باستمرار الحصار ، وظهور بعض المناوشات. وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.)

وقال تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)(٢).

يقين أهل الإيمان :

أما عن خصوص الثلة المؤمنة الصابرة المجاهدة ، فإنهم كانوا مطمئنين إلى نصر الله تعالى لهم على أعدائهم. دون أدنى شك أو ريبة منهم ، فقد قال تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٠ ص ١٨٨ عن مجمع البيان ج ٢ ص ٣٠٩ وراجع : الدر المنثور ج ١ ص ٢٤٣ عن عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة ، وابن أبي حاتم ، عن السدي.

(٢) الآيات ٩ ـ ١١ من سورة الأحزاب.

٩

اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

حالة المنافقين :

أما المنافقون : فإنهم ما زالوا منذ البداية يشككون في قدرة المسلمين على المواجهة ، وقد تقدم أنهم حين حفر الخندق أظهروا نفاقهم الذي رافق جميع مراحل المواجهة وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم ، فقال :

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ

__________________

(١) الآيات ٢٢ ـ ٢٤ من سورة الأحزاب.

١٠

حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً.)(١).

النصوص التاريخية :

قد ظهر من الآيات الشريفة : أن ما كان يثيره المنافقون من شائعات ، وما كانوا يتخذونه من مواقف ، قد أثّر على الحالة العامة ، وأسهم في إثارة مشاعر الخوف التي كانت متحفزة ، بسبب ما يرونه من حشود هائلة ، وبسبب الحصار الذي يعانون منه وترافق مع الحاجة الملحة ، الأمر الذي بث روح الإنهزام ، والتخاذل والتردد فيما بين ضعفاء النفوس ، وقليلي التدبر.

وقد حملت لنا النصوص التاريخية بعض التفاصيل ، التي يحسن الوقوف عندها ، إلى جوانب أخرى يحسن الإلمام بها والإطلاق عليها ، والإستفادة منها.

ونحن نذكر هنا : بعضا من ذلك ولا نصرف النظر عن جميع ما لدينا من ملاحظات وتحفظات ، بل نذكر بعضا من ذلك ، حسبما يقتضيه المقام ، فنقول :

عن جابر بن عبد الله ، قال : كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريش ، حتى فرّج الله ذلك (٢).

وعن أم سلمة ، أنها قالت : إنها شهدت مع النبي «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) الآيات ١٢ ـ ٢٠ من سورة الأحزاب.

(٢) المغازي ج ٢ ص ٤٦٨.

١١

مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، والحديبية ، والفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ولا أخوف عندنا من الخندق ، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة ، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري الخ .. (١).

«وكانوا يبيتون بالخندق خائفين ، فإذا أصبحوا أمنوا» (٢).

«واشتد البلاء والحصر على المسلمين ، وشغلتهم أنفسهم ، فلا يستريحون ليلا ، ولا نهارا» (٣).

وقال ابن شهر آشوب : «وكان الكفار على الخمر ، والغناء ، والمدد ، والشوكة ، والمسلمون كأن على رؤوسهم الطير لمكان عمرو.

والنبي «صلى الله عليه وآله» جاث على ركبتيه ، باسط يديه ، باك عيناه ، ينادي بأشجى صوت :

«يا صريخ المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطرين ، اكشف همي ، وكربي ، فقد ترى حالي» (٤).

ويقولون : لما صح عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» نقض بني قريظة للعهد ضاق ذرعا ، وخشي أن يفت ذلك في أعضاد المسلمين ، فعظم

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٣١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٥.

(٢) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٨.

(٣) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٨ وراجع ج ٣ ص ١٣٤ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٧٢ وراجع ج ١٤ ص ٨٨.

١٢

البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق ، وكثر الخوض.

وأقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه فيما وصف من الخوف والشدة لتظاهر الأعداء عليهم ، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى كان ما كان من كيد نعيم بن مسعود الخ .. (١).

وستأتي قصة نعيم ، وما فيها من هنات وإشكال.

قال ابن الجوزي : «قال علماء السير : كان اشتد الخوف يوم الخندق ، وفشل الناس ، وخيف على الذراري والأموال» (٢).

وفي نص آخر : «ولما فشا نقض بني قريظة ، واشتد الخوف ، وعظم عند ذلك البلاء ، فبينما هم على ذلك إذ جاءتهم جنود ـ يعني الأحزاب ـ وهم قريش

__________________

(١) تجارب الأمم ج ١ ص ١٥٠ وأشار إلى ذلك في المصادر التالية : تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٢ و ١١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢١٤ و ٢٠١ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ و ١١١ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٠٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٣ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ و ٢٨١.

(٢) الوفا ص ٦٩٣ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٨ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧١.

١٣

وغطفان ، ويهود بني قريظة ..

إلى أن قال : فجاء بنو أسد ، وغطفان ، وفزارة ، واليهود من فوقهم ، من جهة المدينة ، وقائدهم حارث بن عوف ، وعيينة بن حصن ، وجاء قريش وكنانة من جانب أسفل الوادي ، وقائدهم أبو سفيان بن حرب» (١).

وقال ابن عباس : «كان الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة ، ومن أسفل منهم قريش وغطفان ، كذا في الوفاء. ومن هيبة كثرتهم ، وشدة شوكتهم رعبت قلوب ضعفاء أهل الإسلام ، وزاغت أبصارهم» (٢).

وقال القيرواني : «جاءت قريش من هاهنا ، واليهود من ها هنا والمجد من ها هنا ، يريد هوازن» (٣).

ومعنى ذلك هو : أن المسلمين كانوا محاصرين من جهات ثلاث

ويقول الطبرسي : «من فوقكم : من فوق الوادي ، من قبل المشرق : قريظة والنضير ، وغطفان ومن أسفل منكم : أي من قبل المغرب ، من ناحية مكة : أبو سفيان في قريش ومن تبعه» (٤).

مواقف المنافقين :

وقال القمي : «لما طال على أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٠ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٧ و ٣١٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥.

(٣) الجامع ص ٢٨١.

(٤) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٣٩ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ١٩٢ عنه.

١٤

الأمر واشتد عليهم الحصار ، وكانوا في وقت برد شديد ، وأصابتهم مجاعة وخافوا من اليهود خوفا شديدا ، وتكلم المنافقون بما حكى الله عنهم ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلا نافق ، إلا القليل.

وقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخبر أصحابه : أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق. وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل ، وإنه ليصيبهم جهد شديد ، ولكن تكون العاقبة عليهم.

فلما جاءت قريش ، وغدرت اليهود قال المنافقون : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)(١).

وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة ، فقالوا : يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا ، فإنها في أطراف المدينة ، وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها.

وقال قوم : «هلموا فلنهرب ، ونصير في البادية ، ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلا كله» (٢).

وقال البيهقي : إنه بعد حصار دام قريبا من عشرين ليلة ، وبعد حصول قتال دام إلى الليل ، شغل المسلمين عن صلاة العصر : «فلما اشتد البلاء على النبي «صلى الله عليه وآله» وأصحابه نافق ناس كثير ، وتكلموا بكلام قبيح فلما رأى رسول الله ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول : والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة وإني لأرجو أن أطوف

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الأحزاب.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ١٨٦ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٢٩ و ٢٣٠.

١٥

بالبيت العتيق آمنا ، وأن يدفع الله عز وجل إليّ مفاتيح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصر ، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل.

وقال رجل ممن معه لأصحابه : ألا تعجبون من محمد!! يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق ، وأن نقسم كنوز فارس والروم ، ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط ، والله ما يعدنا إلا غرورا.

وقال آخرون ممن معه : ائذن لنا ، فإن بيوتنا عورة.

وقال آخرون : «يا أهل يثرب ، لا مقام لكم فارجعوا» (١).

ويقول نص آخر : «ونجم النفاق من بعض المنافقين ، وقال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر ، وأن أموالهما تنفق في سبيل الله ، واحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)(٢).

وقال رجال ممن معه : «يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا» (٣).

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٢ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥.

(٢) الآية ١٢ من سورة الأحزاب.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٨ وراجع المصادر التالية : حدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٧ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠١ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٣ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٨٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٧ وتاريخ ـ

١٦

من الذي قال : بيوتنا عورة؟!

تقدم في النصوص التي أوردناها : أن هناك من قال : بيوتنا عورة ، من أجل الحصول على إذن من النبي «صلى الله عليه وآله» لهم بترك مواقعهم والرجوع إلى بيوتهم ، فمن هم هؤلاء الذين قالوا ذلك يا ترى؟

إن بعض النصوص التاريخية تقول : هم : «عبد الله بن أبي وأصحابه.

وقيل : هم بنو سالم من المنافقين.

وقيل : إن القائل لذلك أوس بن قبطي ومن وافقه على رأيه ، عن يزيد بن رومان» (١).

وقال ابن الكلبي : إن أبا مليل ، سليك بن الأزعر ـ شهد بدرا ـ هو الذي قال يوم الخندق بيوتنا عورة (٢).

وقال الديار بكري : «وكان جماعة من المنافقين مثل أوس بن القيظي ، ومتابعيه ينفرون جيش الإسلام ، ويقولون : ارجعوا إلى منازلكم ، واعتلوا بأن منازلكم عورة ، خالية عن المحافظة ، فإنها خارج المدينة ، ونحن نخاف

__________________

اليعقوبي ج ٢ ص ٥١ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٧ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٩ و ٤٥٠ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ١٩٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤ وراجع : سعد السعود ص ١٣٨.

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٣٤٧ والبحار ج ٢٠ ص ١٩٣ عنه وراجع : نهاية الأرب ج ٧ ص ١٨١.

(٢) راجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٩.

١٧

أن يظفر بها جيش العدو» (١).

ويقول نص آخر : «عظم الأمر ، وأحيط بالمسلمين من كل جهة وهمّ بالفشل بنو حارثة ، وبنو سلمة ، معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة ، ثم ثبتهم الله» (٢).

لكن البعض قال : إن المستأذنين هم بعض بني حارثة لا كلهم ، فراجع (٣).

ويروي لنا الواقدي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا ، فيقول :

إن بني حارثة بعثوا بأوس بن قيظي إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، يقولون : إن بيوتنا عورة ، وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا ، ليس بيننا وبين غطفان أحد يرد عنا ، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا.

فأذن لهم «صلى الله عليه وآله» ففرحوا بذلك ، وتهيأوا للانصراف.

فبلغ سعد بن معاذ ذلك ، فقال : يا رسول الله ، لا تأذن لهم ، إنّا والله ، ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا ، فردهم (٤).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ١٣٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥.

(٢) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٠ وراجع المصادر التالية : السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٨ ومجمع البيان ج ٢ ص ٣٤٧ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ١٩٣.

(٣) راجع : جوامع السيرة النبوية ص ١٤٩.

(٤) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٦٣ وراجع المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٩ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢

١٨

من بقي مع النبي صلى الله عليه وآله في المواجهة؟!

قال دحلان : «فجعل المنافقون يستأذنون ، ويقولون : بيوتنا عورة ، أي من العدو ، لأنها خارج المدينة ، وحيطانها قصيرة ، يخشى عليها السرقة ، فأذن لنا نرجع إلى نسائنا ، وأبنائنا ، وذرارينا ؛ فيأذن «صلى الله عليه وآله» لهم.

قيل : ولم يبق معه تلك الليلة إلا ثلاث مئة» (١).

وعن حذيفة : «أن الناس تفرقوا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا» (٢).

وقال القاضي النعمان : «وتسلل عن رسول الله صلوات الله عليه وآله أكثر أهل المدينة ، فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم» (٣).

وتقدم قول القمي : «ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلا نافق إلا القليل».

وهذا يؤيد ما سيأتي : من أن سبب النصر هو بطولات علي «عليه

__________________

ـ ص ٢٣٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠٤ وليس فيه موقف ابن معاذ : وراجع المصادر التالية : وإن لم تشر لموقف ابن معاذ : عيون الأثر ج ٢ ص ٦٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٣ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٩٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٠١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠ وستأتي بقية المصادر في الفصل الأخير من هذا الباب تحت عنوان : مهمة حذيفة بن اليمان.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٥٠ و ٤٥١ وراجع : تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤٩ و ٢٥٠ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣١.

(٣) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٤.

١٩

السلام» ، وما جرى على المشركين من مكابدة ما تثيره الرياح والأعاصير من متاعب لهم ، وما تزرعه من خوف ورعب في قلوبهم ، بعد أن آتت النشاطات النبوية لزرع الشكوك فيما بينهم ثمارها ، كما سنرى.

وقبل أن نمضي في الحديث عن سائر الوقائع نتوقف قليلا للإشارة إلى الأمور التالية :

الحارث بن عوف :

ذكرت بعض الروايات المتقدمة : الحارث بن عوف في المشاركين في حصار المدينة ، وقد تقدم : أن قومه ينكرون حضوره حرب الأحزاب ، فراجع الفصل الأول من هذا الباب.

رهبة الليل :

وقد ذكرت بعض النصوص المتقدمة : أن الليل كان بالنسبة لكثير من المسلمين بمثابة كابوس مخيف لما يتوقعونه من مفاجئات لم يحسبوا لها حسابا ، ونحن وإن كنا نصدق أن لليل رهبته ، ولكن وجود الرسول «صلى الله عليه وآله» فيما بينهم ، وهو الذي لم يزل يطمئنهم إلى نصر الله وعونه ، كان ينبغي أن يطمئنهم ، ويذهب حالة الخوف والرعب من نفوسهم لو كانوا راسخي القدم في الإيمان ، والتسليم لله ولرسوله.

خوف الرسول صلى الله عليه وآله :

وقد تحدثت بعض كلمات المؤرخين : عن خوف النبي «صلى الله عليه وآله» في حرب الأحزاب.

٢٠