دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: ٤٢٠

وقال الفضل (١) :

إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصارف لا ينافي سبق إرادة الله تعالى لأفعالهم وخلقه لها ؛ لأنّ الإسناد بواسطة الكسب والمباشرة ، فلا يكون مخالفة للمحسوس.

وأمّا ما ذكره من الدليل ، فهو مبنيّ على إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وقد أبطلناهما.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

٨١

وأقول :

حاصل مراد المصنّف : إنّ الظاهر عندنا الضروري لدينا ، أنّ الفعل إنّما تتفرّع إرادته وإيجاده عن ثبوت الداعي له وانتفاء الصارف عنه ، وتتفرّع كراهته وتركه عن وجود الصارف عنه وعدم الداعي له.

ولا ريب أنّ الفعل الذي به الطاعة حسن ، والحسن جهة دعاء ، والفعل الذي به المعصية قبيح ، والقبح جهة صرف ، فلا بدّ أن يكون ما به الطاعة مراد الله تعالى ؛ لوجود الداعي له وهو حسنه بلا صارف عنه ، وما به المعصية مكروها لله تعالى ؛ لوجود الصارف عنه وهو قبحه بلا داع له ..

لأنّ الداعي : إمّا الحاجة إليه ، أو الجهل بقبحه ، وهما منتفيان في حقّ الله تعالى.

أو الحكمة ، وهي منافية لفعل القبيح ، فيلزم أن تثبت إرادة الله تعالى للطاعات ، وكراهته للمعاصي ، إرادة وكراهة تشريعيّتين عندنا وتكوينيّتين عند الأشاعرة.

لكنّهم خالفوا المحسوس بقولهم : إنّ الله تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الأفعال ، سواء كان طاعة أم معصية ، ويكره كلّ ما لم يقع (١).

فإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ مراد المصنّف هو : الداعي والصارف لله تعالى لا للعبد كما تخيّله الخصم ، فأجاب بما لا يرتبط بكلام المصنّف أصلا.

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٨٢

والأولى للخصم الاكتفاء في الجواب بإنكار الحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

لكن يرد عليه ـ مع بطلانه كما سبق (١) ـ أنّ بعض الأفعال صفة كمال أو نقص عندهم ، كالعدل ، والظلم ، والإصلاح ، والإفساد ، ونحوها ..

وهم يقولون : بالحسن والقبح عقلا فيها كما سبق منه (٢) ، وهو كاف في تمام دليل المصنّف رحمة الله عليه.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع ردّ الفضل بن روزبهان من مبحث « الحسن والقبح العقليّين » في ج ٢ / ٤١١ من هذا الكتاب.

٨٣
٨٤

وجوب الرضا بالقضاء

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

المطلب السادس

في وجوب الرضا بقضاء الله تعالى

اتّفقت الإمامية والمعتزلة وغيرهم من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره (٢).

ثمّ إنّ الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالّة على وجوب الرضا بالقضاء ، وهو : إنّ الله تعالى يفعل القبائح بأسرها ولا مؤثّر في الوجود غير الله تعالى من الطاعات والقبائح (٣) ..

فتكون القبائح من قضاء الله تعالى على العبد وقدره ، والرضا بالقبيح

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

(٢) انظر رأي الإمامية والمعتزلة في : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٧٠ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٩٢ ـ ١٩٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٠ ، المحيط بالتكليف : ٤٢٠.

وانظر رأي الأشاعرة في : الملل والنحل ١ / ٨٣ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٩ ، المواقف : ٣٢٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) انظر الصفحة ٦ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

٨٥

حرام بالإجماع (١) ، فيجب أن لا يرضى بالقبيح ..

ولو كان من قضاء الله تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين ، وهي :

إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره ..

أو وجوب الرضا بالقبيح ..

وكلاهما خلاف الإجماع.

أمّا على قول الإمامية ، من أنّ الله تعالى منزّه من فعل القبائح والفواحش ، وأنّه لا يفعل إلّا ما هو حكمة وعدل وصواب ، ولا شكّ في وجوب الرضا بهذه الأشياء ، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجبا ، ولم يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرضا بقضاء الله تعالى ولا في الرضا بالقبائح.

* * *

__________________

(١) انظر : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٧١ ، تقريب المعارف : ١٠٥ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٨ و ٨٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤ ، المواقف : ٣٢٢.

٨٦

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ وجوب الرضا بقضاء الله تعالى مذهب الأشاعرة (٢) ، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى فقد عرفت بطلانه في ما سبق (٣) ، وأنّه غير لازم ؛ لأنّ خلق القبيح ليس فعله ، ولا قبيح بالنسبة إليه تعالى.

وأمّا قوله : « فتكون القبائح من قضاء الله تعالى » ..

فجوابه : إنّ القبائح مقضيّات لا قضاء ، والقضاء فعل الله تعالى ، والقبيح هو المخلوق.

ونختار من المقدّمتين وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ، ولا نرضى بالقبيح ، والقبيح ليس هو القضاء ، بل هو المقضيّ كما عرفته ، ولم يلزم منه خرق الإجماع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٩.

(٢) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في ج ٢ / ٣٣٨.

(٣) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٨٧

وأقول :

قد بيّنّا أنّ خلق القبيح فعله (١) ، ولو سلّمت المغايرة فهو في القبح مثله.

وليت شعري لم يمتنع من القول : بأنّ الخلق هو الفعل؟! والحال أنّه يزعم أنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى ، فليكن فعله سبحانه للقبيح سائغا ، وتسميته الخلق بالفعل جائزة ، لا سيّما و [ أنّه ] لا حسن ولا قبح عقلا في الأفعال عندهم!

وليس هو بأعظم من حكمه بأنّ الله سبحانه يقضي بالقبيح ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضاء والمقضيّ ، فقد سبق أنّه لا يغني شيئا ؛ للتلازم بينهما في الرضا وعدمه (٢).

على أنّ القبائح المقضيّات لله سبحانه مرضيّات له ؛ لتوقّف فعل الشيء بالاختيار على إرادته والرضا به ـ كما مرّ (٣) ـ ، فلو سخطها العبد كان سخطا لما رضي الله وأراده.

فإن قلت : من مقضيّات الله تعالى : جهل العباد وملكاتهم السيّئة كالجبن والبخل ، وهي ممّا اتّفقت الكلمة والأخبار على ذمّها وعدم الرضا بها ، فلا بدّ من القول بعدم التلازم بين القضاء والمقضيّ في الرضا وعدمه.

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس‌سره في الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس‌سره في ج ٢ / ٣٣٩.

(٣) انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس‌سره في ج ٢ / ٣٣٩.

٨٨

قلت : ذمّ الجهل وعدم الرضا به ليس من حيث أصل وجوده ، ولذا لا يذمّ جهل الطفل ولا يسخط منه ، بل من حيث البقاء والاستمرار عليه لمن يتمكّن من إزالته ، والبقاء عليه مستند إلى العبد.

كما إنّ ذمّ الجبن والبخل وعدم الرضا بهما ليس من حيث أصل وجودهما الذي قضت به الحكمة الإلهيّة ، بل من حيث آثارهما المستندة إلى العبد التي يقدر على مجانبتها بالنظر إلى قبحها ، وتعويد نفسه على خلافها ، بل يقدر على تبديل الملكتين بخلافهما.

فالجهل والجبن والبخل مرضيّات الوجود ، مسخوطات البقاء أو الآثار ، والمرضيّ مستند إلى الله تعالى ، والمسخوط مستند إلى العبد.

* * *

٨٩
٩٠

إنّه تعالى لا يعاقب على فعله

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

المطلب السابع

في أنّ الله تعالى لا يعاقب الغير على فعله

ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا يعذّب العبيد على فعل يفعله فيهم ، ولا يلومهم عليه (٢).

وقالت الأشاعرة : إنّ الله تعالى لا يعذّب العبد على فعل العبد ، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر ، ثمّ يعاقبه عليه ، ويفعل فيه الشتم لله تعالى والسبّ له ولأنبيائه عليهم‌السلام ويعاقبه عليها ، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذكره وذكر أحوال المعاد .. ثمّ يقول : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (٣) (٤).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٨.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ وذكر الشيخ المفيد رأي المعتزلة كذلك ، المنقذ من التقليد ١ / ١٩٠ و ١٩٩.

وانظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : ٣٣٢ وما بعدها ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤.

(٣) سورة المدّثّر ٧٤ : ٤٩.

(٤) الإبانة عن أصول الديانة : ١٥٨ ـ ١٦١ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣٢٣ ، الاقتصاد

٩١

وهذا أشدّ أنواع الظلم ، وأبلغ أصناف الجور ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. وقد قال تعالى :

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) ..

( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢) ..

( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣) ..

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٤).

وأيّ ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا ويعاقبه عليه؟! بل يخلقه أسود ثمّ يعذّبه على سواده ، ويخلقه طويلا ثمّ يعاقبه على طوله ، ويخلقه أكمه ويعذّبه على ذلك ، ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء ثمّ يعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم يطر!

فلينظر العاقل المصنف من نفسه ، التارك للهوى ، هل يجوز له أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى هذه الأفعال؟! مع أنّ الواحد منّا لو قيل له : إنّك تحبس عبدك وتعذّبه على عدم خروجه في حوائجك! لقابل بالتكذيب وتبرّأ من هذا الفعل ، فكيف يجوز أن ينسب ربّه إلى ما يتنزّه هو عنه؟!

* * *

__________________

في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ـ ١١٧ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وما بعدها.

(١) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة النحل ١٦ : ١١٨.

(٤) سورة الأنعام ٦ : ١٦٤ ، سورة الإسراء ١٧ : ١٥ ، سورة الزمر ٣٩ : ٧ ، سورة فاطر ٣٥ : ١٨.

٩٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : أن لا خالق غير الله تعالى كما نصّ عليه في كتابه العزيز : ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) وهو يعذّب العبد على فعل العبد ؛ لأنّ العبد هو المباشر والكاسب لفعله وإن كان خلقه من الله تعالى ، والخلق غير الفعل والمباشرة.

ثمّ إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك (٣).

وليس هذا من باب الظلم ؛ لأنّ الظلم هو التصرّف في حقّ الغير ، ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم ، فالعباد كلّهم ملك الله تعالى ، وله التصرّف فيهم كيف يشاء.

ألا ترى إلى قول عيسى عليه‌السلام حيث حكى الله تعالى عنه : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) (٤) جعل العبودية سببا مصحّحا للتعذيب ، والمراد أنّهم ملكك ولك التصرّف فيهم كيف شئت ، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرّف في عباده.

هذا هو الحقّ الأبلج وما سواه بدعة وضلالة ، كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٦٦.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٣) انظر الصفحة ٧ ـ ٨ والصفحة ٩١ ه‍ ٤ من هذا الجزء.

(٤) سورة المائدة ٥ : ١١٨.

٩٣

وما ذكره من خلق الأسود وتعذيبه بالسواد فهذا من باب طامّاته ، وكذا ما ذكره من الأمثلة.

فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب ، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض ؛ لأنّ العبد في الأفعال كاسب ومباشر ، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف.

* * *

٩٤

وأقول :

قد سبق في المطلب الأوّل بيان المراد في قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) فراجع تحقيقه (٢).

وأمّا قوله : « لأنّ العبد هو المباشر والكاسب » ..

ففيه : إنّ الكسب الذي يزعمونه أيضا خلق الله تعالى ؛ لأنّه خالق كلّ شيء ، ولا أثر للعبد في الكسب أصلا.

ما أدري هل المقتضي للعقاب مجرّد الألفاظ وأن يقال : إنّ العبد كسب وفعل؟!

وأمّا قوله : « ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم » ..

فظاهر البطلان ، ضرورة أنّ صحّة تعذيب العبد بأنواع العذاب من دون ذنب ليست من مقتضيات الملكيّة وحقوقها ، بل هذا التصرّف ظلم محض لا يستحقّه المالك بوجه أصلا.

قال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (٣) ، فإنّه سبحانه جعل إهلاكه للمصلح ظلما وإن كان من التصرّف في الملك.

فتعبير الخصم عن الملك بالحقّ على وجه يجوز فيه ذلك التصرّف

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٢) انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس‌سره في ج ٢ / ٣٤٢.

(٣) سورة هود ١١ : ١١٧.

٩٥

خطأ واضح.

وأمّا استدلاله بالآية الحاكية لقول عيسى عليه‌السلام ففي غير محلّه ؛ لأنّ حقّيّة العقاب متوقّفة على أمرين : الذنب ، وولاية المعذّب على المذنب.

ولمّا كان من اتّخذ عيسى وأمّه إلهين مذنبا ـ وسابقا ذكر ذنبه في الآية ـ بيّن عيسى الأمر الثاني ، وهو : ولاية الله تعالى عليهم بأنّهم عباده ، فلم تدلّ الآية على صحّة عذاب من لا ذنب له.

وأمّا قوله : « فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب » ..

ففيه : ـ مع أنّ بعض أمثلة المصنّف كالطيران من الأفعال ـ إن أراد أنّها لا يتعلّق بها ثواب وعقاب من حيث الوقوع ، فمسلّم ، وليس هو مقصود المصنّف.

وإن أراد أنّه لا يجوز تعلّقهما بها ، فهو مناف لقوله : « لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ».

.. إلى غير ذلك من كلماته.

والمصنّف لم يقصد إلّا تجويزهم للعقاب في الأمثلة وهو لازم لهم.

وأما قوله : « والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض » ..

ففيه : إنّه لا أثر لهذا الفرق بعد أن كان المصحّح للعذاب عندهم هو الملكيّة ، على أنّ الكسب كالسواد فعل لله تعالى ، فلا فرق إلّا بأمر يعود إلى اللفظ.

* * *

٩٦

امتناع تكليف ما لا يطاق

قال المصنّف ـ ضاعف الله أجره ـ (١) :

المطلب الثامن

في امتناع تكليف ما لا يطاق

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى يستحيل عليه ـ من حيث الحكمة ـ أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه (٢).

فلا يجوز له أن يكلّف الزمن الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدّين ، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب ، ولا إحياء الموتى ، ولا إعادة آدم ونوح عليهما‌السلام ، ولا إعادة الأمس الماضي ، ولا إدخال جبل قاف (٣) في خرم الإبرة ، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ، ولا إنزال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٩.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ـ ٩٩ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، تقريب المعارف : ١١٢ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٦ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٣.

(٣) هذا ممّا يضرب مثلا لما هو مستحيل ، وقد وردت عدّة أحاديث عن الخاصّة والعامّة تفيد أنّ جبل قاف هو الجبل المحيط بالأرض ، وخضرة السماء منه ، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها ... انظر : معاني الأخبار : ٢٢ ح ١ ، مجمع البيان ٩ / ٢٠٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ١٤٦ و ١٤٨ ، تفسير القرطبي ١٧ / ٣ و ٤ ، معجم البلدان ٤ / ٣٣٨ رقم ٩٣٧٣ ؛ والله العالم!

٩٧

الشمس والقمر إلى الأرض .. إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة [ لذاتها ].

وذهبت الأشاعرة : إلى أنّ الله تعالى لم يكلّف العبد إلّا ما لا يطاق ولا يتمكّن من فعله (١) ، فخالفوا المعقول الدالّ على قبح ذلك ، والمنقول ، وهو المتواتر من الكتاب العزيز ، قال الله تعالى :

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٣) ..

و( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (٤) ..

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٥).

والظلم هو الإضرار بغير المستحقّ ، وأيّ إضرار أعظم من هذا مع إنّه غير مستحقّ؟!

تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ٩٩ ، تمهيد الأوائل : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٨ ـ ٣٣٢ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٤) سورة غافر ٤٠ : ١٧.

(٥) سورة الكهف ١٨ : ٤٩.

٩٨

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ تكليف ما لا يطاق جائز ، والمراد من هذا الجواز ، الإمكان الذاتي ، وهم متّفقون أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع قطّ في الشريعة بحكم الاستقراء ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ).

والدليل على جوازه : إنّه تعالى لا يجب عليه شيء ، فيجوز له التكليف بأيّ وجه أراد ، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه.

وأيضا : لا يقبح من الله شيء ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

ومذهب المعتزلة : عدم جواز التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه قبيح عقلا بما ذكره هذا الرجل من أنّ المكلّف للزمن الطيران إلى السماء وأمثاله يعدّ سفها ، وقد مرّ في ما مضى إبطال الحسن والقبح العقليّين (٢).

ولا بدّ في المقام من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : إنّ ما لا يطاق على مراتب :

أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه ، أو تعلّق إرادته أو إخباره بعدمه ، فإنّ مثله لا تتعلّق به القدرة الحادثة ؛ لأنّ القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ، ولا تتعلّق بالضدّين ، بل لكلّ واحد منهما قدرة على حدة تتعلّق به حال وجوده عندنا ، ومثل هذا الشيء لمّا لم يتحقّق أصلا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٧٢.

(٢) انظر ردّ الفضل في ج ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ من هذا الكتاب.

٩٩

فلا تكون له قدرة حادثة تتعلّق به قطعا ، والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا ، وإلّا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلّفا بالإيمان وترك الكبائر ، بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا ، وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة.

والثاني : أن يمتنع لنفس مفهومه ، كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم ، فقالت الأشاعرة في هذا القسم : إنّ جواز التكليف به فرع تصوّره وهو مختلف فيه ، فمنهم من قال : لا يتصوّر الممتنع لذاته ، ومنهم من قال بإمكان تصوّره.

وبالجملة : لا يجوز التكليف به أصلا ؛ لأنّ المراد بهذا الجواز الإمكان الذاتي ، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات ، وهو باطل.

الثالث : أن لا تتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومه ـ بأن لا يكون من جنس ما يتعلّق به كخلق الأجسام ، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بإيجاد الجواهر أصلا ـ ، أم لا ـ بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلّق به كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، وسائر المستحيلات العاديّة ـ ، فهذا محلّ النزاع ..

فنحن نقول : بجوازه لإمكانه الذاتي ..

والمعتزلة : يمنعونه لقبحه العقلي (١) ..

مع إنّا قائلون : بأنّه لم يقع (٢) ، وهذا مثل سائر ما يجوّزه الأشاعرة من الأمور الممكنة ، كالرؤية وغيرها ، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(٢) راجع : المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

١٠٠