دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: ٤٢٠

حالة باعثة إلى هذا الخلق ، فلا يلزم أن لا تكون المنافع مقصودة ، بل هي مقصودة ، بمعنى ملاحظة المصلحة والغاية المترتّبة عليها ، لا بمعنى الغرض الموجب لإثبات النقص له.

* * *

٤١

وأقول :

قوله : « رتّب عليها المصالح ».

إن أراد به أنّه رتّبها بما هي مصالح لها مقصودة من خلقها ، فهو معنى كونها غرضا منها.

وإن أراد به أنّه رتّبها بما هي مقصودة بأنفسها ، لا بما هي غرض ، لم يخرج فعل الأشياء عن العبث ، ومنه يعلم ما في قوله بآخر كلامه : « بل هي مقصودة بمعنى ملاحظة المصلحة ».

فإنّه إن أراد بقصد المنافع وملاحظتها ، مطلوبيّتها منها ، فهو المطلوب.

وإن أراد به مجرّد ملاحظتها لأنفسها ، فلا تكون مخرجة للأشياء عن العبث.

ولا يخفى أنّ قوله : « قبل خلق الأشياء دبّرها » خطأ ؛ لأنّ التدبير إنّما هو حين الخلق وما دام البقاء ، لا قبل الخلق.

ولا يصحّ أن يريد به التروّي ، فإنّه سبحانه غنيّ عن التروّي إذا أراد شيئا قال له : ( كُنْ فَيَكُونُ )(١).

وأمّا قوله : « فإنّا لو فقدنا العلّة الغائية لم نقدر على الفعل الاختياري » ..

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١١٧ ، سورة آل عمران ٣ : ٤٧ و ٥٩ ، سورة الأنعام ٦ : ٧٣ ، سورة النحل ١٦ : ٤٠ ، سورة مريم ١٩ : ٣٥ ، سورة يس ٣٦ : ٨٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٨.

٤٢

فخطأ آخر ؛ لأنّ اللازم من فقدها إنّما هو العبث لا عدم القدرة.

فلو زعم أنّ الترجيح بلا مرجّح محال كالترجّح بلا مرجّح ، فهو جار في حقّ الله تعالى ؛ لأنّ المانع العقلي واحد ، على أنّ الامتناع والمحالية بالغير لا ينافي القدرة على نفس الفعل.

ولو اكتفى بالنسبة إلى الله سبحانه بمجرّد رجحان الفعل في نفسه لاشتماله على المصلحة ، جاء مثله بالنسبة إلى الإنسان بلا فرق.

ثمّ لا يخفى أنّ قياس الغائب على الشاهد الذي استند إليه سابقا يقتضي العلّة الغائيّة لأفعاله تعالى.

وما ذكره من لزوم نقص الاحتياج قد عرفت وهنه ، وهو أشبه بحديث خرافة (١).

* * *

__________________

(١) مثل يضرب لكلّ ما لا يمكن وقوعه.

وخرافة : رجل من عذرة استهوته الجنّ ـ كما تزعم العرب ـ مدّة ، ثمّ لمّا رجع أخبر بما رأى منهم ، فكذّبوه حتّى قالوا لما لا يمكن : حديث خرافة.

انظر : مجمع الأمثال ـ للميداني ـ ١ / ٣٤٦ رقم ١٠٢٨ ، الحيوان ـ للجاحظ ـ ٦ / ٤٢٦ ، تاج العروس ١٢ / ١٦٢ مادّة « خرف ».

ووردت في أمّهات مصادر الجمهور روايات نسبت إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه حدّث بعض نسائه وأقرّ بخرافة وأحاديثه العجيبة عن الجنّ! فانظر مثلا : مسند أحمد ٦ / ١٥٧ ، الشمائل النبوية ـ للترمذي ـ : ٣٠٨ ح ٢٥٢ ب‍ ٣٨ ، مسند أبي يعلى ٧ / ٤١٩ ح ٤٤٤٢ ، مجمع الزوائد ٤ / ٣١٥ باب عشرة النساء ، كنز العمّال ٣ / ٦٢٩ ح ٨٢٤٤ و ٨٢٤٥.

٤٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم منه الطامّة العظمى والداهية الكبرى [ عليهم ]، وهو : إبطال النبوّات بأسرها ، وعدم الجزم بصدق واحد منهم ، بل يحصل الجزم بكذبهم [ أجمع ] ؛ لأنّ النبوّة إنّما تتمّ بمقدّمتين :

إحداهما : إنّ الله تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوّة لأجل التصديق.

والثانية : إنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق.

ومع عدم القول بإحداهما لا يتمّ دليل النبوّة ..

[ المقدّمة الأولى : ] فإنّه تعالى لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق ، لم يدلّ على صدق المدّعي ، إذ لا فرق بين النبيّ وغيره.

فإنّ خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق ، لكان لكلّ أحد أن يدّعي النبوّة ويقول : إنّ الله صدّقني ؛ لأنّه خلق هذه المعجزة ، ويكون نسبة النبيّ وغيره إلى هذه المعجزة على السواء ؛ ولأنّه لو خلقها لا لأجل التصديق لزم الإغراء بالجهل ؛ لأنّها دالّة عليه.

فإنّ في الشاهد لو ادّعى شخص أنّه رسول السلطان ، وقال للسلطان :

إن كنت صادقا في دعوى رسالتك ، فخالف عادتك ، واخلع خاتمك ، ففعل السلطان ذلك ، ثمّ تكرّر هذا القول من مدّعي رسالة السلطان وتكرّر من السلطان هذا الفعل عقيب الدعوى ، فإنّ الحاضرين بأجمعهم يجزمون

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩١.

٤٤

بأنّه رسول ذلك السلطان.

كذا هنا ، إذا ادّعى النبيّ الرسالة ، وقال : إنّ الله تعالى يصدّقني بأن يفعل فعلا لا يقدر الناس عليه مقارنا لدعواي ، وتكرّر هذا الفعل من الله تعالى عقيب تكرّر الدعوى ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بصدقه ، فلو لم يخلقه لأجل التصديق ؛ لكان الله تعالى مغريا بالجهل ، وهو قبيح لا يصدر عنه ، وكان مدّعي النبوّة كاذبا حيث قال : إنّ الله تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي ، فإذا استحال عندهم أن يفعل لغرض ، فكيف يجوز للنبيّ هذه الدعوى؟! المقدّمة الثانية ، وهي : إنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ؛ ممنوعة عندهم أيضا ؛ لأنّه يخلق الإضلال ، والشرور ، وأنواع الفساد والشرك ، والمعاصي الصادرة من بني آدم عليه‌السلام ، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟! فتبطل المقدّمة الثانية أيضا.

هذا نصّ مذهبهم وصريح معتقدهم ، نعوذ بالله من عقيدة أدّت إلى إبطال النبوّات ، وتكذيب الرسل ، والتسوية بينهم وبين مسيلمة حيث كذب في ادّعاء الرسالة.

فلينظر العاقل المنصف ، ويخف ربّه ، ويخش من أليم عقابه ، ويعرض على عقله هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة؟! وهل هؤلاء أعذر في مقالاتهم؟ أم اليهود والنصارى الّذين حكموا بنبوّة الأنبياء المتقدّمين عليهم‌السلام ، وحكم عليهم جميع الناس بالكفر حيث أنكروا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء ، فهم شرّ من أولئك.

٤٥

ولهذا قال الصادق عليه‌السلام حيث عدّهم وذكر اليهود والنصارى : « إنّهم شرّ الثلاثة » (١).

ولا يعذر المقلّد نفسه ، فإنّ فساد هذا القول معلوم لكلّ أحد ، وهم معترفون بفساده أيضا.

* * *

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : علل الشرائع ١ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ح ١ باب ٢٢٠.

٤٦

وقال الفضل (١) :

حاصل ما ينعقد في هذا الاستدلال من هذا الكلام : أنّ الله تعالى لو لم يخلق المعجزة لغرض تصديق الأنبياء لم يثبت النبوّة ، فعلم أنّ بعض أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.

والجواب : إنّه إن أراد بهذا الغرض العلّة الغائيّة الباعثة للفاعل المختار على فعله الاختياري ؛ فهو ممنوع.

وإن أراد أنّ الله تعالى يفيض المعجزة بالقصد والاختيار ، وغايته وفائدته تصديق النبيّ من غير أن يكون تصديق النبيّ باعثا على إفاضة المعجزة ، فهذا مسلّم ، ويحصل تصديق الأنبياء من غير إثبات الغرض ، وهذا مذهب الأشاعرة كما قدّمنا.

ثمّ إنّ هذا الرجل يفتري عليهم المدّعيات المخترعة من عند نفسه من غير تفهّم لكلامهم وتأمّل في غرضهم ، فإنّهم يعنون بنفي الغرض نفي الاحتياج من الله تعالى ، ووافقهم في ذلك جميع الحكماء الإلهيّين (٢).

فإن كان هذا المدّعي صادقا ، فكيف يكفّرهم ويرجّح عليهم اليهود والنصارى؟!

وإن كان باطلا ، فيكون غلطا منهم في عقيدة بعثهم على اختيارها

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٩.

(٢) هذا ادّعاء الجرجاني في شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ المقصد الثامن ، وقد تقدّم في الصفحة ٣١ من هذا الجزء أنّ الحكماء لم ينفوا كلّيّ الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال ؛ فراجع!

٤٧

تنزيه الله تعالى من الأغراض والنقص والاحتياج ، فكيف يجوز ترجيح اليهود والنصارى عليهم؟! ومع ذلك افترى على الصادق عليه‌السلام كذبا في حقّهم ، وإن كان قد قال الصادق هذا الكلام ، فيجب حمله على طائفة أخرى غير الأشاعرة ..

كيف؟! والشيخ الأشعري الذي هو مؤسّس هذه المقالة تولّد بعد سنين كثيرة من أزمان الصادق؟! والأشاعرة كانوا بعده ، فكيف ذكر الصادق فيهم هذه المقالة؟!

فعلم أنّ الرجل مفتر كودن (١) كذّاب ، مثل كوادن حلّة وبغداد ، لا أفلح من رجل سوء!

* * *

__________________

(١) الكودن ـ جمعها : الكوادن ـ : البليد ، على التشبيه هنا ، وفي اللغة هو : البرذون الثقيل من الدوابّ ، وقيل : هو الفيل ، وقيل : البغل.

انظر مادّة « كدن » في : الصحاح ٦ / ٢١٨٧ ، لسان العرب ١٢ / ٤٨ ، تاج العروس ١٨ / ٤٧٥ و ٤٧٦.

٤٨

وأقول :

حاصل مذهبهم ـ كما ذكر ـ : إنّه تعالى يخلق المعجزة لا لغاية ، لكنّها بنفسها تفيد التصديق بالنبوّة.

وفيه : إنّ إفادتها له ليست ذاتية ؛ إذ ليست هي إلّا كسائر خوارق العادة التي ربّما تقع في الكون ، ولا يوجب نفس وجودها تصديق أحد في دعواه ، فمن أين تفيد المعجزة التصديق بالنبوّة وهو لم يكن غرضا منها؟!

ومجرّد مقارنتها لدعوى النبوّة لا يجعل التصديق بها فائدة لها بعد أن كان أصل وجودها ومقارنتها بلا غرض ، كما لو قارنت دعوى أخرى لاخر! وحينئذ ، فلا يكون مدّعي النبوّة أولى بدعواها من غيره وإن ظهرت المعجزة على يده ؛ لأنّ خلقها كان مجّانا وبلا قصد تصديقه ، فكيف تقتضي نبوّته خاصّة؟! ثمّ لو سلّم كون التصديق فائدة للمعجزة ، فهو غير نافع لما ذكره المصنّف رحمه‌الله من لزوم كذب مدّعي النبوّة بقوله : « إنّ الله يخلق المعجزة لتصديقي » ، وغير دافع للإغراء بالجهل من حيث إفادة المعجزة أنّ الله تعالى خلقها لتصديقه ، وإن لم يكن هناك إغراء بالجهل من حيث أصل دعواه النبوّة ، لفرض كونه نبيّا.

ثمّ إنّه لم يتعرّض للجواب عن إيراد المصنّف رحمه‌الله على المقدّمة الثانية ، إكتفاء بما أسلفه من دعوى العادة التي عرفت أنّه لا معنى لها.

٤٩

وأمّا قوله : « وإن كان باطلا فيكون غلطا في عقيدة » ..

ففيه : إنّهم لم يستوجبوا ذلك لمجرّد الغلط ، بل للإصرار عليه عنادا للحقّ ، وجرأة على الله تعالى ، بعد البيان بصريح الكتاب العزيز والسنّة الواضحة وحكم العقل الضروري ، ولو دعاهم إلى ذلك تنزيه الله تعالى عن الحاجة والنقص لما جعلوه محتاجا في كلّ آثاره إلى غيره ، وهو صفاته الزائدة على ذاته بزعمهم! وكيف يكون ذلك تنزيها وقد أوضح لهم الإمامية أنّه ليس من الاحتياج والنقص في شيء؟! بل الغرض كمال للتأثير وشاهد بكمال المؤثّر.

ومن المضحك وعظه في المقام وإنكاره على المصنّف رحمه‌الله في ترجيح اليهود والنصارى على الأشاعرة ، والحال أنّه قد جاء بأكبر منه قريبا ، حيث جعل مذهب العدلية أردأ من مذهب المجوس.

وأمّا ما زعمه من أنّ تأخّر زمن الأشعري والأشاعرة عن الصادق عليه‌السلام مناف لإرادته لهم ..

ففيه : إنّه إذا جاز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إرادتهم أو المعتزلة على الخلاف بينهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « القدرية مجوس هذه الأمّة » (١) ، فليجز للصادق عليه‌السلام إرادتهم ؛ لأنّ علمه من علم جدّه ، واصل إليه من باب مدينة علمه (٢) ، وهو أحد أوصيائه الطاهرين.

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ / ٢٢١ ح ٤٦٩١ ، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ ٢ / ٣٤١ رقم ٢٦٨١ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ١٤٩ ح ٣٣٨ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٢٧ ح ٢٥١٥ وج ٤ / ٤٦٤ ح ٤٢٠٥.

(٢) إشارة إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم

٥٠

ويحتمل أن يريد الصادق عليه‌السلام مطلق الناصبة والمجبّرة ، فيدخل فيهم الأشاعرة ، وإن كانت بدعتهم بعده.

* * *

__________________

فليأتي من بابها » ، وقد تقدّمت الإشارة إلى مصادر هذا الحديث الشريف في ج ٢ / ٤٠٧ ه‍ ٢ ، فراجع.

٥١

قال المصنّف ـ شرّف الله منزلته ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم [ منه ] مخالفة الكتاب العزيز ؛ لأنّ الله تعالى قد نصّ نصّا صريحا في عدّة مواضع من القرآن أنّه يفعل لغرض وغاية ، لا عبثا ولعبا ..

قال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٢) ..

قال تعالى : ( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (٣) ..

وقال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٤).

وهذا الكلام نصّ صريح في التعليل بالغرض والغاية.

وقال تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (٥) ..

وقال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ) (٦) ..

وقال تعالى : ( وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (٧).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٣.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ١٦.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١١٥.

(٤) سورة الذاريات ٥١ : ٥٦.

(٥) سورة النساء ٤ : ١٦٠.

(٦) سورة المائدة ٥ : ٧٨.

(٧) سورة محمّد ٤٧ : ٣١.

٥٢

والآيات الدالّة على الغرض والغاية في أفعال الله أكثر من أن تحصى ، فليتّق الله المقلّد في نفسه ، ويخش عقاب ربّه ، وينظر في من يقلّده ، هل يستحقّ التقليد أو لا؟!

ولينظر إلى ما قال ، ولا ينظر إلى من قال ، وليستعدّ لجواب ربّ العالمين حيث قال : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) (١) .. فهذا كلام الله على لسان النذير ، وهاتيك الأدلّة العقليّة المستندة إلى العقل الذي جعله الله حجّة على بريّته.

وليدخل في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم : ( فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢) ..

ولا يدخل نفسه في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم : قالوا ( رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) (٣).

ولا يعذر بقصر العمر ، فهو طويل على الفكر ؛ لوضوح الأدلّة وظهورها ، ولا بعدم المرشدين ، فالرّسل متواترة ، والأئمّة متتابعة ، والعلماء متضافرة.

* * *

__________________

(١) سورة فاطر ٣٥ : ٣٧.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ١٧ و ١٨.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٢٩.

٥٣

وقال الفضل (١) :

قد ذكرنا في ما سبق أنّ ما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة (٢).

فقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٣) ، فالمراد [ منه ] أنّ غاية خلق الجنّ والإنس والحكمة والمصلحة فيه كانت هي العبادة ، لا أنّ العبادة كانت باعثا له على الفعل ، كما في أرباب الإرادة الناقصة الحادثة.

وكذا غيره من نصوص الآيات ، فإنّها محمولة على الغاية والحكمة لا على الغرض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٤.

(٢) انظر الصفحة ٣٧ من هذا الجزء.

(٣) سورة الذاريات ٥١ : ٥٦.

٥٤

وأقول :

لا يخفى أنّ حمل الآيات على مجرّد المنفعة والفائدة من دون أن تكون غرضا وعلّة غائيّة مستبعد جدّا ، بل هو ممتنع في أكثرها ، كالآية الأولى ، فإنّها دالّة على أنّ خلق السماوات والأرض بما فيهما من المنافع والفوائد صالح لأن يقع على نوعين : لعب ، وغير لعب ، ولا وجه له إلّا قصد الغاية وعدم قصدها ، وإلّا فلا يصحّ تنويع ما فيه الفائدة إلى نوعين :

لعب لا فائدة فيه ، وغير لعب فيه الفائدة.

* وكقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) فإنّه لا يمكن حمله على المنفعة والفائدة ؛ لأنّ المعنى حينئذ يكون :

ما خلقت كلّ فرد من الجنّ والإنس إلّا وفائدته ومنفعته العبادة .. وهو كذبّ ، إذ ليس كلّ فرد منهم عابدا ، بخلاف ما إذا قصد الغرض ، فإنّه لا يلزم حصوله.

وليس المقصود جنس الجنّ والإنس حتّى لا يلزم الكذب على تقدير إرادة الفائدة ؛ لأنّه نسب العبادة إلى ضمير الجمع الدالّ على الثبوت لكلّ فرد ؛ على أنّه لو قصد الجنس يكون أكثر الأفراد بلا فائدة ؛ لدلالة الآية على انحصار فائدة خلق الجنس الحاصل في خلق أفراده بالعبادة ، وحينئذ فيعود محذور الكذب.

* وكقوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ) (٢) الآية ، فإنّه لا معنى

__________________

(١) سورة الذاريات ٥١ : ٥٦.

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦٠.

٥٥

لجعل ظلمهم وصدّهم عن سبيل الله منفعة وحكمة لتحريم الطيّبات ، وإنّما هما سبب وداع للتحريم.

* وكقوله تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (١) الآية ، فإنّه لا معنى لجعل عصيانهم منفعة وفائدة للعنهم ، وإنّما هو سبب وداع له.

فإن قلت : كما لم يكن الظلم والصدّ والعصيان منافع ، لا تكون أغراضا؟!

قلت : نعم ، ولكنّ التعليل يستلزم الغرض ؛ إذ لا يمكن سببيّة شيء لأن يفعل سبحانه باختياره وهو لا غرض له ؛ كما سبق.

ولو سلّم مسلّم ، فالآيتان لمّا دلّتا على تعليل أفعاله تعالى ، صحّ إثبات الغرض له ، الذي هو أيضا علّة باعثة على الفعل ؛ لأنّ النقص ـ على زعمهم ـ يأتي أيضا من قبل التعليل ؛ لأنّه يستدعي حاجته إلى العلّة في فعله ، فإذا اقتضت الآيتان عدم النقص بالتعليل صحّ إثبات الغرض.

ثمّ لو سلّم إمكان حمل الآيات كلّها على مجرّد الفائدة ، فلا داعي له بعد عدم المعارضة بالنقل كما هو ظاهر ، ولا بالعقل ؛ لفساد أدلّته ، مع إنّهم لم يجروها في القياس كما سبق! واعلم أنّ الغرض هو الغاية ، فما معنى نفي الخصم الغرض لأفعاله تعالى وإثبات الغاية لها؟!!

وقد حصل هذا التناقض منه قبل ـ كما في أوّل هذا المطلب ـ إذ ذكر أنّ الأشاعرة قالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة (٢) ، ثمّ قال في آخر كلامه : « وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٧٨.

(٢) انظر الصفحة ٢٩ من هذا الجزء.

٥٦

أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة ، دون الغرض والعلّة » (١).

نعم ، قد يريد بالغاية عند إثباتها مجرّد الفائدة المترتّبة اتّفاقا ، لا العلّة الغائيّة ، وفائدة كلامه تخفيف الشناعة وتلبيس الحقّ.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ٣٠ من هذا الجزء.

٥٧

قال المصنّف ـ ضاعف الله أجره ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم تجويز تعذيب أعظم المطيعين لله تعالى كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأعظم أنواع العذاب ، وإثابة أعظم العاصين كإبليس وفرعون بأعظم مراتب الثواب ؛ لأنّه إذا كان يفعل لا لغرض وغاية ، ولا لكون الفعل حسنا ، ولا يترك الفعل لكونه قبيحا ، بل مجّانا لغير غرض ، لم يكن تفاوت بين سيّد المرسلين وإبليس في الثواب والعقاب ، فإنّه لا يثيب المطيع لطاعته ، ولا يعاقب العاصي لعصيانه.

فإذا تجرّد هذان الوصفان عن الاعتبار في الإثابة والانتقام ، لم يكن لأحدهما أولوية الثواب والعقاب دون الآخر.

فهل يجوز لعاقل يخاف الله وعقابه أن يعتقد في الله تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟! مع أنّ الواحد منّا لو نسب إلى أنّه يسيء إلى من أحسن إليه ويحسن إلى من أساء إليه ، قابله بالشتم والسبّ ولم يرض ذلك منه ..

فكيف يليق أن ينسب ربّه إلى شيء يكرهه أدون الناس لنفسه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٤.

٥٨

وقال الفضل (١) :

هذا الوجه بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى بيان ؛ لأنّ أحدا لم يقل :

بأنّ الفاعل المختار الحكيم لم يلاحظ غايات الأشياء والحكم والمصالح فيها.

فإنّهم يقولون في إثبات صفة العلم : إنّ أفعاله متقنة (٢) ، وكلّ من كان أفعاله متقنة فلا بدّ أن يلاحظ الغاية والحكمة ، فملاحظة الغاية والحكمة في الأفعال لا بدّ من إثباته بالنسبة إليه تعالى ، وإذا كان كذلك كيف يجوز التسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي؟! وعندي أنّ الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية لم يحرّروا هذا النزاع ولم يبيّنوا محلّه ، فإنّ جلّ أدلّة المعتزلة دلّت على إنّهم فهموا من كلام الأشاعرة نفي الغاية والحكمة والمصلحة ، وإنّهم يقولون : إنّ أفعاله اتّفاقيات كأفعال من لم يلاحظ الغايات (٣) ، واعتراضاتهم واردة على هذا.

فنقول : الأفعال الصادرة من الإنسان مثلا مبدؤها دواع مختلفة ، ولا بدّ لهذه الدواعي من ترجيح بعضها على بعض ، والمرجّح هو الإرادة الحادثة (٤) .. فذلك الداعي الذي بعث الفاعل على الفعل مقدّم على وجود

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٥.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٨٨ ، المواقف : ٢٨٥.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤.

(٤) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٨.

٥٩

الفعل ، ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل ، فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه إلى ذلك الباعث ، وهو العلّة الغائيّة والغرض.

هذا تعريف الغرض في اصطلاح القوم ، فإن عرض هذا على المعتزلي فاعترف بأنّه تعالى في أفعاله صاحب هذا الغرض ، لزمه إثبات الاحتياج لله تعالى في أفعاله ، وهو لا يقول بهذا قطّ ؛ لأنّه ينفي الصفات الزائدة ليدفع الاحتياج ، فكيف يجوّز الغرض المؤدّي إلى الاحتياج؟! فبقي أنّ مراده من إثبات الغرض دفع العبث من أفعاله تعالى ، فهو يقول : إنّ الله تعالى مثلا خلق الخلق للمعرفة ، يعني غاية الخلق ، والمصلحة التي لاحظها الله تعالى وراء علّتها هي المعرفة ، لا أنّه يفعل الأفعال لا لغرض ومقصود كالعابث واللاعب ، فهذا عين ما يقوله الأشاعرة من إثبات الغاية والمصلحة.

فعلم أنّ النزاع نشأ من عدم تحرير المدّعى.

* * *

٦٠