دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: ٤٢٠

وأقول :

ما نسبه المصنّف إليهم هو تجويز تكليف غير العاقل ، وما نقله الخصم هو عدم الوقوع ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يمكن إنكار تجويزهم ذلك ؛ لأنّهم يجوّزون تكليف ما لا يطاق ؛ وهذا نوع منه.

ويقولون : إنّ الله يحكم ما يريد ، ولا يقبح منه شيء (١) ، فيجوز أن يكلّف من لا عقل له ، ويعاقبه على المخالفة.

على أنّه قد نقل عنهم السيّد السعيد ما يدلّ على أنّهم يقولون بالوقوع (٢).

ولا يهمّنا أمره بعد كون ما نسبه المصنّف إليهم هو التجويز.

* * *

__________________

(١) راجع : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤ و ١٥٤ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٣٢ و ٣٤٥ ، المواقف : ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٢) إحقاق الحقّ ٢ / ١٧٤.

٣٨١

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :

الثالث : فهم المكلّف ؛ فلا يصحّ تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه (٢).

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام المكلّف معرفته ومعرفة المراد منه ، مع أنّه لم يوضع لشيء ألبتّة ، ولا يراد منه شيء أصلا (٣).

فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٥.

(٢) العدّة في أصول الفقه ٢ / ٤٥١ وما بعدها.

(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢ / ١٣ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ١ / ١٤٤ ، فواتح الرحموت ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

٣٨٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه لا يصحّ خطاب المكلّفين بما لا يفهمونه ممّا يتعلّق بالأمر والنهي (٢).

وما لا يتعلّق به اختلف فيه .. فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما لا يفهمه المكلّف ، كالمقطّعات في أوائل السور (٣) ، ولكن ليس هذا مذهب العامّة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٧٥.

(٢) راجع ما مرّ في الصفحة السابقة ، الهامش ٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢ / ١٣.

٣٨٣

وأقول :

كيف لا تصحّ نسبة المصنّف إليهم صحّة تكليف من لا يفهم الخطاب ، وقد زعموا أنّ الله يحكم ما يريد ولا يقبح منه شيء (١)؟!

وأمّا ما نقله الخصم ، فالظاهر أنّه في الوقوع لا الجواز ، كما يرشد إليه تفصيلهم.

وتمثيل المجوّز للثاني بما زعم وقوعه ، وهو المقطّعات كما نقله الخصم ، وإلّا فبالنظر إلى الجواز العقلي وعدمه لا وجه للتفصيل.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤ و ١٥٤ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٣٢ و ٣٤٥ ، المواقف : ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

٣٨٤

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

الرابع : إمكان الفعل إلى المكلّف ؛ فلا يصحّ التكليف بالمحال (٢).

وخالفت الأشاعرة فيه ، فجوّزوا تكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتكليف العاجز خلق مثل الله تعالى وضدّه وشريكه وولد له ، وأن يعاقبه على ذلك ، وتكليفه الصعود على السطح العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح (٣).

وكفى من ذهب إلى هذا نقصا في عقله ، وقلّة في دينه ، وجرما عند الله تعالى ، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك ، بل مذهبهم أنّه تعالى لم يكلّف أحدا إلّا بما لا يطاق.

أو ترى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي الله تعالى وسأله : كيف ذهبت إلى هذا القول وكذّبت القرآن العزيز ، وإنّ فيه : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٤).

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٥.

(٢) شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ـ ٩٩ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ـ ١٠١ و ١٢١ ، تقريب المعارف : ١١٢ و ١٢٨ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٣.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠١ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٤٠ و ١٦٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٤) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٨٥

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في الفصل الذي ذكر فيه « تكليف ما لا يطاق » ، أنّ ما لا يطاق على ثلاث مراتب ، ولا يجوز التكليف بالوسطى دون الثالث.

والأوّل واقع بالاتّفاق ، كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب التجويز العقلي ، والاستقراء يحكم بأنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢) ، وهذا مذهب الأشاعرة (٣).

والعجب من هذا الرجل أنّه يفتري الكذب ثمّ يعترض عليه ، فكأنّه لم يتّفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة ، وسمع عقائدهم من مشايخه من الشيعة وتقرّر بينهم أنّ هذه عقائد الأشاعرة.

ثمّ لم يستح من الله تعالى ومن الناظر في كتابه ، وأتى بهذه الترّهات والمزخرفات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٧٦.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٣) تقدّم في الصفحة ٩٩ ـ ١٠٠ من هذا الجزء.

٣٨٦

وأقول :

سبق هناك بيان ما في دعوى الاتّفاق على وقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى.

وحقّقنا أنّا لا نجوّزه بالمراتب كلّها ، وأنّهم يجوّزونه فيها جميعا.

وأوضحنا المقام في تكليف أبي لهب بالإيمان.

وذكرنا أنّ الله سبحانه لم يكلّف عندهم إلّا بما لا يطاق ؛ لأنّ أفعال العباد مخلوقة له ولا أثر للعبد فيها ، فكلّها لا تطاق للعبد ولا ممّا يسعه (١) ، ومع ذلك قد كلّفه الله سبحانه بها ، فيكون قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢) كاذبا على مذهبهم ، كما ذكره المصنّف ولم يجهله الخصم ، ولكنّه قصد بتكذيب المصنّف وإساءة الأدب معه والتجاهل بمذهبه ، التمويه وتلبيس الحقيقة.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٠١ ـ ١٠٤ من هذا الجزء.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٨٧

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

الخامس : أن يكون الفعل ما يستحقّ به الثواب (٢) ، وإلّا لزم العبث والظلم على الله تعالى.

وخالفت الأشاعرة فيه ، فلم يجعلوا الثواب مستحقّا على شيء من الأفعال ، بل جوّزوا التكليف بما يستحقّ عليه العقاب (٣) ، وأن يرسل رسولا يكلّف الخلق فعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات.

فيلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه الناس وأجهل الجهلاء ، من حيث يتعب بماله وبدنه في فعله شيئا ربّما يكون هلاكه فيه.

وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء حيث يتعجّل اللذّة ، وربّما يكون تركها سبب الهلاك وفعلها سبب النجاة.

فكان وضع المدارس والرّبط (٤) والمساجد من نقص التدبيرات البشرية ، حيث تخسر الأموال في ما لا نفع فيه ولا فائدة عاجلة ولا آجلة.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٦.

(٢) انظر : الذخيرة في علم الكلام : ١١٢ و ١٣١ ، تقريب المعارف : ١١٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١١٢.

(٣) التقريب والإرشاد ١ / ٢٦٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤ و ١٤٠.

(٤) الرّبط : الخيل تربط بالأفنية وتعلف ، ورباط الخيل مرابطتها في الثغور لصدّ الأعداء ؛ وواحد الرّبط : الرّبيط ، وجمع الرّبط : الرّباط ، وهو جمع الجمع.

انظر مادّة « ربط » في : لسان العرب ٥ / ١١٢ ، تاج العروس ١٠ / ٢٥٩ ـ ٢٦٢.

٣٨٨

وقال الفضل (١) :

شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون ممّا يترتّب عليه الثواب في عادة الله تعالى ، لا أنّه يجب على الله تعالى إثابة المكلّف المطيع ؛ لأنّه لا يجب عليه شيء ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، وليس للمكلّفين على الله تعالى دين يجب عليه قضاؤه.

ولو كان إلّا كذلك ، للزم أن يكون العباد متاجرين مع الله تعالى ، كالأجراء الّذين يأخذون أجرتهم عند الفراغ من العمل ، ولو لم يعط المؤجّر أجرتهم لكان ظالما وجائرا.

وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف نعم الله تعالى على عباده ، ويعرف علوّ الشأن الإلهي ، وأنّ الناس كلّهم عبيد الله ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لهم عليه حقّ ولا استحقاق ، بل الثواب بفضله وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز.

وهل يحسن أن يقال : إنّه إذا لم يجب على الله تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، تموت الناس من الجوع؟!

كذلك لا يحسن أن يقال : لو لم يجب على الله تعالى إثابة المطيع وجزاء العاصي ، لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، ولكان فعل الخيرات وإثارة المبرّات ضائعا عبثا؟!

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٧٧.

٣٨٩

لأنّا نقول : جرت عادة الله تعالى التي لا تتخلّف إلّا بسبيل خرق العادة على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء.

فلم يرتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، فهل يكون من أكل الخبز فشبع ، كمن ترك أكل الخبز فجاع؟!

* * *

٣٩٠

وأقول :

قد سبق أنّ الثواب غيبي ، فلا تصحّ دعوى العلم بالعادة فيه ..

وأمّا إحرازها بإخبار الله تعالى ، فغير تامّ ؛ لابتنائه على صدق كلامه تعالى ، وهو غير محقّق على مذهبهم!

مع أنّه قال تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (١) ، ولعلّ ما أخبر به من الثواب ممّا يمحوه.

فأين العادة في الثواب وإحرازها؟! لا سيّما وقد أجاز الخصم خرقها كما هو واقع في عادات الدنيا.

وأمّا ما ذكره من نفي كون الثواب دينا على الله تعالى ، فنحن نمنعه ونقول : إنّه دين ، أي إنّه حقّ عليه اقتضاه عدله.

وأمّا كون العباد متاجرين مع الله تعالى ، فهو ممّا نطق به الكتاب العزيز ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (٢) ..

وقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )

إلى قوله تعالى : ( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ) (٣) ..

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ٣٩.

(٢) سورة فاطر ٣٥ : ٢٩ و ٣٠.

(٣) سورة التوبة ٩ : ١١١.

٣٩١

وقال تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ... ) (١) الآية ..

( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) (٢) ..

( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) (٣) ..

( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (٤) ..

( إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ) (٥) ..

( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة.

وأمّا قوله : « لو لم يعط المؤجّر أجرتهم كان ظالما وجائرا » ..

فهو من مقالة أهل الحقّ التي صرّح بها الكتاب المجيد ، قال تعالى :

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (٧).

وقال تعالى : ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (٨).

وقال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ

__________________

(١) سورة الصفّ ٦١ : ١٠ و ١١.

(٢) سورة الكهف ١٨ : ٣٠.

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٧٠.

(٤) سورة آل عمران ٣ : ١٣٦ ، سورة العنكبوت ٢٩ : ٥٨.

(٥) سورة آل عمران ٣ : ١٨٥.

(٦) سورة آل عمران ٣ : ٥٧ ، سورة النساء ٤ : ١٧٣.

(٧) سورة الأنفال ٨ : ٦٠.

(٨) سورة النساء ٤ : ١٢٤.

٣٩٢

نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (٢).

وقال تعالى : ( وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٣).

وقال تعالى : ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٤).

وقال تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات المستفيضة.

وأمّا قوله : « لا يذهب إليه من يعرف نعم الله على عباده » ..

فإن أراد به أنّ من يعرف نعمه لا يرى أنّه مستحقّ للأجر ، فظاهر البطلان ؛ لأنّ وجوب شكر المنعم لا ينافي استحقاق الأجر على ما كلّفه به المنعم ، وإن حسن من العبد أو وجب عليه عدم المطالبة بالأجر شكرا للنعمة.

وإن أراد أنّ حصول الإنعام من الله تعالى كاف في صحّة التكليف منه بلا إعطاء أجر ، ليكون التكليف ناشئا من طلب المنعم جزاء نعمه بالشكر عليها ، كما عن أبي القاسم البلخي (٦) ، فهو أظهر بطلانا ؛ إذ يقبح من

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٢٥.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٧٢.

(٣) سورة الجاثية ٤٥ : ٢٢.

(٤) سورة النحل ١٦ : ١١١.

(٥) سورة الأحقاف ٤٦ : ١٩.

(٦) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٦١٧.

٣٩٣

الكريم طلب جزاء نعمته من دون أن يعطيه ثوابا على ما كلّفه به ، بل يكون تكليفه بلا أجر عبثا وظلما!

ولو كان الثواب تفضّلا محضا ، لصحّ منع الثواب عن سيّد النبيّين أو مساواته فيه لسائر المؤمنين ، بل للأطفال والمجانين ، ولجاز خلق النار دون الجنّة.

وأمّا ما ذكره من مثال الموت من الجوع ؛ فإنّما لا يحسن السؤال فيه إذا ترتّب عليه فائدة للعبد ، أو كان جزاء عمله السيّئ ، وإلّا فيقبح إيلام العبد بلا فائدة له ولا ذنب منه ، ويصحّ السؤال عنه.

كما يصحّ السؤال عن ترك إثابة المطيع وجعله بمنزلة العاصي ، لكن مثل هذه الأمور ليست من فعله ولا تصدر عنه ، فلا يسأل عنها ؛ لانتفاء الموضوع.

* * *

٣٩٤

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :

السادس : أن لا يكون حراما ؛ لامتناع كون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ لاستحالة التكليف بما لا يطاق (٢).

وأيضا : يكون مرادا ومكروها في وقت واحد من جهة واحدة ، وهذا مستحيل عقلا.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا أن يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيّا عنه ؛ لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم (٣).

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٦.

(٢) التذكرة بأصول الفقه : ٣١ ، العدّة في أصول الفقه ١ / ١٨١.

(٣) انظر : التقريب والإرشاد ١ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ و ٢٦٠ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٠ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٤٠ ، فواتح الرحموت ١ / ١١٠ ـ ١١١.

٣٩٥

وقال الفضل (١) :

لا خلاف في أنّ المأمور به لا بدّ أن لا يكون حراما ؛ لأنّ الحرام ما نهى الله عنه ..

ولا يكون الشيء الواحد مأمورا به ، منهيّا عنه ، في وقت واحد ، من جهة واحدة ، ولكن إن اختلف الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض ، يجوز أن يتعلّق به الأمر في وقت من جهة ، والنهي في وقت آخر من جهة أخرى ؛ فهذا مذهب أهل السنّة.

وأمّا إمكان التكليف بما لا يطاق ، فقد سمعته غير مرّة ، وأنّه لا يقع ولم يقع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٨١.

٣٩٦

وأقول :

قد نصدّقه في ما يتعلّق بالوقوع ، بأن لم يقولوا بوقوع الأمر بالحرام.

ولكنّ كلام المصنّف في التجويز كما لا ينكره الخصم ، وكفاهم نقصا في تجويز مثله على الله سبحانه ، وهو ممّا لا يجوز على أقلّ العقلاء.

* * *

٣٩٧

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

ومن العجب أنّهم حرّموا الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا : إنّها صحيحة (٢).

مع أنّ الصحيح هو المعتبر في نظر الشارع ، وإنّما يطلق على المطلوب شرعا ، والحرام غير معتبر في نظر الشارع ، مطلوب الترك شرعا.

وهل هذا إلّا محض التناقض؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٧.

(٢) المجموع ـ للنووي ـ ٣ / ١٦٤.

٣٩٨

وقال الفضل (١) :

الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحّة التي اعتبرت في الشرع ، فالصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ؛ لأنّها مستجمعة لشرائط الصحّة التي اعتبرت في الصلاة في الشرع ، وليس وقوعها في مكان مملوك غير مغصوب من شرائط صحّة الصلاة .. نعم ، من شرائطها أن تقع في مكان طاهر من النجاسات.

ولو كان من شرائط الصحّة وقوعها في مكان غير مغصوب ، لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدة ، وكان يجب قضاؤها ؛ لكونها غير معتبرة في نظر الشرع ؛ لعدم استجماعها الشرائط المعتبرة فيها.

وأمّا كونها حراما ، فلأجل أنّها تتضمّن الاستيلاء على حقّ الغير عدوانا ، فهي بهذا الاعتبار حرام ، فالحرمة باعتبار ، والصحّة باعتبار آخر ، فأين التناقض؟!

والعجب أنّه مشتهر بالدراية في المعقولات ، ولا يعلم شرائط حصول التناقض!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٨٢.

٣٩٩

وأقول :

إذا أقرّوا بحرمة الصلاة في الدار المغصوبة ، لزمهم الحكم بعدم اعتبارها شرعا ، لعدم مطلوبيّتها ، فلا تصحّ ؛ لأنّ العبادة الصحيحة هي المطلوبة للشارع ، المعتبرة في نظره.

وهذه عبارة أخرى عن كون إباحة المكان شرطا في صحّة الصلاة ، فإذا حكموا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة ثبت التناقض ؛ لأنّه يكون هذا الوجود الشخصي للصلاة في الدار المغصوبة معتبرا وغير معتبر ، صحيحا وغير صحيح ، وهو تناقض ظاهر.

* * *

٤٠٠