التكليف سابق على الفعل
قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :
المطلب السابع عشر
في التكليف
لا خلاف بين المسلمين في أنّ الله تعالى كلّف عباده فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، وأنّ التكليف سابق على الفعل (٢).
وقالت الأشاعرة ها هنا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله (٣).
وهذا يلزم منه محالات ..
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٣.
(٢) شرح الأصول الخمسة : ٤١٠ ـ ٤١١ ، تقريب المعارف : ١٢٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٣.
(٣) التقريب والإرشاد ٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩٢ ، المحصول في علم أصول الفقه ١ / ٣٣٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ١ / ١٢٧ ، فواتح الرحموت ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥.
وقال الفضل (١) :
لمّا ذهبت الأشاعرة إلى أنّ القدرة مع الفعل ، والتكليف لا يكون إلّا حال القدرة (٢) ، فيلزم أن يكون التكليف مع الفعل ، وهذا شيء لزم من القول الأوّل.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٦.
(٢) التقريب والإرشاد ٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩٢ ، المحصول في علم أصول الفقه ١ / ٣٣٥ وما بعدها ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ١ / ١٢٧ ، فواتح الرحموت ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥.
وأقول :
قد عرفت بطلان اللزوم (١) فيلزمه بطلان اللازم ، على أنّ اللزوم ممنوع ؛ لأنّ توقّف صحّة التكليف على القدرة لا يستدعي إلّا تحقّق القدرة على الفعل في وقته لا في وقت التكليف ، فلا يتمّ القول بأنّ التكليف مع الفعل.
* * *
__________________
(١) انظر الصفحة ٣٤٥ ـ ٣٤٦.
قال المصنّف ـ قدّس الله سرّه ـ (١) :
الأوّل : أن يكون التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الفعل حال وقوعه يكون واجبا ، والواجب غير مقدور.
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٣.
وقال الفضل (١) :
لا نسلّم أنّ الواجب غير مقدور مطلقا ، بل ما أوجبته القدرة الحادثة مقدور لتلك القدرة التي أوجبته.
وكذلك فعل العبد بعد الحصول ، فيكون مقدورا ، وإذا صار مقدورا تعلّق به التكليف ولا محذور فيه.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٦.
وأقول :
لا ريب أنّ المقدور لا يبقى على المقدوريّة حين عروض الوجوب عليه وإن كان وجوبه بالقدرة ، إذ لو بقي مقدورا لم يصر واجبا ، فإذا فرض تعلّق التكليف بالفعل حين وقوعه ، فقد تعلّق به وهو واجب غير مقدور ، وهو محال ، ومجرّد مقدوريّته بالذات لا تسوّغ التكليف به وهو في حال الوجوب.
ولو سلّم بقاؤه على المقدوريّة ، فلا ريب أنّ التكليف بالشيء محركّ وباعث عليه ، والموجود لا يتصوّر التحريك نحوه ، وكما لا يجوز التكليف بالشيء بعد وقوعه وإن كان مقدورا في نفسه ، لا يجوز التكليف به حين وقوعه.
* * *
قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :
الثاني : يلزم أن لا يكون أحد عاصيا ألبتّة ؛ لأنّ العصيان مخالفة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلّا حالة الفعل ، وحال العصيان هو حال عدم الفعل ، فلا يكون مكلّفا حينئذ وإلّا لزم تقدّم التكليف على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم.
لكن العصيان ثابت بالإجماع ونصّ القرآن ..
قال الله تعالى : ( أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (٢) ..
( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ) (٣) ..
( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (٤) ..
ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة أيضا.
فلينظر العاقل من نفسه ، هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الّذين طعنوا في الضروريات؟!
فإنّ كلّ عاقل يسلّم بالضرورة من دين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الكافر عاص ، وكذا الفاسق .. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٥).
فأيّ سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن؟!
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٣.
(٢) سورة طه ٢٠ : ٩٣.
(٣) سورة الكهف ١٨ : ٦٩.
(٤) سورة يونس ١٠ : ٩١.
(٥) سورة الأحزاب ٣٣ : ٧٠ و ٧١.
وقال الفضل (١) :
الأمر عندنا أزلي ، فكيف ينسب إلينا أنّ الأمر عندنا لم يكن ثابتا إلّا حالة الفعل؟!
وأمّا قوله : « حال العصيان حال عدم الفعل » ..
فنقول : ممنوع ؛ لأنّ الأمر إذا توجّه إلى المكلّف وتعلّق به ، فهو إمّا أن يفعل المأمور به ، أو لا يفعل ، فإن فعل المأمور به فهو مطيع ، وإن فعل غيره فهو عاص.
فالطاعة والعصيان يكونان مع الفعل ، والتكليف حاصل معه ، فكيف يصحّ أن يقال : إنّ العصيان حال عدم الفعل ، والعصيان صفة الفعل ، وحاصل معه؟!
والحاصل : إنّ عصيان الأمر مخالفته ، وإذا صدر الفعل عن المكلّف ، فإن وافق الأمر فهو طاعة ، وإن خالفه فهو عصيان.
فالعصيان حاصل حال الفعل ، ولا يلزم أصلا من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا.
وأمّا قوله : « والعصيان ثابت » ، وإقامة الدليل على هذا المدّعى ، فهو من باب طامّاته ، وإقامته الأدلّة الكثيرة على مدّعى ضروري في الشرع متّفق عليه.
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٧.
وأقول :
نعم ، لمّا كان الأمر عندهم أزليا وجب أن يكون الأمر سابقا على الفعل ، فينا في قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، وليس علينا أن ندفع هذه المنافاة.
ودعوى أنّ الأمر أزلي وتعلّقه حادث لو صحّت لا تدفع المنافاة ، ما دام الأمر بنفسه ثابتا في الأزل كما زعموه.
ولا يمكن إنكار قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، بدليل ما تكلّفوه من الأجوبة عن المحالات التي ذكرها المصنّف ، فإنّهم لو ذهبوا إلى أنّ التكليف قبل الفعل لما لزمهم شيء من المحالات ، وما احتاجوا إلى تكلّف تلك الأجوبة الواهية ، التي منها ما أجاب به عن قول المصنّف رحمهالله : « حال العصيان حال عدم الفعل ».
وحاصله : إنّ المكلّف فاعل حال عصيانه فعلا آخر مقارنا لترك المأمور به ، فيكون العصيان حال الفعل ، وهذا مبنيّ على أنّ مرادهم بالفعل في قولهم : « التكليف مع الفعل » هو الأعمّ من فعل المأمور به وفعل ضدّه ، لزعمهم أنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على الشيء أو ضدّه.
وفيه : إنّهم لو أرادوا الأعمّ لا خصوص الفعل المأمور به ، لما احتاجوا إلى كلفة الجواب عن المحالات الأخر ؛ لأنّ المأمور متلبّس قبل فعل المأمور به بفعل ضدّه ، فيكون التكليف مع الفعل ـ أي : فعل الضدّ ـ وقبل فعل المأمور به ، فلا يكون تكليفا بالواجب ، ولا طلبا لتحصيل الحاصل.
فتكلّفهم بالجواب عن هذين المحالين دليل على أنّ مرادهم بالفعل
هو خصوص فعل المأمور به ، فيبطل ما أجاب به الخصم.
هذا ، واعلم أنّ كلام المصنّف إنّما هو في عصيان الأمر كما هو صريح كلام الخصم.
وإنّما خصّ المصنّف الإشكال به دون عصيان النهي ؛ لأنّه في مقام الردّ على قولهم : « التكليف مع الفعل ».
ومن المقرّر أنّ التكليف في النهي إنّما هو بالترك ؛ لأنّه طلب الترك ، فيكون التكليف معه لا مع الفعل ، لاعتبار القدرة على المكلّف به ، وزعمهم أنّ القدرة على الشيء معه.
وحينئذ فتقرير الإشكال على كون التكليف مع الترك هكذا : إنّ عصيان النهي مخالفته ، فإذا لم يكن النهي ثابتا إلّا حالة الترك ، وحال العصيان هي حال فعل المنهيّ عنه ، لم يكن مكلّفا حينئذ ، وإلّا لزم ثبوت النهي لا مع الترك ، وإذا لم يكن منهيّا حين فعل المنهي عنه ، لم يكن عاصيا ..
ويمكن أن يدّعي أنّ النهي متعلّق بالفعل بنحو الزجر عنه ، فيكون التكليف مطلقا على زعمهم مع الفعل ، ويكون تخصيص المصنّف للإشكال بعصيان الأمر ؛ لاختصاصه به.
وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف في إقامته الأدلّة على ثبوت العصيان قد أقامها على مدّعى ضروريّ ، فصحيح ، لكنّه أراد بها التشنيع عليهم باستلزام مذهبهم لمخالفة الضروري الثابت بالإجماع ونصّ الكتاب!
* * *
قال المصنّف ـ رفع الله منزلته ـ (١) :
الثالث : لو كان التكليف حالة الفعل خاصّة لا قبله ، لزم : إمّا تحصيل الحاصل ، أو : مخالفة التقدير ، والتالي باطل بقسميه بالضرورة ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : إنّ التكليف إمّا أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف ، أو بغيره.
والأوّل : يستلزم تحصيل الحاصل.
والثاني : يستلزم تقدّم التكليف على الفعل.
وهو خلاف الفرض ، وأيضا هو المطلوب ، وأيضا يستلزم التكرار.
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٤.
وقال الفضل (١) :
نختار أنّ التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف.
قوله : « يستلزم تحصيل الحاصل ».
قلنا : تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال ، وها هنا كذلك ؛ لأنّ التكليف وجد مع القدرة والفعل ، فهو حاصل بهذا التحصيل فلا محذور.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٩.
وأقول :
قد تكرّر هذا الجواب في كلماتهم ، وهو من الغرائب ؛ لأنّ الحصول المطلوب لا بدّ أن ينبعث عن الطلب.
فلو كان الحصول مقارنا للطلب ومطلوبا به ، لزم إعادة نفس الحصول ليتصوّر الانبعاث عن الطلب ، فيلزم تحصيل الحاصل وإعادته بعينه ، وهو محال.
* * *
شرائط التكليف
قال المصنّف ـ شرّف الله منزلته ـ (١) :
المطلب الثامن عشر
في شرائط التكليف
ذهبت الإماميّة إلى أنّ شرائط التكليف ستّة :
الأوّل : وجود المكلّف ؛ لامتناع تكليف المعدوم ، فإنّ الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد ، وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم (٢).
وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن يشتريهم وهو في منزله وحده ، ويقول : يا سالم قم ، ويا غانم كل ، ويعدّه كلّ عاقل سفيها ، وهو إلى الإنسان الموجود أقرب.
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا تكليف المعدوم ومخاطبته والإخبار عنه (٣) ، فيقول الله في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٤.
(٢) التذكرة بأصول الفقه : ٣٢ ، الغيبة ـ للطوسي ـ : ١٥ ، العدّة في أصول الفقه ١ / ٢٥١.
(٣) التقريب والإرشاد ٢ / ٢٩٨ وما بعدها ، المستصفى من علم الأصول ١ / ٨٥ ، المحصول في علم أصول الفقه ١ / ٣٢٨ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ١ / ١٣١ ، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل : ٤٤ ، فواتح الرحموت ١ / ١٤٦ ـ ١٤٧.
رَبَّكُمُ ) (١) ، ولا شخص هناك ..
ويقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (٢) ، ولا نوح هناك.
وهذه مكابرة في الضرورة.
* * *
__________________
(١) سورة البقرة ٢ : ٢١.
(٢) سورة نوح ٧١ : ١.
وقال الفضل (١) :
قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني ، وأنّ الخطاب موجود في الأزل قبل وجود المخاطبين بحسب الكلام النفساني (٢) ، ويحدث التعلّق عند وجودهم.
ولا قبح في هذا ، فإنّ من زوّر في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الّذين يريد أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الشراء لا يعدّ سفيها.
ثمّ ما ذكر أنّ الأشاعرة جوّزوا تكليف المعدوم ، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق أنّهم يقولون : إنّ التكليف مع الفعل ، وليس قبله تكليف.
فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل ، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟!
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٧٢.
(٢) راجع ج ٢ / ٢٣٧ و ٢٤٤ ـ ٢٤٥.
وأقول :
تقدّم في ذلك المبحث أنّ خطاب المعدوم وتكليفه سفه بالضرورة ، إذ لا يصحّان من دون مخاطب ومكلّف ، ولا أثر لحدوث التعلّق لو عقلنا التعلّق (١).
والقياس على من زوّر في نفسه كلاما ، خطأ ظاهر ؛ لأنّ المزوّر ليس بمخاطب ، وإنّما هو متصوّر ومقدّر لخطاب في المستقبل ، فلا يقاس عليه الكلام النفسي الذي هو خطاب وتكليف في الأزل.
وأمّا ما ذكره من المنافاة ، فقد عرفت أنّه ليس على المصنّف رفع التنافي عن أقوالهم ، وكيف يمكن إنكارهم لتكليف المعدوم وقد قالوا : إنّه مأمور ومنهي في الأزل؟!
* * *
__________________
(١) راجع ج ٢ / ٢٣٨ و ٢٤٦.
قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ (١) :
الثاني : كون المكلّف عاقلا ؛ فلا يصحّ تكليف الرضيع ، ولا المجنون المطبق (٢).
وخالفت الأشاعرة في ذلك وجوّزوا تكليف هؤلاء (٣).
فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة وتركها ، وترك الصوم والحجّ والزكاة ، وهل يصحّ مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك؟!
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٣٥.
(٢) شرح جمل العلم والعمل : ١٠٠ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٢١ ، تقريب المعارف : ١٢٩ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٥٣.
(٣) ذكر ذلك الباقلّاني عن بعض الفقهاء ؛ انظر : التقريب والإرشاد ١ / ٢٤٠ و ٢٤٣ ـ ٢٤٤.
وقال الفضل (١) :
مذهب الأشاعرة : إنّ القلم مرفوع عن الصبيّ حتّى يبلغ الحلم ، وعن المجنون حتّى يفيق (٢).
وما ذكره افتراء عليهم محض ، كما هو عادته في الافتراء والكذب والاختراع.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٧٣.
(٢) انظر : التقريب والإرشاد ١ / ٢٣٦.