وأقول :
لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر ، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.
فإنّا نقول أيضا بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتا ، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية ، لكن نقول : إنّه ممتنع بالغير ، من حيث قبحه وكونه ظلما ومنافيا للحكمة (١) ، وهم لا يقولون بذلك.
وقد عرفت سابقا ما في قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء » ، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقليّين (٢).
وأمّا قوله : « أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه » ..
ففيه ما تقدّم أيضا من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به ، لا متبوعان ، فلا يجعلان خلافهما ممتنعا لا يطاق (٣).
وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل ، فهو أحد السفسطات ، وستعرف ما فيه.
وقوله : « والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا » ..
باطل لأمور :
الأوّل : إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ
__________________
(١) أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٨.
(٢) انظر ردّ الشيخ المظفّر قدسسره في ج ٢ / ٣٣٢ و ٣٥٣.
(٣) انظر ردّ الشيخ المظفّر قدسسره في ج ٢ / ٣٥٣.
وُسْعَها ) (١) ؛ لأنّ كلّ ما علم الله وأراد عدم وقوعه أو أخبر بعدمه ، ممتنع على ما زعم ، فإذا كان التكليف به جائزا وواقعا كان تكليفا بما لا يطاق ولا يسع المكلّف.
كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجب حينئذ ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع ، لعدم تيسّر عدمه.
فإذا كلّف الله سبحانه به كان أيضا تكليفا بما لا يطاق ، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق ، كما ذكره المصنّف ، وتكذب الآية كذبا كلّيّا.
وإن أبيت عن كون الواجب ممّا لا يسع ، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع ، فتكذب الآية كذبا جزئيّا.
الثاني : إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهي افتراء ؛ لما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعه (٢) ، وأنّ تعلّق علم الله تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعا ، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.
وإن كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشر ـ بما هي لا تطاق عندهم وتطاق عندنا ـ كان إظهاره الإجماع على التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى تدليسا.
الثالث : إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية ؛ لأنّ المرتبة
__________________
(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.
(٢) راجع الصفحة ٩٧ من هذا الجزء.
الأولى تكون حقيقة من الثانية إذا حصلت المخالفة للتكليف ؛ لأنّ المخالفة لا بدّ أن تكون بنقيض المطلوب ، فيكون التكليف بالمطلوب راجعا إلى التكليف بالجمع بينه وبين نقيضه ، بل قد يرجع إلى التكليف بالجمع بين الضدّين أيضا.
مثلا : إذا كلّف الكافر بالإيمان ، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به ، يكون مكلّفا بأن يجمع الضدّين : الإيمان والكفر ، والنقيضين : الإيمان وعدمه ، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.
وأمّا قوله : « فهذا محلّ النزاع » ..
ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّه في المرتبتين الأوليين ـ أيضا ـ محلّ النزاع بيننا وبينهم.
أمّا الأولى : فلما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه ، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا ؛ لأنّ محلّ التكليف مطاق عندنا في هذه المرتبة.
وأمّا الثانية : فلأنّا نمنع منه في غيرها ـ فضلا عنها ـ وهم يجوّزونه فيها ؛ لأنّهم يقولون ـ كما ذكر الخصم ـ : إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصوّره ، فمن يقول بتصوّره لا يمنع من التكليف به ، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو ، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.
ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره ، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!
وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله : « التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات » ، فممّا لا يرضى به الأشاعرة ؛ لأنّه ليس
مانعا عندهم بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين ، وقولهم : « لا يقبح منه تعالى شيء » (١).
فظهر أنّ تكلّف الخصم ـ تبعا للمواقف وشرحها (٢) ـ في بيان هذه المراتب ، ودعوى الفرق بينها ، لا يجديهم نفعا سوى تلبيس الحقيقة ، وإضاعة الحقّ .. وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي ، واتّبعوا الكتاب المجيد؟!
* * *
__________________
(١) المسائل الخمسون : ٦١ ، تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٤٤ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.
(٢) المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.
إرادة النبيّ موافقة لإرادة الله
قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :
المطلب التاسع
في أنّ إرادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موافقة لإرادة الله تعالى
ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يريد ما يريده الله تعالى ويكره ما يكرهه ، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهة (٢).
وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، وأنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله تعالى ، ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله تعالى يريد من الكافر الكفر ، ومن العاصي العصيان ، ومن الفاسق الفسوق ، ومن الفاجر الفجور ، والنبيّ أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبيّ ، وأنّ الله كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان ، والنبيّ أرادهما منهما ، فخالفوا بين كراهة الله وكراهة نبيّه (٣).
نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد الله
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٠٠.
(٢) إنقاذ البشر من الجبر والقدر ـ المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى ـ ٢ / ٢٣٦ ، مجمع البيان ٧ / ٣٩٩ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٨٥.
(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٣١٠ ـ ٣١١ ، وانظر ج ٢ / ٣٦٥ من هذا الكتاب.
تعالى ، وأنّ الله تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه ، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد!
* * *
وقال الفضل (١) :
الإرادة قد تقال ويراد بها : الرضا والاستحسان ، ويقابلها السخط والكراهة ، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق ، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.
فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان ، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله ، وكلّ ما هو مكروه عند الله مكروه عند رسوله.
وأمّا قوله : « ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، فإنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله يريد من الكافر الكفر ، ومن المعاصي العصيان ... والنبيّ أراد منهم الطاعات » ..
فإن أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط ، فقد بيّنّا أنّه لم يقع بين إرادة الله وإرادة رسوله مخالفة قطّ.
وإن أراد أنّ الله يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يريد منه الطاعة ، بمعنى الرضا والاستحسان ، فهذا صحيح ؛ لأنّ الله أيضا يستحسن منهم الطاعة ويريدها ، بمعنى يقدّرها.
والحاصل : إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض ، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا ، والله يعلم المصلح من المفسد.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.
وأقول :
لا أعرف معنى للتقدير قبل الخلق ـ أي في الأزل ـ كما عبّر به سابقا ، إذ لا أزلي إلّا الله عندنا (١) ، وإلّا هو وصفاته عندهم (٢).
ولعلّه يريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير ، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنى واحدا ، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير ـ الذي هو فعل ـ غير مناسب.
وكيف كان فقوله : « لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله » باطل ؛ لأنّ الله سبحانه لمّا كان عندهم مريدا لأفعال العباد ، خالقا لها ، لزم أن يكون راضيا بالموجود منها كارها للمعدوم ؛ لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به ، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل ، إذ بالإرادة يحصل الترجيح ..
والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح ..
فيكون الله سبحانه راضيا بالكفر والمعاصي الموجودة ، كارها للإيمان والطاعات المفقودة ، والنبيّ بخلاف ذلك ، فيختلفان بالرضا والكراهة.
وحينئذ فعلى تقدير أن يريد المصنّف بالإرادة الرضا ، يكون كلامه
__________________
(١) شرح جمل العلم والعمل : ٥٠ ، تقريب المعارف : ٧٥ و ٨٣ ، المنقذ من التقليد ١ / ٧٠.
(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٢٦ و ٣٢ و ٤٧ ، تمهيد الأوائل : ٤٨ ـ ٤٩ ، الملل والنحل ١ / ٨٢ ، المسائل الخمسون : ٤٣ ـ ٤٤ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.
تامّا وما نسبه إلى الأشاعرة صحيحا.
وأمّا قوله : « وإن أراد أنّ الله تعالى يقدّر الكفر » ..
ففيه : إنّه لو فرض إرادة المصنّف له ، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم ، سواء أريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل ؛ لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت ، وتوقّف الفعل على الصفة ، وحينئذ يلزم المخالفة بين الله ورسوله بالرضا والكراهة ، كما عرفت.
* * *
إنّا فاعلون
قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :
المطلب العاشر
في : إنّا فاعلون
اتّفقت الإمامية والمعتزلة على : « إنّا فاعلون » وادّعوا الضرورة في ذلك (٢).
فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين.
فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم.
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٠١.
(٢) الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.
وانظر رأي المعتزلة في : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٨ / ٣ و ١٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٢٣ و ٣٣٦ ، المحيط بالتكليف : ٢٣٠ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.
قال أبو الهذيل : « حمار بشر أعقل من بشر (١) ؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه » (٢).
وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلّا الله تعالى (٣) ، فلزمهم من ذلك محالات.
* * *
__________________
(١) هو : أبو عبدالرحمن بشر بن غياث المريسي ، فقيه حنفي متكلّم ، كان يقول بالإرجاء ، ومن اصحاب الرأي ، وله مقالات فاسدة ، توفّي ببغداد سنة ٢١٨ أو ٢١٩ ه.
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد ٧ / ٥٦ رقم ٣٥١٦ ، معجم البلدان ٥ / ١٣٨ رقم ١١١٧٩ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٧٧ رقم ١١٥.
(٢) منهاج السنّة النبوية ٣ / ١٠٨.
(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧١ ـ ٧٢ ، الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٣١ المسألة ١٩٤ ـ ٢٠٥ وص ١٤٢ ذيل المسألة ٢٢٦ وص ١٤٦ الجواب ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣١٩ ، الإنصاف ـ للباقلّاني ـ : ٤٣ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٩٩ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ الدعوى الرابعة ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون : ٥٩ المسألة ٣٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٣ و ٢٣٨ وما بعدها ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ و ١٧٣ ـ ١٧٤ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٠ ـ ١٢١ ؛ وانظر : خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ : ٢٥ ـ ٤٦.
وقال الفضل (١) :
مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد.
والمراد بكسبه إيّاه : مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (٢) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ..
فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع .. هذا حقيقة مذهبهم.
ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا ، كما صدّر الفصل بقوله : « إنّا فاعلون » واعترض الاعتراضات عليه.
فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا ، وهذا شيء لا يستبعده العقل.
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥.
(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، تمهيد الأوائل : ٣٤٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ و ١٤٦.
فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟!
ودليل الأشاعرة : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ؛ لشمول قدرته ـ كما ثبت في محلّه ـ ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ؛ لما هو ثابت في محلّه.
وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن ، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة.
والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء ، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى في الوجود ، وهذا خطأ عظيم واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع ، كما سنبيّن لك إن شاء الله تعالى في أثناء هذه المباحث.
ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ..
منها : ما اختاره أبو الحسين (١) من مشايخهم وذكره هذا الرجل ،
__________________
(١) هو : محمّد بن علي بن الطيّب البصري ، شيخ المعتزلة ، وصاحب التصانيف الكلامية ، بصري سكن بغداد ودرس فيها الكلام إلى حين وفاته سنة ٤٣٦ ه ، ولم تذكر أيّ من المصادر تاريخا لولادته ، إلّا إنّه قيل : قد شاخ.
له تصانيف عديدة ، منها : المعتمد في أصول الفقه ـ ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب « المحصول » ـ ، تصحيح الأدلّة ، شرح الأصول الخمسة ، كتاب في
وهو : ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال (١).
وبيان ذلك : إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء ، بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.
وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة (٢) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث.
والجواب : إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى وعدمها في الثانية ، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها (٣).
والحاصل : إنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة ، والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النزاع ، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا.
__________________
الإمامة ، وغير ذلك.
انظر : تاريخ بغداد ٣ / ١٠٠ رقم ١٠٩٦ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٧١ رقم ٦٠٩ ، لسان الميزان ٥ / ٢٩٨ رقم ١٠٠٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٥٩ حوادث سنة ٤٣٦ ه ، معجم المؤلّفين ٣ / ٥١٨ رقم ١٤٧٦٢.
(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.
(٢) المواقف : ٣١٣.
(٣) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٥٢.
ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ؛ لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدليل.
فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين ، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ؛ لأنّه مسلّم بين الطرفين ، فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه؟!
وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة ، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها : إنّه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل ، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه (١)؟!
فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه.
* * *
__________________
(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٢ ـ ١٥٣.
وأقول :
قوله : « نحن أيضا نقول : إنّا فاعلون » ..
مغالطة ظاهرة ؛ لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده ، وهم لا يقولون به ، وإنّما يقولون : إنّا محلّ لفعل الله سبحانه (١) ، والمحلّ ليس بفاعل ، فإنّ من بنى في محلّ بناء لا يقال : إنّ المحلّ بان ، وفاعل ؛ نعم ، يقال : مات وحيي ونحوهما ، وهو قليل.
وقوله : « وهذا شيء لا يستبعده العقل » ..
مكابرة واضحة ؛ لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلّا ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم .. فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد ، ولا يكلونها إلى إرادة الله تعالى ، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين ، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين ، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم ، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم ..
فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّا محلّ صرف؟!
وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه ، إذ ليس السواد متعلّقا لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!
وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة ، فإن كان المراد بالمقدّمة القائلة : « كلّ ممكن مقدور لله تعالى » ، هو : أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال
__________________
(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦.
العباد ، فهو مصادرة ، ولا يلزم من إمكانها المبيّن في المقدّمة الأولى إلّا احتياجها إلى المؤثّر ، وجواز تأثير قدرة الله تعالى فيها ، لا تأثيرها فعلا بها.
وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة ؛ لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين ، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله ، وإنّما قدرة الله تعالى صالحة للتأثير فيه ، وأن تتغلّب على قدرة العبد.
ولسخافة هذا الدليل لم يشر إليه نصير الدين رحمهالله في « التجريد » ، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.
وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو : إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى ، فهو منجرّ إلى الانتقاد على الله سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز : ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١).
وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.
أمّا إثبات فاعل غير الله تعالى ، أصل وجوده وقدرته من الله تعالى ، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة الله سبحانه وتوابع مخلوقيّته له ، فمن أحسن الأمور وأتّمها اعترافا بقدرة الله تعالى ، وأشدّها تنزيها له.
أترى أنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال : إنّهم سلاطين مثله ، ويكون ذلك عيبا في سلطانه ، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من الله تعالى ، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئا من
__________________
(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.
صفاتهم ، فكيف يكون القول : بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّا منافيا لعظمة الله تعالى؟! واعلم أنّ الخلق لغة : الفعل والاختراع ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (١) .. ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٢).
نعم ، المنصرف منه عند الإطلاق فعل الله تعالى ، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكنت الفرصة ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى : ( تَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٣).
وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أولى بالعيب في مذهبهم ؛ لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى ، زائدة على ذاته بزعمهم (٤) كزيادتها على ذوات العباد.
فكيف يشركون فيها معه البشر ، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير الله؟!
نعم ، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القدم ، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته ، كما هو مذهب الأشاعرة.
وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون : الله مالك ونحن مالكون؟!
__________________
(١) سورة المائدة ٥ : ١١٠.
(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٧.
(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.
(٤) راجع ج ٢ / ٢٦٧ ومصادر الهامش رقم ٤.
وأمّا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضرورة ، فممّا تكرّر ذكره في كتبهم ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية ، تحكم بتأثير القدرة فيها ، وأنّا فاعلون لها ، ولذا يذمّ الطفل الرامي لعلمه الضروري بأنّه مؤثّر ، كما بيّنه المصنّف رحمهالله.
على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يعلم وجودها ، إذ لا دليل عليها غيره ، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.
فإن قلت : الاختيار هو الإرادة ، وهي : عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين ، فيكون وجود الاختيار مستلزما لوجود القدرة.
قلت : المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقا حتّى يلزم وجودها ، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدوري الله تعالى ، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدوريه تعالى ، بأن يخلق الفعل عند خلقها.
هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلّا كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة ، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كذلك.
وهل خلق القدرة ـ وكذا الاختيار ـ بلا تأثير إلّا من العبث؟! تعالى الله عنه.
نعم ، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية ، وإن كان ضروريا ، إلّا إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة