الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

١
٢

٣
٤

الفصل الرابع :

دلالات وعبر

٥
٦

يكفينيك الله ، وابنا قيلة :

قد ذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجيب على تهديدات عامر بن الطفيل بقوله : «يكفينيك الله ، وابنا قيلة».

والمقصود ب «ابني قيلة» : الأوس ، والخزرج.

وهذه الكلمة تتضمن :

١ ـ إعزازا لجانب الأوس والخزرج.

٢ ـ تحريضا لهما على إسداء النصر ضد العدو ، الذي لا مبرر لعدوانه ، إلا الحمية الظالمة الخرقاء ، حمية الجاهلية ، وإلا الانقياد للهوى ، والاستجابة لنزغ الشيطان.

٣ ـ إن اعتماده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو على الله أولا وبالذات ، ولكنه في نفس الوقت يعد العدة ، ويعتمد الوسائل المادية في دفع الأخطار المحتملة ، وهذا يدلل على واقعية الإسلام ، وعلى أنه لا يتعامل مع الأمور بصورة تجريدية وذهنية محضة ، كما أنه لا يفرط في الاعتماد على القوة المادية ، بل هو يعتمد عليها في صراط اعتماده على الله سبحانه ، فالله هو المصدر الأول للقوة.

بل وحتى القوة المادية ، إذا لم تنته إلى الله فإنها تتحول إلى ركام وحطام

٧

لا أثر له ، إن لم نقل : إن له الكثير من الآثار السلبية والهدامة في كثير من الأحيان ، وهذا موضوع حساس وخطير ، يحتاج إلى توفر أتم ، ووقت أوفى.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمّل أبا براء المسؤولية :

وبعد .. فإننا نجد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اعتبر أبا براء هو المسؤول عما حصل ، حينما قال : «هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوفا».

ونحن نشك في ذلك.

فإن الروايات التي روت لنا ما حصل ، لعلها متفقة على أن أبا براء ، لم تكن له أية علاقة بما حدث ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، وقد صرحت بعضها بأنه كان مستاء جدا مما حصل.

بل إن بعضها يصرح : بأنه قد مات أسفا على ما صنع به عامر ابن أخيه. وعليه فيرد هنا سؤال ، وهو :

هل إنه لم تبلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأخبار على حقيقتها؟

وإذا كان ذلك ، فما بال جبرائيل لا يوقفه على حقيقة ما جرى؟!

أم يعقل أن يكون ما وصل إلينا قد تعمد التعتيم على ما جرى ، أو كان محرفا لسبب أو لآخر؟!

ولعل الإجابة الأقرب إلى الواقع هي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان على علم تام بما حصل ، ولكنه أراد تحريض أبي براء ضد مرتكب الجريمة عامر بن الطفيل ؛ بالطريقة المشروعة ، والمقبولة لدى الناس ، فلقد كان أبو براء قد قبل ـ مختارا ومتبرعا ـ بأن يكون مسؤولا عن حياة أولئك

٨

النفر ، وهو الذي بادر إلى إظهار الرغبة بإرسالهم إلى تلك المنطقة ، وحينما عبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مخاوفه من أهل نجد ، نجد أبا براء قد قبل أن يجيرهم ، ثم يذهب بنفسه ، ويخبر أهل نجد بأنه قد أجار أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولعل من نتائج موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا ، ثم مبادرة حسان بن ثابت لتحريض ربيعة بن أبي براء على عامر ، أن سأل ربيعة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو غيره : إن كانت ضربة أو طعنة لعامر تغسل عن أبيه هذه الغدرة ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : نعم.

فطعنه ربيعة في حياة أبيه ، فقتله ، «كما في معالم التنزيل» أو فأشواه ، كما في المصادر الأخرى.

شرف التواضع .. وذل الغطرسة :

وتحدثنا الروايات المتقدمة : أن عامر بن الطفيل لم يستطع أن يميز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بين أصحابه حيث كان جالسا بينهم كأحدهم حتى يسأل عنه هذا وذاك فيخبرونه.

نعم ، وهذه هي أخلاق الإسلام وتعاليمه ، وهذه هي تربيته للإنسان ، فهو يربي في الإنسان إنسانيته أولا ، ويفهمه أن الحكم ليس امتيازا وإنما هو مسؤولية وواجب في إطار قاعدة : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

فالإسلام يربي في الإنسان روح الرفض والإدانة لكل الامتيازات الظالمة ، التي يجعلها المتزعمون ، وأصحاب الثروات والوجاهات لأنفسهم ، لا لشيء إلا لأنهم أبناء فلان ، أو لأنهم يملكون القوة ، أو المال ، أو ما أشبه

٩

ذلك. من دون أن يقدموا لمجتمعهم أدنى ما توجبه عليهم القيم والمثل الإنسانية ، ولا حتى أن يعترفوا لغيرهم بأبسط الحقوق ، حتى حق الحياة ، فضلا عن حق الحرية ، والعيش بكرامة.

الرسل لا تقتل :

ويلاحظ هنا : أن عامر بن الطفيل قد ارتكب عملا شنيعا ، يرفضه الخلق الإنساني ، ويأنف منه حتى أكثر الناس بعدا عن المعاني الإنسانية والاخلاقية. ألا وهو قتل الرسول ، (حامل كتاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله») وقد جرت عادة العرب قديما «بأن الرسل لا تقتل» (١) كما أنه يخفر ذمة أبي براء ، وما جرت عادة العرب بذلك أيضا.

وهناك جريمة ثالثة ، وهي أن قتله للرسول كان غدرا وغيلة وذلك أمر لا يستسيغه حر يحترم نفسه ، ويطمح إلى ما كان يطمح إليه مثل عامر. مع أنه هو نفسه يرسل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطلب منه دية الرجلين ، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في طريقه رغم أن عمروا لم يكن يعلم بالعهد الذي أعطاهما إياه الرسول ، ورغم أن ما فعله عامر ، من شأنه أن ينسف كل العهود والمواثيق ، ويعطي حق المعاملة بالمثل الذي تقره جميع الأعراف ، ولا تمنع منه الشرائع.

ولكن سماحة الإسلام .. وحرص النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أن يعامل الناس بأخلاقه هو ، لا على حسب أخلاقهم هم ، هو الذي جعله لا

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٠.

١٠

يتخذ مواقفه من خلال الانفعالات والمشاعر ، التي تنشأ عن إثارات يتعمدها الخصوم في كثير من الأحيان ، فإن الإنسان المسلم لا تزله الرياح العواصف ، ولا يفقد توازنه ، ولا يتخلى عن مبادئه ولا يحيد عن هدفه ليصبح أسير مشاعره الثائرة ، وانفعالاته الطاغية ويلبي نداءاتها ويستجيب لإثاراتها.

فنجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرسل بدية الرجلين ، ولا يذكّر بشيء مما فعله قومهما ، بل هو يظهر استياءه من قتل عمرو بن أمية لهما ، ويصرح بتصميمه على أن يديهما فور علمه بما جرى عليهما ، وقبل أن يرسل إليه عامر بطلب ديتهما.

وبذلك يتميز الإنسان المؤمن عن غيره ، يسير كل منهما في خطه الذي ينبغي له ، هذا دليله عقله وحكمته ، ورائده رضى ربه ، وسلامة دينه ، والفوز بالآخرة ، وذاك دليله هواه ورائده شهواته ، وهدفه الدنيا ، وزخرفها.

وفي مقابل ذلك نجد عامر بن الطفيل ينقاد لهواه فيقتل الرسول ، والرسل لا تقتل ، ويخفر الذمة ، ويستعمل طريقة الختر والغدر ، وكل ذلك شنيع ، وفظيع.

وهو كذلك ينقاد لهواه لأنه يرفض أن يكون موته بغدة كغدة البعير ، ويأنف أن يكون ذلك في بيت سلولية.

أما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو ينسجم مع أخلاقه ، كما أنه ينطلق من مبادئه السامية في كل مواقفه ولا يخرجه أي شيء عن توازنه ومتانته ، لا يزعزع ثباته ، ولا تزله الرياح العواصف مهما كانت هوجاء ، وعاتية (١).

__________________

(١) راجع كتاب : محمد في المدينة ص ٤٩.

١١

ديّة الرجلين لما ذا؟!

ومن جهة ثانية نلاحظ : أن قبيلة عامر قد رفضت الاستجابة لطلب ابن الطفيل بقتل المسلمين ، وذلك وفاء لذمة أبي براء وجواره.

ولا بد أن يكون موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا مؤثرا في إعطاء صورة حسنة للعامريين ، ويفترض البعض أيضا : أن ذلك يزيد في حالة عدم الانسجام فيما بين هذه القبيلة وبين عامر بن الطفيل ، الذي ارتكب تلك الجريمة النكراء ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد استمالة بني عامر إلى جانبه ، ولهذا قرر التدخل في السياسة الداخلية للقبيلة.

ولكننا نقول : إن بعض النصوص تؤكد أن موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا قد كان منطلقا من قيمة أخلاقية ، ورسالية ، فرضها عليه واقع أن هذين الرجلين كانا من أهل ذمته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يقتلا من أجل ذنب أتياه ، حسبما أشرنا إليه آنفا.

ويضيف ذلك البعض : أنه كان معيبا في حق بني عامر ، ترك الرجال يقتلون ، وهم تحت حمايتهم ، ولهذا كان الشاعر المسلم كعب بن مالك واضحا في هذا الصدد.

إلى أن قال : ولم يكن محمد يستطيع التخلي عن بني عامر قبل التخلي عن كثير من الآمال ، ولكن هذا لم يمنعه من أن يصلي ويطلب من الله معاقبة عامر (١).

ولكننا نقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا على رعل وذكوان

__________________

(١) المصدر السابق.

١٢

وعصية ، ولم أجد أنه دعا على بني عامر ، بل ذكر الواقدي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : اللهم اهد بني عامر ، واطلب خفرتي من عامر بن الطفيل (١). ولعل عدم مشاركة بني عامر في الدفاع عمن أجارهم أبو براء ، إنما هو من أجل أن لا تحدث انشقاقات خطيرة بينهم وبين غيرهم ممن استجاب لابن الطفيل.

وأما القول بأن تخلي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن بني عامر ، معناه التخلي عن كثير من الآمال ، فإنه غير واضح ، إذ ما ذا يمثل بنو عامر ، وما هو الدور الذي قاموا به ، أو يمكنهم أن يقوموا به في نصرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

الأفق الضيق :

وما أقل عقل عامر بن الطفيل ، وما أحقر طموحاته وأحطها ، وما أضيق الأفق الذي يفكر فيه ، حينما نجده يفعل الأفاعيل انطلاقا من حالة انفعالية أثارها أمر تافه ، وتافه جدا ، جعله يرتكب أبشع جريمة ، ويخالف كل الأعراف والتقاليد ، فيغدر ، ويخفر الذمم ويقتل الرسول ، ويقتل الكثيرين غيره ، ويبادر إلى الزحف نحو المدينة ، كل ذلك من أجل أي شيء يا ترى ، وفي سبيل أية قضية؟!

إن ذلك كله .. كما ورد في الروايات قد كان من أجل أن صبيا عطس ، فشمّته النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأنه حمد الله ، ويعطس عامر فلا يحمد الله ، فلا يشمّته رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٥١.

١٣

وما كان أحراه بأن يستفيد من هذه القضية درسا حياتيا مفيدا ، فيتوجه نحو الله سبحانه ويعتبر أن العز ، والشرف ، والسؤدد بالقرب منه تعالى ، والعمل بما يرضاه ، وأن كل شيء بدون الله فهو حائل زائل ، وزخرف باطل ، لا قيمة له ، فيربي نفسه على ذكر الله ، والتقرب إليه لينال كل ما يصبو إليه من عز وشرف وحياة وسعادة.

ولكنه يتخلى عن ذلك كله ، ليتبع خطوات الشيطان ، ويشمخ بأنفه ، وينظر في عطفه ، ويصر مستكبرا صادّا عن ذكر الله سبحانه ، يتخيل أن بإمكانه أن يحصل على شيء بدون الله ، وبدون اللجوء إليه سبحانه ، فتكون النتيجة هي أنه يجلب لنفسه الوبال ، والدمار ، ويخسر الدنيا والآخرة وبئس للظالمين بدلا.

خلافة النبوة :

أما مطالب عامر بن الطفيل التي عرضها على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فهي تنقسم إلى قسمين :

أحدهما : يجسد طموحاته وأطماعه الدنيوية وحبه للتسلط ، والاستئثار ، فنجده يساوم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ كما فعله مسيلمة الكذاب فيما بعد (١) ـ ليقاسمه السلطة على الناس ، بزعمه ، فيقترح عليه أن يكون للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» السهل ، ويكون لعامر أهل الوبر ، من دون أن يكون لديه أي مبرر لذلك ، سوى الغطرسة والطغيان ، والاعتزاز بألف أشقر

__________________

(١) فقد كتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أما بعد فإن الأرض لي ولك نصفان.

١٤

وألف شقراء والاعتماد على قوة السيف ، الذي يرى فيه المحلل لكل محرم ، ويسمح له بارتكاب أي مأثم ، ومن دون أن يعطي لأولئك الناس الذين يطمح للتسلط عليهم حق الاختيار ، الذي يساوي حق الحياة ، وكأن الناس سلع تشرى ، وتباع وتوهب.

هذا عدا عن أنه لا يملك هو نفسه أي امتياز يخوله الاستئثار بشيء من الامتيازات دون غيره ، فهو لا يملك العلم النافع ، ولا يرفع شعار الهداية لسبيل الله والحق ، والخير ، ولا غير ذلك من مقومات.

الثاني : إنه يرشح نفسه لمنصب خطير وهام ، ألا وهو خلافة النبوة ، وقيادة الأمة وهدايتها. هذا المنصب الذي لم يكن يملك أي شيء من مقوماته : خلقيا ، وإنسانيا ، وسلوكيا ، فضلا عن الامتياز العلمي ، وسائر القدرات والمؤهلات الذاتية ، التي لا بد من توفرها في من يتصدى لمنصب كهذا.

ولا أدل على ذلك من أنه تثور ثائرته ، لأن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشمّت غلامه الذي حمد الله ، ولم يشمّته هو ، حيث لم يحمد الله تعالى.

وبعد هذا .. فكأنه لم يسمع ما أجاب به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحد بني عامر بن صعصعة ، حينما عرض على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مكة نفس ما عرضه هو عليه ، فأجابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقوله : «إن الأمر لله ، يضعه حيث يشاء».

فلا مجال لرأي أحد في أمر الإمامة بعده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولا يثبت ذلك بالانتخاب ، ولا بالشورى ، ولا هو من صلاحيات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ، وإنما هو فقط من صلاحيات رب العزة ، وخالق الكون دون سواه ؛ فهو الذي يختار ومنه يصدر القرار ، وقد قدمنا بعض ما يرتبط بهذه القضية في

١٥

الجزء الثالث من هذا الكتاب في فصل : حتى بيعة العقبة ، فراجع.

المشركون في مواجهة الوجدان :

وبعد .. فقد ذكرت الروايات : أن أبا براء ، ملاعب الأسنة ، قد أرسل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستشفيه من دبيلة كانت في بطنه ، فتناول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جبوبة (وهي المدرة) من تراب ، فأمرّها على لسانه ثم دفها بماء ، ثم سقاه إياها ، فكأنما أنشط من عقال (١).

وفي نص آخر : فتفل فيها وقال : دفها بماء ، ثم أسقاه إياه ففعل ؛ فبرئ ، ويقال : إنه بعث إليه بعكة عسل ؛ فلم يزل يلعقها حتى برئ (٢).

ويذكرنا هذا النص بما قدمناه عن مشركي مكة أيضا ، الذين يعلم كل أحد ما لاقاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهم ، حتى اضطروه إلى الهجرة ، فإنهم مع عدائهم له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يودعون أموالهم عنده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى ليضطر إلى إبقاء علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في مكة ثلاثة أيام ـ حين الهجرة ـ ليؤدي الودائع والأمانات إلى أصحابها.

ومعنى ذلك هو : أنهم يرون في هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه متصل بالغيب ، حتى ليرسلون إليه يستشفونه من أمراضهم ، كما ويرون فيه أنه في غاية الأمانة والرعاية لحقوق الناس ، وأموالهم.

الأمر الذي لا بد أن يكشف لهم عن ملكات وفضائل أخلاقية نادرة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٢.

(٢) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٥٠ والإصابة ج ٣ ص ١٢٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧١.

١٦

لديه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأنه لا مطمع له بمال ، ولا بمتاع دنيا.

إذا ، فإنهم لا بد أن يتلمسوا التناقض الهائل الذي يجدون أنفسهم فيه ، فهم يكرهونه ، ويكذّبونه ، ويتهمونه ، وهم كذلك يرون طهارته ، وعفته وصدقه ، وأمانته ، حتى لقبوه بالصادق الأمين. فيعيشون حالة الصراع الداخلي مع ذاتهم ، ومع وجدانهم ، وما أشده من صراع ، وما أعظم البركات التي يحصلون عليها لو انتصر عقلهم ووجدانهم. وما أخطرها وأشدها دمارا ، لو انتصرت المشاعر والأهواء ، والمصالح الشخصية الرخيصة.

وليراجع الجزء الثاني من هذا الكتاب في بحث : العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره ففيه مطالب أخرى ترتبط بهذا المقام.

ولعل هذا الإحساس الوجداني الصريح ، الذي أدركه أبو براء من خلال مصادقته له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ فإنه كان له صديقا ـ هو الذي جعل هذا الرجل يتحمس لأن يرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعاته إلى نجد ، ثم يتعهد بأن يكونوا في جواره ، وتحت حمايته.

رفضه صلى‌الله‌عليه‌وآله هدية ملاعب الأسنة منطلقاته ودلالاته :

وتواجهنا في الروايات المتقدمة قضية رفضه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هدية أبي براء ، ملاعب الأسنة ، على اعتبار أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يقبل هدية مشرك ، حتى ولو كان صديقا له.

وقد تقدم في فصل : أبو طالب مؤمن قريش ، موارد أخرى في هذا المجال ، وهي تدل على : أن ذلك كان نهجا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويصر على الالتزام به ، والتعامل على أساسه.

١٧

ونحن في مجال فهم الهدى النبوي في هذا الاتجاه ، نشير إلى ما يلي :

ألف : إن من الواضح أن المشركين لا يقيسون الأمور بمقاييس صحيحة ، ولا يبنون علاقاتهم مع الآخرين على أساس المثل والقيم والمبادئ عموما.

وإنما ينطلقون في تقييمهم للأمور من نظرة ضيقة ، ومصلحية ، قائمة على أساس الأهواء ، والطموحات غير المتزنة ولا المسؤولة.

وعلى هذا ، فقلما تجدهم يبادرون إلى إتحاف بعضهم بالهدايا ونحوها من منطلق منطقي ، أو من شعور إنساني نقي وبريء ، أو من مبادئ إنسانية ، ومثل عليا.

وإنما غالبا ما يكون ذلك تزلفا ، وتصنعا ؛ بهدف الحصول على ما هو أغلى ، وما هو أهم ، أو بهدف دفع غائلة من لا يجدون لدفع غائلته وسيلة ، ولا عن التصنع والتزلف إليه مهربا ، ومحيصا.

ولأجل ذلك .. فلو فرض أن النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبل هديتهم. فعدا عن كون ذلك يدخل في نطاق الموادة لهم ، وهو ما ينهى عنه القرآن الكريم صراحة ؛ فإنه لو أراد بعد ذلك أن يتخذ من انحرافاتهم وجرائمهم موقفا رافضا ومسؤولا ، فلسوف يعتبرون ذلك ، ويعتبره كل من هو على شاكلتهم ، نكرانا للجميل ، وكفرانا للنعمة ، الأمر الذي يجعل من هذا الأمر مبررا لأية سلبية تظهر على مواقفهم منه فيما يأتي من الأيام.

كما أن رفض النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهديتهم لا يعتبر مقابلة للإكرام بضده ، ولا يعد خلقا سيئا ، أو تصرف نابيا.

إذ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يملك كل الحق في أن يفهمهم أن القضية قضية مصيرية ، لا يمكن الإغضاء عنها ، ولا التساهل فيها ، ولا

١٨

تخضع للمساومة ، ولا للمداهنة ، ولا يمكن التنازل عن أي شيء فيها في مقابل المال والنوال.

ولا سيما إذا كان إعطاء المال أو تقديم الهدية يوزن بميزان جاهلي ، مصلحي ، حسبما ألمحنا إليه.

ب : وبعد فإن إهداء أبي براء ملاعب الأسنة للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقول حامل الهدية حينما رد النبي الهدية : «ما كنت أرى أن رجلا من مضر يرد هدية أبي براء» (١) يدل على أن أبا براء كان رجلا ذا أهمية في مجتمعه الذي يعيش فيه ، حتى إن أي مضري لا يجرؤ على رد هديته احتراما وتقديرا له.

فإهداؤه للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يدل على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد ذاع صيته ، وظهرت هيبته في مختلف أرجاء المنطقة آنئذ ، وبدأ يتزلف إليه المتزلفون ، ويخطب وده الخاطبون.

ج : كما أن الأمر الذي يثير العجب حقا هو : أننا نجد أبا براء ذلك الرجل المعروف والمبجل في محيطه ، والذي لا يرد هديته مضري ليس فقط يتلقى هذه الصدمة الكبيرة ، وهي رد هديته من قبل صديقه ، بالإذعان والقبول ، وإنما هو يطلب من النبي إرسال دعاته إلى بلاد نجد ، ويقبل أن يتحمل مسؤولية حمايتهم ، وكونهم في جواره.

هذا كله .. عدا عن طلبه الاستشفاء بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعمله بما أرسل به إليه.

مع أننا نجد ابن أخيه عامرا على العكس من ذلك تماما ؛ حيث يثيره

__________________

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٢.

١٩

تشميت النبي لغلام حمد الله ، وعدم تشميته له ، وهو لم يحمد الله. ثم يتنامى به الأمر ، ويتعاظم حتى يرتكب تلك الجريمة النكراء ، بأسلوب رخيص ولئيم ، أقل ما يقال فيه : إنه مجلبة للعار الدائم ، والذل المقيم .. والمخالف حتى لأعراف الجاهلية ، فضلا عن مناقضته لكل القيم والمثل والمبادئ الإنسانية.

فإن كان ما فعله أبو براء عن سياسة ودهاء فنعم السياسة تلك ، وحبذا هذا الدهاء ، وإن كان عن عقل وحكمة فالمجد والخلود لهذا العقل ، وتلكم الحكمة ، وإن كان عن قناعة وجدانية ونفحة إيمانية كانت قد بدأت تذكو في نفسه ، فما علينا إلا أن نقبل بالرواية القائلة : إنه قد أسلم قبل أن يموت. ونحن نود أن تكون هذه هي عاقبته ، وإن كنا لا نملك الدليل القاطع على ذلك.

المنطق القبلي مرفوض في الإسلام :

وبعد .. فقد رأينا النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس فقط لا يؤيد ما فعله عمرو بن أمية الضمري ، من قتل الرجلين ، وإنما يعبر عن إدانته واستيائه من هذا الأمر.

ثم هو يتعهد بأن يدي الرجلين ، ويفعل ذلك.

وإذا أردنا أن لا نقبل بكون الرجلين كانا قد أسلما حقيقة بقرينة : أنهم يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطى دية حرين مسلمين.

فإننا لا بد أن نستفيد من موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا حتى ولو كانا كافرين إدانة صريحة للمنطق الجاهلي القبلي الذي يبيح للإنسان أن

٢٠