الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

يقتل أيا من أفراد القبيلة الأخرى ، لو ارتكب واحد منها جريمة تجاه قريب له فرضا.

فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يلوم عمرو بن أمية ويدين عمله ، ويقول له : بئس ما صنعت ، رغم أنه لم يكن يعلم بالعهد ، ورغم أن اللذين قتلهما كانا بزعمه مشركين.

ويوضح : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما يدين المنطق القبلي الجاهلي قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : رجلين من أهل ذمتي قتلتهما لا لأجل دينهما ، حسبما روي.

مصير زيد بن قيس ، وابن الطفيل :

وتذكر الروايات المتقدمة : أنه بعد أن أراد زيد بن قيس قتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحبس الله يده ، حتى لم يتمكن من سل سيفه ،

كانت النتيجة : أن الله سبحانه وتعالى يرسل على زيد بن قيس صاعقة ، فتحرقه ، ثم يموت عامر بن الطفيل من غدة كغدة البعير في بيت سلولية.

وما ذلك إلا لأن هذين الرجلين قد رأيا بأم أعينهما الآية الظاهرة ، والمعجزة القاهرة له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولكنهما يصران على الضلال ، والكفر ، ولا يعتبران بما رأياه من كرامة إلهية له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكانت النتيجة : أن أصبحا عبرة لمن اعتبر ، وخسرا الدنيا والآخرة ، وبئس للظالمين بدلا.

فزت والله :

ونجد في الروايات المتقدمة : أن جبار بن سلمى ، المشرك ، حينما طعن

٢١

ابن ملحان الأنصاري سمعه يقول : فزت والله ، تحير في فهم مغزى كلامه ، فقال في نفسه : ما فاز؟ أليس قد قتلت الرجل؟!

ثم يسأل عن هذا الأمر بعد ذلك ، فأخبروه : أنه الشهادة ، فقال : فاز لعمرو الله. وكان ذلك سبب إسلامه.

ونحن بدورنا ليس لدينا ما يثبت أو ينفي هذه الرواية ، ولكننا نعلم : أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» حينما ضربه ابن ملجم على رأسه في مسجد الكوفة ، قال : فزت ورب الكعبة (١).

ونقول : إن تحير ذلك المشرك ، وقول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وذلك المسلم لهذه الكلمة طبيعي جدا.

فإن من يفهم الأمور فهما دنيويا ومصلحيا بحتا ، يقيس الربح والخسران بمقاييس المادة والماديات وحسب. فلا يمكنه أن يفهم الموت إلا على أنه ضياع وخيبة ؛ لأنه يراه عدما وفناء ، وخسارة وجود ، ونهاية حياة.

أما الإنسان المسلم القرآني ؛ فهو يرى في الموت أمرا آخر ، ومعنى يختلف كليا عن هذا المعنى ، وذلك من خلال التعليم القرآني ، الذي هو المصدر الأصفى ، والأدق والأوفى ، ثم التربية النبوية الرائدة ، وتوجيهات الأئمة والأوصياء «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

ولا نريد أن نفيض في ذكر الآيات والروايات التي تعرضت لحقيقة

__________________

(١) ترجمة الإمام علي «عليه‌السلام» من تاريخ دمشق ج ٣ ص ٣٠٣ تحقيق المحمودي ومقتل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لابن أبي الدنيا ، مطبوع في مجلة تراثنا السنة الثالثة عدد ٣ ص ٩٦.

٢٢

الموت ، وبينت موقعه في مسيرة الإنسان ومصيره ، وإنما نكتفي بالإشارة إلى ما يلي :

١ ـ قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (١).

٢ ـ عن الإمام الحسين «عليه‌السلام» ؛ في خطبة له في مكة ، قبل أن يخرج إلى العراق : خط الموت على ولد آدم ، مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلا في اشتياق يعقوب إلى يوسف (٢).

٣ ـ وفي رواية عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» قال : «ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ، ويقلع منابت الغفلة ، ويقوي القلب بمواعد الله ، ويرق الطبع ، ويكسر أعلام الهوى ، ويطفئ نار الحرص» (٣).

٤ ـ عن الصادق «عليه‌السلام» : «إن المؤمن إذا مات لم يكن ميتا ؛ فإن الميت هو الكافر» (٤).

والآيات والروايات حول الموت والحياة كثيرة ، فيها الإشارات والدلائل الجمة إلى كثير من الأمور الهامة والخطيرة ، ونحن نكتفي هنا بالإشارة إلى ما يلي :

ألف : بالنسبة للآية الكريمة نقول : إننا نلاحظ أنها قدمت ذكر الموت على ذكر الحياة «الموت والحياة».

__________________

(١) الآية ٣ من سورة الملك.

(٢) اللهوف ص ٢٥ ومقتل الحسين للمقرم ص ١٩٠ عنه وعن ابن نما ص ٢٠.

(٣) البحار ج ٦ ص ١٣٣ ومصباح الشريعة ص ١٧١ وميزان الحكمة ج ٩ ص ٢٤٥.

(٤) معاني الأخبار ص ٢٧٦ وميزان الحكمة ج ٩ ص ٢٣٧.

٢٣

كما أنها صرحت : بأن الموت مخلوق لله سبحانه ، كما أن الحياة مخلوقة له تعالى.

إذا فللموت دوره كما هو للحياة ، وليس هو مجرد فناء وعدم ، يظهر معناه ومغزاه من خلال ظهور المعنى المقابل له.

ثم صرحت الآية : بأن السر في خلق هذين العنصرين هو وضع الإنسان على المحك في سوقه نحو الأفضل والأحسن ، والأكمل ، الأمر الذي يفيد : أن لهما دورا في بناء شخصية الإنسان وتكامله.

وذلك يعني : أنهما مرحلتان يتجاوزهما الإنسان ، ولا يتوقف عندهما في مسيرته الظافرة نحو الحياة الحقيقية (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (١) ، حيث إن بها يبلغ الإنسان مرحلة كماله ، وفيها تتساقط الحجب المادية المانعة من الإحساس بالأمور إحساسا واقعيا وحقيقيا وعميقا.

ب : إن الكلمة المروية عن الإمام الحسين «عليه‌السلام» قد اعتبرت أن الموت بمثابة قلادة على جيد الفتاة ، ومعنى ذلك هو : أن الموت هو زينة للحياة ويزيد في بهجتها ، ويعطيها رونقا ، وبهاء وجمالا ، وبدونه تكون باهتة خافتة تماما كما هو الحال بالنسبة للقلادة التي تزيد في بهجة وبهاء وجمال الفتاة ، وتوجب انشداد الأنظار إليها ، وتعلق النفوس بها.

ولأجل هذا المعنى جعلها على جيد «فتاة» وليس «المرأة». فإن الفتاة هي التي تميل إليها نفوس الطالبين ، وتكون موضعا لتنافس المتنافسين.

كما أننا نلاحظ : أنه لم يستعمل كلمة «عنق» هنا وإنما اختار كلمة

__________________

(١) الآية ٦٤ من سورة العنكبوت.

٢٤

«جيد» الذي هو من الجودة ، وهو تعبير مريح للنفس أيضا ، ومثير لكثير من المعاني اللذيذة في أعماقها.

فالموت زينة الحياة ، وبهجتها ، حينما يثير في الإنسان طموحه إلى ما هو أبعد وأوسع وأعلى وأغلى ، ويشد روحه وعقله إلى الآفاق الرحبة ، وملاحقة أسرار الكون وخفاياه ، وحقائقه ودقائقه ومزاياه ، من أجل أن يسخّر كل ما في الوجود ويستفيد من كل ما تصل إليه يده في مجال إبعاد الشفاء والعناء ، ومساعدته على بلوغه مدارج الكمال ، ووصوله إلى أهدافه السامية ، وتحقيقه مثله العليا ، الأمر الذي يحتم عليه التزام الفضائل ، والتعالي عن الموبقات والرذائل.

بالإضافة إلى أن حقيقة الموت ، وإدراكها بعمق يمنح هذا الإنسان القدرة على الوقوف في وجه شهواته ويهيمن عليها ، لأنه يعطي الحياة الدنيا قيمتها الحقيقية ، ويمكّن الإنسان من أن يفهمها بعمق ، ويعرف مدى واقعيتها.

حتى ليرى الإنسان المؤمن : أن الموت في بداية الحياة الحقيقية ، وأن الخروج من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر هو السبيل للسلامة من دواعي وطغيان الشهوات ، والراحة من مكافحة النفس الأمارة بالسوء.

فالموت إذا ، هو بداية الراحة ، والخير ، والفوز.

وبه تتساقط الحجب وتزول الموانع عن الإحساس الحقيقي بالوجود ، والوصول إلى كنه الحقائق.

وهو يمكّن الإنسان من أن يملك نفسه ، ويستفيد من وجوده وطاقاته بصورة كاملة.

٢٥

ولأجل ذلك ، فقد كان الموت للإنسان المؤمن أحلى من العسل (١). ووصف الحسين «عليه‌السلام» أصحابه فقال : «يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه» (٢).

وقال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه (٣).

كما أن الموت يصبح خروجا من سجن قاس ومرهق ، فإن الدنيا سجن المؤمن ، والقبر حصنه والجنة مأواه (٤). وما أحلى أن يحصل الإنسان على حريته ، ويكون هو سيد نفسه ويواصل انطلاقته نحو الله ، ويسرح في رحاب ملكوته. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٥).

أما الكافر فهو يرى الموت فناء وعدما ، وضياعا ، فهو كارثة حقيقية بالنسبة إليه ، وخسران لنعيم الدنيا ، والدنيا هي جنة الكافر والقبر سجنه ، والنار مأواه ، حسبما جاء في الحديث الشريف (٦).

وبكلمة .. إن الموت هو سر الحياة ، وهو يعطي للحياة معناها وقيمتها ، وهو سرّ الطموح ، والحركة والبناء ، والعمل الهادف المنتج ، وهو سر سعي الإنسان نحو كماله ونحو ربه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً

__________________

(١) وسيلة الدارين في أنصار الحسين ص ٢٥٣.

(٢) مقتل الحسين للمقرم ص ٢٦٢.

(٣) نهج البلاغة (شرح عبده) ص ٣٦.

(٤) البحار ج ٧٠ ص ٩١ والخصال ج ١ ص ١٠٨.

(٥) الآية ٦٤ من سورة العنكبوت.

(٦) البحار ج ٧٠ ص ٩١ والخصال ج ١ ص ١٠٨.

٢٦

فَمُلاقِيهِ) (١).

وبالموت تتساقط الحجب والموانع التي تقلل من قدرة الإنسان على الإحساس بالواقع ، لأنه إنما يتصل بالواقع عن طريق الحواس المادية ، التي لا تسمح بالإحساس بالواقع إلا في مستوى التخيل والتصوير ، ولا توصل إلى كنه الحقائق ، والاتصال بأسرار الكون والحياة.

هذا بالإضافة إلى أن المعاصي تزيد من طغيان الجسد ، وضعف القدرات الروحية ، فيتضاءل إحساسه بالحقائق ، ويتقاصر فهمه عنها ، ولا يعود قادرا على التعامل معها بعمق ذاته ووجوده ، وبكنه مواهبه الإلهية.

وكل ما تقدم يفهمنا بعض ما يرمي إليه الحديث الوارد عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» والمتقدم برقم (٣) ، ولعل جانبا مما يرمز إليه الحديث رقم (٤) اتضح أيضا.

ج : ولكننا نزيد في توضيح خلق الموت هنا ، فنقول : إنه إذا كان الموت انتقالا من نشأة إلى نشأة ، وتصرفا في الصورة والشكل ، مع بقاء المضمون والحقيقة والماهية على ما هي عليه ، فإن خضوع الموت لعملية الخلق يصبح بمثابة من الوضوح ، لأن الخلق يختزن هذا المعنى أيضا ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ) أي وجدت فيها الأشكال والصور البدائية للإنسان ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (٢) أي لم يوجد فيها ذلك.

وقال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ

__________________

(١) الآية ٦ من سورة الإنشقاق.

(٢) الآية ٥ من سورة الحج.

٢٧

ثَلاثٍ) (١).

د : بقي أن نشير إلى أن الحكم على الكافر بالموت في الآخرة ، إنما هو بملاحظة : أن نفسه وروحه لن تكون قادرة على نيل درجات القرب ، والسير في رحاب ملكوت الله سبحانه ، والإحساس بعظيم جلاله ، والقرب من ساحة قدسه بل يكون الكافر في ظلمات الجحيم ، يأتيه الموت من كل مكان ، وما هو بميت ، محجوب عن الله ، وعن رحمته ، مشغول بنفسه وآلامه ، عن كل شيء آخر.

ه : وبعد .. فإننا بملاحظة بعض ما تقدم نستطيع أن نفهم كيف يكون المؤمنون شهداء على الناس ، وأن ندرك بعمق معنى الشهيد والشهادة.

فإنها من الشهود ، الذي هو الوصول إلى الواقع وملامسته ، مع إدراك ووعي له ، وإحساس واقعي ووجداني به ، ثم معرفة قيمته وحقيقته على ما هو عليه في نفس الأمر.

ومن هنا نعرف : أن الشهود يزيد عن الحضور ، فإن الإنسان قد يكون حاضرا لحدث ما ، ولكنه ليس شاهدا له إذا لم يدركه بعمق راسخ ، تشارك فيه قوى الإدراك الباطنية الظاهرية في الوصول والحصول.

وبما أن الشهادة هي الوصول إلى الحقيقة ، مع إدراك وإحساس واقعي بها ، بسبب تساقط الحجب ، وزوال الموانع المادية ، فيستطيع الإنسان حينئذ أن يدرك واقع الحياة وسر الوجود ، وحقائقه.

فإنها لا يمكن ـ يعني الشهادة ـ أن ينالها الكافر ، لأنه محجوب بذنوبه ،

__________________

(١) الآية ٦ من سورة الزمر.

٢٨

وبأعماله ، وتكون حياته موتا ، أما موته فلا يؤهله إلا لمواجهة مصيره الأسود ، حيث تحف به ملائكة العذاب ، وتحتوشه زبانية جهنم ، ويبقى محجوبا عن ساحة القدس الإلهية ، وعن الانطلاق في رحابها ، ونيل بركاتها.

كما أن هذه الشهادة تحتاج إلى تربية إلهية ، ورعاية ملكوتية ، تمنحه المعرفة الحقيقية ، والرؤية الصادقة ، وتربية سلوكيا وعاطفيا ، وتصفي وتزكي نفسه وروحه ، وعمله ، وكل وجوده ؛ ليكون إنسانا إلهيا بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

نعم ، وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) (١).

فإن الله هو الذي يربيهم ، ويزكيهم ، ويؤهلهم لتلقي المعارف ، ويكشف عن أبصارهم وبصائرهم ليصلوا إلى درجة الشهود والخلود ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر (٢).

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٣).

أما الكفار ، ف : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٤).

و (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٥).

__________________

(١) الآية ١٤٠ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٥٥ من سورة القمر.

(٣) الآية ١٧ من سورة محمد.

(٤) الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.

(٥) الآية ٧ من سورة البقرة.

٢٩

و (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١).

و : وعملية الجهاد الأكبر ما هي إلا بذل الجهد من أجل الوصول إلى حالة الشهود هذه ؛ ليكون الجهاد الأصغر انعكاسا طبيعيا لدرجة الشهود التي يصل إليها الإنسان ، ولمدى إدراكه لحقيقة الكون ، والحياة ، وإحساسه بالله سبحانه ، وبألطافه ، والحصول على بركاته.

ولأجل ذلك ، فقد كان الجهاد بابا من أبواب الجنة ، لا يستطيع كل أحد ولوجه والدخول فيه ، بل فتحه الله لخاصة أوليائه وليس كل أوليائه ، فهؤلاء الخاصة وحدهم الذين يمكنهم الجهاد ، ويستحقون لقب «مجاهد» ويمكنهم أن ينالوا درجة الشهادة ، ويكونوا شهداء.

قال علي «عليه‌السلام» : الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصة أوليائه (٢).

ويلاحظ هنا كلمة : «خاصة أوليائه» أي وليس كلهم.

أما الآخرون ، فإنهم لا يستطيعون ذلك ، وإن كان يمكن لكل واحد أن يقاتل ، وأن يصبح قتيلا.

وبعد كل ما قدمناه ، فإننا نفهم بعمق ما جاء على لسان ذلك الرجل «ما فاز؟! أليس قد قتلت الرجل».

ثم نفهم بعمق أيضا قول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : فزت ورب الكعبة.

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الصف.

(٢) نهج البلاغة (بشرح عبده) ، الخطبة رقم ٢٦ أولها : ج ١ ص ٦٣.

٣٠

الباب الخامس

غزوة بني النضير

الفصل الأول : النصوص والآثار

الفصل الثاني : قبل أن تدق الطبول

الفصل الثالث : القرار والحصار

الفصل الرابع : الجزاء الأوفى

الفصل الخامس : كي لا يكون دولة بين الأغنياء

الفصل السادس : أراضي بني النضير والكيد السياسي

٣١
٣٢

الفصل الأول :

النصوص والآثار

٣٣
٣٤

تمهيد ضروري :

هناك بعض الأحداث الهامة ، والمواقف الحساسة ، التي تحمل في طياتها الكثير من العبر والعظات ، وتترك لها آثارا بارزة على منحى وعمق الفكر الإنساني ، والرسالي ، وعلى الفهم الدقيق للمسار العام في خط الرسالة ..

هذا عدا عن التأثير الظاهر لها في البنية العقائدية ، وفي اللاشعور ، والشعور الوجداني المهيمن على الموقف ، والحركة ، والسلوك للإنسان في مختلف مراحله وأدواره ، وفي كثير من أحواله وأطواره.

ولكن هذه الأحداث والمواقف بالذات ، وخصوصا ما كان منها في العهد النبوي الشريف لم تنل قسطها من البحث والتقصي من قبل العلماء وأهل الفكر بل مروا عليها ـ تقريبا ـ مرور الكرام ، فبدت : وكأنها أمور تافهة وحقيرة ، ومحدودة وصغيرة ، وخيّل إلى الكثيرين : أنها ليس فيها ما ينفع ولا ما يجدي .. فكان طبيعيا أن يبقى الكثير من جوانبها ، وحقائقها ، وظروفها وملابساتها رهن الإبهام ، والإهمال ، وكأنها ليست حقيقة ثابتة ، وإنما هي محض وهم أو خيال.

ولا نبعد كثيرا إذا قلنا : إن غزوة بني النضير كانت واحدة من هذه الأحداث ، التي لها هذه الحالة التي أشير إليها ، فهي حدث فريد ومتميز ، لا

٣٥

يقل في أهميته عن أي من الأحداث الكبرى في العهد النبوي الشريف ..

ويتضح ذلك بصورة أجلى وأتم من خلال دراستنا لكثير من النصوص والآثار التي وردت في هذه الواقعة ..

ولا أدل على ذلك من أنهم يقولون : إن سورة الحشر ـ بتمامها ـ قد نزلت في هذه المناسبة .. وهذا يبرهن على الأهمية البالغة لهذه الواقعة ، وعلى أنها كانت تمثل تحولا كبيرا وإيجابيا ، في مسيرة العمل والعاملين في سبيل الله سبحانه من جهة .. كما أنها تعتبر ـ من الجهة الأخرى ـ ضربة قاسية وقاصمة لأعداء الله ، وأعداء دينه من الكافرين ..

فقد كان اليهود ـ الذين كان بنو النضير أقواهم شوكة ، وأشدهم شكيمة ، وأعزهم عزة ـ يعيشون في قلب الدولة الإسلامية ، وحيث كان بإمكانهم الاطلاع على أدق دقائقها ، وعلى حقائق خفاياها ونواياها ، ثم الوقوف على المستوى الحقيقي والدقيق لما تملكه من قدرات وإمكانات مادية ومعنوية .. وعلى كل الواقع الذي كان قائما في داخل المجتمع الإسلامي ، سواء على مستوى العلاقات والارتباطات فيما بين فئات ذلك المجتمع ، أو سائر المجالات ، ومختلف المواقع.

كما أنهم ـ أعني اليهود ـ كانوا يملكون أذرعة ظاهرة وخفية ، ممتدة هنا وهناك ، وفي عمق المجتمع الإسلامي الجديد ، حتى على مستوى بعض القيادات فيه ، والتي كانت تساهم بشكل فعال في صنع القرار ، أو في عرقلته وتعطيله. ثم إن لليهود الهيمنة الروحية والثقافية والعلمية على الأكثرية الساحقة ، التي يفترض فيها : أن تكون القاعدة الصلبة ، والقوية ، التي تعتمد عليها تلك القيادة في تنفيذ القرار ، ، وفي فعاليته ، وقوة تأثيره ، ثم في

٣٦

الحفاظ عليه وحمايته على المدى القريب أو البعيد على حد سواء ..

هذا .. وعلينا أن لا ننسى أن اليهود كانوا يملكون قوة كبيرة في حساب الثروات والأموال ..

ويكفي أن نذكر : أنهم كانوا يملكون من (الحلي) الشيء الكثير ، قال بعضهم : إنهم كانوا يعيرونه للعرب من أهل مكة وغيرهم. وكان يكون عند آل أبي الحقيق (١).

وسيأتي في غزوة خيبر : أن آل أبي الحقيق قد قتلوا بسبب ذلك الحلي كما ذكر ذلك غيره أيضا (٢).

هذا .. بالإضافة إلى ما كان لليهود من ديون على الناس ، قد بلغت حدا جعلهم يجدون فيها حائلا دون تسهيل أمر رحيلهم ، لو لا أن تصدى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحل هذا المشكل بالصورة التي لم يبق لهم معها أي خيار ، حينما أمرهم بالوضع (أي حذف بعض المال) وبالتعجيل في الآجال (٣).

وعلينا أن لا ننسى : أن هذه الضربة القاسية والقاصمة التي تلقاها اليهود عامة ، وبنو النضير بصورة أخص ، إنما تمثل إضعافا لواحد من أهم مصادر القوة والتحدي لدى أعداء الإسلام والمسلمين ، ولا سيما بالنسبة إلى المشركين ، وكل من يتعاطف معهم من القبائل والطوائف في المنطقة العربية ، حيث خسروا واحدا من أهم حلفائهم ، وذوي القوة والنفوذ فيهم.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) الأموال ص ٢٤٢ وزاد المعاد ج ٢ ص ١٣٦.

(٣) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٤.

٣٧

وقد نجد فيما يأتي من فصول إلماحة أو أكثر إلى هذا الأمر ، وإلى غيره من أمور فرض علينا البحث التذكير بها ، والإلماح إليها.

ولذا .. فإننا سوف نكتفي هنا بهذا القدر ، ونبدأ ـ بحول الله وقوته ـ بالحديث عن غزوة بني النضير ، حسبما يتهيأ لنا في نطاق مراعاة نسق الكتاب ومستواه ، وكثير من الأمور الأخرى التي لا بد لنا من مراعاتها ، فيما يرتبط بمقتضيات البحث بصورة عامة ..

فنقول .. ومن الله نستمد الحول والقوة ، ومنه نطلب التوفيق والتسديد :

إننا نذكر في البداية نصا لهذه الغزوة ، نختاره مما هو بحوزتنا من نصوص ، وسوف يكون هذه المرة لابن كثير في سيرته ، وفي بدايته ونهايته ، مع حذف بعض ما رأينا من المناسب حذفه .. ثم نشير في نهاية النص إلى جانب من المصادر والمراجع ، التي يمكن الرجوع إليها للاطلاع على نصوص هذه الغزوة.

فنقول :

نص ابن كثير :

قال ابن كثير : عن سورة الحشر في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بني النضير.

وحكى البخاري عن الزهري ، عن عروة أنه قال : كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد.

وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن عقيل ، عن الزهري به.

وهكذا روى حنبل بن إسحاق ، عن هلال بن العلاء ، عن عبد الله بن

٣٨

جعفر الرقي ، عن مطرف بن مازن اليماني ، عن معمر ، عن الزهري ، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة اثنتين.

قال : ثم غزا بني النضير ، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.

وقال البيهقي : وقد كان الزهري يقول : هي قبل أحد.

قال : وذهب آخرون إلى أنها بعدها ، وبعد بئر معونة أيضا.

قلت : هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم ، فإنه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر ، ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولهذا قال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لقد قتلت رجلين لأدينّهما».

قال ابن إسحاق : ثم خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية ، للعهد الذي كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطاهما ، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف ، فلما أتاهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه.

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ، فقال : أنا لذلك ، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد

٣٩

القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة.

فلما استلبث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه قاموا في طلبه ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى انتهوا إليه ، فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.

قال الواقدي : فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده ، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر ، فقويت عند ذلك نفوسهم ، وحمي حيي بن أخطب ، وبعثوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنهم لا يخرجون ، ونابذوه بنقض العهود. فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.

قال الواقدي : فحاصروهم خمس عشرة ليلة.

وقال ابن إسحاق : وأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.

قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وذلك في شهر ربيع الأول.

قال ابن إسحاق : فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال ، ونزل تحريم الخمر حينئذ ، وتحصنوا في الحصون ، فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقطع النخيل والتحريق فيها ، فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه ، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟

قال : وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ، ووديعة ، ومالك ، وسويد ، وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا ،

٤٠