الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

وكانت صدقاته هذه كافية لبني هاشم جميعا (١) ، إن لم نقل إنها تكفي أمة كبيرة من الناس من غيرهم ، إذا لاحظنا أن ثلاثين درهما كانت كافية لشراء جارية للخدمة ، كما قاله معاوية لعقيل. وكان الدرهم يكفي لشراء حاجات كثيرة بسبب قلة الأموال حينئذ ، ولغير ذلك من أسباب ..

نعم .. إننا نجد عليا «عليه‌السلام» لم يلبس ثوبا جديدا ، ولم يتخذ ضيعة ، ولم يعقد على مال ، إلا ما كان بينبع ، والبغيبغة ، مما يتصدق به» (٢).

كما أنه لم يترك حين وفاته سوى سبع مائة درهم أراد أن يشتري بها خادما لأهله (٣). وقد أمر برد هذه السبع مائة درهم إلى بيت المال بعد وفاته ، كما ذكره الإمام الحسن «عليه‌السلام» في خطبته (٤) آنئذ ، وعاش ومات ، وما بنى لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة (٥).

وباع سيفه وقال : «لو كان عندي ثمن عشاء ـ أو إزار ـ ما بعته» (٦).

__________________

(١) كشف المحجة ص ١٢٤ والبحار ج ٤١ ص ٢٦.

(٢) مشاكلة الناس لزمانهم ص ١٥.

(٣) البحار ج ٤٠ ص ٣٤٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٦ وينابيع المودة ص ٢٠٨ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٦٢ والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ١٤٦ والإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ٤٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٢٠٧.

(٤) الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ١٤٦.

(٥) تهذيب الأسماء ج ٢ ص ٣٤٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٤ والمناقب للخوارزمي ص ٧٠ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٥٥ والبحار ج ٤٠ ص ٣٢٢.

(٦) كشف المحجة ص ١٢٤ وراجع : أصول مالكيت ج ٢ ص ٧٨ ـ ٩٨ عن مصادر كثيرة والبحار ج ٤١ ص ٣٢٤.

٣٠١

ويقول عنه معاوية : «والله ، لو كان له بيتان ، بيت تبن وبيت تبر لأنفذ تبره قبل تبنه» (١).

وكان مصير تلك الأراضي والأموال والأملاك ، أنه «عليه‌السلام» تصدق بها ، ووقفها على المسلمين ، ولم يبق منها شيء حين وفاته «صلوات الله وسلامه عليه» (٢) ، كما هو صريح خطبة ولده السبط حين توفي والده.

وقد قال «عليه‌السلام» : أنا الذي أهنت الدنيا (٣). وقد كان من أهم أسباب انصراف العرب عن علي «عليه‌السلام» سيرته في المال ، حيث لم يكن يحابي أحدا في هذا الأمر (٤).

وكذلك كان حال زوجته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء «عليها صلوات ربي وسلامه» ؛ فإنها لم تزل تتصدق بغلة فدك وغيرها ، وتنفق الأموال في سبيل الله سبحانه ، لتعيش هي «عليها‌السلام» حياة الزهد ، والعزوف عن الدنيا ، وعن زبارجها وبهارجها.

وحتى هذه الموقوفات والصدقات ؛ فإنها لم تسلم من الظلم والظالمين ، فقد استولى الحكام عليها ، ومنعوا من استمرار إنفاقها في سبيل الله ، ومن

__________________

(١) كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين للحلي ص ٤٧٥ وكشف الغمة ج ٢ ص ٤٧ وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق (بتحقيق المحمودي) ج ٣ ص ٥٨ و ٦٠.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٤٦ وكشف المحجة ص ١٢٦ والبحار ج ٤ ص ٣٤٠.

(٣) ترجمة الإمام علي (لابن عساكر) بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٠٢ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٣١٠ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٥.

(٤) البحار ج ٤١ ص ١٣٣ عن المعتزلي في شرح نهج البلاغة.

٣٠٢

انتفاع الفقراء والمحتاجين بها ، ولتصبح بأيدي خصماء أهل البيت من بني أمية ، الذين كانوا يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، على حد تعبير علي «عليه‌السلام» في خطبته الشقشقية المذكورة في نهج البلاغة.

الزهد .. الحرية :

وكلمة أخيرة نود تسجيلها هنا ، وهي : أن بعض الناس يرى في الزهد معنى غير واقعي ، ولا سليم.

فيرى : أن الزهد هو : أن يلبس الإنسان الخشن ، ويأكل من فضول طعام الناس ، ويتخلى عن كل شؤون الحياة ، فلا يعمل ، ولا يسعى ، ولا يكد على عياله ، ولا يملك شيئا من حطام الدنيا .. وذلك لأن عمله ، وحصوله على المال إنما يعني : أنه يحب الدنيا ، وليس ذلك من الزهد في شيء.

وإذا كان لا مال لديه ، فلا يكون مكلفا بشيء ، ولا يتحمل أية مسؤولية مالية ، لا تجاه نفسه ، ولا تجاه غيره.

ونقول :

إن هذا الفهم للزهد ، غير مقبول في الإسلام ، بل هو خطأ كبير وخطير ، فإن الحصول على المال لا ينافي الزهد ما دام يضعه في مواضعه التي يريدها الله ، فقد روي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : نعم المال الصالح للرجل الصالح (١).

فالإسلام يقول : إنك إذا استطعت أن تحصل على المال لتوظفه في قضاء

__________________

(١) جامع بيان العلم ج ٢ ص ١٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٩٧ و ٢٠٢.

٣٠٣

حاجات المؤمنين ، وليكون وسيلة لإحياء الدين ، ونشر تعاليمه ، ويكون قوة على الأعداء ، وسببا في دفع البلاء ، فإن ذلك لازم إن لم يكن واجبا شرعيا ، يعاقب الله على تركه ، وعلى عدم التقيد به ..

غاية الأمر : أنه يقول : لا يجوز أن يتحول هذا المال إلى إله يعبد ، وإلى سيد يطاع ، وإلى مالك لرقبة صاحبه ، فإنه :

«ليس الزهد أن لا تملك شيئا ، ولكن الزهد أن لا يملكك شيء».

والتعبير عن الزهد بأنه حرية وانعتاق قد ورد عنهم «عليهم الصلاة والسلام» فلتراجع كتب الحديث والرواية (١).

وهذا بالذات هو المنهج الذي سار عليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي ملك الفيء والخمس وغير ذلك ، ولكنه لم يصبح مملوكا لما ملكه .. وكذلك الحال بالنسبة إلى بضعته الصديقة الطاهرة ، وعلي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، والأئمة الطاهرين من ولده صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ..

الزهراء عليها‌السلام .. في مواجهة التحدي :

إن مطالبة علي «عليه‌السلام» بأموال بني النضير ، ومطالبة الزهراء «عليها‌السلام» بفدك ، وبسهمها بخيبر ، وبسهمها من الخمس ، وبإرثها أيضا من أبيها الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإصرارها على تحدي السلطة في إجراءاتها الظالمة ثم مغاضبتها للغاصبين حتى توفيت ، حيث أوصت أن تدفن ليلا ـ إن ذلك كله ـ لا يمكن تفسيره على أنه رغبة في حطام الدنيا ، وحب

__________________

(١) راجع : ميزان الحكمة ج ٤ ص ٢٦٣ عن غرر الحكم.

٣٠٤

للحصول على المال .. فإن حياتها وهي الصديقة الطاهرة ، والزاهدة ، والفانية في الله ، حتى إنها كانت تقوم الليل حتى تورمت قدماها ..

وكذلك ما شاع وذاع حول كيفية تعاملها مع الأموال التي كانت تحصل عليها من فدك وغيرها ، وكيف كانت تصرفها ـ إن ذلك ـ لخير دليل على ما نقول ، وأوضح شاهد عليه.

وهذا بالذات هو ما يجعلنا نتساءل عن السر الكامن وراء تلك المطالبة ، وذلك الإصرار. ولعلنا نستطيع أن نفسر ذلك بما يلي :

١ ـ إن نفس الانتصار للحق ، وتأكيده ، ورفض الباطل وإدانته أمر مهم ومطلوب ومحبوب ، وهو من القيم والمثل التي لا بد من الالتزام بها والتأكيد عليها ، في مختلف الظروف والأحوال.

٢ ـ إن في موقف فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» في وقت لا يزال فيه الإسلام طري العود ، ويمكن أن يصبح فيه السكوت على الانحراف سببا في قبول الناس له على أنه أمر لا يتنافى مع أحكام الشرع والدين ـ إن في هذا الموقف ـ حفاظا على مبادئ الإسلام ، وعلى قوانينه وأحكامه ، وصيانة له عن الفهم الخاطئ وعن التحريف ..

٣ ـ إن فاطمة «عليها‌السلام» بموقفها هذا قد أفهمت كل أحد : أنه لا بد من قول الحق ، وإطلاق كلمة «لا» في وجه الحاكم ، وأنه ليس في منأى عن الحساب والعتاب والعقاب ، وأن الانحراف مرفوض من كل أحد حتى من الحاكم ، وليس هو فوق القانون ، بل هو حام للقانون ، ومدافع عنه ، وأن سلطته وحكمه ليس امتيازا له يصول به على الآخرين ، ويستطيل به عليهم ، وإنما هو مسؤولية ، لا بد أن يطالب هو قبل كل أحد بالقيام بها ،

٣٠٥

وبالالتزام بما يفرض الشرع عليه الالتزام به في نطاقها ..

٤ ـ إن الاعتراض حيث لا بد منه حتى على الحاكم ، مهما كان قويا وعاتيا ، هو مسؤولية كل أحد حتى النساء بالمقدار الذي يمكن ، ولا يختص ذلك بالرجال.

٥ ـ إن التصدي للمطالبة بالحق وتسجيل الموقف ، لا يجب أن ينحصر في صورة العلم بإمكان الحصول على ذلك الحق ، أو احتمال ذلك. بل إن ذلك قد يجب حتى مع العلم بعدم إمكان الحصول على شيء. فإن فاطمة «عليها‌السلام» كانت تعلم بأن مطالبتها لن تجدي شيئا في إرجاع ما اغتصب منها إليها ، ولكنها مع ذلك قد سجلت موقفا حاسما وأدانت الانحراف ، وتصدت له ، وماتت وهي مهاجرة وغاضبة على أولئك الذين أخذوا حقها ، واستأثروا به دونها.

وحتى حين طلب منها أمير المؤمنين أن تستقبلهما ، فإنها لم تجب بالقبول ، بل قالت له «عليه‌السلام» : البيت بيتك ، والحرة زوجتك ، افعل ما تشاء.

فدخلا عليها ، وحاولا استرضاءها وبكيا لديها ، ولكنها فضحت خطتهما ، وأوضحت لهما ، من خلال حملها إياهما على الإقرار بأنهما قد أغضباها ، وبأن الله يغضب لغضبها ، ويرضى لرضاها ـ أوضحت لهما : أنها لا تزال غاضبة ساخطة عليهما (١) ، لا سيما وأنهما ما زالا يصران على غصبها

__________________

(١) البحار ج ٤٣ ص ١٩٨ و ١٩٩ وكتاب سليم بن قيس ص ٢١١ و ٢١٢ وراجع : كنز العمال ج ٥ ص ٣٥١ و ٣٥٢ والغدير ج ٧ ص ٢٢٨ و ٢٢٩ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٤ وأعلام النساء ج ٤ ص ١٢٤ وعن رسائل الجاحظ ص ٣٠٠.

٣٠٦

حقها ، ومنعها إرثها ، وسائر أموالها.

وذلك لأنها عرفت أن بكاءهما وخضوعهما لها إنما يرمي إلى التأثير عليها عاطفيا ، من دون تقديم أي تراجع عن موقفهما السابق ، أو تقديم أي اعتذار مقبول عنه.

ومعنى ذلك هو : أنهما قد أرادا من وراء استرضائهما إياها «عليها‌السلام» ، هو أن يصبح بإمكانهما دعوى : أن فاطمة قد رضيت ، وطابت نفسها ، بل وأقرتهما على ما فعلاه وسلمت لهما بما ادعياه.

ولكن وصيتها بأن تدفن ليلا ، ثم تنفيذ هذه الوصية من قبل أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» قد فوت الفرصة على كل دعوى ، وسد السبيل أمام أي تزوير.

فلم يبق أمام أولئك الذين يقدسون هؤلاء الغاصبين ويؤيدونهم إلا الإعلان بالخلاف ، والإصرار على الباطل. بل إن بعضهم لم يستطع إخفاء ما يجنه من حقد وضغينة ، فجاهر بالطعن ، والانتقاص ، والنيل من مقامها ، وحاول ـ ما أمكنه ـ تصغير عظيم منزلتها ..

فأنكر بعضهم كونها واجبة العصمة (١) لأجل ذلك ، رغم أن الكتاب العزيز قد نص على طهارتها ، وعلى أنها بريئة من أي رجس أو رين .. كما أن الحديث المتواتر عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حول أن الله يغضب لغضبها (٢) يدل على عصمتها كذلك.

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٩ وراجع : ج ٤ ص ٢٠٣.

(٢) تقدمت مصادر كثيرة لهذا النص في الجزء الخامس من هذا الكتاب ، في فصل :

٣٠٧

لماذا لم يسترجع علي عليه‌السلام ما اغتصب؟!

وأما لماذا لم يسترجع علي «عليه الصلاة والسلام» فدكا وغيرها مما اغتصب منهم «عليهم‌السلام» ، مع أنه كان قادرا على ذلك أيام خلافته ..

فقد ذكرت الروايات الواردة عن الأئمة «عليهم‌السلام» الأسباب التالية :

١ ـ إن الظالم والمظلوم كانا قد قدما على الله عزوجل ، وأثاب الله المظلوم ، وعاقب الظالم ؛ فكره أن يسترجع شيئا قد عاقب الله عليه غاصبه ، وأثاب عليه المغصوب (عن الإمام الصادق «عليه‌السلام») (١).

٢ ـ للاقتداء برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره ؛ فقيل له : يا رسول الله ، ألا ترجع إلى دارك؟ .. فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وهل ترك عقيل لنا دارا ، إنّا أهل بيت لا نسترجع شيئا يؤخذ منا ظلما ؛ فلذلك لم يسترجع فدكا لما ولي (عن الإمام الصادق «عليه‌السلام») (٢).

٣ ـ لأنّا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو (يعني : إلا الله) ، ونحن أولياء المؤمنين ، إنما نحكم لهم ، ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ، ولا نأخذ لأنفسنا (عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام») (٣).

__________________

سرايا وغزوات قبل بدر ، حين الحديث حول تكنية علي بأبي تراب ، والافتراء عليه بإغضابه لفاطمة «عليها‌السلام».

(١) الطرائف : ص ٢٥١ وعلل الشرائع ص ١٥٤ و ١٥٥.

(٢) الطرائف : ص ٢٥١ وعلل الشرائع ص ١٥٥ والمناقب لابن شهراشوب ج ١ ص ٢٧٠.

(٣) الطرائف : ص ٢٥١ و ٢٥٢ وعلل الشرائع ص ١٥٥.

٣٠٨

الباب السادس

حتى الخندق

الفصل الأول : غزوة ذات الرقاع .. تاريخ وأحداث

الفصل الثاني : حدث وتشريع

الفصل الثالث : عظات وكرامات أو سياسات إلهية

الفصل الرابع : بدر الموعد

٣٠٩
٣١٠

الفصل الأول :

غزوة ذات الرقاع .. تاريخ وأحداث

٣١١
٣١٢

بداية :

قد اتضح من كل ما ذكرناه في كتابنا هذا : أن جل إن لم يكن كل ما يذكره المؤرخون والمحدثون من نصوص وآثار يحتاج إلى تمحيص وتحقيق وفق المعايير الصحيحة التي تستطيع أن تقرب إلى ما هو الواقع والصحيح.

وليست النصوص التي نقلت لنا أحداث غزوة ذات الرقاع مستثناة من هذه الظاهرة. ولأجل ذلك ، فنحن نورد منها بعض نصوصها ، ثم نختار بعضه لنركز الأضواء عليه ، بهدف إعطاء صورة متقاربة الملامح عن الواقع والحقيقة ، حسبما يتيسر لنا في هذا الظرف ، فنقول :

الرصد الدقيق :

إن من الأمور الواضحة : أن ليقظة القائد الفذ ، وتنبهه للأمور ، ورصدها بدقة ووعي ، ثم قدرته على استشفاف المستقبل واستشرافه ، دورا كبيرا في إحكام الأمور ، وفي ترسيخ قواعد الحكم والحاكمية ، ثم في إبعاد الأخطار عن المجتمع الذي يرعاه ، وحسن تدبير شؤونه ؛ وسلامة التحرك في نطاق تصريف الأمور على النحو الأفضل والأمثل.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نتفهم بعمق ما نشهده من مبادرات متكررة للرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لضرب أي تجمع أو تحرك

٣١٣

ضد المسلمين ، قبل أن يشتد عوده ، ولا يعطيه أية فرصة ليتماسك ، ويقوى ؛ ويستفحل أمره.

وذلك لأن الانتظار إلى أن تحتشد جموع الأعداء معناه أن يواجه المسلمون صعوبات كبيرة وربما خطيرة للتخلص من شرهم ، وتفويت الفرصة عليهم.

وهذا ما يفسر لنا ما نجده من رصد دقيق من قبل المسلمين لكل القوى المعادية التي كانت معنية بالوجود الإسلامي في بلاد الحجاز ..

ثم نعرف سر السرعة التي كان يظهرها المسلمون في ردة الفعل ، والمبادرة إلى حسم الموقف بقوة وحزم ، بمجرد تلقيهم أي نبأ يشير إلى وجود حشود ، أو استعدادات أو حتى تآمر وتخطيط يستهدفهم.

فيبادرون إلى إرسال السرايا ، وتنظيم الغزوات ضد أعدائهم من مجرمين ومتآمرين ، ثم تكون النتيجة في أغلب الأحيان هي فرار القوى المعادية ، وتفرقهم قبل الأشتباك معهم ، أو إثر مناوشات يسيرة ، تكون الخسائر فيها معدومة أو تكاد ، بل واتفق أن ظفر المسلمون بجميع أعدائهم فقتل من قتل منهم ، وأسر الباقون ..

نتائج وآثار :

وقد نتج عن ذلك :

١ ـ إن أولئك الأعراب الجفاة ، الذين مردوا على شن الغارات ، وقطع الطرق ، قد أصبحوا يعيشون حالة الرعب والخوف من المسلمين إلى درجة كبيرة. وكانوا إذا تناهى إليهم ما يشير إلى تحرك المسلمين باتجاهم ، فإنهم لا

٣١٤

يجرؤون على الظهور بمظهر التحدي ، ولا يتخذون قرارا بالهجوم ، أو التصدي للدفاع ، وإنما يقررون الفرار إلى رؤوس الجبال ، والتمنع فيها ، أو التخفي في أي من المسارب والمهارب ، حتى ولو أدى ذلك إلى استيلاء المسلمين على أموالهم ، ومواشيهم ، وحتى على نسائهم وأولادهم أحيانا.

٢ ـ أضف إلى ذلك : أن ذلك قد هيأ الجو للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليعقد تحالفات كثيرة مع كثير من القبائل في ذلك المحيط. وقد نتج عن ذلك ، وعن الجهد الذي بذله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لرد كيد أعدائهم وإفشال مخططاتهم ، بواسطة ما أرسله من سرايا وغزوات. أن تأكدت قوة المسلمين ، وظهرت شوكتهم ، وعرف الناس كلهم مدى تصميمهم على تحقيق أهدافهم ، ومواصلة طريقهم الرامي إلى نشر هذا الدين ، والدفاع عنه ، وبذل كل غال ونفيس في سبيله.

وقد كان من الطبيعي أن ينزعج المكيون لذلك ، وأن يضايقهم ، ويفقدهم كثيرا من الامتيازات السياسية والعسكرية وغيرها. كما أنه يحد إلى حد بعيد من حريتهم في التحرك لعقد تحالفات واسعة ومؤثرة ضد المسلمين ، ما دام أن الكثيرين من سكان المنطقة لن يجرؤوا على عمل من هذا القبيل بسبب هزيمتهم النفسية حسبما تقدم.

٣ ـ كما أن ذلك قد هيأ للمسلمين أجواء ومناخات مريحة إلى حد ما استطاعوا فيها مضاعفة نشاطهم الإعلامي ، وكان ذلك سببا في انتشار دعوتهم ، وبعد صيتها ، حتى أصبحت الحديث اليومي للصغير والكبير في مختلف البلاد ، والعباد. وترسخت هذه الدعوة وامتدت جذورها باطراد ، واطمأن كثير من الناس إليها ، وعولوا عليها. وتلمسوا فيها كل المعاني

٣١٥

الخيرة والنبيلة ، الموافقة لما تحكم به عقولهم ، وتقضي به فطرتهم. وقد ساعد على ذلك ما ظهر لهم من قوة المسلمين ، بعد أن بسطوا هيبتهم على المنطقة بأسرها.

غزوة ذات الرقاع :

يذكر المؤرخون : أن قادما قدم المدينة بجلب له ، فأخبر أن أنمارا ، وثعلبة ، وغطفان قد جمعوا جموعا بقصد غزو المسلمين. فلما بلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك استخلف على المدينة عثمان بن عفان ، أو أبا ذر الغفاري ، وخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربع مئة رجل. (وقيل : في سبع مئة (١) وقيل في ثمان مئة) (٢) ، حتى أتى وادي الشقرة. فأقام بها يوما ، وبث السرايا ، فرجعوا إليه مع الليل ؛ وأخبروه : أنهم لم يروا أحدا.

ثم سار «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأصحابه حتى أتى محالهم ؛ فلما عاينوا عسكره ، ولوا عن المسلمين ، وكرهوا لقاءهم ، فتسنموا الجبل ، وتعلقوا في

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٠ وسيرة مغلطاي ص ٥٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٦١ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٣ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٢٧١.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٠ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٤.

٣١٦

قلته ، ولحق بعضهم ببطون الأودية.

ولم يبق إلا نسوة ، فجاء «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخذهن ، وفيهن جارية وضيئة.

ولم يكن قتال (١).

ثم قفل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نحو المدينة ، وبعث جعال بن سراقة إلى المدينة مبشرا بسلامته ، وسلامة المسلمين (٢).

وقدم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صرارا يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم.

وصرار موضع على ثلاثة أميال من المدينة ، وهي بئر جاهلية على طريق

__________________

(١) راجع تفصيل غزوة ذات الرقاع أو إجماله في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٠ والسيرة النبوية لزيني دحلان ج ١ ص ٢٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧١ وسيرة مغلطاي ص ٥٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٢٧١ وحياة محمد لهيكل ص ٢٨١ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ والوفاء ص ٦٩١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٤ والثقات ج ١ ص ٢٥٧ و ٢٥٨ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٦ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٤ و ٢١٥ والمغازي للذهبي ص ٢٠١ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٥ و ٣٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٠ و ١٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٣ ونهاية الإرب ج ١٧ ص ١٥٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦١ ونهاية الإرب ج ١٧ ص ١٦٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ قال : «وهو الذي تمثل به إبليس لعنه الله يوم أحد ، حين نادى : إن محمدا قد قتل».

٣١٧

العراق (١).

وكانت هذه الغزوة بأرض غطفان من نجد.

وكانت غيبته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تلك الغزوة خمس عشرة ليلة (٢).

نقاط لا بد من بحثها :

أما النقاط التي لا بد من بحثها في هذا الفصل ، فهي التالية :

١ ـ سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع.

٢ ـ تاريخ هذه الغزوة ، ولسوف نثبت : أن الصحيح هو أنها قد كانت بعد غزوة الحديبية.

٣ ـ ثم نشير بعد ذلك إلى ما يحاول أن يدعيه البعض من أن غزوة ذات الرقاع لم تكن واحدة بل هناك غزوتان كل منهما تحمل هذا الاسم.

٤ ـ وبعد ذلك يأتي كلام حول أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حينما خرج إلى ذات الرقاع قد جعل أبا ذر واليا على المدينة.

٥ ـ ثم نذكر قصة يقال : إنها جرت لعباد بن بشر وعمار بن ياسر ، حينما

__________________

(١) راجع : طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦١ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٥ ونهاية الإرب ج ١٧ ص ١٦٢ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٧١.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وسيرة مغلطاي ص ٥٤. والتنبيه والأشراف ص ٢١٤ ونهاية الإرب ج ١٧ ص ١٦٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٧١ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٧ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٦١.

٣١٨

كانا يحرسان المسلمين في موضع نزلوه وهم راجعون. مع تعليق تحليلي على الحدث.

٦ ـ ولا ننسى أن نذكر قصة غورث بن الحارث ، وشكوكنا حولها ومبررات هذه الشكوك ، ثم نورد القصة الأقرب إلى القبول في هذا المجال ، مع تعليق تحليلي حولها.

ونرجئ الحديث عن بقية النقاط المرتبطة بهذه الغزوة إلى فصل لاحق.

فنحن وفقا لهذا الذي ذكرناه نقول :

التسمية بذات الرقاع :

قد اختلفت كلمات المؤرخين في سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع.

ونحن نجمل الأقوال في ذلك على النحو التالي :

١ ـ سميت بذات الرقاع : لأنه لم يكن في تلك الغزوة ما يكفي لركوبهم في سيرهم إليها ، فنقبت أقدامهم من الحفاء ، فلفوا عليها الخرق ، وهي الرقاع ، كما في البخاري وغيره.

٢ ـ سميت بذلك لأن المسلمين رقعوا راياتهم فيها.

٣ ـ أو لأن الصلاة قد رقعت فيها ، لوقوع صلاة الخوف فيها ، قاله الداودي.

٤ ـ أو لأجل شجرة كانت هناك يقال لها ذات الرقاع.

٥ ـ أو لأجل جبل هناك اسمه الرقاع ؛ لأن فيه بياضا ، وسوادا ، وحمرة ، ويقع قريبا من النخيل ، بين السعد والشقرة.

٦ ـ أو لأجل أن الخيل كان فيها سواد وبياض ، كما قاله ابن حبان ، مع

٣١٩

احتمال أن يكون ابن حبان قد صحف كلمة «جبل» فقرأها «خيل» كما ذكره البعض (١).

٧ ـ أو لأجل كل الأمور السابقة (٢).

وتحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، وإن كنا نستبعد بعض ما ذكر كالقول الثالث لما سيأتي من أن صلاة الخوف قد صليت في غزوات أخرى قبل أو بعد هذه الغزوة ، فلا وجه لاختصاص هذه الغزوة بهذه التسمية لأجل ذلك.

كما ونستبعد القول الثاني أيضا بالإضافة إلى أقوال أخرى. وتسمى هذه

__________________

(١) راجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٢٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٦.

(٢) راجع هذه الأقوال أو بعضها في المصادر التالية : سيرة مغلطاي ص ٥٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠٠ و ٢٠١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٤ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٣ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٥. والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٢ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٢٣ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٨ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ١٩٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٧١ و ٣٧٢. والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٤ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٣ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٦ و ٣٥٧ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٦١ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ و ٢٩ والوفا ص ٦٩١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٧ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٣٤ والثقات ج ١ ص ٢٥٨ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ وإعلام الورى ص ٨٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٧٦.

٣٢٠