السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٠
الأنصار ، رغم وجود الخصاصة في الأنصار ، إنما كان لمصالح اقتضت التخصيص منه «صلىاللهعليهوآله». ولا حرج على النبي أو الإمام في أن يلاحظ المصالح ، ويقدم قوما على قوم ، ويعطي هؤلاء ، ويحرم أولئك ، لأجل تلك المصالح المقتضية لذلك ، ولا يجب عليه أن يساوي بين الناس دائما ، فإن المساواة ليست مطلوبة على كل حال ، وإنما هي مطلوبة حيث لا مصلحة في الترجيح ، وحيث لا توجب تعميق الهوة بين الفئات التي يراد المساواة بينها.
إذا ، فلا معنى لاستغلال هذا الأمر للدعاية ضد نبي الإسلام ، واتهامه بالتحيّز والتجني ، ولا سيما إذا علمنا أن ما يقسمه إنما هو حقه الشخصي ، وهو حر في أن يجعل ما يختص به لمن يشاء ، كيف يشاء.
الخامس : لا بد من التذكير أخيرا بأن آية الفيء هنا كآية الخمس في سورة الأنفال ، قد ذكرت أصنافا ستة : ثلاثة منهم من قسم الواجب ، وهم : سهم الله ، وسهم الرسول ، وسهم ذوي القربى ، وثلاثة لا يجب ذلك فيهم ، وهم اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ..
لما ذا اختص ذوو القربى بالخمس والفيء؟
ومن الغريب العجيب أن البعض بعد أن ذكر : أن المراد بذوي القربى في الآية التي في سورة الحشر ، وفي آية الخمس هم قرابة رسول الله ، قد علل البعض اختصاصهم بالفيء والخمس بقوله : «إن كانت الصدقات لا تحل لهم فليس لهم في الزكاة نصيب ، وإن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء ، وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم ، فجعل لهم من خمس
الغنائم نصيبا ، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا» (١).
إذا فهذا البعض يرى : أن فقر الفقراء منهم ، وحرمانهم من الإرث والزكاة كان هو السبب في ذلك!!
ونقول : إن كلامه غير صحيح ، وذلك لما يلي :
١ ـ لقد علق هو نفسه في هامش كتابه على كلمة «الفقراء» بقوله : «هناك خلاف فقهي ، هل الفقراء من قرابة الرسول هم المستحقون؟! أم جميعهم ، والراجح جميعهم» (٢).
ومعنى ذلك هو : أن فقرهم ليس هو سبب إعطائهم ، إذ ليس ثمة خصوصية للفقراء منهم تقتضي ترجيحهم على سائر الفقراء ، وإنما السبب في الترجيح هو ـ فقط ـ قرابتهم من رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
٢ ـ لا ندري كيف حرمهم الله هذا المقدار القليل من إرث النبي «صلىاللهعليهوآله» ثم عوّضهم هذه الأموال الهائلة والطائلة ، التي تحصل من الفيء والغنائم!! ..
٣ ـ ثم إننا لا ندري كيف يحرم شخص واحد وهو الزهراء صلوات الله عليها ، ثم يعوض جميع قرابة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حتى من لم يكن في طبقتها في الإرث ، بل وحتى جميع بني هاشم ، ولو لم يكونوا من أولاده «صلىاللهعليهوآله» ولا من وراثه!!
بل لقد نال هذا التعويض جميع بني هاشم إلى يوم القيامة.
__________________
(١) في ظلال القرآن ج ٦ ص ٣٥٢٤.
(٢) المصدر السابق.
وما كان أحراه أن يكون لو أنه كان ذلك قد جاء على سبيل الإهتمام بأمور الفقراء والضعفاء من سائر الناس ، فيورّث فاطمة «عليهاالسلام» ، ثم يتعامل مع جميع بني هاشم على أنهم بعض من غيرهم ، فلا يحرمهم من ذاك ليعطيهم من هذا أكثر مما يستحقون ، وأضعاف ما به كانوا يطالبون.
أليس في ذلك تضييع لحقوق الكثيرين من الفقراء من غيرهم؟!
حاشاه أن يصدر ذلك منه ، أو أن يفكر فيه.
٤ ـ هذا كله عدا عن أن حديث : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، والذي تفرد بروايته الخليفة الأول أبو بكر!! قد أثبت العلماء بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة عدم صحته. وقد رد علي وفاطمة «عليهماالسلام» وكثير غيرهما روايته كما ذكرته الروايات الكثيرة وليس ههنا محل بحث هذا الأمر فمن أراد ذلك ، فليراجع كتب العقائد.
الفصل السادس :
أراضي بني النضير والكيد السياسي
الغاصبون :
وتذكر المصادر : أن السلطة قد استولت على باقي أموال بني النضير ، التي احتفظ بها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يقسمها بين أصحابه ، وقد طالب بها أهل البيت «عليهمالسلام» فمنعوا منها ثم إن عمر بن الخطاب قد ردها إليهم ، بعد سنين من توليه الحكم.
ولكن حكاية مطالبة أهل بيت النبوة «عليهمالسلام» للخليفة الثاني بإرجاعها إليهم ، قد تعرضت للدس والتشويه بصورة بشعة ومخجلة.
ونحن نذكر نص الرواية هنا أولا ، ثم نشير إلى بعض وجوه التشويه فيها ، وإن كانت واضحة وظاهرة لكل أحد.
نص الرواية :
يقول النص التاريخي ، وهو الذي ذكره مسلم بن الحجاج في صحيحه : «حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي ، حدثنا جويرية : عن مالك ، عن الزهري : أن مالك بن أوس حدثه قال : أرسل إليّ عمر بن الخطاب ؛ فجئته حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالسا على سرير ، مفضيا إلى رماله ، متكئا على وسادة من أدم ، فقال لي : يا مالك ، إنه قد دف أهل أبيات من قومك ، وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم.
قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري.
قال : خذه يا مالك.
قال : فجاء يرفأ ، فقال : هل لك ـ يا أمير المؤمنين ـ في عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد؟
فقال عمر : نعم ، فأذن لهم ؛ فدخلوا.
ثم جاء فقال : هل لك في عباس ، وعلي؟
قال : نعم ، فأذن لهما.
فقال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم ، الغادر الخائن!
فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين ، فاقض بينهم وأرحهم.
(فقال مالك بن أوس : يخيل إلي : أنهم قد كانوا قدموهم لذلك).
فقال عمر : اتّئدا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة؟
قالوا : نعم ، ثم أقبل على العباس ، وعلي ، فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة؟
قالا : نعم.
فقال عمر : إن الله جل وعز كان خص رسوله «صلىاللهعليهوآله» بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره ، قال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ..) (١) (ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا) ، قال : فقسم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بينكم أموال بني النضير فو الله ، ما استأثر عليكم ، ولا أخذها دونكم ، حتى بقي هذا المال ؛ فكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يأخذ منه نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال.
ثم قال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون ذلك؟
قالوا : نعم. ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم : أتعلمان ذلك؟
قالا : نعم.
قال : فلما توفي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : ما نورث ما تركنا صدقة ؛ فرأيتماه كاذبا آثما ، غادرا ، خائنا ، والله يعلم : إنه لصادق بار ، راشد ، تابع للحق.
ثم توفي أبو بكر ، وأنا ولي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذبا ، آثما ، غادرا ، خائنا ، والله يعلم : إني لصادق بار ، راشد ، تابع للحق ، فوليتها ، ثم جئتني أنت وهذا ، وأنتما جميع ، وأمركما واحد ، فقلتما : ادفعها إلينا.
فقلت : إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله : أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخذتماها بذلك.
__________________
(١) الآية ٧ من سورة الحشر.
قال : أكذلك؟!
قالا : نعم.
قال : ثم جئتماني لأقضي بينكما ؛ فو الله ، لا أقضي بينكما بغير ذلك ، حتى تقوم الساعة ؛ فإن عجزتما عنها ؛ فرداها إلي (١).
زاد في نص آخر قوله : فغلب علي عباسا عليها ، منعه إياها ، فكانت بيد علي ، ثم كانت بيد الحسن ، ثم كانت بيد الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم
__________________
(١) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٥١ ـ ١٥٣ وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ١٦ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣ وراجع ص ٢٢٩ وراجع : جامع البيان ج ٢٨ ص ٢٦ و ٢٧ وتاريخ المدينة ج ١ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٤ وراجع ص ٢٠٥ و ٢٠٦ و ٢٠٨ و ٢٠٩ والصواعق المحرقة ص ٣٥ و ٣٦ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١١ وراجع : ج ٢ ص ١٢١ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٩٦ ـ ٩٩٨ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٦٩ ـ ٤٧١ وسنن أبي داود ج ٣ ص ١٣٩ و ١٤٠. وراجع ص ١٤٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٣ وج ٥ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٨٦ وعمدة القاري ج ١٤ ص ١٨٥ ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٣٦ ـ ١٤٠ و ١٣٢ و ١٣٤ والجامع الصحيح للترمذي ج ٤ ص ١٥٨. والأموال ص ١٧ و ١٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٥ و ٣٣٦ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ و ٢٤٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١١ وسنن النسائي ج ٧ ص ١٣٦ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٠٨ و ٢٠٩ و ٦٠ وأشار إلى ذلك في الصفحات التالية : ٢٥ و ٤٨ و ٤٩ و ١٦٢ و ١٦٤ و ١٧٩ و ١٩١ وكنز العمال ج ٧ ص ١٦٧ و ١٦٨ عن بعض من تقدم وعن : البيهقي وعبد بن حميد ، وابن حبان ، وابن مردويه والدر المنثور ج ٦ ص ١٩٣ عمن تقدم وراجع : تلخيص الشافي ج ٣ ص ١٣٨ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٤٠٣.
الحسن بن الحسن ، ثم زيد بن الحسن.
زاد في نص آخر : ثم عبد الله بن الحسن بن الحسن (١).
قال الزهري : حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه ، قال : فذكرت ذلك لعروة ، فقال : صدق مالك بن أوس ، أنا سمعت عائشة تقول : أرسل أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» عثمان بن عفان إلى أبي بكر ، يسأل لهن ميراثهن من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مما أفاء الله عليه ، حتى كنت أردهن عن ذلك.
فقلت : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كان يقول : «لا نورث ما تركناه صدقة ـ يريد بذلك نفسه ـ إنما يأكل آل محمد من هذا المال».
فانتهى أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى ما أمرتهن به (٢).
__________________
(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢٩ والطرائف ص ٢٨٣ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٧١ وراجع : صحيح مسلم ج ٥ ص ١٥٥ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٩٨ والصواعق المحرقة ص ٣٦ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١١ وتاريخ المدينة ج ١ ص ٢٠٢ و ٢٠٥ وراجع ص ٢٠٧ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٣ و ٢٠٤ وج ٥ ص ٢٨٨ وفتح الباري ج ٦ ص ١٤٥ والتراتب الإدارية ج ١ ص ٤٠٢.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢٣ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٢ وأنساب الأشراف ج ١ (قسم حياة النبي «صلىاللهعليهوآله») ص ٥٢٠ وراجع : صحيح مسلم ج ٥ ص ١٥٣ لكن فيه : أنهن أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ، فيسألنه ميراثهن الخ .. ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٤٥ وراجع ص ١٤٣ وطبقات ابن
قال ابن كثير : «ثم إن عليا والعباس استمرا على ما كانا عليه ، ينظران فيها جميعا إلى زمان عثمان بن عفان ؛ فغلبه عليها علي ، وتركها له العباس ؛ بإشارة ابنه عبد الله (رض) بين يدي عثمان ـ كما رواه أحمد في مسنده ـ فاستمرت في أيدي العلويين» (١).
ونقول :
إننا وإن كنا لا نستبعد أن يكون علي «عليهالسلام» والعباس «رحمهالله» قد طالبا عمر بن الخطاب بأراضي بني النضير ، ولكننا نرى : أن حكاية هذه القضية بالشكل الآنف الذكر ، لا ريب في كونها مكذوبة ومصنوعة ، بهدف تبرئة ساحة الهيئة الحاكمة فيما أقدمت عليه من مصادرة أموال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فور وفاته ، وحرمان ابنته «عليهاالسلام» من إرثه.
ولكن مخترعها ، أو فقل الذي حرفها ، وصاغها بهذا الشكل ، لم يكن ذكيا بالقدر الكافي ، ولا له معرفة تؤهله للاحتراس من المؤاخذات الظاهرة والواضحة ؛ تاريخية كانت ، أو تفسيرية ، أو شرعية ، أو غيرها كما سنرى.
والأبدع من ذلك!! : أننا نجد الرواية قد ذكرت في كتب الصحاح ، التي هي أصح الكتب ـ عند أصحابها ـ بعد القرآن .. فكيف خفي أمرها
__________________
سعد ج ٢ ص ٣١٥ وتاريخ المدينة ج ١ ص ٢٠١ و ٢٠٥ و ٢٠٧ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٤٧١ و ٤٧٢ والصواعق المحرقة ص ٣٦ وراجع : تلخيص الشافي ج ٣ ص ١٥٠ والموطأ مطبوع بهامش تنوير الحوالك ج ٣ ص ١٥٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٣ وج ٥ ص ٢٨٨ وفتوح البلدان ج ٤ ص ٣٤ ومعجم البلدان ج ٤ ص ٢٣٩ والإيضاح لابن شاذان ص ٢٥٧ ـ ٢٦٢ وراجع هوامشه.
(١) السيرة النبوية ج ٤ ص ٥٧٣ والبداية ج ٥ ص ٢٨٨.
على مؤلفي هذه الكتب ، وهم الأئمة الكبار والعارفون ، والضليعون في فنّهم ، حسبما يصفهم به أتباعهم ومحبوهم ، والآخذون عنهم؟
وقبل أن نشير إلى نقاط الضعف التي في هذه الرواية نذكر القارئ الكريم بأن ما سوف نذكره من نقاط ـ وإن كان أكثره قد خطر في بالنا ـ ولكنه أيضا مما قد تنبه له الآخرون ، ولذا فإننا سوف نشير إلى هؤلاء الذين سبقونا إلى ذلك ، ناسبين الكلام إليهم ، بل ومعتمدين في أحيان كثيرة في صياغة العبارة عليهم .. فنقول :
المؤاخذات التي لا محيص عنها :
وبعد .. فإنه يرد على الرواية المتقدمة :
أولا : أن رواية مسلم تذكر : أن العباس ، قال لعمر : «اقض بيني وبين هذا الآثم الغادر الخائن». وهذا مما لا يتصور صدوره من العباس ؛ إذ كيف ينسب هذه الأوصاف إلى من اعتبرته آيه المباهلة نفس النبي الأمين «صلىاللهعليهوآله» ، ولمن شهد الله سبحانه له بالطهارة ، وكيف يسبه ، وقد علم أن من سبه سب الله ورسوله؟
فلا بد أن يكون هذا القول مكذوبا على العباس من المنافقين الذين يريدون سب الإمام الحق ، على لسان غيرهم (١).
ونشير هنا إلى ما يلي :
ألف : «استصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا
__________________
(١) دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٣٣.
الحديث وقال : لعل بعض الرواة وهم فيها» (١).
فالمازري إذا يؤيد ويستصوب تحريف النصوص ، وذلك من أجل الحفاظ على ماء الوجه ، أمام الحقائق التاريخية الدامغة ؛ فإنهم حينما رأوا : أن كذبها صريح إلى درجة الفضيحة ، ورأوا : أنها موجودة في صحاحهم ، وتلك فضيحة أخرى أدهى وأمر ـ نعم حينما رأوا ذلك ـ التجأوا إلى هذا الأسلوب الساقط والرذل ، ألا وهو التحريف والإسقاط ، كما اعترف به المازري واستصوبه ..
وهذا الأسلوب لا يزال متبعا عند خلف هؤلاء القوم ، فنجد الوهابيين يحرفون كتب علمائهم ، وغيرها ، وكذلك غيرهم من أولئك الذين يخونون دينهم وأمتهم ، بخيانتهم أماناتهم (٢).
ب : قال العسقلاني : إن المازري قال : «أجود ما تحمل عليه : أن العباس قالها دلالا على علي ؛ لأنه كان عنده بمنزلة الولد ؛ فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه ، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد.
قال : ولا بد من هذا التأويل ، لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ، ومن ذكر معه ، ولم يصدر منهم إنكار لذلك ، مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر» (٣).
ونقول للمازري : مرحبا وأهلا بهذا الدلال الوقح والمشين! فهل كل
__________________
(١) فتح الباري ج ٦ ص ١٤٣.
(٢) راجع كتابنا : دراسات وبحوث في التأريخ والإسلام ج ١ ، البحث الأول ، ففيه بعض النماذج من ذلك.
(٣) فتح الباري ج ٦ ص ١٤٣.
من كان بمنزلة الوالد يحق له أن يسب الناس ، ويتهمهم بالغدر ، والخيانة ، والإثم؟!.
وأيضا .. فإن رواية البخاري تقول : إنهما قد استبا (١) ، فهل سب علي «عليهالسلام» للعباس كان دلالا أيضا؟ وهل كان علي بمنزلة الوالد بالنسبة للعباس؟!.
وهل كان هذا الدلال مما جرت عليه عادة العرب؟!.
وهل يصح الردع عن الخطأ بهذا الأسلوب الفاحش والبذيء؟!.
ثم إننا لم نعلم ما الذي فعله علي «عليهالسلام» بأرض بني النضير حتى استحق الوصف بالغدر والخيانة؟!
فهل فعل فيها غير ما كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يفعله؟!
ولو أنه تعدى في فعله ، فهل يكون غادرا ، وخائنا؟! ولمن يا ترى؟! وهل يمكن أن يظن العباس بعلي أو العكس : أنه يرتكب الخطأ الفاحش الذي هو على حد الخيانة والغدر عن عمد وقصد؟!.
أسئلة ننتظر الجواب عنها بصورة منصفة ومقنعة ، وهيهات.
وثانيا : قال العلامة المظفر : «إنه يصرح بأن عمر ناشد القوم ومن جملتهم عثمان ؛ فشهدوا بأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : لا نورث.
وهو مناف لما رواه البخاري (٢) عن عائشة ، أنها قالت : أرسل أزواج
__________________
(١) صحيح البخاري ج ٣ ص ١١ وغيره.
(٢) تقدمت مصادر الرواية عن قريب ، فقد رواها البخاري ومسلم وعبد الرزاق وغيرهم ، فراجع.
النبي «صلىاللهعليهوآله» عثمان إلى أبي بكر ، يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله ، فكنت أنا أردهن ، الحديث .. فإنه يقتضي أن يكون عثمان جاهلا بذلك ، وإلا لا متنع أن يكون رسولا لهن ، إلا أن يظن القوم فيه السوء».
وهذا أيضا قد أورده المعتزلي الحنفي (١).
وقد حاول المعتزلي الاعتذار عن ذلك ، فقال : «اللهم إلا أن يكون عثمان وسعد ، وعبد الرحمن ، والزبير ، صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه ، وحسن الظن. وسموا ذلك علما لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم».
ثم ذكر : أنه يجوز أن يكون عثمان في مبدأ الأمر شاكا في رواية أبي بكر ، ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه. وكل الناس يقع لهم مثل ذلك (٢).
ونقول :
ألف : إن نفس المعتزلي يقول : إن أكثر الروايات : أنه لم يرو خبر «لا نورث» غير أبي بكر ، ذكر ذلك أعظم المحدثين (٣).
فمن أين جاءت هذه الإمارات على الصدق. لا سيما مع تكذيب فاطمة له ، وهي المطهرة بنص الكتاب العزيز ، وكذلك مع إنكار علي والعباس ، وغيرهما من خيار الأصحاب وأكابرهم؟!
__________________
(١) دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٣٢ وشرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢٢٣.
(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٦ ص ٢٢٣ و ٣٢٤.
(٣) سيأتي كلام المعتزلي هذا بعد أسطر.
ولو كان لديهم أدنى احتمال بصدق الحديث ـ ولو بأن يحتملوا أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد أسر به إلى أبي بكر ـ لما بادروا إلى إنكاره ، واستمروا على ذلك ، حتى لقد توفيت الصديقة الزهراء «عليهاالسلام» مهاجرة له لأجل ذلك.
إن المعتزلي وغيره ـ والحالة هذه ـ حين يصدقون حديث لا نورث ، فإنهم يكونون قد طعنوا بالقرآن الذي نزه الزهراء ، وعليا ، وأهل البيت عليهم صلوات ربي وسلامه ..
ب : إن ما ذكر ، يبقى مجرد احتمال. ويبقى احتمال أن يكون قد جارى عمر ، وشهد بما لا يعلم ، قائما وقويا ، بعد أن كانت السلطة ، التي كان عثمان أحد مؤيديها ومعاضديها ، تتجه نحو تثبيت دعوى أبي بكر ، وزعزعة موقف آل رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ثالثا : قال العلامة الشيخ محمد حسن المظفر «رحمهالله» : «لو كان الذين ناشدهم عمر عالمين بما رواه أبو بكر لما تفرد أبو بكر بروايته عند منازعته فاطمة «عليهاالسلام». فهل تراهم ذخروا شهادتهم لعمر ، وأخفوها عن أبي بكر ، وهو إليها أحوج»؟! (١).
وحول تفرد أبي بكر برواية الحديث ، قال ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي :
«.. إن أكثر الروايات : أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده ، ذكر ذلك أعظم المحدثين. حتى إن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في
__________________
(١) دلائل الصدق : ج ٣ قسم ١ ص ٣٣.
احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد.
وقال شيخنا أبو علي : لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة.
فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم ، واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده : نحن معاشر الأنبياء لا نورث الخ ..» (١).
رابعا : قال العسقلاني ـ وذكر ذلك غيره أيضا ـ : «وفي ذلك إشكال شديد ، وهو : أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا «عليهالسلام» ، قد علما : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : لا نورث ؛ فإن كانا سمعاه من النبي «صلىاللهعليهوآله» فكيف يطلبانه من أبي بكر؟! (٢) وإن كان إنما سمعاه من أبي بكر ، أو في زمنه ؛ بحيث أفادهما العلم بذلك ، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر»؟! (٣).
وقال العيني : «.. هذه القصة مشكلة ؛ فإنهما أخذاها من عمر (رض)
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢٢٧ وراجع ص ٢٤٥.
(٢) وقد طالب العباس وفاطمة أبا بكر بالميراث أيضا ؛ فراجع في ذلك : صحيح البخاري ج ٣ ص ١٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٤ وراجع : الصواعق المحرقة ص ٣٧ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٩٦ وتاريخ المدينة ج ١ ص ١٩٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٥ وج ٤ ص ٢٠٣ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٧٢ ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٤٥ ومسند أحمد ج ١ ص ١٠ و ٤ وتلخيص الشافي ج ٣ ص ١٣١ و ١٣٢ ونهج الحق ص ٣٦٠.
(٣) فتح الباري ج ٦ ص ١٤٥ وراجع : دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٣٣ وراجع : حاشية السندي على صحيح البخاري ، وهي مطبوعة بهامشه ج ٢ ص ١٢١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢٤.
على الشريطة ، واعترفا بأنه «صلىاللهعليهوآله» قال : ما تركناه صدقة ؛ فما الذي بدالهما بعد ذلك حتى تخاصما»؟! (١).
وبعد أن ذكر العلامة المظفر «رحمهالله» تعالى ، ما يقرب مما ذكره العسقلاني ، وأن صريح أحاديث البخاري : أن العباس ، وعليا «عليهالسلام» قد طلبا الميراث من عمر ، مع علمهما بأنه «صلىاللهعليهوآله» قال : لا نورث .. قال :
«.. وهو من الكذب الفظيع ؛ لمنافاته لدينهما وشأنهما ، وكونه من طلب المستحيل عادة ؛ لأن أبا بكر قد حسم أمره ، وكان أكبر أعوانه عليه عمر ، فكيف يطلبان منه الميراث؟!
ومع ذلك ، فكيف دفع لهما عمر مال بني النضير ؛ ليعملا به عمله ، وعمل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأبي بكر؟. وهما قد جاءاه يطلبان الميراث ، مخالفين لعلمهما ، غير مبالين بحكم الله ورسوله ، حاشاهما ؛ فيكون قدحا في عمر» (٢).
واحتمال : أن يظنا بأن عمر لسوف ينقض قضاء أبي بكر ..
قد دفعه المعتزلي بقوله : «وهذا بعيد ؛ لأن عليا والعباس ـ في هذه المسألة ـ يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك ، ألا تراه يقول : نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة؟.
__________________
(١) عمدة القاري ج ٢١ ص ١٧.
(٢) دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٣٣ وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢٩ و ٣٣٠.
فكيف يظنان : أنه ينقض قضاء أبي بكر ، ويورثهما»؟! (١).
وأجابوا عن ذلك كله بجوابين :
الأول : «كأن المراد : تسألني التصرف فيما كان نصيبك ، لو كان هناك إرث» (٢).
وعلى حد تعبير ابن كثير : «.. كأن الذي سألوه ، بعد تفويض النظر إليهما ـ والله أعلم ـ : هو أن يقسم بينهما النظر ، فيجعل لكل واحد منهما نظر ما يستحقه بالأرض ، لو قدر أنه كان وارثا ..
إلى أن قال : وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة ؛ بسبب إشاعة النظر بينهما.
إلى أن قال : فكأن عمر تحرج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ، ولو في الصورة الظاهرة ، محافظة على امتثال قوله : لا نورث ، ما تركناه صدقة».
زاد العيني قوله : «فمنعهما عمر القسم ؛ لئلا يجري عليها اسم الملك ؛ لأن القسم يقع في الأملاك ، ويتطاول الزمان ؛ فيظن به الملكية» (٣).
أما الهيثمي ، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ، حين قال : «إستباب علي
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢٣٠.
(٢) حاشية السندي على صحيح البخاري ، مطبوعة بهامشه ج ٢ ص ١٢١.
(٣) راجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٨ وعمدة القاري ج ٢١ ص ١٧ وراجع فتح الباري ج ٦ ص ١٤٥ ، عن إسماعيل القاضي ، وعن أبي داود في السنن ، قال العسقلاني : وبه جزم ابن الجوزي ، والشيخ محيي الدين ، وتعجب العسقلاني من جزمهما هذا ، فراجع.