الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

توضيحات للواقدي :

قال الواقدي : «إنما كان ينفق على أهله من بني النضير ، كانت له خالصة ، فأعطى من أعطى منها ، وحبس ما حبس ، وكان يزرع تحت النخل زرعا كثيرا. وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يدخل منها قوت أهله سنة ، من الشعير والتمر لأزواجه ، وبني عبد المطلب ، وما فضل جعله في الكراع والسلاح ، وأنه كان عند أبي بكر وعمر من ذلك السلاح ، الذي اشتري على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل على أموال بني النضير أبا رافع مولاه ، وربما جاء رسول الله بالباكورة منها. وكانت صدقاته منها ، ومن أموال مخيريق ، وهي سبعة حوائط الخ .. (١).

ونقول : إن لنا على ما تقدم ما يلي :

ألف : التعبير ب «صدقات» و «صوافي» :

فإن التعبير عن أموال بني النضير ، وعن أموال مخيريق ب «صدقات رسول الله» نجده لدى معظم المؤرخين والمؤلفين من إخواننا أهل السنة.

وهو تعبير فني مدروس ، قد جاء ليؤكد اتجاها سياسيا فرضه موقف السلطة مما حدث ، من أجل تأكيد الحديث المزعوم الذي يقول :

نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة.

هذا الحديث الذي أنكره علي وفاطمة «عليهما‌السلام» والعباس وغيرهم.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٨.

٢٤١

فما كان من الفريق الآخر إلا أن أطلق على ما تركه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أموال ، وعقار اسم : «صدقة» (١) ، أو «صدقات».

وقالوا : «كل ما ترك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تصدق به» (٢) ، ليركزوا ذلك الأمر الذي انفرد به أبو بكر ، وأنكره أهل البيت «عليهم‌السلام» في أذهان الناس بصورة تلقائية ولا شعورية.

أما بالنسبة لقول عمر : إن بني النضير كانت من صوافي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حبسا لنوائبه ، فإن ذلك بهدف الإيحاء بأنها لا بد أن تعود إلى بيت المال بعده ، أو للخليفة لتكون حبسا لنوائبه أيضا.

ولنا أن نعتبر هذا النحو من التعامل من لطائف الكيد السياسي ، ومن جملة حبائله .. ولكن ذلك لم يجدهم شيئا في تغيير الحقيقة ، فقد عبر الآخرون عن آرائهم بصراحة ، وأبطلوا كيد هؤلاء ولم يمكن لأهل المكر والخداع والكيد : أن يحققوا من مكرهم هذا شيئا.

ب : حبائل ماكرة أخرى :

كما أننا نلاحظ : أن ثمة تعمدا وإصرارا على أمر آخر ، يراد للناس أن يقبلوه ويصدقوه ، وهو : أن رسول الله الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطعم أهله من أراضي بني النضير ، وخيبر ، وحوائط مخيريق قوت سنة ، ثم يجعل الباقي في الكراع والسلاح.

وقد تقدم ذلك عن عمر بن الخطاب نفسه.

__________________

(١) في الطرائف ص ٢٨٣ : «لعل أبا بكر وأتباعه هم الذين سموها صدقات».

(٢) التراتيب الإدارية ج ١ ص ٤٠١ عن السهيلي.

٢٤٢

وليس من البعيد أن يكون سبب ذلك هو إرادة الإيحاء بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يرى نفسه مالكا ، بل هو يتعامل مع هذه الأراضي كما لو كانت ترجع إلى بيت مال المسلمين ، الأمر الذي يؤكد صدق الحكام بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في دعواهم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يورث ، وحتى لو كان يورث ، فإن تعامله هذا يدل على أنه لم يكن مالكا.

وإذا .. فما وعد به أبو بكر ، من أنه يطعم آل رسول الله قوت سنة ، ويجعل الباقي في الكراع والسلاح ، لا يعتبر خروجا عما رسمه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بل يكون متبعا له ، ومقتديا به ؛ فرفض أهل البيت «عليهم‌السلام» لهذا العرض يصبح بلا مبرر ظاهر ، وتكون الزهراء «عليها‌السلام» هي المخالفة للرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولأحكام الشرع والدين الحنيف ، وتطلب ما ليس لها بحق ، وتصر على طلبها هذا ، رغم توضيح الأمر لها!.

ولكننا مع ذلك نقول :

إنه حتى لو صح أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يفعل ذلك ، وصح أيضا : أن هذا السلاح قد بقي عند أبي بكر وعمر ؛ فإنه لا يدل على عدم ملكية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لتلك الأراضي ، بعد أن نص القرآن العظيم على ملكيته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها. حيث يمكن أن يكون إنما يفعل ذلك تبرعا ، وإيثارا لرضا الله سبحانه ، وطلبا لمثوبته التي يرغب بها كل مؤمن.

لا سيما وأن القرآن قد حث الناس على أن يجاهدوا في الله بأموالهم وبأنفسهم. ومن أولى من الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالمسارعة إلى امتثال أمر الله هذا؟!.

٢٤٣

أموال بني النضير فيء أم غنيمة؟

قال النيسابوري :

«اعترض بعضهم : بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال ؛ لأنهم حوصروا أياما ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ؛ فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة ، لا من الفيء.

وأجاب المفسرون من وجهين :

الأول : إنها لم تنزل في بني النضير ، وإنما نزلت في فدك ، ولهذا كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ينفق على نفسه ، وعلى عياله من غلة فدك ، ويجعل الباقي في السلاح والكراع.

الثاني : تسليم أنها نزلت فيهم ، ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ، ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة ؛ فمشوا على أرجلهم ، ولم يركب إلا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان راكب جمل ؛ فلما كانت العاملة قليلة ، ولم يكن خيل ، ولا ركاب ، أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة» (١).

ونقول :

١ ـ إن ما ذكره من أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يجعل باقي

__________________

(١) راجع : التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٤ و ٢٨٥ ، وغرائب القرآن (مطبوع) بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٧ و ٣٨ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١١ و ١٢ فإنه ذكر ذلك ضمنا وأجاب عنه كذلك ، حيث قال : ولم يكن ثمة قتال على التحقيق ؛ بل جرى مبادئ القتال ، وجرى الحصار الخ ..

٢٤٤

غلة فدك في السلاح والكراع ، بعد أن ينفق على نفسه وعياله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منها .. محل مناقشة وبحث ، فإن من المقطوع به : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى فدكا لابنته فاطمة «عليها‌السلام» ، وقد استولت عليها السلطة بعد ثمانية ، أو عشرة أيام من وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد جريت بين الزهراء «عليها‌السلام» وبين أبي بكر مناقشات ومحاورات انتهت بإصرار الخليفة على ما أقدم عليه ، فغضبت الزهراء عليه حتى ماتت ، وهي مهاجرة له ولنصيره عمر ، وأوصت بأن تدفن ليلا ولا يحضرا جنازتها (١).

ففدك لم تكن في يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولسوف نتحدث عن هذا الأمر بشيء من التفصيل بعد غزوة خيبر إن شاء الله تعالى.

٢ ـ إنه إذا كانت فدك خالصة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإذا كان قد أنفق غلتها في الكراع والسلاح ؛ فإنما فعل ذلك تكرما ، وطلبا للأجر والثواب ، وإيثارا منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على نفسه ، حسبما ألمحنا إليه ، وليس لأجل أن حكم الفيء هو ذلك ـ وإن كنا نحتمل قويا أن تكون دعوى ذلك من موضوعات خصوم أهل البيت «عليهم‌السلام» بهدف التشكيك في أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نحلها لفاطمة الزهراء «عليها صلوات ربي وسلامه».

__________________

(١) ستأتي مصادر ذلك كله إن شاء الله ، حين الحديث حول فدك بعد غزوة خيبر إن شاء الله تعالى. وبالإمكان مراجعة كتاب : أصول مالكيت (فارسي) للأحمدي ، وفدك للقزويني ، ودلائل الصدق ، وغير ذلك.

٢٤٥

٣ ـ ولربما يؤيد القول بأن سورة الحشر قد نزلت بعد واقعة بني النضير ، التعبير بقوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) حيث إن وادي القرى قد افتتحت بعد ذلك.

ولكنه تأييد غير تام : فإن الحكم في الفيء عام ، ولا يختص بأهل وادي القرى ، كما أنه لم يثبت كون المراد بأهل القرى هو وادي القرى ، إذ يمكن أن يكون المراد : أهل البلاد مطلقا.

أضف إلى ذلك : أن الآية التالية ، المشيرة إلى إعطاء المهاجرين ، وعدم تغيظ الأنصار من إعطاء إخوانهم ، بل هم يؤثرونهم على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ـ إن هذه الآية ـ تؤيد كون المراد هو بنو النضير ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعط الأنصار من أموالهم شيئا ، سوى رجلين أو ثلاثة ، كما أوضحناه حين الكلام حول تقسيم أراضي بني النضير ، فليراجعه من أراد.

٤ ـ إن ما ذكر في الجواب الثاني غير تام ، فإن كثرة الخيل والركاب ، وقلتها ، وبعد المسافة وقربها لا يؤثر شيئا في حكم الفيء ، ما دام أن الملاك هو الأخذ عنوة وعدمه ، كما أن كثرة القتال وقلته لا يؤثر في ذلك شيئا.

الجواب الأمثل :

وعليه .. فالأولى في الجواب : أن يقال : إن القتال الذي كان ـ إن صح أنه قد كان ثمة قتال ـ لم يكن به الفتح ، وإنما فتحت صلحا ، وهذا هو الميزان في الفيء والغنيمة ، فإن كان الفتح صلحا كان فيئا ، وإن كان بقتال كان غنيمة ، فالحكم تابع للنتيجة ، مهما كانت مقدماتها.

هذا .. بالإضافة إلى أن ما أرعب اليهود وجعلهم ييأسون ، وحملهم على الصلح لم يكن هو القتال المشار إليه ، وإنما كان قطع النخيل ، وإحراقه.

٢٤٦

ثم كان قتل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للعشرة هو السبب في استجابتهم للصلح ، كما تقدم ..

وأما بالنسبة لما يذكرونه من قتال ، فنحن لا نستطيع أن نؤكد صحته ، بل القرآن والتاريخ يدلان على عدمه ، وإن كنا لا نمانع من أن تكون قد جرت بعض المناوشات اليسيرة ، ولكنها لم تكن سبب الفتح قطعا.

المهاجرون .. وأموال بني النضير :

لقد هاجر من مكة عدد كبير من الذين أسلموا ، وتركوا ما كانوا يملكونه وراءهم ، وقد قدم الأنصار لهم كل ما أمكنهم تقديمه من العون والرعاية ، حتى لقد أرادوا أن يقاسموهم أموالهم ؛ فمنعهم النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأمرهم أن يعملوا في مزارعهم وبساتينهم وفقا لقواعد المساقاة والمزارعة ، وهكذا كان (١).

وحين أفاء الله على رسوله أموال وأراضي بني النضير ، كانت خالصة له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بمقتضى قوله تعالى : (.. ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢).

وقد روى القرشي عن الكلبي أنه قال : «قسم رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) مسند أبي عوانة : ج ٤ ص ١٧٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ١١٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٢.

(٢) الآية ٧ من سورة الحشر. وليراجع هنا : مجمع البيان ج ٩ ص ٢٦٠ والتبيان ج ٩ ص ٥٦٢ والإكتفاء ج ٢ ص ١٤٨ و ١٤٩.

٢٤٧

وآله» أموال بني النضير ، إلا سبعة حوائط منها ، أمسكها ولم يقسمها» (١).

حكاية قسمة الأراضي :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خيّر الأنصار ، بين أن يقسم ما أفاءه الله عليه ، عليهم وعلى المهاجرين ، ويكون المهاجرون مع الأنصار كما كانوا ، وبين أن يخص المهاجرين بها ، فيستقلون عن الأنصار ، ويرجعون إليهم أراضيهم.

فقال السعدان ـ سعد بن معاذ ، وابن عبادة ـ : بل نقسم أموالنا وديارنا على المهاجرين ، ويؤثرونهم بالقسمة أيضا ، ولا يشاركونهم فيها ، فاقتدى بهما سائر الأنصار ، فأنزل الله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (٢).

فقسمها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين المهاجرين ، وأمرهم برد ما كان للأنصار حسب تعبير الحلبي (٣).

__________________

(١) الخراج للقرشي : ص ٣٦.

(٢) الآية ٩ من سورة الحشر.

(٣) راجع : فيما تقدم ، كلا ، أو بعضا المصادر التالية : البحار ج ٢٠ ص ١٧١ و ١٧٢ وفي هامشه عن الإمتاع للمقريزي ص ١٨٢ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣٦٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٣٦٨ و ٣٦٩ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٦٠ ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٧٥ والسنن الكبرى ج ٦ ص ١١٦ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥٦ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٩ وتاريخ المدينة ج ٢ ص ٤٨٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٨ و ٢٦٩ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٣ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٩ وغرائب القرآن مطبوع بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٤١ و ٤٢ وفتح القدير ج ٥ ص ٢٠١ ـ

٢٤٨

فكانت أول صافية قسمها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين المهاجرين الأولين (١).

وفي بعض المصادر : أن المهاجرين إنما ردوا ما كان للأنصار بعد الفراغ من خيبر (٢).

محاسبات دقيقة :

إننا رغم أننا نشك في إرجاع المهاجرين أموال الأنصار ، ونحتمل قويا : أن يكون الهدف من هذا الزعم هو تقوية موقف المهاجرين ، حيث لا يكون للأنصار ـ والحالة هذه ـ فضل يذكر ، إلا أننا نغض النظر عن ذلك فنقول :

يرد هنا سؤال ، وهو : أنه إذا كانت أموال بني النضير خالصة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بنص القرآن الكريم ، فلماذا يطلب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» موافقة الأنصار على أن يخص المهاجرين بها؟

أليس هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حر التصرف فيما ملّكه الله إياه ، يضعه

__________________

والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢٥ و ٢٣ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٧٦ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٧ والكشاف ج ٤ ص ٥٠٥ وجوامع الجامع ص ٤٨٧ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٩ والخراج للقرشي ص ٣٣ وراجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٠ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٤٧ وإرشاد الساري ج ٥ ص ٢١٠.

(١) فتوح البلدان : قسم ١ ص ٢١ والبحار ج ٢٠ ص ١٧٣ وفي هامشه عن المناقب ج ١ ص ١٦٩ و ١٧٠ وعن الإرشاد ص ٤٩ و ٤٨.

(٢) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٣٦٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٠.

٢٤٩

حيث يشاء ، ويعطيه لمن يشاء!.

ونحن في مقام الإجابة على هذا السؤال نشير إلى ما يلي :

١ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن لا يسيء أحد من الأنصار تفسير تصرفه ذاك ، فيتوهم : أن ذلك منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسبب حبه لقومه دونهم ، أو لغير ذلك من أسباب.

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد أن يثير في الأنصار حسدا لا مبرر له ، أو ما هو أكثر من الحسد ، وهم يرون إخوانهم يحصلون على الأموال والأراضي دونهم ، حتى ولو كانوا يعلمون : أن هذا المال ملك لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يضعه حيث يشاء ، ويعطيه لمن أراد ، ويعلمون أيضا : أنه لا ينطلق في إعطائه ذاك من سلبيات يخشون وجودها.

٢ ـ إنه يريد للمسلمين جميعا : أن لا يفهموا هذا التصرف على أنه امتياز لهم دون غيرهم ، وليتخذ ذلك أصحاب الأهواء منهم ذريعة للابتزاز ، أو لإعمال سياسات ظالمة تجاه إخوانهم من الأنصار ، حينما تسنح لهم الفرصة لذلك.

٣ ـ إنه يريد للمسلمين جميعا أن يفهموا : أن على القيادة أن لا تستبد بالرأي وبالتصرف ، فإن التفاهم ، والمشاركة في الرأي ، وعدم التفرد فيه ، يجب أن يكون هو السمة المميزة للإنسان المسلم.

٤ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يعلم الأنصار ، ويستفيد من ذلك المهاجرون درسا في الإيثار على النفس ما دام أن ذلك من شأنه أن يوثق عرى المودة ، ويثير كوامن الحب في مجتمع يشعر أعضاؤه بآلام ومشاكل بعضهم البعض ، ويعملون على حلها ، ويبذلون جهدهم في هذا السبيل.

٢٥٠

٥ ـ كما أننا نستفيد بالإضافة إلى ما تقدم الأمور التالية :

ألف : أنه كما أن من مسؤوليات قائد الأمة تصريف أمور الرعية ، ورعاية شؤونها ، وإدارتها ، وهدايتها إلى أفضل السبل وأجداها في دفع الأخطار الكبرى عنها ، وحل المعضلات التي ربما تواجهها ..

كذلك فإن من مسؤولياته تربية الأمة تربية صالحة ، ورعاية شؤونها الروحية وتزكيتها ، وبعث الفضائل والسجايا الكريمة في نفوس أبنائها جماعات وآحادا ، ثم إبعاد كل ريب ورين عنها ؛ لتكون خالصة خلوص الجوهر ، نقية صافية صفاء النور ..

هذا بالإضافة إلى رعاية العلاقات الروحية فيما بين أفراد وجماعات الأمة ، لتبقى سليمة وحميمة ، وقائمة على أسس قوية وثابتة من تلك السجايا والسمات والصفات الراسخة في أعماق الذات الإنسانية ..

فلا يجوز أن يصدر منه أي عمل ـ حتى ولو كان بملاحظة خصوصيته الفردية ، والعادية حلالا ومباحا له ـ من شأنه أن يلحق أدنى ضرر في البنية الاجتماعية ، سواء على المستوى النفسي أو الفكري ، أو المادي ، أو غير ذلك.

كما أن عليه أن يتكهن بآثار أي عمل يصدر منه ، ويقدر ما له من سلبيات وإيجابيات مستقبلية ، وعلى جميع المستويات.

ب : إن ما تقدم يوضح لنا مدى حساسية موقع هذه القيادة ، وخطورة مسؤولياتها ، ويوضح كذلك : أنه ليس باستطاعة كل أحد ؛ أن يتسلم أزمة الحكم ، ويتولى مسؤوليات قيادية ، إلا إذا اجتمعت فيه خصال ومواصفات ذات طابع معين ، من شأنها أن تساعد على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من الأهداف التي تتوخاها الأمة من قياداتها.

٢٥١

ج : إن ما فعله الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أفهمنا أنه يفترض في القائد : أن يرعى الشؤون المادية للأمة ، ولو من ماله الخاص ، حينما لا يكون ثمة مصادر أخرى قادرة على سد حاجاتهم في هذا المجال.

د : ودرس آخر نتعلمه من موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هنا ، وهو : أن الإنسان ، وإن كان له الحق في أن يتصرف في ماله كيف يشاء ، ولكن حينما تنشأ عن هذا التصرف سلبيات من نوع ما ، فإن عليه أن يعمل على معالجة تلك السلبيات ، وأن يعطي تصرفه مناعات كافية ، تحصن الواقع من أن تنشأ فيه تلك السلبيات ، أو أن تؤثر أثرها البغيض المقيت ، حتى ولو كانت تلك السلبيات ناشئة عن تقصير الآخرين ، أو عن سوء تصرفهم ، أو عن عدم التزامهم الأكيد بالحدود والقيود التي يفترض التزامهم بها ، أو غفلتهم عن ذلك ، بل وحتى لو كان ذلك من قبيل الطموحات الباطلة واللامشروعة ، أو التي تستتبع حسدا لا مبرر له لدى الآخرين ، أو حقدا كذلك.

ه : إننا نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كانت معالجته لسلبيات لا مبرر لها بطريقة بناءة ورائدة ، ثم هي زاخرة بالمعاني الإيجابية الكبيرة ، التي من شأنها ليس فقط أن تؤثر في الصيانة والحصانة بدرجة كافية ، وإنما هي تساهم بدرجة كبيرة في تكامل الأمة ، وفي حصولها على المعاني والسجايا الإنسانية ، ثم تعميقها وترسيخها بصورة عملية ، لا بمجرد التنظير ، وإطلاق الشعارات في الهواء.

وهذا هو الأسلوب الأمثل والأجدى في بناء الأمة ، وتأكيد خصائصها الإنسانية ، وسجاياها الكريمة الفضلى.

٢٥٢

المستفيدون من أراضي بني النضير :

ويذكر المؤرخون أسماء طائفة من الناس أعطاهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أراضي بني النضير ، بل يرى البعض : أنه لم يعط سوى الأشخاص التالية أسماؤهم وهم :

١ ـ أبو بكر بن أبي قحافة ؛ فقد حصل على موضع يقال له : «بئر حجر» (١).

٢ ـ عمر بن الخطاب ، الذي حصل على موضع يقال له : «جرم» (٢).

٣ ـ عبد الرحمن بن عوف ، الذي حصل على موضع يقال له : «سوالة» ، أو «كيدمة» ، وهو الذي يقال له : «مال سليم» (٣).

٤ ـ الزبير بن العوام ، الذي حصل على أرض يقال لها : «بويّلة» (٤).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٨ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٩ وراجع : فتوح البلدان قسم ١ ص ١٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩ ومعجم البلدان ج ٥ ص ٢٩٠.

(٢) راجع : المصادر المتقدمة باستثناء فتوح البلدان.

(٣) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٩٦ وج ٣ ص ٩٤٥ ومعجم البلدان ج ٤ ص ٤٩٧ وراجع ج ٥ ص ٢٩٠ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٨ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٩ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ وراجع : فتوح البلدان قسم ١ ص ١٨ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩.

(٤) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٨ ، لكنه ذكر بويلة له ولأبي سلمة بن عبد الأسد ، وفتوح البلدان قسم ١ ص ٢١ و ٢٢ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٥٧ وإرشاد الساري ج ٤ ص ٢١٠ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٧ ص ١٤٧ عن صبح الأعشى ج ١٣ ص ١٠٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩ ونيل الأوطار ج ٦ ص ٥٧.

٢٥٣

٥ ـ صهيب بن سنان ، حصل على أرض يقال لها «ضراطة» (١).

٦ ـ أبو سلمة بن عبد الأسد ، حصل على أرض من بني النضير ، عند الواقدي أن اسمها : «بويلة» شاركه الزبير فيها أيضا ، كما أشرنا إليه (٢).

٧ ـ أبو دجانة.

٨ ـ وسهل بن حنيف ، حصلا على أرض يقال لها : «مال ابن خرشة» (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٥٨ وراجع ج ٣ ص ١٠٤ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٩ و ٣٨٠ ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٨ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٨٠ وذكرا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطاه (بويلة) ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٥٧ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩.

(٣) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٨٠ و ٣٧٩ والسيرة النبوية ج ٣ ص ٢٠١ و ٢٠٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٥ والتبيان ج ٩ ص ٥٦٣ والإكتفاء ج ٢ ص ١٤٨ وغرائب القرآن بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١١ وراجع ص ١٤ و ٢٤ وراجع : البحار ج ٢٠ ص ١٧١ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣٦٠ وفي هامش البحار عن الإمتاع ص ١٨٢ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٦٠ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٧١ و ١٧٧٢ والتفسير الكبير ج ٢٨ ص ٢٨٥ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٠ ومنهاج السنة ج ٤ ص ١٧٣ والخراج للقرشي ص ٣٢ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣ وجوامع الجامع ص ٤٨٧ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٩ وراجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٩ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٨ وفتوح البلدان قسم ١ ص ١٨ و ١٩ و ٢١

٢٥٤

٩ ـ الحارث بن الصمة ، استفاد هو الآخر من ذلك حسبما ذكروه (١).

وعند البعض : الحرث بن أبرهة (٢).

والظاهر : أنه تصحيف.

١٠ ـ وأعطى ـ كما زعموا ـ سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق (٣).

__________________

والمصنف ج ٦ ص ٣٦١ لكنه لم يسم الرجلين ، ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وجامع البيان ج ٢٨ ص ٢٨ وأشار إليه في سنن أبي داود ج ٣ ص ١٤٣ و ١٥٧ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ١٢٢ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٩ وتاريخ المدينة ج ٢ ص ٤٩٠ والكامل في التأريخ ج ٢ ص ١٧٤ والدر المنثور ج ٦ ص ١٩٢ عن ابن مردويه والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٢ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله») ص ٥١٨ ومعجم البلدان ج ٥ ص ٢٩٠.

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٦٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٥١ و ٤٦٢ عن المدارك ، ومعالم التنزيل والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٩ ، وقال : «نظر فيه بعضهم : بأنه قتل في بئر معونة» ، ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وجوامع الجامع ص ٤٨٧ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٥ والكشاف للزمخشري ج ٤ ص ٥٠٥ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١١ وراجع ص ١٤ و ٢٤ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٧١ و ١٧٧٢ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٥١ عن غير ابن إسحاق ، وبهجة المحافل ج ١ ص ٢١٦ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧.

(٢) غرائب القرآن ، مطبوع بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٨.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي) ص ١١٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٣ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٨ ص ١١ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٩ ، والسيرة الحلبية للحلبي الشافعي ج ٢ ص ٢٦٩.

٢٥٥

١١ ـ وأعطى عثمان بن عفان أيضا بعض أراضي بني النضير ، في مكان يقال له : الدومة (١).

نصان غير متوافقين :

ونشير هنا إلى نصين غير متوافقين ، وهما :

١ ـ ما قاله العيني : «.. ولم يخمس ، ولم يسهم منها لأحد ، إلا لأبي بكر ، وعمر ، وابن عوف ، وصهيب بن سنان ، والزبير بن العوام ، وأبي سلمة بن عبد الأسد ، وأبي دجانة» (٢).

فالعيني إذا يرى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعط أحدا غير هؤلاء.

ولكن التعبير ب «يسهم» فيه شيء من المسامحة ؛ لإشعاره بأنها مفتوحة عنوة ، وليس الأمر كذلك.

٢ ـ قال ابن شبة : «.. عن محمد بن إسحاق ، قال : قسمها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المهاجرين إلا سهل بن حنيف ، وأبي دجانة ، وكذا نفرا ، فأعطاهما منها» (٣).

وقال النسفي : قد أعطى ثلاثة من الأنصار (٤). لكنه لم يذكر لنا أسماءهم بالتحديد.

فنجد العيني لا يذكر سهل بن حنيف ، ونجد آخرين يذكرون سهلا

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٤٤ عن ابن شبة.

(٢) عمدة القاري ج ١٨ ص ١٢٦.

(٣) تاريخ المدينة ج ٢ ص ٤٩٠.

(٤) مدارك التنزيل (مطبوع بهامش لباب التأويل) ج ٤ ص ٢٤٦.

٢٥٦

وأبا دجانة ، ونجد عددا آخر يصر على أنهم ثلاثة من الأنصار ، ولعله يقصد الحارث بن الصمة ؛ فإنه أنصاري أيضا.

ولكن ابن شبة ذكر سهلا وأبا دجانة ، وكذا نفرا من الأنصار.

ومعنى ذلك : هو أنه قد أعطى الثلاثة الآنفة أسماؤهم.

مع أن ظاهر النصوص : الحصر بهم ، أو بواحد ، أو باثنين منهم. فالأولى الاقتصار على ذلك ، إلى أن يرد ما يؤيد كلام ابن شبة.

كي لا يكون دولة بين الأغنياء.

وقد علل الله سبحانه عطاء بعض الفئات دون بعض ، من الفيء بقوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١).

ونستفيد من هذه الآية الأمور التالية :

الأول : إنه سبحانه قد علل إعطاء الفيء للفقراء اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل بأن لا يكون المال محصورا بين الأغنياء ، يتداولونه فيما بينهم.

وهذا يعطي : أن الإسلام يريد أن يمكن الجميع من الحصول على المال ، ولا يكون حكرا على جماعة دون غيرها.

__________________

(١) الآيتان ٦ و ٧ من سورة الحشر.

٢٥٧

أي أنه يريد للمال أن يتحرك ، وأن ترتفع الموانع والحواجز من طريقه وينطلق من خلال الالتزام بالحكم الإلهي ، والوقوف عند الحدود الشرعية ، لتتداوله جميع الأيدي فلا بغي من أحد على أحد ، ولا استئثار بشيء دون الآخرين وإنما الإيثار على النفس ، ولو مع شدة الحاجة والخصاصة.

كما أنه يريد للفقير : أن يحصل على المال بصورة مشروعة ، ومن دون منة من أحد عليه ، ما دام أن المال قد أعطاه الله إياه ، وليس لأحد من الخلق فيه أي دور.

الثاني : إن الإسلام حين قبل بالملكية الفردية ، وجعل القوانين والنظم لحمايتها ، وقبل أيضا بملكية الدولة والجهة ، وأعطى المجال لطموحات الإنسان ، وقدراته الخلاقة للتعبير عن نفسها ، وتأكيد وجودها ، فإنه قد قرر إلى جانب ذلك قاعدته ، وأعطى ضابطته التي لا مجال لتخطيها في شأن المال بقوله : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (١) ؛ فإنه يكون بذلك قد قرر الحد الذي يفصل نظام الإسلام الإقتصادي عن النظام الرأسمالي الفاسد ، والذي ينتهي بالمال إلى أن يصبح دولة بين الأغنياء.

وذلك لأن الإسلام ، وإن كان قد قبل بالملكية الفردية ، إلا أنه قد حدد مصادر الحصول عليها في جهات معينة ، لا يجوز تعديها إلى غيرها ..

كما أنه قد وضع من الأحكام والضوابط في مختلف شؤون الحياة وجهاتها ، ما يمنع من تكدس المال بصورة فاحشة لدى أفراد بخصوصهم.

وقد بين الله سبحانه هذا الأصل الأصيل بعبارة واضحة وموجزة

__________________

(١) الآية ٧ من سورة الحشر.

٢٥٨

حينما قال : (لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ).

ثم هو قد حرم وأدان ، وعاقب على كل عمل من شأنه أن يهدم هذا الأصل ، ويضر في مسيرة تحقيقه ، أي ما يوجب صيرورة المال (دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) ، فحرم الربا ، ومنع من الاحتكار ، ومن أكل المال بالباطل ، و.. و.. الخ ..

وبما تقدم يتضح أيضا : البون الشاسع فيما بين المذاهب الإقتصادية الأخرى ـ كالإشتراكية ـ وبين نظام الإسلام الإقتصادي ، كما هو ظاهر لا يخفى.

الثالث : إن ما أفاءه الله على رسوله ، ليس لأحد أن يدّعي أن له فيه أدنى أثر أو أي دور في تحصيله. فإن المسلمين لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ، وإنما عاد إلى رسول الله بسبب تسليط الله رسله على من يشاء ، كاليهود الناقضين للعهود والمواثيق.

ومعنى ذلك هو أنه ليس لأحد الحق في أن يدّعي : أنه قد تنازل للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن شيء هو له ، أو ساهم فيه ، وجاء الحكم الإلهي ليأخذه منه ، ويعطيه للنبي لمصلحة كامنة في ذلك ، كما ربما يتوهم في الزكاة والخمس ، وذلك لأن الله قد صرح بأن تسليط الله سبحانه للرسول على أولئك الناس قد كان سببا في حصول ما يسمى بالفيء ؛ فالفيء إذا هو نتيجة عمل إلهي ، وتصرف رباني في واقع سلطة الرسول وبسطها على أولئك المعاندين.

وأما مناشئ هذه السلطة ، ومقوماتها ، فيجب أن لا تكون منحصرة في العدة والعدد والحشود لدى المسلمين ، فإن ذلك يتحقق بتأييدات إلهية غيبية ،

٢٥٩

تساهم فيها معرفة اليهود بنبوّته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورؤيتهم لمعجزاته وكراماته ، وحبهم للدنيا ، وخوفهم من الموت وغير ذلك من أمور.

الرابع : بقي أن نشير إلى أن الآيات قد نصت على أن الفيء لله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ؛ فكيف نوفق بين ذلك وبين ما هو معلوم من أن الفيء خالص لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

ونقول في الجواب : إن الآيات لم تتعرض لتشريع حكم الفيء ، وبيان تقسيماته اللازمة شرعا ، من حيث مالكية هؤلاء الأصناف له ، وإنما هي تبين قضية في واقعة ، يراد توضيح المراد فيها ، وإزالة الشبهة عن موقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منها. ذلك لأن الآيات التالية لتلك الآية ، قد بينت : أن المراد بهؤلاء الأصناف هو خصوص المهاجرين منهم ، أما الأنصار ؛ فإنهم لا يجدون في أنفسهم حرجا في أن يأخذ إخوانهم المهاجرون من الفيء دونهم ، رغم ما كان يعاني منه الأنصار من حاجة وخصاصة ، بل هم يؤثرونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

كما أن الآية الآنفة الذكر قد بينت : أن المراد هو الفيء الحاصل من أهل القرى ، لا كل فيء ، وذلك يؤيد أنها في صدد الحديث عن قضية في واقعة ، من أجل إبراز ما بها من خصوصيات ، ومن معان إنسانية هامة ، ومن دقائق أخرى لا بد من الإلفات إليها ، والتنبيه عليها ، وليست في صدد إعطاء الضابطة والقاعدة العامة.

ومعنى ذلك هو : أن المراد بيان أن ما فعله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الفيء الحاصل له من أهل القرى ، حيث قسمه على المهاجرين دون

٢٦٠