الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

وبعد هذا : فإن كلام السمهودي يصبح متناقضا وغير واضح ، وإن كان يمكن الاعتذار عنه بأنه ينسب بعض ما يقوله لغيره ، وذلك لا يدل على رضاه وقبوله به.

ولكن هذا الاعتذار إنما يصح في بعض الموارد دون بعض ، مع ملاحظة : أننا لم نجده يعترض على ما ينقله عن الآخرين ، بل ظاهره أنه مصدق ومعترف به.

دعاوى لا تصح :

وقد حاول الحلبي هنا : أن يجعل من أسباب كثيرة سببا واحدا ، فوقع في التناقض والاختلاف ، فإنه بعد أن ذكر : عزم عمر على إجلاء اليهود ، بسبب ما فعلوه بولده وبعبد الله بن سهل ، وبمظهر بن رافع ، قال :

«فلما أجمع الصحابة على ذلك ، أي على ما أراده سيدنا عمر ، جاءه أحد بني الحقيق فقال له : يا أمير المؤمنين الخ ..» فذكر القصة المتقدمة وأن عمر لم ينس قول النبي لابن أبي الحقيق حول خروجه.

ثم قال : «ثم بلغه (رض) : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لا يبقى دينان في جزيرة العرب ونصوصا أخرى تقدمت». ثم ذكر أن المراد بالجزيرة خصوص الحجاز.

إلى أن قال : «ففحص عمر عن ذلك حتى تيقنه وثلج صدره فأجلى يهود خيبر ، أي وأعطاهم قيمة ما كان لهم من ثمر وغيره وأجلى يهود فدك ، ونصارى نجران ، فلا يجوز إقامتهم أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج ، ولم يخرج يهود وادي القرى وتيماء ، لأنهما من أرض الشام لا من

٢٠١

الحجاز» (١).

فهو يقول : إن عمر هو الذي عزم على إجلاء اليهود ثم يقول : إن الصحابة قد أجمعوا. ثم يذكر أنه عرف بأوامر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حول اليهود بعد هذا العزم وبعد ذلك الإجماع ، فلما تيقنه وثلج صدره أجلاهم.

كما أنه يذكر العبارات المتناقضة حول جزيرة العرب والحجاز ، ويدّعي أن المقصود بالجزيرة هو خصوص الحجاز ، ولكنه يدّعي أن تيماء ووادي القرى ليستا من الحجاز ، مع أن النصوص الجغرافية على خلاف ذلك ، حسبما أوضحناه.

ثم يذكر : أنه أعطاهم ثمن أموالهم .. ولا ندري السبب في ذلك إن كان إخراجهم بسبب نقضهم للعهد ، فإن ناقض العهد لا يعطى ذلك ..

وأخيرا .. فإنه ادّعى عدم جواز اقامتهم أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج ، فهل هذا الحكم مأخوذ من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم أنه حكم سلطاني متأخر عن زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

ولا ندري كيف أجيز لهم ذلك بعد منعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم من البقاء في أرض العرب.

كما أننا لا نعرف : من أين جاء استثناء يومي الخروج والدخول؟ إلى غير ذلك من الأسئلة ، التي يمكن استخلاصها من مجموع ما ذكرناه.

__________________

(١) راجع كلامه بطوله في السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٨.

٢٠٢

الرواية الأقرب إلى القبول :

ولعلنا لا نبعد كثيرا إذا قلنا : إن حديث «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» هو من قول عمر ، وقد نسب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أجل تصحيح ما أقدم عليه عمر من نقض عهد اليهود لأجل ابنه ، أو لغير ذلك من أسباب ، لم ير فيها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يوجب ذلك حسبما ألمحنا إليه ؛ فقد قال أبو عبيد الله القاسم بن سلام :

«حدثنا يحيي بن زكريا بن أبي زائدة ، ومحمد بن عبيد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : أجلى عمر المشركين من جزيرة العرب ، وقال : «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» وضرب لمن قدم منهم أجلا ، قدر ما يبيعون سلعهم» (١) انتهى.

فترى في هذا الحديث : أنه قد نسب القول بعدم اجتماع دينين في جزيرة العرب إلى عمر نفسه من دون إشارة إلى رسول الله ، ولعله الأوفق والأولى ، وقد تقدم ما يشير إلى أن ذلك كان رأيا من عمر ، فلا نعيد.

لا إكراه في الدين :

قد تقدم : أن آية لا إكراه في الدين قد نزلت في مناسبة غزوة بني النضير ، حيث كان معهم أولاد للأنصار أراد آباؤهم أن يمنعوهم من الخروج معهم فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) الأموال ص ١٤٣.

٢٠٣

ونقول :

إن ذلك موضع مناقشة وغير مسلّم ؛ وإن أصر عليه القرطبي (١).

فأولا : قد روي في سبب نزول الآية :

١ ـ إن سبب نزولها هو وجود أبناء للأنصار في بني النضير ، عن طريق الاسترضاع فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإسلام أرادهم أهلوهم على الإسلام فنزلت (٢).

٢ ـ عن السدي : أنها نزلت في أبي حصين الأنصاري ، الذي تنصر ابناه ، ومضيا إلى الشام ، فطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يبعث من يردهما ، فنزلت (٣).

ثانيا : إن منع الأنصار أولادهم من الخروج مع اليهود لا يعني

__________________

(١) راجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٨٠.

(٢) راجع : فتح القدير ج ١ ص ٢٧٦ عن سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، وعن الحسن ، والدر المنثور ج ١ ص ٣٢٩ عنهم وعن ابن عقدة في غرائب شعبة والنحاس في ناسخه وعبد بن حميد وسعيد بن منصور ، وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٨٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧ ولباب التأويل ص ١٨٥.

(٣) راجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٨٠ ولباب التأويل ج ١ ص ١٨٦ ومدارك التنزيل بهامشه ج ١ ص ١٨٥ وفتح القدير ج ١ ص ٢٧٦ عن ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن عباس ، وكذا أخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة نحوه ، وكذا أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن السدي نحوه والدر المنثور ج ١ ص ٣٢٩ عنهم جميعا أيضا.

٢٠٤

إجبارهم على الدخول في الإسلام ، ولم يرد الآباء ذلك من أولادهم ، وإنما أرادوا منعهم من الخروج فقط ..

إلى خيبر أم إلى الشام؟

وتقول بعض المصادر : إن بني النضير «تحملوا إلى الشام» كما هو مذكور في بعض الروايات .. أي إلى أذرعات منها (١).

وتذكر مصادر أخرى : أنهم أجلوا إلى خيبر (٢).

__________________

(١) راجع : فتح القدير ج ٥ ص ١٩٩ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٩ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٣ وتفسير الصافي ج ٥ ص ١٥٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٣٢ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٥٨ و ٣٥٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٣ و ٥٥٤ والتبيان ج ٩ ص ٥٥٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٨ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ١١٩ وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٩٨ ومدارك التنزيل المطبوع بهامش لباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٤ وجامع البيان ج ٢٨ ص ١٩ و ٢٠ و ٢٢ والدر المنثور ج ٦ ص ١٨٨ و ١٨٩ و ١٨٧ عن بعض من تقدم وعن : ابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه. وراجع شعر أمير المؤمنين «عليه‌السلام» المذكور في الفصل الأول من هذا الباب وفي السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٠٨.

(٢) الثقات ج ١ ص ٢٤٣ ومرآة الجنان ج ١ ص ٩ والتنبيه والإشراف ص ٢١٣ وسيرة مغلطاي ص ٥٣ والدر المنثور ج ٦ ص ١٨٨ عن عبد بن حميد ، وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢ وفيه : أن إجلاءهم إلى أذرعات ونجد ، وقيل : إلى تيماء وأريحا ، كان على يد عمر.

٢٠٥

وتذكر مصادر أخرى : أنهم أجلوا إلى فدك (١).

فقد يتخيل وجود تناقض فيما بين هذه النصوص ..

فإذا ضممنا ذلك إلى نصوص أخرى ، فإن هذا التناقض يتأكد ، حيث نجد بعضها يقول :

«تحملوا إلى خيبر ، وإلى الشام ، وممن سار منهم إلى خيبر ، أكابرهم ، كحيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع ، فدانت لهم خيبر» (٢).

وقال آخر : «ومضى من بني النضير إلى خيبر ناس ، وإلى الشام ناس» (٣).

وآخر يقول : «خرجوا إلى أذرعات ، وأريحا ، وخيبر ، وحيرة» (٤).

__________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢١٣. وقد يظهر منه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سمح لهم بالذهاب إلى فدك أيضا ، فاختاروا خيبرا.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٨.

(٣) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٩ وراجع : أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٨ وجوامع الجامع ص ٤٨٦ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٥ والبحار ج ٢٠ ص ١٥٧ عنه عن مجاهد ، وقتادة والدر المنثور ج ٦ ص ٩٩ عن ابن المنذر ، وابن إسحاق ، وأبي نعيم في الدلائل ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٠ و ٣٣٣ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٠١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٤ والإكتفاء ج ٢ ص ١٤٨ وجامع البيان ج ٢٨ ص ١٩ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٠ وعمدة القارئ ج ١٧ ص ١٢٦ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥٤ ومنهاج السنة ج ٤ ص ١٧٣.

(٤) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧.

٢٠٦

وبعض آخر يذكر ذلك ، من دون ذكر الحيرة (١).

ونص آخر يذكر : أنهم لحقوا بأذرعات بالشام وأريحا ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق ، وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة (٢).

وجاء في بعض النصوص قوله : «وطاروا كل مطير ، وذهبوا كل مذهب ، ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ، ومعهم آنية كثيرة من فضة ، فرآها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون ، وعمد حيي بن أخطب حتى قدم مكة على قريش ، فاستغواهم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

وآخر نص نذكره هو ما قاله البعض : «وقع قوم منهم إلى فدك ، ووادي القرى ، وخرج قوم منهم إلى الشام» (٤).

السلاح للمؤمنين فقط :

ونلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أجلاهم ، وسمح لهم بأن يأخذوا ما أقلته الإبل ، إلا الحلقة.

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢.

(٢) راجع : غرائب القرآن مطبوع بهامش البيان ج ٢٨ ص ٣٣ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٧٨ والكشاف ج ٤ ص ٤٩٨ ص ٤٩٩ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢٠٩ عنه وبهجة المحافل ج ١ ص ٢١٥ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٥.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ١٢٢.

(٤) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٧٠ وتفسير الصافي ج ٥ ص ١٥٤ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣.

٢٠٧

وتذكر بعض النصوص إحصائية لما حصل عليه المسلمون من سلاح ، فتقول : «فوجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة ، وثلاثمائة سيف ، وأربعين سيفا» (١).

ومن الواضح : أن في ذلك قوة للمسلمين الذين يواجهون العدو المتربص بهم ليل نهار وفي كل اتجاه.

ثم هو إضعاف لعدوهم ، ماديا ومعنويا ، وله تأثيرات سلبية على معنويات كل أولئك الذين يتعاطفون معهم ، ويميلون إليهم.

ومن وجهة نظر مبدئية ، وعقيدية ، فإن السلاح لا يكون إلا للمؤمنين ، وهم وحدهم الذين يملكون الحق في السلاح ، لأنهم إنما ينصرون به الحق ، ويدمرون به الباطل.

أما الآخرون فعلى العكس من ذلك ، ولا أقل من أن السلاح ـ إذا كان بأيدي غير المؤمنين ـ فإنه تصبح له حالة ردع تلقائية ، وتخوف في قلوب المؤمنين الذين لا بد لهم أن يعملوا على نشر الدين ، وإعزازه ، واستئصال الباطل وإذلاله.

حزن المنافقين :

وإن ما جرى لبني النضير ، وهم أعز يهود منطقة الحجاز ، قد جعل المنافقين ، الذين كانوا يلتقون معهم في العداء للإسلام ، والخلاف له وعليه ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٥٨ والوفاء ص ٦٩٠ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٦ عن الكازروني وغيره ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢ وزاد المعاد ج ٢ ص ٧٢ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٨.

٢٠٨

وقد ثقل عليهم إقامة شعائره ، والالتزام بأحكامه ، وأن يربوا أنفسهم تربية صالحة ، وفقا لأهدافه ومراميه ـ قد جعلهم ـ يحسون بالضعف ، ويشعرون بأنهم قد خسروا واحدا من أهم حلفائهم ومن هم على رأيهم ، ولهم نفس أهدافهم وطموحاتهم بالنسبة إلى مستقبل الإسلام والمسلمين ..

فخابت آمالهم ، وتبخرت أحلامهم ، التي كانوا قد نسجوها ، وخدعوا أنفسهم بها ..

إذ إن من الواضح : أن مجاراة المنافقين للمسلمين ، إنما كانت ـ في الأكثر ـ تهدف إلى الحصول على بعض الامتيازات والمنافع ، ثم يديرون ظهورهم إليهم ويواصلون مسيرتهم بالطريقة التي تروق لهم ، وبالأسلوب الذي يعجبهم ويحلو لهم. فليس الإسلام والمسلمون سوى وسائل توصلهم إلى تلك المآرب ، وتحقق لهم هاتيكم الأهداف ..

وأما أولئك الذين أظهروا الإسلام ، لأن ظروفهم وعلاقاتهم قد فرضت عليهم ذلك ، وكانوا بانتظار زوال ذلك الكابوس ، فإنهم أيضا قد تلقوا ضربة هائلة ومخيفة ، وهم يرون الإسلام تقوى شوكته ، ويتعمق ويتجذر ، ويستقطب ويجتاح كل خصومهم ، ويدمرهم ، أو يقضي على مصادر القوة فيهم.

فكان من الطبيعي أن نجد المنافقين من أولئك وهؤلاء يشتد حزنهم ، ويتضاعف كمدهم ، ويكبر خوفهم ، ولم يخف حالهم على أحد ، وسجلهم التاريخ على صفحاته ، ليخلد خزيهم ، وذلهم ، فذكر المؤرخون : أنه حين

٢٠٩

أجلي بنو النضير : «حزن المنافقون عليهم حزنا شديدا» (١).

نماذج مثيرة :

ونجد فيما حفظه لنا التاريخ من تأوهات ، وصرخات مكتومة وظاهرة لبعض هؤلاء الذين كانوا يتعاطفون مع اليهود ، رغم ما يرونه من غدرهم ومجانبتهم للحق ـ نجد ـ بعض ما يثير فينا عجبا لا حد له ..

فإن بعض الناس الذين كنا وما زلنا نرى ونسمع لهم الكثير من المدح والثناء ، والتعظيم والتبجيل ، قد عبروا عن عميق احترامهم ، وعن تعاطفهم مع أولئك الغدرة الفجرة ، أعداء الله ، وأعداء رسوله ، فاقرأ النص التالي ، واعجب ما بدالك :

حسان بن ثابت يتعاطف مع اليهود :

حينما أجلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بني النضير ..

«قال حسان بن ثابت ، وهو يراهم وسراة الرجال على الرحال : أما والله ، أن لقد كان عندكم لنائل للمجتدي ، وقرى حاضر للضيف ، وسقيا للمدام ، وحلم على من سفه عليكم ، ونجدة إذا استنجدتم.

فقال الضحاك بن خليفة : وا صباحاه ، نفسي فداؤكم ؛ ماذا تحملتم به من السؤدد والبهاء ، والنجدة والسخاء؟

قال : يقول نعيم بن مسعود الأشجعي : فدى لهذه الوجوه التي كأنها

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٥٧ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧.

٢١٠

المصابيح ، ظاعنين من يثرب. من للمجتدي الملهوف؟ ومن للطارق السغبان؟ ومن يسقي العقار؟ ومن يطعم الشحم فوق اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام.

يقول أبو عبس بن جبر ، وهو يسمع كلامه : نعم ، فالحقهم حتى تدخل معهم النار.

قال نعيم : ما هذا جزاؤهم منكم ، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج ، ولقد استنصرتم سائر العرب ؛ فأبوا ذلك عليكم.

قال أبو عبس : قطع الإسلام العهود.

قال : ومرّوا وهم يضربون الدفوف والمزامير الخ .. (١).

ونلاحظ هنا :

ألف : إن حسان بن ثابت يمدح بني النضير بأنهم كانوا يسقون المدام!! وكذلك نعيم بن مسعود الأشجعي ..

ومعنى ذلك : هو أن إسلام هؤلاء لم يكن معمقا ، ولا راسخا في نفوسهم. وأنهم لا يزالون يهتمون بالمدام (أو العقار) ويتعشقونها ، رغم نهي النبي عنها ، ونزول القرآن بتحريمها ..

ب : إننا نلاحظ : أن حسان بن ثابت كان مقربا من الهيئة التي حكمت الناس بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما أنه كان منحرفا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، ولم يبايعه ، بل يقال : إنه سب

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٥.

٢١١

عليا «عليه‌السلام» وهجاه (١).

ج : إن الأمور التي تمدح بها هؤلاء الأشخاص اليهود ، لا تنطلق ـ في أكثرها ـ من قيم إنسانية سامية ، وإنما هي الحالات والأوضاع التي يتطلبها واقع حياتهم ، وخصوصيات معيشية في مجتمع لا يملك نظرة بعيدة ، ولا تقييما سليما للكون والوجود ، وللحياة وللإنسان .. فلتراجع الفقرات بدقة ليتضح ذلك ..

د : إن هذا التعاطف الذي نراه لا ينطلق من الإحساس الإنساني ، ولا من مثل أعلى ، وإنما هو ينطلق من حالة هلع وأسف على فوات منافع دنيوية ومادية للمتأسفين بالدرجة الأولى ..

ه : إن تأسف حسان بن ثابت وغيره على بني النضير ، رغم أنهم قد رأوا بأم أعينهم ظلمهم وبغيهم ، وغدرهم ، ومجانبتهم للحق ، لأمر يثير العجب حقا.

ولا ندري إن كان ذلك يكفي لعد هؤلاء في جملة الذين عنتهم الآية القرآنية التي تقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢).

فهي لا تشمل الذين يفدون اليهود بأنفسهم ، ويتأسفون عليهم لما نالهم ، ويرون : أنهم لم يعاملوا بما يليق بهم ، بل كانوا مظلومين فيما أصابهم.

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ٣ ص ١١٨ فما بعدها.

(٢) الآية ١١ من سورة الحشر.

٢١٢

أم أن الآية لا يجوز أن تتجاوز عبد الله بن أبي وأصحابه المجهولين! على اعتبار أن حسانا وسواه من حواريي الحكام بعد النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا يفسقون بما يفسق به الآخرون ـ كما جاء في السيرة الحلبية (١) ـ ولا تشملهم الآيات التي تشمل غيرهم ممن هم على شاكلتهم وطريقتهم ، ما دام أن نفس رضا الحكام عنهم يعطيهم مناعة وصلابة تجعلهم في مأمن من كل العوادي ، وترفعهم عن مستوى هذا البشر العادي ..

إن المراجع لتأريخ التزوير والتحوير لسوف يدرك الحقيقة ، ويعرف الغثاء ويميزه عن ذلك الذي يمكث في الأرض مما ينفع الناس.

رواية شاذة لابن عمر :

وقد جاء في رواية عن ابن عمر :

«.. إن يهود بني النضير وقريظة ، قتل رجالهم ، وقسم نساؤهم ، وأموالهم ، وأولادهم بين المسلمين ، إلا أن بعضهم لحق برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فآمنهم ، وأسلموا. وأجلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهود المدينة من بني قينقاع ، وهم قوم عبد الله بن سلام الخ ..» (٢).

وواضح : أن ذلك لا يصح بالنسبة إلى بني النضير ؛ لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقتل رجالهم ، ولا سبى نساءهم وأولادهم ، ليقسمها فيما بين المسلمين. وإنما أجلاهم عن أرضهم ، وقسم أرضهم بين المسلمين ..

وعليه .. فلا يصح ما ذكره إلا بالنسبة لبني قريظة ؛ فإنهم هم الذين

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) مسند أبي عوانة : ج ٤ ص ١٦٣.

٢١٣

جرى لهم ذلك ..

هذا .. وقد ذكرت هذه الرواية نفسها عن ابن عمر في ذلك المصدر بالذات ، وقد فصل فيها ما جرى لبني قريظة ، ولبني النضير على نحو أصح. فذكر جلاء بني النضير وقتل بني قريظة ، وسبي نسائهم وأولادهم ، فليراجعها من أراد (١).

رواية أخرى تحتاج إلى إصلاح :

قال الهيثمي :

«باب غزوة بني النضير : عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : جاء جبريل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد كلّ أصحابه ، وهو يغسل رأسه ، فقال : يا محمد ، قد وضعتم أسلحتكم ، وما وضعت الملائكة بعد أوزارها. فكف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شعره قبل أن يفرغ من غسله ؛ فأتوا النضير ؛ ففتح الله له.

رواه الطبراني ، وفيه نعيم بن حيان ، وهو ضعيف ، وقد وثقه ابن حبان ، وقال : يخطئ» (٢).

وسياق الحديث يدل دلالة بينة على أن المقصود هو بنو قريظة ؛ فإن هذه القصة إنما حدثت معهم ؛ لا مع بني النضير ، ولعل هذا من أخطاء نعيم الذي ذكر ابن حبان : أنه يخطئ ، وإن كان ثقة ..

__________________

(١) مسند أبي عوانة ج ٤ ص ١٦٤.

(٢) مجمع الزوائد : ج ٦ ص ١٢٥.

٢١٤

بنو النضير بمنزلة بني المغيرة :

وقد جاء في بعض النصوص : «وحملوا النساء والصبيان ، وتحملوا على ستمائة بعير ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش» (١).

وكلمة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذه تشير إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف بدقة وبعمق خصائص الفئات ومزاياها ، سواء في ذلك أولئك الذين عاش معهم منذ نعومة أظفاره ، وهم مشركو مكة ، وقبائلها ، أو أولئك الذين فرضت عليه الظروف أن يكون له منهم موقف سلبي أو إيجابي.

وإذا رجعنا إلى التاريخ ، ونصوصه ، فإننا نستطيع أن نعرف وجه الشبه بين بني المغيرة في قريش ، وبني النضير في اليهود ..

فقد ذكرت بعض النصوص : أن بني النضير : كانوا من بني هارون (٢) ، وذلك مما يزيد في شرفهم وعزهم بالنسبة إلى سائر اليهود ، كبني حارثة ، وغيرهم ، أما بنو قريظة ، فإنهم ، وإن كانوا من بني هارون أيضا ، إلا أن بني

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٥٨ وزاد المعاد ج ٢ ص ٧٢ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٥.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٢١٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٠ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٥ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢ وتفسير القمي ج ١ ص ١٦٨ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٦ و ١٦٨ وراجع المصادر الآتية في الهامش التالي : وذكر في السيرة النبوية ج ٣ ص ٢١٢ ذلك في شعر لعباس بن مرداس. وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٤ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٥.

٢١٥

النضير كانوا أكثر منهم مالا ، وأحسن حالا ، وكانوا ألف رجل ، وبنو قريظة سبعمائة ، وكانوا إذا قتل نضيري قريظيا ، فإنه يدفع نصف الدية ويجبه ويحمم (أي يسود وجهه ، ويحمل على جمل ، ويكون وجهه إلى ناحية ذنبه ، ويطاف به) وإذا قتل قريظي نضيريا ، فإنه يدفع الدية كاملة ، ويقتل به.

وللنضير القوة والسلاح والكراع (١).

ومن جهة ثانية : فإن من الطبيعي أن ينعكس ذلك على نفسيات بني النضير ، وأن يشعروا بالزهو والخيلاء ، حتى إننا لا نجد مبررا لتكذيب النص الذي يقول : «إنهم استقبلوا بالنساء والأبناء والأموال ، معهم الدفوف ، والمزامير ، والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ، ما رؤي مثله من

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٤٧٢ ، وراجع : ص ٤٧٣ و ٤٧٨ وتفسير القمي ج ١ ص ١٦٨ و ١٦٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٦ و ١٦٨ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٢٣ و ٥٢٤ وجامع البيان ج ٦ ص ١٥٤ و ١٥٧ و ١٦٤ و ١٦٥ و ١٦٧ وغرائب القرآن للنيسابوري بهامش جامع البيان ج ٦ ص ١٤٥ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٦٠ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ١٧٦ و ١٨٧ و ١٩١ والتبيان ج ٣ ص ٥٢١ وراجع : ص ٥٢٤ و ٥٢٥ والتفسير الحديث ج ١١ ص ١٠٧ ومجمع البيان ج ٣ ص ١٩٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٣ و ٤٤ والتفسير الكبير ج ١١ ص ٣٢٥ و ١٢ و ٦ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٣٦ ولباب التأويل ج ١ ص ٤٦٨ وفي ظلال القرآن ج ٢ ص ٨٩٤ والدر المنثور ج ٢ ص ٣٨١ و ٢٨٣ و ٢٨٤ و ٢٨٥ و ٢٧٨ و ٢٨٨ عن أحمد ، وأبي داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وعبد بن حميد ، وابن إسحاق ، وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه.

٢١٦

حي من الناس في زمانهم» (١).

وعند الديار بكري : «فعبروا من سوق المدينة» (٢).

وقال ابن الوردي : «فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير تجلدا» (٣).

وقال الواقدي : «.. ثم شقوا سوق المدينة ، والنساء في الهوادج ، عليهن الحرير والديباج ، وقطف الخز الخضر ، والحمر ، قد صف لهم الناس.

فجعلوا يمرون قطارا في إثر قطار ، فحملوا على ستمائة بعير.

إلى أن قال : ومروا يضربون بالدفوف ، ويزمرون بالمزامير ، وعلى النساء المعصفرات وحلي الذهب ، قال : يقول جبار بن صخر :

ما رأيت زهاءهم لقوم زالوا من دار إلى دار.

ونادى أبو رافع ، سلام بن أبي الحقيق ـ ورفع مسك الجمل ـ (في الحلبية : أن هذا المسك كان مملوءا من الحلي) وقال : هذا مما نعده لخفض الأرض ورفعها ، فإن يكن النخل قد تركناه ، فإنا نقدم على نخل بخيبر» (٤).

وحسب نص المسعودي : «.. فخرجوا يريدون خيبر ، وهم يضربون بالدفوف ، ويزمرون بالمزامير ، وعلى النساء المصبغات ، والمعصفرات ، وحلي

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٠١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٧٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٤٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٤ ومنهاج السنة ج ٤ ص ١٧٣.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٢.

(٣) تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٩.

(٤) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٤ و ٣٧٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٧.

٢١٧

الذهب ، مظهرين بذلك تجلدا» (١).

ولقد كان هذا أمرا متوقعا من فئة لم تزل موضع احترام وتبجيل من اليهود ، ولا تريد أن تعترف بالهزيمة ، وبكسر شوكتها ، وذهاب عزها ، وأفول نجمها.

وقد بلغ هذا العز والمنعة : أن المسلمين ما ظنوا أن يخرجوا من ديارهم ، كما صرحت به الآية الكريمة.

وعدا عن ذلك ، فقد كان بنو النضير أهل جبروت وقسوة وبغي ، وعنجهية ، واعتداد بالنفس ، حتى إنهم ليظلمون إخوانهم من بني قريظة ، وهم أيضا من بني هارون ، ظلما فاحشا ومخالفا لأحكام التوراة الصريحة ، وحتى لأحكام أهل الجاهلية أيضا.

ثم لا يوجد بينهم من يأنف من هذا الظلم ويمنع منه ، أو يندد به ، ويرفضه ، لا من رؤسائهم ، ولا ممن هم دونهم ، من عقلائهم وأهل الدين منهم.

هذا باختصار حال بني النضير في قومهم.

أما حال بني المغيرة في قريش ، فإنها أيضا تشبه حالة هؤلاء إلى حد كبير.

فقد كان بنو المغيرة ، من بني مخزوم ، وكان العدد والشرف والبيت فيهم (٢) ، وكانت قريش ـ فيما زعموا ـ تؤرخ بموت هشام بن المغيرة (٣) ، الذي أثنى عليه الكثيرون ، وكذا الحارث بن هشام فإنه منهم ، وهو موضع الثناء

__________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢١٣.

(٢) نسب قريش لمصعب ص ٢٩٩.

(٣) نسب قريش ص ٣٠١ وراجع : شرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١٨ ص ٣٠٠ و ٢٨٦.

٢١٨

والتعظيم أيضا (١).

ومنهم كذلك الوليد بن المغيرة ، الذي هو أحد العظيمين اللذين أشار إليهما الله تعالى في الآية الكريمة :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢).

وقد رثى أبو طالب «رحمه‌الله» أبا أمية بن المغيرة فقال :

وقد أيقن الركب الذي أنت فيهم

إذا رحلوا يوما بأنك عاقر

فسمي زاد الراكب ، واسمه حذيفة ، وكانت عنه عاتكة بنت عبد المطلب (٣).

وقد ذكر المعتزلي طائفة كبيرة من رجالهم وأمجادهم في الجاهلية ، وشطرا ممن تقلد منهم مناصب جليلة في حكم الأمويين ، وغيرهم ، فليراجعه من أراد (٤).

وإن المتتبع لسيرة رجال بني المغيرة من أمثال خالد بن الوليد ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وغيرهم ليجد فيهم الكثير من الزهو والخيلاء ، حتى إن خالد بن الوليد حين قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته في ليلة قتله ، قد عاد إلى أبي بكر ، وقد غرز في عمامته أسهما ، فانتزعها عمر ، فحطمها ، ثم قال له : أرئاء قتلت امرءا مسلما ، ثم نزوت على امرأته؟! والله ، لأرجمنك بأحجارك. والقصة معروفة (٥).

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١٨ ص ٢٨٧ و ٢٩٠ و ٢٩٣ و ٢٩٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١٨ ص ٢٩١.

(٣) نسب قريش ص ٣٠٠ وراجع : شرح النهج ج ١٨ ص ٢٩١.

(٤) راجع : شرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١٨ ص ٢٨٥ و ٣٠٩.

(٥) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٨٠ وقاموس الرجال ج ٣ ص ٤٩١ عنه.

٢١٩

كما أن شدتهم وقسوتهم وجبروتهم تعتبر من الأمور الظاهرة ، وقد عبر أمير المؤمنين «عليه‌السلام» عنهم بالفراعنة ، حين قال :

«.. وقد علمت من قتلت به من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم ، وجمح ، ومخزوم» (١).

فإن فراعنة بني مخزوم كانوا من بني المغيرة ، لأنهم هم الذين كان العدد والشرف والبيت فيهم ، كما ألمحنا إليه فيما سبق.

إذا ، فلا يجرؤ أحد على مناوأتهم والرد عليهم ، إلا إن كان من بني عبد مناف ، الذين لا يدانيهم أحد في الشرف والسؤدد.

هذا كله .. بالإضافه إلى وضعهم المادي المتميز ، كما يظهر من ملاحظة حياة الكثيرين منهم.

وهم بالإضافة إلى ذلك كله ، أهل سياسة وكياسة ، يأنس الإنسان إلى حديثهم ، ويستلذ الجلوس إليهم ، حيث قد روي أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» قال :

«أما بنو مخزوم ، فريحانة قريش ، تحب حديث رجالهم ، والنكاح في نسائهم» (٢).

وبعد ذلك كله : فقد أصبح واضحا إلى حد ما ، سر جعل بني النضير في اليهود بمنزلة بني المغيرة في قريش.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٨٤.

(٢) نهج البلاغة بشرح عبده ج ٣ ص ١٧٨ الحكمة رقم ١٢٠ وراجع مصادر نهج البلاغة وأسانيده ج ٤ ص ١٠٩.

٢٢٠