الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

فقد كان قطع النخل ضروريا ولازما ، من أجل قطع آمال بني النضير ، وكل آمال غيرهم أيضا ، وخزيهم وخزي سائر حلفائهم ، وعلى رأسهم ابن أبي ، ومن معهم من المنافقين ، ثم كل من يرقب الساحة ، ويطمع في أن يستفيد من تحولاتها في تحقيق مآربه ضد الإسلام ، والمسلمين.

ومن هنا نعرف السر في قوله تعالى : (.. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) بدل : «الكافرين» ، من أجل أن يشمل الخزي كل من يسوءه ما جرى لبني النضير ، حتى أولئك الذين يتظاهرون بالإسلام ، أو بالمودة الكاذبة للمسلمين.

وهذه ما يفسر لنا : الاهتمام الكبير الذي أولاه سبحانه لموضوع قطع النخل ، حتى لقد خلده في آية قرآنية كريمة ، فإن القضية كانت أكبر من بني النضير ، وأخطر ، حسبما أوضحناه.

المهاجرون!! وقطع النخل :

بقي علينا أن نشير هنا إلى أن البعض يذكر : أن المهاجرين هم الذين اختلفوا فيما بينهم حول قطع النخل.

فعن مجاهد ، قال : نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل ، قالوا : إنما هي مغانم للمسلمين (١).

ونلاحظ : أن هذا بالذات كان رأي عبد الله بن سلام ، الذي كان يهوديا

__________________

(١) جامع البيان ج ٢٨ ص ٢٣ و ٢٢ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٣ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٦ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ والدر المنثور ج ٦ ص ١٨٨ عن عبد الرزاق ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل.

١٦١

فأسلم ، رغم أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أمره بقطع النخل ، فعلل اختياره للرديء بذلك كما ذكرنا.

ولنا أن نتساءل هنا :

لما ذا المهاجرون هم الذين ينهون عن ذلك؟!

ولما ذا لم يكن فيهم أحد من الأنصار؟

سوى ابن سلام!!

وربما رجل آخر أيضا!!

فهل أدرك المهاجرون أمرا عجز الأنصار عن إدراكه؟! أم أنهم قد اتخذوا هذا الموقف انطلاقا من مصالح رأوا أنها لربما تفوتهم ، لو استمر الأمر على النحو الذي خطط له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

أم أنه قد كانت ثمة خلفيات أخرى ، لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا عنها ، لسبب ، أو لآخر؟!

وإذا كانت النصوص كلها تقريبا تؤكد على : أن الرسول الأعظم نفسه هو الذي أمر بقطع نخلهم (١) .. فإن معنى ذلك هو : أن اعتراض هذا الفريق من المهاجرين قد كان متوجها إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات. وأن الفريق الآخر منهم إنما كان ينفذ أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولا نملك هنا إلا التذكير بأنه قد سبق لبعض المهاجرين : أن اعترضوا على رسول الله ، حينما أراد قتل أسرى بدر ، وأصروا عليه في ترك ذلك ، حتى نزل القرآن مصوّبا رأيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) قد تقدمت المصادر لذلك.

١٦٢

ولكنهم لم يقنعهم ذلك ، رغم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبرهم : أنه سيقتل بعدتهم فيما بعد ، لو تم إطلاق سراحهم .. وهكذا كان.

وقد سجلنا بعض الشكوك والتساؤلات حول موقف بعض المهاجرين في حرب أحد (١) فلا نعيد.

ومهما يكن من أمر ، فإننا لا نستطيع أن نفهم موقف هذا الفريق من المهاجرين هنا ، وكذلك موقف بعضهم في بدر ، وأحد ، بصورة ساذجة ولا أن نفسره بطريقة سطحية ، ما دام أن الدلائل تشير إلى خلفيات ، ودوافع غير معلنة ، ولا ظاهرة ، يؤثر الوقوف عليها في استجلاء كثير من الحقائق ، والوقوف على بواطن وكوامن كثيرة ، ولربما على مبهمات خطيرة ، تؤثر على فهمنا العام لكثير من المواقف في حياة العديد من الشخصيات التي كان لها دور مرموق في كثير من الأحداث الخطيرة في التأريخ الإسلامي.

وخلاصة الأمر : أن البحث الموضوعي يقضي بتقصي النصوص والمواقف واستنطاقها ، لمعرفة مدى تعاطف بعض المهاجرين مع قومهم المكيين ، ومع يهود المدينة ، ليمكن لنا تقييم مواقفهم ، وفهم معاني كلماتهم ، وإشاراتها ومراميها ، بصورة أدق وأعمق ، وليكون تصورنا أقرب إلى الواقع ، وأكثر شمولية ، وأتم وأوفى.

وفي إشارة خاطفة نذكّر : بأننا قد تحدثنا عن أن المهاجرين كانوا يشكلون تكتلا مستقلا ، له تطلعاته وطموحاته ، وله فكره المتميز في آفاقه وفي خصائصه ، ولا سيما في ما يرتبط بالسياسة والحكم والتخطيط له.

__________________

(١) راجع هذا الكتاب ج ٨ عنوان : من مشاهد الحرب.

١٦٣

أما الأنصار ، فلم يكونوا كذلك ، بل كانوا فريقا آخر ، يحرم من اهتمامات الحكام ، ويستثنى من مختلف الامتيازات ، إلا حيث يحرج الحاكم ، ولا يجد من ذلك بدا ولا مناصا.

وقد روي عن الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب قوله :

«أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين : أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم. وأوصيه بالأنصار ، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم : أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم» (١).

فيلاحظ : الفرق النوعي فيما يطلبه ثاني الخلفاء ممن يلي الأمر بعده بالنسبة لهؤلاء ، وبالنسبة لأولئك.

وعلى هذا الأساس ، ومن منطلق هذه الفوارق ، جاء قول ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم : فاجهد : ألا تخرج من هذه المنازل.

وقال بعضهم : كن شمسا ، فإن لم تستطع ، فكن قمرا فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا ؛ فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا ، ومن جهة النور لا تنقطع.

ومعنى هذا : كن مهاجريا ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصاريا ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم الخ .. (٢).

ولا ندري من أين جاءت هذه الطبقية ، وكيف قبل الناس هذا التمييز

__________________

(١) فتح القدير ج ٥ ص ٢٠٢ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٢٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٧ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٧٥ والدر المنثور ج ٦ ص ١٩٥ عن البخاري ، وابن أبي شيبة ، وابن مردويه.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٣١.

١٦٤

الذي لا يقوم على تقوى الله ، وإنما على عناوين وخصوصيات فرضتها طبيعة التحرك في مجال نشر الدعوة وتركيزها؟ ويوضح ذلك أن عمر بن الخطاب حين خطب بالجابية قال : «ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله تعالى جعل له خازنا وقاسما.

ألا وإني بادئ بأزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فمعطيهن ، ثم المهاجرين الأولين ، أنا وأصحابي ، أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا» (١).

ومهما يكن من أمر ، فإنك تجد في كتابنا هذا إشارات ونصوصا كثيرة في مواضع مختلفة توضح ما عانى منه الأنصار ، واختص به المهاجرون. واستيفاء البحث في هذا يحتاج إلى توفر تام ، وتأليف مستقل.

التصويب في الاجتهاد :

لقد استدل البعض بقوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٢) على جواز الاجتهاد ، وعلى تصويب المجتهدين (٣).

كما واستدلوا على جواز الاجتهاد بحضرة الرسول ، وعلى أن كل مجتهد

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٢٠ وحول مصادر تمييز عمر بين الناس في العطاء ، وتفضيل بعضهم على بعض راجع كتابنا : «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي».

(٢) الآية ٥ من سورة الحشر.

(٣) فتح القدير ج ٥ ص ١٩٧ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٨ عن الماوردي ، وعن الكيا الطبري وراجع : غرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٢٨ ص ٣٧ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٩.

١٦٥

مصيب ، بالرواية التي تقول :

إن رجلين ، أحدهما كان يقطع العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال هذا : تركتها لرسول الله.

وقال هذا : قطعتها غيظا للكفار (١).

ونقول :

إن الاستدلال بما ذكر لا يصح ، وذلك لما يلي :

١ ـ بالنسبة للاستدلال بالرواية على التصويب فقد قال ابن العربي : «وهذا باطل ، لأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

٢ ـ إن الرواية المذكورة لم تصرح بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمضى اجتهادهما أم لا. حيث إنها ذكرت اعتذارهما للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الشأن ، فهل أيد هذا الفريق؟ أو ذاك؟ أو لم يؤيد أيا منهما؟ كل ذلك لا دليل عليه ، ولا شيء يشير إليه.

٣ ـ إنه ـ لو فرض أن هذا اجتهاد ـ فإنما هو اجتهاد بالتطبيق ، فواحد يرى : أن هذا جائز ، لأن فيه نكاية في العدو ، والنكاية في العدو ، وإغاظته مطلوبة منه وواجب عليه.

وذاك يرى : أن تقوية المسلمين مطلوبة ، وأن في الاحتفاظ بالنخل تقوية

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٣ والكشاف ج ٤ ص ٥٠١ و ٥٠٢ وقد تقدم اسم هذين الرجلين ، ومصادر موقفهما هذا فليراجعه من أراد.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٨.

١٦٦

لهم ، وعملا بالحكم الشرعي.

فليس ثمة اجتهاد في حكم شرعي كلي من الأحكام الخمسة ، وإنما هم مختلفون في تشخيص موضوع الحكم الشرعي أي فيما هو المصلحة لهم ، وما فيه نكاية في العدو.

٤ ـ من الذي قال : إن هؤلاء الذين اختلفوا في قطع النخل وعدمه ، كانوا قد بلغوا رتبة الاجتهاد؟ فلعل أحدا منهم لم يكن قد بلغ هذه المرتبة الشريفة ، ولعل أحد الفريقين قد بلغها دون الآخر ، ولعل ، ولعل.

٥ ـ إنه إذا كان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمر بقطع النخل ، كما صرحت به النصوص المتقدمة عن مصادر كثيرة جدا ، فإن الاستدلال على جواز الاجتهاد والتصويب فيه بالآية الكريمة يصبح في غير محله ، وذلك لأن عدم القطع يصير اجتهادا في مقابل النص ، بل هو عصيان لأمر الرسول ، وشك في صواب ما يصدر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمرهم بقطع نوع من النخيل ، فلم يعجبهم ذلك ، فعصوا الأمر.

٦ ـ إن التصويب باطل ، ولا يصح ، لا عقلا ، ولا شرعا ، وقد تكلم الأصوليون على هذا الأمر بالتفصيل ، فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجع المطولات (١).

هذا الشعر لمن؟!

قال السمهودي ـ كما قال غيره ـ : «ولما حرق رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) فوائد الأصول ، للشيخ الأنصاري ص ٢٥.

١٦٧

وآله» نخلهم ، قال حسان رضي‌الله‌عنه يعير قريشا من أبيات :

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ولم يكن أسلم حينئذ :

أدام الله ذلك من صنيع

وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بنزه

وتعلم أي أرضينا تضير

أي ستعلم أينا منها ببعد ، وأي الأرضين أرضنا أو أرضكم يحصل لها الضير ، أي الضرر ، لأن بني النضير إذا خرجت أضرت بما جاورها ، وهو أرض الأنصار ، لا أرض قريش.

ونقل ابن سيد الناس ، عن أبي عمرو الشيباني : أن الذي قال البيت المتقدم ، المنسوب لحسان هو : أبو سفيان بن الحارث ، وأنه لما قال : وعز على سراة بني لؤي ، بدل : هان قال : ويروى (بالبويلة) بدل (بالبويرة) وأن المجيب له بالبيتين المتقدمين هو حسان.

وما قدمناه هو رواية البخاري.

قال ابن سيد الناس : وما ذكره الشيباني أشبه.

قلت : كأنه استبعد أن يدعو أبو سفيان في حالة كفره على أرض بني النضير ، وقد قدمنا وجهه (١). انتهى كلام السمهودي.

ولكننا بدورنا نؤيد ما ذكره ابن سيد الناس ، وذلك لأن تفسير

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٨ و ٢٩٩ وراجع : شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢١٥ ، عن ابن سيد الناس ، والجواب عن ابن حجر وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٩ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٢٥٧ و ٢٥٨ ومعجم البلدان ج ١ ص ٥١٢ و ٥١٣.

١٦٨

السمهودي للبيت الثاني غير مفهوم ، فإن حريق النخل لا يلزم منه لحوق الضرر بأراضي الأنصار.

كما أن تفسيره ، الذي ذكره لا يدفع كلام ابن سيد الناس ، وذلك لأن البيت الأول من بيتي الجواب ، فيه الدعاء والطلب من الله أن يديم هذا الصنيع.

وظاهره : أن ذلك الدعاء يصدر من رجل محب وموال وموافق على هذا الحريق.

كما أن من البعيد أن يكون قد وصل خبر حرق النخل إلى مكة ، ثم وصل شعر حسان إليهم ، وأجابوا عليه بالطلب من الله إدامة هذا الأمر من أجل أن تحترق أراضي الأنصار ، فإن أمر بني النضير قد فرغ منه خلال أيام.

ومن جهة أخرى : فإن البيت الأول يناسبه كلمة وعز ؛ لأن سراة بني لؤي ـ وهم مشركو مكة ـ يعز عليهم حدوث هذا الحريق في بني النضير ، ولا يهون عليهم .. إلا إذا كان يقصد بسراة بني لؤي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه.

أو كان يقصد : أن هذا الحريق لا تهتم له قريش ولا يضرها بشيء ، فأجابه حسان بأن ذلك سوف يضيرهم قطعا ، ولن تتضرر أرض الأنصار منه.

ومهما يكن من أمر ، فإنه لم يتضح لنا وجه تقويته لأن يكون البيت الأول لحسان .. والبيتان الآخران لأبي سفيان بن الحارث ..

ولعل كلام ابن سيد الناس أولى بالقبول ، وأقرب إلى اعتبارات العقول.

وأخيرا .. فقد قال العيني : في ترجيح قول ابن سيد الناس : «يصلح للترجيح قول أبي عمرو الشيباني ، لأنه أدرى بذلك من غيره على ما لا يخفى على أحد» (١).

__________________

(١) عمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٩.

١٦٩
١٧٠

الفصل الرابع :

الجزاء الأوفى

١٧١
١٧٢

تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى :

قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١).

قد أعطت هذه الآية الشريفة تصورا متكاملا عن حالة أولئك الذين لا يملكون صفة الإيمان ، حيث أرجعت هذه الحالة إلى عللها وأسبابها ، وربطتها بمناشئها الحقيقية ، بصورة واضحة ودقيقة.

ولا نريد أن نستعرض هنا كل ما تعرضت له الآية تصريحا ، أو تلويحا ، فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام ، وتأمل ودقة وجهد ، لا نجد لدينا القدرة على توفيره فعلا ، وإنما نريد أن نسجل هنا حقيقة واحدة ، نحسب أن الإلفات إليها يناسب ما نحن بصدده ، وهي :

أن النظرة المادية للحياة ، وعدم الإيمان بالآخرة ، أو عدم تعمق الإيمان بها يجعل الإنسان يقيس الأمور بمقياس الربح والخسارة في الدنيا. وهذا ـ بنظره ـ هو الذي يعطيها القيمة ، أو يفقدها إياها ، ولتصبح الحياة الدنيا ـ

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة الحشر.

١٧٣

من ثم ـ هي الغاية ، وهي النهاية ، وهي كل شيء بالنسبة إلى هذا النوع من الناس ، فإذا فقدها ، فلا شيء له بعد ذلك على الإطلاق. ويصبح شخصه كفرد هو المعيار والميزان للصلاح والفساد ، وللحسن والقبيح ، وللواجب والحرام. فهو لا يمارس شيئا ولا يرتبط بشيء إلا بمقدار ما يجر إليه نفعا ، أو يدفع عنه شرا وضرا. وتفقد الحياة الاجتماعية معناها ومغزاها ، إلا في الحدود التي تخدم وجود الفرد ، ومصالحه ،. فهو مع الناس ، وإنما لأجل نفسه ، وهو وحده لا شريك له ، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله وفي خدمته. ويجب أن يضحى بكل غال ونفيس في سبيله ، فهو القيمة لكل شيء ، وليس لأي شيء آخر أية قيمة تذكر.

وعلى هذا ، فإن جميع القيم تسقط ، ويبقى هو. فلا معنى للتضحية إلا إذا كانت من الآخرين من أجله ، ولا معنى للإيثار إلا إيثار الآخرين له على أنفسهم. ولا معنى للشهادة في سبيل الله إلا إذا نالت الآخرين دونه ، ولا معنى للحق وللباطل ، وللغدر والوفاء ، وللصدق والكذب و.. و.. الخ .. إلا من خلال ما يجلب له نفعا ، أو يدفع عنه ضرا وشرا.

وإذا كان مع الجماعة فإنه لا يشاركهم في شيء ، ولا يهمه من أمرهم شيء ، بل هو يريد منهم أن يدفعوا عنه ، ويموتوا من أجله وفي سبيله.

وهذا بالذات ما يفسر لنا قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (١).

نعم .. إن قلوبهم (شتى) بكل ما لهذه الكلمة من معنى لأنهم لا

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة الحشر.

١٧٤

يفكرون في شيء واحد ، وإنما هم يفكرون بأشياء متباينة ، ومتعددة ، بعددهم جميعا. فنفس كل فرد منهم تخضع لفكرين متناقضين فصاحبها يفكر في حفظها ، وبقائها ، وكل من معه يفكرون في إتلاف هذه النفس من أجل حفظ وجودهم هم دونه.

وهكذا الحال بالنسبة لنفس كل فرد منهم ، وإذا فكر أحد منهم بحفظ نفوس الآخرين ، فإنما ذلك حين يرى فيه ضمانة لبقائه ، وحفظ نفسه هو أولا.

وذلك يوضح لنا أيضا : السر في أن هؤلاء لا يقاتلون المؤمنين إلا من وراء جدر ، أو في قرى محصنة ، حسبما أوضحته الآية الشريفة.

وما ذلك إلا لأن هؤلاء لا يعقلون معنى الحياة وأسرارها ، ولا حكمة الخلق وأهداف الوجود. فإن ذلك إنما جاء وفق المعايير والأحكام العقلية والفطرية ، فهو لا يشذ عنها ، ولا يختلف ولا يتخلف عن أحكامها ومقتضياتها.

ولو أنهم فكروا وأطلقوا عقولهم من عقال الهوى ، لأدركوا ذلك كله ، ولتغيرت نظرتهم للكون وللحياة ، ولعرفوا بعضا من أسرار الخلق والوجود ، ولتبدلت المعايير والقيم التي كانت تستند إلى أوهام وخيالات ، وتؤكدها وتفرضها الفطرة الخالصة عن الشوائب ، والبعيدة عن تجاذب الأهواء.

إذا .. فعدم التزامهم بهدى العقل ، ورفضهم الانصياع لأحكامه ، هو أصل البلاء ، وسبب العناء ، وهو ما أكدته الآية الكريمة ، التي أرجعت حالتهم التي هي غاية خزيهم وذلهم إلى ذلك ، فهي تقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١).

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة الحشر.

١٧٥

اليهود والمنافقون لا ينصرون حلفاءهم :

ونلاحظ هنا : أن المعاهدات التي كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبرمها مع اليهود ، لم يظهر اليهود فيها وحدة متكاملة ، بل كانوا شيعا وأحزابا. فقد عاهد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل قبيلة منهم على حدة : النضير ، وقينقاع ، وقريظة ، وكذلك الحال بالنسبة لخيبر وفدك وغير ذلك ، ومعنى ذلك هو أنهم كانوا فيما بينهم شيعا وأحزابا.

ويلاحظ أيضا : أن أيا من قبائلهم لم تنهض للدفاع عن القبيلة الأخرى. كما أن أحلافهم من غطفان ، ومن المنافقين ، لم يهبوا لنصر أي من القبائل والجماعات التي حالفوها ووعدوها النصر ، وهو ما نص عليه الله تعالى حين قال عنهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١) ..

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٢). وقد علم معنى الآيات مما قدمناه.

وعن علي «عليه‌السلام» أنه قال : المؤمنون بعضهم لبعض نصحاء ، وإن افترقت منازلهم ، والفجرة بعضهم لبعض غششة خونة ، وإن اجتمعت

__________________

(١) الآيتان ١١ و ١٢ من سورة الحشر.

(٢) الآية ١٣ من سورة الحشر.

١٧٦

أبدانهم (١).

وكان مما قاله سلام بن مشكم لحيي بن أخطب حول وعد ابن أبي لهم بالنصر :

«ليس قول ابن أبي بشيء ، إنما يريد ابن أبي : أن يورطك في الهلكة ، حتى نحارب محمدا ، ثم يجلس في بيته ويتركك. قد أراد من كعب بن أسد النصر ، فأبى كعب ، وقال : لا ينقضن العهد رجل من بني قريظة وأنا حي ، وإلا فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد ، وحصروا أنفسهم في صياصيهم ، وانتظروا نصرة ابن أبي ، فجلس في بيته ، وسار محمد إليهم ، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه.

فابن أبي لا ينصر حلفاءه ، ومن كان يمنعه من الناس كلهم ، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها ، إلى أن تقطعت حربهم ، فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود ، ولا على دين محمد ، ولا على دين قومه ، فكيف تقبل منه قولا قاله؟

قال حيي : تأبى نفسي إلا عداوة محمد وإلا قتاله ..

قال سلام : «فهو والله جلاؤنا من أرضنا الخ ..» (٢).

ويلاحظ من كلام سلام : أنه كان يشك في نوايا عبد الله بن أبي تجاههم.

ومما يؤكد هذه التهمة قول الواقدي بعد ذكره إرسال ابن أبي إلى قريظة يطلب منهم نصر إخوانهم من بني النضير ، ورفضهم لذلك : «فيئس ابن أبي من قريظة ، وأراد أن يلحم الأمر فيما بين بني النضير ، ورسول الله ، فلم يزل

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ١٩٩ عن الديلمي.

(٢) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٦٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٤.

١٧٧

يرسل إلى حيي ، حتى قال حيي : أنا أرسل إلى محمد أعلمه : أنا لا نخرج من دارنا ومن أموالنا الخ ..» (١). فصدق الله العظيم ، وصدق رسوله الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وصدق أمير المؤمنين علي «عليه الصلاة والسلام» وصدق الأئمة من ولده صلوات الله عليهم أجمعين.

يخربون بيوتهم بأيديهم :

هناك أقوال كثيرة في بيان المراد من قوله تعالى عن بني النضير : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ونحن نشير هنا إلى بعضها ، فنقول :

قال البعض : «يخربونها من داخل (أي ليهربوا) ويخربها المؤمنون من خارج (أي ليصلوا إليهم).

وقيل : معنى بأيديهم : بما كسبت أيديهم من نقض العهد ، وأيدي المؤمنين ، أي بجهادهم» (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٦٨.

(٢) الآية ٢ من سورة الحشر.

(٣) راجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٥١ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٨ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٠ و ١٦١ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٤ و ٥ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٦ وراجع : الكشاف ج ٤ ص ٤٩٩ والقول الأول موجود في : التبيان ج ٩ ص ٥٥٨ وكذا في جامع البيان ج ٢٨ ص ٢٠ وراجع : غرائب القرآن بهامشه ج ٢٨ ص ٣٥ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٥ ومدارك التنزيل بهامش نفس الصفحة.

١٧٨

ولعل هذا القول هو الذي أشار إليه الزجاج ، حين قال : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين : أنهم عرضوها لذلك (١).

وكان المسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح (٢).

وقال البعض : «كانوا ينظرون إلى منازلهم فيهدمونها ، وينزعون منها الخشب ، ما يستحسنونها ، فيحملونها على إبلهم ، ويخرب المؤمنون بواقيها ..

إلى أن قال : قال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد ، وينقضون السقف ، وينقبون الجدر ، وينزعون الخشب حتى الأوتاد ، ويخربونها ، حتى لا يسكنها المؤمنون ، حسدا وبغضا» (٣).

وقيل : إن سبب خرابهم لبيوتهم حاجتهم إلى الخشب والحجارة ، ليسدوا بها أفواه الأزقة ، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب ، والساج المليح. أما المؤمنون فداعيهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٨ والبحار ج ٢٠ ص ١٦١ عنه ، وجوامع الجامع ص ٤٨٦ وراجع : مدارك التنزيل (بهامش لباب التأويل) ج ٤ ص ٢٤٥ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٦ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨١ والكشاف ج ٤ ص ٥٠٠.

(٢) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٧٤.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٥ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٤ عن الزهري وعروة بن الزبير ، وابن زيد والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨١ و ٢٨٠ وقول ابن زيد في : غرائب القرآن المطبوع بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٥ وكذا في فتح القدير ج ٥ ص ١٩٦.

١٧٩

إزالة متحصنهم وممتنعهم ، وأن يتسع لهم مجال الحرب (١).

وقال القمي : «وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا ظهر بمقدم بيوتهم ، حصنوا ما يليهم ، وخربوا ما يليه ، وكان الرجل ممن كان له بيت حسن خربه ..» (٢).

وثمة أقوال أخرى في المقام ، وبعضها يرجع إلى ما تقدم.

منها : قول عكرمة : إن منازلهم كانت مزخرفة ، فحسدوا المسلمين أن يسكنوها ، فخربوها من داخل ، وخربها المسلمون من خارج (٣).

وقول آخر : إنه كلما هدم المسلمون شيئا من حصونهم ، جعلوا ينقضون بيوتهم ، ويخربونها ليبنوا ما هدم المسلمون (٤).

وقول ثالث : إنهم كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ، لتتسع لهم المقاتل ، وجعل اليهود ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها ، فيتحصنون فيها ، ويكسرون ما يليهم ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما كادت اليهود أن تبلغ آخر دورها ، وهم ينتظرون المنافقين ، حتى يئسوا منهم طلبوا

__________________

(١) الكشاف ج ٤ ص ٤٩٩ و ٥٠٠ ومدارك التنزيل ، مطبوع بهامش لباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٥ وراجع : غرائب القرآن بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٥.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٩ وتفسير الصافي ج ٥ ص ١٥٤ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٥ وراجع : التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٠.

(٤) فتح القدير ج ٥ ص ١٩٦ وجامع البيان ج ٢٨ ص ٢١ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٤.

١٨٠