الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

__________________

ج ٢ ص ٢٢ والمحلى ج ٧ ص ٢٩٤ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٠ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٤٢٩ وسيرة مغلطاي ص ٥٣ ومعجم البلدان ج ١ ص ٥١٢ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١١ و ١٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٠ و ١٤٧ و ١٤٩ و ١٥٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٧٩ و ٧٧ والثقات ج ١ ص ٢٤٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧ ، والأحكام السلطانية ص ٦٤ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥٤ و ٢٥٦ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٠ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٤٨ وجوامع الجامع ص ٤٨٦ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨١ و ٣٧٢ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٥ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٨ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٨ و ٦ و ٧ عن مسلم ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٣ وزاد المعاد ج ٢ ص ٧١ والكشاف ج ٤ ص ٥٠١ وتفسير الصافي ج ٥ ص ١٥٤ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣١ و ٣٣٣ و ٣٣٤ والإكتفاء ج ١ ص ١٤٧ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ١٢٢ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٩ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٨ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢١٤ و ٢١٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦١ ومنهاج السنة ج ٤ ص ١٧٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٢ والأموال ص ١٥ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٧ وغرائب القرآن مطبوع بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٣٦ والبحار ج ٢ ص ١٥٩ و ١٦٥ و ١٦٩ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٣ والدر المنثور ج ٦ ص ١٨٨ عن بعض من تقدم ، وعن سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه والنسائي وابن أبي حاتم ، وابن إسحاق ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣١٠ ومسند أبي يعلى ج ١٠ ص ٢٠٧.

١٤١

زاد البعض : أن أهل التأويل قالوا : «وقع في نفوس المسلمين من هذا الكلام شيء ، حتى أنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ..) (١).

عدد النخلات المقطوعة؟!

قال ابن شهرآشوب : «أمر بقطع نخلات ..

إلى أن قال : ثم أمسك عن قطعها بمقالهم ، واصطلحوا أن يخرجوا» (٢).

وقيل : أحرقوا نخلة ، وقطعوا نخلة ، وقيل : كان جميع ما قطعوا وأحرقوا ست نخلات» (٣).

ونحن نشك في أن يكونوا قد قطعوا هذا العدد القليل من النخل ، أو أحرقوه ، فإن قطع نخلة واحدة ، وحتى ست نخلات ، لا يوجب خضوع بني النضير ، وقبولهم بالجلاء ، وخزي الفاسقين بصورة عامة ، كما نصت عليه الآية الكريمة.

كما أنه لا يوجب نزول آية قرآنية تتحدث عن هذا الأمر ، وتخلده كأسلوب ناجح في إرعاب العدو وإرهابه ..

فإنه لا بد أن يكون القطع قد بلغ حدا جعلهم يجنحون إلى الاستسلام ،

__________________

(١) راجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٠ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٦ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وتعليقات محمد فؤاد عبد الباقي على سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٤٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٥ عن الكازروني وغيره ، وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٦ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٦ والقول الأول ذكره في الأحكام السلطانية ص ٦٤.

١٤٢

والقبول بما يريده الرسول ، ثم نزلت آية كريمة تتحدث عن هذا الموضوع ، وتفصل الأمر فيه ، وتحسم فيه النزاع.

تفاصيل أخرى في حرق وقطع النخيل :

وجزعوا على قطع العجوة ، فجعل سلام بن مشكم يقول : يا حيي العذق خير من العجوة ، يغرس فلا يطعم ثلاثين سنة ، يقطع.

فأرسل حيي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا محمد ، إنك كنت تنهى عن الفساد ، لم تقطع النخل؟ نحن نخرج من بلادك.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا أقبله اليوم الخ .. (١) ، «وكانت النخلة ثمن وصيف ، وأحب إليهم من وصيف» (٢).

وجاء في نص آخر : أن الذي حرق نخلهم وقطعها عبد الله بن سلام ، وعبد الرحمن بن كعب ، أبو ليلى الحراني ، من أهل بدر ، فقطع أبو ليلى العجوة ، وقطع ابن سلام اللون ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لم قطعتم العجوة؟!

قال أبو ليلى : يا رسول الله ، كانت العجوة أحرق لهم وأغيظ ، فنزل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها ..) (٣) الآية ..

فاللينة : ألوان النخل.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٣.

(٢) البحار ج ٢٠ ص ١٦٥ عن الكازروني وغيره ، ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وإرشاد الساري ج ٧ ص ٣٧٥.

(٣) الآية ٥ من سورة الحشر.

١٤٣

والقائمة على أصولها : العجوة.

فنادوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد الخ .. (١).

وصرحت بعض النصوص : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل ابن سلام ، وأبا ليلى المازني على قطع النخل (٢) ، أو أمرهما (٣) ، أو أشار إليهما بذلك (٤).

وأضاف الديار بكري قوله : «أما أبو ليلى فكان يقطع أجود أنواع التمر ، وهي العجوة ، ويقول : قطع العجوة أشد عليهم.

وأما عبد الله بن سلام ، فكان يقطع أردأ أنواع التمر ، وهو تمر يقال له :

اللون ، ويقول : إني أعلم : أن الله سيجعلها للمسلمين الخ ..» (٥).

فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب ، وضربن الخدود ، ودعون بالويل ؛ فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما لهن؟!

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٤٢ وراجع التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٣ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٥ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٥.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٦٥ والإصابة ج ٢ ص ٤٢٠.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ عن روضة الأحباب وراجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٢.

(٤) حبيب السير ج ١ ص ٣٥٥.

(٥) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وراجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٢ وليراجع : الكشاف ج ٤ ص ٥٠١ و ٥٠٢ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٣ لكنهما لم يسميا الرجلين.

١٤٤

فقيل : يجزعن على قطع العجوة.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن مثل العجوة جزع عليه.

إلى أن قال : فلما صحن صاح بهن أبو رافع : إن قطعت العجوة ههنا ، فإن لنا بخيبر عجوة.

قالت عجوز منهن : خيبر يصنع بها مثل هذا.

فقال أبو رافع : فض الله فاك ، إن حلفائي بخيبر عشرة آلاف مقاتل ؛ فبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فتبسم.

ونحن نسجل هنا الأمور التالية :

١ ـ لماذا ابن سلام؟!

إننا نجد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل ابن سلام ـ وهو كان من اليهود ، من علمائهم ـ مع ذلك الرجل البدري على قطع نخل يهود بني النضير .. ومن الطبيعي أن يكون لذلك أثر ظاهر في بث اليأس في نفوسهم ، وفي إذلالهم وخزيهم ، ويساهم في كسر شوكتهم ، ويثير فيهم المزيد من الحنق ، والغيظ والألم ، وهم ذوو الغطرسة ، والعنجهية والخيلاء ، كما سيأتي توضيحه في موضعه إن شاء الله تعالى.

٢ ـ شكوك تصل إلى حد التهمة :

ونلاحظ هنا : كيف أن ابن سلام قد اختار أردأ أنواع التمر ، على الرغم من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بقطع النخل بصورة مطلقة ، ولم يقيد بشيء ، ورغم أنه قد كان من الواضح : أن الهدف من هذا الإجراء هو الضغط على هؤلاء القوم ، وإغاظتهم ، وإذلالهم ، وذلك إنما يتحقق بقطع ما

١٤٥

له أثر ظاهر في ذلك ، كما فهمه وعمل به ذلك الرجل البدري ، الذي جعله الرسول إلى جانب ابن سلام.

ولا نريد أن نسترسل في شكوكنا حول ابن سلام هذا ونواياه ؛ فنتهمه بالتعاطف مع اليهود الذين كان في وقت ما أحد علمائهم وكبرائهم ، حسبما يذكره التاريخ عنه.

ولعل هذه الشكوك تجد لها أكثر من مؤيد وشاهد فيما ينقل عن هذا الرجل من مواقف ، وأقوال ، واتجاهات ، وأحوال ، ولا سيما بعد وفاة الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولسنا هنا في صدد عرض ذلك واستقصائه ، فلنكف عنان القلم ـ إذا ـ إلى ما هو أهم ، ونفعه أعم وأتم.

البعض لم يفهم الآية :

ومن العجيب هنا قول البعض : «لما أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقطع النخيل ، وإحراقها ترددوا في ذلك ، فمنهم الفاعل ، ومنهم الناهي ، ورأوه من الفساد وعيّرهم اليهود بذلك ، فنزل القرآن العظيم بتصديق من نهى ، وتحليل من فعل ، فقال تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (١).

مع أن الآية ظاهرة الدلالة في تأييد أولئك الذين امتثلوا أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن أمره إنما كان بإذن الله ، وليس من عند نفسه.

__________________

(١) بهجة المحافل ج ١ ص ٢١٥.

١٤٦

فالآية في الحقيقة قد جاءت لتقريع وتأنيب المخالفين لأمر الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله». لكن هذا الرجل قد عكس الآية في مفادها ومدلولها ، ولم يلتفت إلى المراد منها.

٣ ـ الحرق أم القطع؟!

وبعد .. فإننا نجد النصوص التاريخية تكاد تكون مجمعة على أنه «صلى الله على وآله» قد حرق النخيل. ولكن الآية الكريمة التي نزلت في هذه المناسبة لم تشر إلى ذلك أصلا ، وإنما سجلت القطع فقط. فلربما يكون الأمر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صدر بالقطع دون الحرق ، فكان الحرق من بعض المسلمين ، اجتهادا منهم ، ولعله لم يكن ثمة حرق أصلا ، والله أعلم.

الحكم الفقهي في قطع الأشجار وحرقها :

لقد أفتى عدد من الفقهاء بحرمة قطع الأشجار في الحرب ، إلا في حال الضرورة (١). وحكم كثير من الفقهاء بالكراهة (٢).

__________________

(١) راجع : المهذب لابن البراج (مطبوع ضمن الينابيع الفقهية) كتاب الجهاد ص ٨٨ مقيدا للأشجار ب «المثمرة» وفي منتهى المطلب ج ٢ ص ٩٠٩ عن أحمد ، وقد حكي القول بعدم الجواز عن الليث بن سعد ، وأبي ثور ، والأوزاعي فراجع : فتح الباري ج ٥ ص ٧ والجامع الصحيح ج ٤ ص ١٢٢ وفقه السيرة ص ٢٨٠ وعن شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ٥٠.

(٢) تذكرة الفقهاء ج ١ ص ٤١٢ و ٤١٣ وراجع : السرائر ص ١٥٧ وتحرير الأحكام ج ١ ص ١٣٥ وشرائع الإسلام ج ١ ص ٣١٢ والقواعد (المطبوع مع الإيضاح) ج ١ ص ٣٥٧ والجامع لأحكام الشرائع ص ٢٣٦ ومنتهى المطلب ج ٢ ص ٩٠٩

١٤٧

وقيد البعض بصورة ما لو رجي صيرورته للمسلمين ، وكان مما يقتات به (١).

حرق النخيل ، والفساد في الأرض :

وقد عرفنا في ما تقدم : أن التاريخ يؤكد على أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمر بحرق نخل بني النضير ، أو قطعه. وقد تحدث القرآن عن القطع هذا بأسلوب الرضا والقبول ، حسبما تقدم.

وروي أيضا : أنهم قد قطعوا الشجر والنخل بالطائف ، بالإضافة إلى قطع النخل بخيبر ، وروي أيضا قطع شجر بني المصطلق وإحراقه (٢).

وعن أسامة بن زيد قال : بعثني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى قرية يقال لها : «أبنى».

فقال : «ائت أبنى صباحا ثم حرق». أي بيوتهم وزروعهم ، ولم يرد تحريق أهلها (٣).

__________________

والوسيلة (المطبوع ضمن الجوامع الفقهية) ص ٦٩٦ والخراج لأبي يوسف ص ٢١٠ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٣١ عن الأوزاعي والمبسوط للشيخ الطوسي رحمه‌الله ج ٢ ص ١١ وعون المعبود ج ٧ ص ٢٧٥ ومجمع الأنهر ج ١ ص ٥٩٠.

(١) الروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٠.

(٢) راجع : تذكرة الفقهاء ج ١ ص ٤١٢ وراجع أيضا : السرائر ص ١٥٧ والجواهر ج ٢١ ص ٦٧ ومنتهى المطلب ج ٢ ص ٩٠٩ والمبسوط للشيخ الطوسي ج ٢ ص ١١ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٣٢.

(٣) سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٤٨ وهامشه لمحمد فؤاد عبد الباقي ، والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٣١ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣٨ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٥ و ٢٠٩.

١٤٨

وفي مجال آخر : فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بحرق مسجد الضرار وهدمه (١).

وأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتحريق متاع الغال (٢).

وروي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هم بحرق بيوت تاركي صلاة الجماعة (٣).

وقد بلغه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزوة تبوك فبعث إليهم نفرا ، وأمرهم أن يحرقوا عليهم بيت سويلم (٤).

وبعد ما تقدم .. فإن السؤال الذي يتطلب منا الإجابة هنا هو : أنه إذا

__________________

(١) راجع : زاد المعاد ج ٣ ص ١٧ والتنبيه والإشراف ص ٢٣٧ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٠٩.

(٢) زاد المعاد ج ٢ ص ٦٦ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٣١ والجامع الصحيح ج ٤ ص ٦١ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٦٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٢.

(٣) زاد المعاد ج ٣ ص ١٧ والسنن الكبرى ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦ وسنن أبي داود ج ١ ص ١٥٠ وسنن الدارمي ج ١ ص ٢٩٢ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٩٢ و ٤٠٢ و ٤٢٢ و ٤٤٩ و ٤٥٠ وج ٢ ص ٢٢٤ و ٢٩٢ و ٢١٤ و ٣١٩ و ٣٦٧ و ٣٧٦ و ٣٧٧ و ٤١٦ و ٤٢٤ و ٤٧٢ و ٤٧٩ و ٥٣١ و ٥٣٩ وج ٥ ص ٢٠٦ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٢٣ و ١٢٤ وفيض الباري ج ٢ ص ١٩١ وصحيح البخاري ج ١ ص ٧٨ و ٧٩ وج ٢ ص ٤٠ وج ٤ ص ١٥٩ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٨٩ و ٩٠ والمعجم الصغير ج ٢ ص ٥٧ وج ١ ص ١٧٢. والجامع الصحيح ج ١ ص ٤٢٢ وسنن النسائي ج ٢ ص ١٠٧ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٢٩٦ والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج ١ ص ١٥٠.

(٤) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٦٠ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٠٩.

١٤٩

كان رسول الله قد أمر بذلك كله ، أو همّ به ؛ فكيف نوفق بين أمره هذا وبين فتوى الفقهاء بالحرمة ، أو بالكراهة ، حسبما تقدم؟!!.

بل لقد ورد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان حين يرسل سرية ، يوصيهم بأن لا يقطعوا شجرا إلا أن يضطروا إليها (١).

وعن ثوبان : أنه سمع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «من قتل صغيرا ، أو كبيرا ، أو أحرق نخلا ، أو قطع شجرة مثمرة ، أو ذبح شاة لإهابها ، لم يرجع كفافا» (٢).

أضف إلى ذلك كله : أن اليهود أنفسهم قد اعترضوا على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه ينهى عن الفساد ، فلم يقطع النخل؟! وقد تقدم ذلك ..

جواب السهيلي لا يصح :

فقد يقال : في مقام الإجابة على ذلك استنادا إلى رواية ثوبان المتقدمة : أن المنهي عنه هو قطع الشجر المثمر ، وعلى حد تعبير السهيلي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما أحرق ما ليس بقوت للناس.

قال السهيلي : «لينة : ألوان التمر ، ما عدا العجوة ، والبرني ؛ ففي هذه الآية : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٠ والبحار ج ١٩ ص ١٧٧ و ١٩٩ وتذكرة الفقهاء ج ١ ص ٤١٢ و ٤١٣ ومنتهى المطلب ج ٢ ص ٩٠٨ و ٩٠٩ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٦٦ والوسائل ج ١١ ص ٤٣ و ٤٤ والمحاسن للبرقي ص ٣٥٥ وفي هامشه عن الوسائل ، وعن التهذيب ج ٢ ص ٤٦.

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ٢٧٦.

١٥٠

للناس ، وكانوا يقتاتون العجوة .. (ثم ذكر أهمية العجوة والبرني ، ثم قال) : في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ..) (١) (ولم يقل : من نخلة ، على العموم) تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ، ويغذو من شجر العدو. إذا رجى أن يصير إلى المسلمين.

وقد كان الصديق (رض) يوصي الجيوش ألا يقطعوا شجرا مثمرا. وأخذ بذلك الأوزاعي ؛ فإما تأولوا حديث بني النضير ، وإما رأوه خالصا للنبي «عليه‌السلام» (٢).

ولكننا لا نوافق السهيلي على ما قاله ، وذلك لما يلي :

ألف : بالنسبة لما ذكره في معنى اللينة ، نجد كثيرا من أهل اللغة لا يوافقونه على ما ذكره في معناها ، فقد :

قال الراغب وغيره : «(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ..) : أي من نخلة ناعمة ، ومخرجه مخرج فعلة ، نحو حنطة ، ولا يختص بنوع منه دون نوع.

وكذا نقل عن ابن زيد ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد» (٣).

وقال : «سعيد بن جبير ، ومالك ، والخليل ، ويزيد بن رومان ، ورجحه النووي ، وكذا قال الفراء والزهري ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن عباس ، ونسب إلى أهل المدينة : اللينة كل شيء من النخل سوى العجوة ؛ فهو من اللين ،

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الحشر.

(٢) الروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٠ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٢٥٦ و ٢٥٧ وأشار إلى أن العجوة كانت قوت بني النضير في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٦.

(٣) المفردات للراغب ص ٢٥٧ وراجع : التبيان ج ٩ ص ٥٥٩.

١٥١

واحدته لينة» (١).

وقال الزبيدي : كذا عن ابن عباس ومقاتل ، وعن الحسن ، ومجاهد وعطية : «اللينة ـ بالكسر ـ : النخل» (٢).

وقيل : هي كل الأشجار (٣).

__________________

(١) راجع : لسان العرب ج ١٣ ص ٣٩٣ و ٣٩٥ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥٧ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٠٢ وشرح المحافل ج ١ ص ٢١٥ والتبيان ج ٩ ص ٥٥٩ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وجامع البيان ج ٢٨ ص ٢٢ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٧ ، ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٦١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٨ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٨ ويلاحظ : أن المذكورين في المتن قد ذكرت أسماؤهم في بعض المصادر دون بعض.

(٢) راجع : تاج العروس ج ٩ ص ٣٣٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥٧ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٨ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٦ وإرشاد الساري ج ٧ ص ٣٧٥ وجامع البيان ج ٢٨ ص ٢٢ و ٢٣ وفتح القدير ج ٥ ص ١٩٩ و ١٩٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٩ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٤٠٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وجوامع الجامع ص ٤٨٦ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٣ والأحكام السلطانية ص ٦٥.

(٣) شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢١٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦١ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٨ والأحكام السلطانية ص ٦٥.

١٥٢

وقال سفيان : هي كرام النخل وكذا عن مجاهد ، وابن زيد (١).

وقال آخر ، ونسب ذلك إلى مجاهد ، وعطية : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) (٢) : أي من نخل ، والنخل كله ، ما عدا البرني (٣).

وعن مقاتل ، هي : «ضرب من النخل يقال لتمرها : اللون ، وهي شديدة الصفرة ، يرى نواها من خارج ، تغيب فيها الأضراس ، وكانت من أجود تمرهم ، وأحبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة ثمن وصيف ، وأحب إليهم من وصيف ؛ فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم» (٤).

وقيل : هي الدقل (٥) ، إلى غير ذلك من أقوال.

__________________

(١) عمدة القاري ج ١٧ ص ١٢٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٦١ عنه وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢١٥ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٩ والأحكام السلطانية ص ٦٥ والتبيان ج ٩ ص ٥٥٩ ومدارك التنزيل بهامش لباب التأويل ج ٤ ص ٢٤٦ وجامع البيان ج ٢٨ ص ٢٣ وغرائب القرآن مطبوع بهامشه ج ٢٨ ص ٣٧ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٨ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٨٣ والكشاف ج ٤ ص ٥٠٠.

(٢) الآية ٥ من سورة الحشر.

(٣) الدر النظيم في لغات القرآن الكريم ص ٢٠٧ وراجع تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ عن مجاهد وعطية.

(٤) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ وإرشاد الساري ج ٧ ص ٣٧٥ وراجع : الأحكام السلطانية ص ٦٤.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١٧٦٩ والدقل : نوع من التمر ، قيل : هو أردأ أنواعه. راجع : لسان العرب ج ١١ ص ٢٤٦.

١٥٣

ب : قولهم : إنه قطع اللين وترك العجوة ، لا تؤيده النصوص التاريخية.

فقد قال دحلان : «.. فقطع لهم نخل يسمى : «العجوة» ، وآخر يسمى : «اللين» ، وكان ذلك أحرق لقلوبهم ؛ لأن ذلك خير أموالهم ؛ فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب ، وضربن الخدود ، ودعون بالويل».

وكذا قال غيره (١).

زاد الحلبي قوله : وكانت العجوة خير أموال بني النضير لأنهم كانوا يقتاتونه (٢).

وعن الماوردي : وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شق على اليهود قطعها (٣).

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» في تفسير اللين : أنها العجوة خاصة (٤).

وتقدم : أن أبا ليلى قطع العجوة ، وأن ابن سلام قطع اللون ، وتقدم أنهم جزعوا على قطع العجوة ، فراجع ما جاء تحت عنوان «تفاصيل أخرى في حرق وقطع النخيل».

ج : ولو قبلنا تفسير السهيلي لكلمة «لينة» فإن ما ذكره لا يحل الإشكال ؛ ما دام أنه كان ينهى سراياه عن قطع مطلق الشجر ، فكان يقول لهم : «ولا تقطعوا شجرا» ، ولا يختص ذلك بالشجر الذي يقتات منه ، ولا

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦١. والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٩.

(٤) فتح القدير ج ٥ ص ١٩٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ٩ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٧٦٨ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٣١٣.

١٥٤

بالشجر المثمر ..

د : ولو قبلنا أيضا أن المراد هو خصوص ما يقتات منه ، فإن ما عدا العجوة والبرني كان أيضا مما يقتات به ، ويؤكل .. غاية الأمر أن جودة ثمره لم تكن في مستواهما وإنما هو رديء بالنسبة إليهما.

ه : ولو قبلنا كل ما ذكره السهيلي فإننا نقول : إن قوله بكراهة قطع الشجر في صورة ما لو رجي أن يصير للمسلمين ، في غير محله ؛ فإن النهي عن قطع الشجر مطلق ، ولم يقيد بصورة الرجاء المذكور.

نعم ، هو قد جاء على لسان الحبر اليهودي عبد الله بن سلام ، ولم يعلم من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه قبله ورضيه.

و : وأما قوله ، إن الأوزاعي وأبا بكر : قد تأوّلا حديث بني النضير ، أو أنهما رأيا أنه مختص برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حيث منعا من قطع الشجر المثمر مطلقا. فليس في محله أيضا ؛ فإنهما قد فهما ذلك من كلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نهيه عن قطع الشجر ، فحكما بمقتضاه ، ولم يخصصا حكمهما هذا بشخص ولا بشيء ، وإنما هما قد وجدا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اضطر إلى قطع شجر بني النضير ، فأجازا ذلك للضرورة ؛ فإن قطع الشجر لأجل الضرورة مما رخص به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفس وصاياه لسراياه ، حسبما ألمحنا إليه (١).

وإذا .. فهما لم يريا أن ذلك من الأحكام المختصة به «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) قد تقدم ما يفيد في ذلك وراجع أيضا : ج ٣ من هذا الكتاب.

١٥٥

ضرورة قطع الأشجار وحرقها :

لقد نزل القرآن ليرد على الذين عابوا قطع الأشجار ، وليؤكد على أن ذلك كان بإذن من الله سبحانه ، تماما كما كان ترك ما ترك منها بإذن الله تعالى ..

إذا ، فلا بد لنا من التعرف على السر الكامن وراء تجويز هذا العمل ، وصيرورته مقبولا ، بعد أن كان مرفوضا ، ومأذونا به بعد أن كان ممنوعا عنه.

فنقول :

إن الذي يبدو لنا هو : أن بني النضير أهل الزهو والخيلاء ، والعزة (١) كانوا يحسون في أنفسهم شيئا من القوة ، والمنعة في قبال المسلمين ، ويجدون : أن بإمكانهم مواجهة التحدي ، فيما لو أتيح لهم إطالة أمد المواجهة ، حيث يمكنهم أن يجدوا الفرصة لإقناع حلفائهم بمعونتهم ، ولا سيما إذا تحرك أهل خيبر الذين كان لديهم العدة والعدد الكثير ، حسبما تقدم في كلمات سلام بن مشكم. كما أن ابن أبي ومن معه قد يراجعون حساباتهم ، ويفون لهم بما وعدوهم به من النصرة والعون.

ولا أقل من أن يتمكن ابن أبي وأتباعه من إحداث بلبلة داخلية ، من شأنها إرباك المسلمين وزعزعة ثباتهم من الداخل.

وقد يمكن لقريش ، ولمن يحالفها من قبائل العرب ، أن يتحركوا أيضا لحسم الموقف لصالح بني النضير ، وصالحهم بصورة عامة.

__________________

(١) سيتضح ذلك حين الكلام عن كونهم في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش ، فانتظر.

١٥٦

ولا أقل من أن يتمكن يهود بني النضير من الاحتفاظ بمواقعهم ، وبأرضهم وديارهم ، حين يجد المسلمون : أن مواصلة التحدي لهم لن تجدي نفعا ، ما داموا قادرين على الاحتماء بحصونهم ، والدفاع عنها مدة طويلة ، فيتراجعون عن حربهم ، ويتركونهم وشأنهم ، من أجل التفرغ إلى ما هو أهم ، وأولى.

وإذا كانت قضية بني النضير قد حصلت بعد وقعة أحد ـ وإن كنا لم نرتض ذلك ـ فلا بد أن يكون اليهود قد فكروا : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه قد أصبحوا الآن في موقف الضعف والتراجع. ولعل في تسويف الوقت معهم ، في الوقت الذي يحس فيه المسلمون بالفشل وبالكارثة ، نتيجة لما نزل بهم في أحد ، لسوف يجعلهم يفكرون في انتهاج سبيل السلامة ، والانسحاب من موقع التحدي إلى موقع المساومة ، ومن سبيل الحرب إلى سبيل السلم ، وتوفير الأمن ، ومراعاة جانب هؤلاء وأولئك ، وعدم إثارة العداوات الكبيرة داخل بلادهم ، وفي قلب مواضعهم ومواقعهم.

وأما إذا كانت قضية بني النضير قد حصلت قبل ذلك ، وبعد ستة أشهر من حرب بدر ، حسبما قويناه ، استنادا إلى العديد من الدلائل والشواهد :

فلعل يهود بني النضير قد فكروا : أن المسلمين لسوف لا يفرطون بهذا النصر الكبير الذي حققوه ، ولعلهم على استعداد لمداراة هؤلاء وأولئك في سبيل الحفاظ على صلابة الموقف وثباته ، ولسوف لا يقدمون على أي عمل من شأنه إحداث خلخلة في بنية مجتمعهم. ولعل اليهود يعتقدون : أن حرب بدر كانت أمرا اتفاقيا صنعته الصدفة ، والحظ السيء للمشركين ، وليس نتيجة قدرات حقيقية كانت لدى المسلمين. وإذا فليس ثمة ما

١٥٧

يخيف ، وليس هنالك ما يثير قلقا.

أما هم ـ أعني بني النضير ـ فيجدون في أنفسهم القوة والمنعة ، ولهم حلفاء كثيرون ، وكثيرون جدا.

وبعد كل ما تقدم ، فقد جاء موقف الإسلام ، المتمثل في موقف رسوله الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، في دقته ، وفي ثاقب بصيرته ـ قد جاء ـ على خلاف ما يتوقعون ، وبغير ما يريدون ويشتهون.

فقد رأى المسلمون ، من خلال الموقف النبوي الحازم والقوي : أن النصر في بدر ، وكذلك الضربة القاسية التي نزلت في أحد ، لا بد أن تعمق فيهم إيمانهم ، وارتباطهم بالله سبحانه ، وتقوي من صمودهم ، وتشد من عزائمهم. وقد جعلهم هذا النصر ، وتلك المأساة يشعرون بمسؤولية أكبر تجاه الرسالة ، حيث أصبحوا في موقع التحدي السافر لكل مظاهر الظلم والجبروت والطغيان ومصادره.

وعليهم من الآن فصاعدا أن يطردوا من آفاقهم كل مظاهر الضعف ، وأن ينقوا أجواءهم من جميع عوامل التشر ذم والتشتت ، وأن يبعدوا عن واقعهم وعن علاقاتهم ، جميع مصادر الخلل ، وعدم الانسجام.

فالتحدي كبير ، والمسؤوليات جليلة وخطيرة ، فلا بد من الاستعداد ولا بد من التصدي ، بصورة أعمق ، وأوثق وأوفق ، ما دام أنهم قد وصلوا إلى نقطة اللارجوع ، وأصبح الثمن غاليا ، وهو دماء زكية ، وأرواح طاهرة ، ونقية ، فالحفاظ على القضية ، وعلى منجزاتها ، التي دفعوا ثمنها جزء من وجودهم ومن ذواتهم وأرواحهم أمر حتمي ، إذ إن التخلي عنها يساوق التخلي عن الحياة وعن الوجود ، وعن كل شيء.

١٥٨

وقد اتضح لديهم : أن أي تراجع أمام التحديات الكبيرة الراهنة ، لسوف تلحقه تراجعات أعظم ، ويستتبع انحسارا أكبر عن كثير من المواضع والمواقع الحساسة ، لصالح كل الأعداء والطامعين ، في منطقة العمل والكفاح الإسلامي المقدس.

كما أن هذا التراجع والانحسار لسوف يزيد من اشتهاء الآخرين للحصول على المزيد من المكاسب ، ويضاعف من تصلبهم وشدتهم في مواجهة المد الإسلامي العارم. ولسوف تنتعش الآمال ، وتحيا الأماني ، بإضعاف هذا المد تدريجا ، ثم القضاء عليه قضاء مبرما ونهائيا في الوقت المناسب. وأما بالنسبة إلى أولئك الذين يميلون إلى الدخول في هذا الدين الجديد ، فإنهم حين يرون ضعفه ، وتراجعه ، وقوة خصومه وشوكتهم ، لسوف يجدون في أنفسهم المبررات الكافية للتأني والتريث بانتظار المستجدات ، وما ستؤول إليه الأمور.

ولربما يتشجع الكثيرون أيضا على نقض تحالفاتهم ، التي كانوا قد عقدوها مع المسلمين ما دام أن ذلك لن يستتبع خطرا ، ولا يصطدم بصعوبات ذات بال.

كما أن الآخرين الذين يعيشون حالة الترقب سوف لا يجدون في أنفسهم حاجة لعقد تحالفات ومعاهدات مع المسلمين في هذه الظروف المستجدة.

وأخيرا .. فإننا نضيف إلى كل ما تقدم : أن من الطبيعي أن يكون خوض معركة كبيرة مع اليهود ـ وربما مع كثير من حلفائهم ، الذين قد يتشجعون لمساعدة اليهود بعد طول المدة ، وبعد إحساسهم بقوتهم

١٥٩

وصلابتهم في وجه الحصار ، وبضعف في موقف المسلمين ـ سوف يوجب أن تلحق بالمسلمين خسائر كبيرة ، مادية وبشرية ، لو أمكن توفيرها لما هو أهم لكان أجدر وأولى.

فإذا استطاع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون كسر عنجهية بني النضير وغزوهم قبل أن يستفحل الأمر ، وإفهامهم ـ ومن هو على مثل رأيهم ـ مدى التصميم على المواجهة والتحدي ، حتى يفقدوا الأمل بجدوى المقاومة ، وليفهموا ـ بصورة عملية ـ أنهم إذا كانوا يطمعون بالبقاء في أرضهم ، فإن عليهم أن يقبلوا بها أرضا محروقة ، جرداء ، ليس فيها أي أثر للحياة ، ولا تستطيع أن توفر لهم حتى لقمة العيش التي لا بد منها ـ هذا فيما لو قدر لهم أن يحتفظوا بالحياة ، ويخرجوا أو بعضهم سالمين من هذه الحرب التي جروها على أنفسهم ـ.

نعم .. إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا استطاع ذلك ، فإنه يكون قد وفر على نفسه ، وعلى الإسلام والمسلمين الكثير من المتاعب ، والمصاعب ، والمصائب ، التي ألمحنا إليها.

وهذا هو ما اختاره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فعلا ، وبادر إليه عملا. فكان قطع النخيل وحرقه يمثل قطع آخر آمالهم ، وتدمير كل أمانيهم ، وغاية ذلهم وخزيهم.

ورأوا حينئذ : أن لا فائدة من الاستمرار في اللجاج والتحدي إلا تكبد المزيد من الخسائر ، ومواجهة الكثير من النكسات.

وهذا بالذات ، هو ما يفسر لنا قوله تعالى في تعليل إذن الله سبحانه بقطع النخل : (.. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

١٦٠