الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٠

١ ـ إن هذا الموقف منه «عليه‌السلام» يوضح لنا قيمة الإنسان في الإسلام ، واهتمامه البالغ في الحفاظ على موقعه ، وعلى كرامته ووجوده. حتى إن الرجل الأول في الدولة الإسلامية ليعاني من الألم والأسى بسبب الاعتداء على كرامة الإنسان ما يجعل الموت أسفا على ما جرى أمرا مقبولا ، بل يجعله هو الجدير واللائق به. ثم هو «عليه‌السلام» يقرر : أن هذا الحدث لا بد أن يؤثر بهذا المستوى أيضا في كل إنسان مسلم ، من كان ومهما كان.

٢ ـ إنه يعطي : أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ـ وهو الذي يمثل نظرة الإسلام الأصيلة ـ ينظر بعين المساواة إلى كل من هم تحت سلطته ، أو تحت حمايته ، فهو يتألم للمرأة كما يتألم للرجل ، وهو يتألم كذلك للمعاهدة والتي هي على غير دينه ، بنفس المستوى الذي يتألم فيه للمسلمة ، وهو يطلب موقفا حازما تجاه الاعتداء على كرامتهما معا من كل مسلم ، بنفس القوة والفعالية والتأثير في رفع الظلامة وإعادة الحق إلى نصابه.

٣ ـ إنه «عليه‌السلام» قد حاول إثارة الناس وتحريكهم بأسلوب عاطفي يلامس مشاعرهم وأحاسيسهم ؛ فتحدث عن سلب المغيرين حلي النساء المسلمات والمعاهدات ، وفي ذلك إثارة عاطفية ، وتحريك لا شعوري للناس ، الذين سوف يسوؤهم الاعتداء على هذا الموجود الذي يمثل جانب الرقة والحنان في المجتمع.

٤ ـ إنه «عليه‌السلام» إنما توقع من المرء «المسلم» أن يموت أسفا ، واعتبره جديرا بذلك ، وحريا به .. ولعل هذا الأمر يشير إلى أن الإسلام هو ذلك الدين الذي يغرس في الإنسان معاني إنسانيته ، ويربيه تربية إلهية يحيا بها وجدانه ، وتتنامى فيها خصائصه ومزاياه الإنسانية ، فيصبح حي

١٠١

الشعور ، صافي النفس ، سليم الفكر ، إلهي المزايا ..

٥ ـ كما ونجده صلوات الله وسلامه عليه .. قد أهدر دماء المعتدين ، واعتبر أن أدنى جزاء لهم هو أن ينالهم كلم وجرح ، وتهرق دماؤهم ، رغم أن ما ارتكز عليه بيانه ، وجعله منطلقا له في تقريره هذا الجزء القاسي هو أمر لا يزيد على سلب الحجل والقلب والرعاث من امرأة مسلمة وأخرى معاهدة.

وذلك لأن الميزان في العقاب إنما هو درجة الجرأة على الله وعلى المحرمات ، ثم ما ينشأ عن ذلك من فساد وإفساد ، في البلاد والعباد.

٦ ـ إنه «عليه‌السلام» إنما ركز على الجانب الإنساني ؛ فحاول أن يؤكد للناس لزوم نصرة الضعيف ، والدفاع عنه والحفاظ عليه ، وأن ذلك هو مسؤولية كل فرد قادر بالنسبة إليه .. وقد أثار انتباه الناس إلى جانب الضعف هذا حين قال : «ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام» .. وليكن من ثم مبدأ نصرة الضعيف والدفاع عنه من الأوليات التي يفرضها الوجدان الحي ، والضمير الإنساني.

٧ ـ ثم هناك الجانب التربوي ، الذي يستهدف تركيز مفهوم العدالة في التعامل ، فلا يفرق بين مسلم ومعاهد ، ثم مفهوم عدم التغاضي عن المعتدين والمجرمين ، وعدم التواكل في رد العدوان. إلى غير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا.

وفاء اليهودي هو الغريب المستهجن :

وبعد .. فإننا حين نقرأ التاريخ ، فما يلفت نظرنا هو تكرر الغدر من اليهود ، واستمرارهم في نقض العهود والمواثيق ، مرة بعد أخرى ، كما كان الحال بالنسبة لبني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة.

١٠٢

ونجد في مقابل ذلك التزاما تاما من قبل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالعهود والمواثيق المعقودة.

ونحن نشير هنا إلى الأمور الثلاثة التالية :

الأول :

بالنسبة لعدم التزام اليهود في عهودهم نقول : إن ذلك طبيعي بالنسبة إلى قوم يزنون الأمور بموازين الربح والخسارة في الدنيا ؛ فإن من كان كذلك لا يلتزم بالصدق ـ مثلا ـ لأجل أن له قيمة أخلاقية أو إنسانية ، أو لأن فيه رضا الله سبحانه وتعالى وإنما يلتزم به لأنه يجلب له نفعا دنيويا ملموسا ، أو يدفع عنه ضررا كذلك .. وبدون ذلك ؛ فإنه لا يجد مبررا ولا دافعا للالتزام به ، بل هو حين يلتزم بصدق لا يشعر بنفعه الدنيوي يجد نفسه متناقضا مع مبدئه ، ومع منطلقاته في التفكير وفي العمل ، التي رضيها لنفسه.

وكذلك الحال بالنسبة لسائر الكمالات والفضائل الإنسانية ، وبالنسبة لكل الالتزامات ، والعهود ، والمواثيق ، التي يفرضها عليه واقع دنيوي معين ؛ فإنه إذا تجاوز ذلك الواقع ، فسوف لا يجد ما يبرر التزامه بذلك الكمال ، وتلك الفضيلة ، أو وفاءه بهذا العهد والميثاق ، أو ذاك. بل كل المبررات متضافرة لديه ، وكل القناعات حاكمة عليه بلزوم نقضها ، والنكث بها ، والالتزام بضدها.

الثاني :

بالنسبة لالتزام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين بعهودهم ومواثيقهم :

فقد اتضح : أنهم لا بد أن يكونوا فيها على العكس من اليهود تماما ، إذ قد أصبح من البديهي : أن العهد ، والميثاق وكل شيء آخر يفرضه عليهم

١٠٣

الشرع ، والعقل ، والإنسانية ، إنما يمثل لهم قيمة أخلاقية وإنسانية ، وحدا شرعيا ، لا بد لهم من الالتزام به ، والوقوف عنده : إن ذلك يمثل جزءا من وجودهم ، ومن شخصيتهم ، وإن الإخلال به سوف يوقعهم في تناقض مع أنفسهم بالدرجة الأولى ، ولسوف يجعلهم وجها لوجه مع أحكام العقل ، ومقتضيات الفطرة.

الثالث :

أما بالنسبة لموقف المسلمين الصارم والحازم من ناقضي العهود والمواثيق ، فإن ذلك هو ما تفرضه عليهم المسؤوليات الإنسانية والإسلامية أيضا ، بعد أن رضي أولئك المعتدون والناقضون للعهود بتحمل نتائج عملهم ، وأصبحوا وباء يريد أن يغتال فرص الخير من بين أيدي أهلها ، وأحق الناس بها.

وذلك لأن نقض العهود معناه : استخدام مناشئ القوة في سبيل ضرب مواقع الخير ، ومناشئه ، وتكريس الامتيازات لجهة الشر ، والانحراف ، الذي لا بد أن تنال سلبياته ، ويمتد وباؤه إلى كل مواقع الخير ، والسلامة ويقضي عليها.

فتصبح الحركة لضرب الشر في مواقعه ومناشئه حالة طبيعية يمارسها الإنسان المسلم ، ومسؤولية إلهية وإنسانية ، وعقلية ، وفطرية ، يفرضها واقع الحياة ، وحق الدفاع عن الوجود ، وعن الإنسانية والفطرة.

الجرأة ومبرراتها :

وبعد كل ما تقدم ، فإن السؤال الذي ربما يراود ذهن البعض هو : أنه قد تقدم : أن اليهود ، وكل من لا يؤمن بالآخرة ، وكذلك كل من يرى : أن الدنيا هي كل شيء بالنسبة إليه .. لا يمكنهم أن يقدموا على الموت وعلى

١٠٤

التضحية بالنفس إلا في حالات نادرة ، تتدخل فيها عناصر من شأنها أن تلقي ولو في فترات قصيرة وخاطفة تأثيرات تلك الرؤية ، وذلك الفهم الخاطئ ، لموضوع المعاد والجزاء ، وللآخرة ، وانعكاسات ذلك الفكر ، أو حيث لا يكون لهم ثمة خيار آخر يمكنهم اللجوء إليه ، والاعتماد عليه.

ومعنى ذلك هو : أن اليهود ، وكذلك المشركين ، سوف لا يكونون قادرين على اتخاذ قرار الحرب ، وهم يرون أنها سوف تحرق الأخضر واليابس ؛ فكيف يمكن فهم غدرهم بعهودهم ، ونقضهم لمواثيقهم ، ثم سعيهم لإثارة الحروب مع الآخرين ، ثم تحالفهم مع المشركين والمنافقين لحرب المسلمين؟! أليس الأنسب بطريقتهم في التفكير ، والأحرى والأجدر بهم ، في ظل ماديتهم ، وعدم إيمان الكثيرين منهم بالآخرة ، أن يعيشوا بسلام مع المسلمين ، ومع غيرهم ، وأن يبتعدوا بأنفسهم عن كل ما يثير ، ويوجب تأزما في العلاقات ، مع أي طرف كان؟!

والجواب :

أن ذلك صحيح في حد نفسه لو لا أن اليهود كانوا واقعين تحت تأثير التصورات والأمور التالية :

١ ـ إنهم يرون : أن الخطر الذي يتهددهم من جهة المسلمين ، أعظم وأشد ، وهو حتمي بالنسبة إليهم .. أما الخطر الآتي من قبل نكث العهود ، وما ينشأ عنه من حروب ، ومشاكل ، فليس ـ بنظرهم ـ بهذه الدرجة من الحتمية ، ولا هو بهذا المستوى من الخطورة ، فقد كانت الحرب نفسها تخضع لاحتمالات إيجابية بالنسبة إليهم سواء على مستوى القرار لديهم ـ لاحتمال مساعدة المشركين والمنافقين لهم ، أو على مستوى القرار لدى الفريق الآخر ،

١٠٥

وهم المسلمون ـ ولا سيما بملاحظة وجود المنافقين فيهم ـ حيث يرون أن الوضع العام للمسلمين لا يسمح لهم باتخاذ قرار الحرب ، الأمر الذي يجعل ارتكاب أخطار الحرب أهون عليهم ، وأقرب إلى احتمالات السلامة لهم. أو على مستوى النتائج ، والآثار ، بالنسبة لكلا الفريقين على حد سواء.

٢ ـ إن المسلمين ، وإن كانوا قد أثبتوا ـ ولا سيما في حرب بدر ـ أنهم مقاتلون من الدرجة الأولى ، وأنهم لا يهمهم شيء سوى رضا الله سبحانه .. فإن هذا الامتياز يمكن أن يصبح غير ذي أهمية ، حينما تكون ثمة حصون قادرة على جعل كل هذه الكفاءات بدون أثر ولا جدوى ، وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله : (.. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ ..) (١).

ومن الواضح : أن المسلمين لم يثبتوا بعد : أن لديهم قدرات ، وكفاءات لمواجهة حصون اليهود ، أو غيرهم.

٣ ـ إن اليهود يعتقدون : أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم شعب الله المختار ، ومعنى ذلك هو : أن دعوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف تصبح خطرا أكيدا على امتيازهم هذا الذي يرون فيه مبرر وجودهم ، ورمز كل عزتهم ، وخلاصة مجدهم.

فكانوا يجدون أنفسهم ملزمين بإضعاف أمر هذه الدعوة ، وإسقاطها ، بقدر ما هم مكلفون بالحفاظ على حياتهم ووجودهم ، وكل خصائصهم.

وهم معنيون أكثر من أي فريق آخر بذلك ؛ لأن خسارتهم هذه الورقة ، وفقدانهم هذا الأمر إنما يعني خسارتهم لكل شيء.

__________________

(١) الآية ٢ من سورة الحشر.

١٠٦

وما ذلك إلا لأنهم يزنون الأمور بميزان مادي بحت من جهة ولأن الحالة الشعورية الانفعالية قد أصبحت هي المهيمنة على كل تفكيرهم ، وعلى كل تصوراتهم ، وهي التي تحركهم في هذا الاتجاه تارة ، وفي ذاك الاتجاه من جهة أخرى.

التصوير الحاقد ، والتزوير الرخيص :

ويحاول البعض أن يقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ذهب إلى بني النضير ، ليطلب منهم مساعدة لدفع دية العامريين ، ولما كانت النضير حليفة عامر ؛ فلا شك أن تعقيدات نتجت عن ذلك ، وإن كانت المصادر لا تتحدث عنها.

ولربما فكر محمد بأن على اليهود أن يدفعوا أكثر مما يدفعه متوسط سكان المدينة ، فراق لليهود أن يدفعوا أقل (١).

ونقول :

إن ملاحظة العبارات الآنفة الذكر تعطينا : أن الهدف هو الإيحاء بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يطلب من بني النضير دفع شيء لم يكونوا ملزمين بدفعه.

وأنه قد أحرجهم بطلبه ذاك ، للحلف الذي كان بينهم وبين بني عامر.

وإذا ، فبنو النضير يصبحون ضحية أطماع مالية لا مبرر لها ، ولا يصح مطالبتهم بها ، لا واقعا ، ولا أخلاقيا.

__________________

(١) محمد في المدينة ص ٣٢٢.

١٠٧

كما أن إحراجهم بسبب الحلف المشار إليه ، يصبح عملا لا إنسانيا ولا أخلاقيا.

فكيف إذا كانت المساومة فيما بين المستجدي والضحية قد بلغت حدا نتجت عنه تعقيدات نزل الوحي الشيطاني بها على هؤلاء رغم أن المصادر لم تتحدث عنها؟!

وفوق ذلك ، فقد بلغ الصلف ، والظلم ، والابتزاز حدا من الدناءة والسوء جعل محمدا ـ والعياذ بالله ـ يفكر في أن يحملهم القسط الأكبر في ديّة رجلين لم يكن لهم في قتلهما يد ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، وينزل الوحي الشيطاني أيضا على هؤلاء ليقول لهم : إن محمدا قد فكر في ذلك ، لكن راق لليهود أن يدفعوا أقل.

ولكن اليهود المظلومين (!!) الذين وقعوا في فخ الأطماع الرخيصة (!!) عادوا فاستسلموا لهذا الظلم المقيت (!!) وأعلنوا أنهم على استعداد لإعطاء جواب مرض.

ثم تعاملوا مع هذا الذي يريد أن يبتزهم بأخلاقية عالية ونبيلة ، حين طلبوا منه أن يستريح ، بينما كانوا يعدون له الطعام.

مزيد من التجني :

ثم يتابع هذا الحاقد كلامه عن ذكر إرسال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم يأمرهم بمغادرة المدينة ، تحت طائلة الموت في مدة عشرة أيام ، على أن يبقى نخلهم لهم ؛ ويحتفظوا بنصف المحصول ، فيقول :

«إن هذا الإنذار لا يتناسب مع الإهانة ، أو الادعاءات الغامضة ، بصدد

١٠٨

خيانة مقصودة ..

ومع ذلك ، يمكن لهذه الادعاءات : أن لا تبدو غامضة لرجل غربي في أيامنا هذه. فقد كان الفريقان يعلمان كيف عامل بعض المسلمين كعب بن الأشرف.

وكان محمد يعلم جيدا ـ حسب الآراء السائدة في الجزيرة العربية آنذاك ـ أنه إذا سنحت الفرصة المناسبة انتهزها أعداؤه ، وقتلوه. وكان التأخير في إعطاء الجواب لإتاحة الفرصة لقتله ، ولهذا اعتبر عملا عدائيا ..» (١).

ونقول :

إننا لم نفهم السبب في وضوح هذه الادعاءات ، وخروجها عن الغموض لخصوص الرجل الغربي في أيامنا هذه (!!)

كما أن هذا الباحث (!!) لم يقل لنا : ما هو حجم الإنذار الذي يتناسب مع الإهانة والخيانة ، إذا كان إنذاره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتناسب معهما (!!).

فهل يقصد هذا الباحث (!!) أن المفروض هو أن يكون قتل بني النضير هو الجزاء العادل لخيانتهم ، وتآمرهم ، ونقضهم للعهد؟

أم أنه يقصد : أن طلب الجلاء منهم مع احتفاظهم بنخلهم ، ويكون لهم نصف المحصول ، كان جزاء ظالما ، لا يصح طلبه من الخائن المتآمر ، الناقض للعهود ، والمواثيق؟! ..

وبعد .. فإن هذا الباحث (!!) يريد أن يوحي لقرائه بأن كعب بن الأشرف قد قتل مظلوما أيضا ، وأن المسلمين قد عاملوه بقسوة لا يستحقها.

ولا ندري إن كان قبل أن يظهر تعاطفه مع هذا الرجل قد اطلع على

__________________

(١) محمد في المدينة ص ٣٢٢ و ٣٢٣.

١٠٩

سلسلة خيانات ابن الأشرف ، ومواقفه الظالمة ، وسعيه الحثيث للإيقاع بالمسلمين ، أم لم يطلع على شيء من ذلك ..

وهل يستطيع : أي نظام حكم غربي ـ يدّعي لنفسه الحضارة والرقي ـ في هذا العصر ، أن يحكم على أمثال كعب بن الأشرف ويجازيه بأقل مما حكم عليه به المسلمون ، وجازوه به؟! ..

وبعد كل ما تقدم ، لماذا اعتبر هذا الباحث : أن ما يذكره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون عن خيانات بني النضير ، وتآمرهم ، ونقضهم العهد مجرد ادعاءات غامضة؟! وها نحن نراها واضحة وضوح الشمس ، وتقدم تفصيلات وافية ، مستندها الوحي الإلهي عن خطط اليهود ، ومواقفهم.

ولم يستطع اليهود : أن يدفعوا التهمة عن أنفسهم ، ولا حاولوا ذلك ولو مرة واحدة.

هذا كله ، عدا عما تقدم من أن أخبار المؤامرة والخيانة قد وصلت إلى المسلمين أيضا عن طريق بعض اليهود أنفسهم (١).

ونكتفي بهذا القدر من الأسئلة ، التي لن تجد لها لدى هؤلاء الحاقدين جوابا مقنعا ومفيدا.

فإنما هي : «شنشنة أعرفها من أخزم».

__________________

(١) تقدم ذلك مع مصادره حين الكلام عن إخبار المرأة أخاها المسلم عن تآمر اليهود على حياة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

١١٠

الفصل الثالث :

القرار والحصار

١١١
١١٢

القرار الحكيم :

لقد كان من المتوقع ـ بعد نقض بني النضير للعهد ، وخيانتهم الظاهرة ـ : أن يكون قرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو حربهم وقتالهم ، وإبادة خضرائهم ؛ فإن ذلك هو الجزاء العادل لكل خائن وغادر ، ولا سيما إذا كان يخطط ويتآمر ، ثم يعمل على تنفيذ خططه بضرب الإسلام في الصميم ، على مستوى ضرب مقام النبوة والقيادة في أعلى مستوياتها ، وأخلص تجلياتها.

ولكن الملاحظ هو : أن الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد آثر أن يعامل بني النضير ـ كما عامل بني قينقاع قبلهم ـ بمزيد من الرفق والتسامح ، ولعل ذلك يرجع إلى الأمور التالية :

١ ـ إن هؤلاء القوم قد عاشوا دهرا في هذه المنطقة ، وأصبحت لديهم الكثير من العلاقات الإقتصادية والتجارية ، وغيرها ، إلى جانب علاقات الصداقة والمحبة مع سائر أهل البلاد الذين قبل كثير منهم الإسلام دينا وهداهم الله للإيمان ..

وإذا .. فقد يعز على الكثيرين ممن لهم معهم علاقات كهذه أن يروهم وقد حاقت بهم المصائب والبلايا ، واختطفت الكثيرين منهم أيدي المنايا ، فيعتبرون أنهم قد عوملوا بقسوة بالغة ، وبلا شفقة ولا رحمة ، وقد كان

١١٣

يمكن أن يكون الموقف أكثر مرونة وانعطافا وملاءمة من ذلك.

٢ ـ إن الكثيرين من الناس كانوا مبهورين بأهل الكتاب واليهود بالذات ، وينظرون إليهم على أنهم مصدر العلوم والمعارف ، وعندهم الكثير من الخفايا والأسرار .. وعلى هذا فقد يفسر ضربهم بقسوة على أنه ناشئ عن حالة من التخوف منهم ، أو الحسد والبغي عليهم.

وإذا كان كذلك فلا حرج من أن يتخيلهم المتخيلون شهداء وأبطالا ، لا بد من التأسف عليهم ، بل والحنين إليهم ..

٣ ـ ومن جهة أخرى ، فإن رؤية ذلهم وصغارهم ، ثم مراقبة ما يصدر منهم خلال ذلك من مواقف ماكرة وغادرة ، ومن مخالفات صريحة للأعراف ، ولأحكام العقل والفطرة ، والضمير ، لسوف يساهم في كشف زيفهم وخداعهم وغشهم للإسلام وللمسلمين.

كما أن رؤية الكرامات الإلهية الظاهرة ، والتأييدات الربانية الخفية منه تعالى لنبيه وللمسلمين ، ونصره تعالى عليهم لسوف يرسخ حقانية موقف الإسلام ، ونبي الإسلام منهم.

هذا .. مع توفر المزيد من الفرص للإنسان المسلم الواعي للتأمل والتدبر في ذلك كله ، بعيدا عن الانفعالات والتشنجات ، وفي منأى عن أعمال التضليل والتزوير ، التي ربما يمارسها الكثيرون من المنافقين ، وباقي اليهود الذين يتعاطفون معهم.

ومن هنا .. فقد جاء قرار إجلائهم عن المدينة ليكون القرار الحكيم والصائب ، وليكون هو الأوفق والأنسب والأقرب لتحقيق الأهداف الإلهية السامية والكبرى.

١١٤

وقد أبلغهم النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقراره هذا ، عن طريق رسول أرسله إليهم ، ليرى ماذا يكون جوابهم ويعلم الناس حقيقة موقفهم ..

٤ ـ كما أن في ذلك التفافا أيضا على المنافقين ، وعلى كل المتربصين بالمسلمين والإسلام سوءا ، من أن يجعلوا ذلك ذريعة للتحريض والتشهير بالإسلام وبنبيه الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

لماذا كان الرسول أوسيا؟ :

إن النص التاريخي يقول : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أراد أن ينذر بني النضير ، قال : ادعوا لي محمد بن مسلمة ، فحين أتى أرسله إليهم ينذرهم بوجوب مغادرتهم مساكنهم (١). ولا بد لنا من وقفة هنا ، لنعلم السر في اختياره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا الرجل بالذات ـ محمد بن مسلمة ـ ليكون رسوله إلى يهود بني النضير ، فنقول : إن الأوس كانوا حلفاء لبني

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٤١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٢ ، والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٦٧ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٤٢٧. وإرسال محمد بن مسلمة إليهم موجود في مختلف المصادر ، فراجع على سبيل المثال : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٤ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٩ وإعلام الورى ص ٨٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٠ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٥٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٤٧ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٠ و ١٦٤ و ١٦٩ عن بعض من تقدم ، وعن الكازروني وغيره. وراجع سائر المصادر التي سلفت وستأتي.

١١٥

النضير (١) ، ولربما كان يدور بخلدهم أن يكون للأوس دور إيجابي لصالحهم ، ولا أقل من أن يكون لهم موقف فيه شيء من العطف ، وعدم القسوة تجاههم ..

إذا عرفنا ذلك : فإن اختيار رجل من الأوس ليحمل رسالة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم يأمرهم فيها بالجلاء ، لسوف يزيد من يأسهم ، ويضاعف من تخوفاتهم وهو يمثل ضربة روحية موفقة ساهمت في المزيد من إضعاف معنوياتهم ، وجعلتهم يراجعون حساباتهم بجدية ، ثم يرضخون للأمر الواقع.

ويكفي أن نذكر شاهدا على ذلك : أنهم حين جاءهم محمد بن مسلمة الأوسي بالخبر ، قالوا :

«يا محمد ، ما كنا نظن : أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس ، فقال محمد بن مسلمة : تغيرت القلوب ، ومحا الإسلام العهود.

فقالوا : نتحمل.

فأرسل إليهم عبد الله بن أبي : لا تخرجوا الخ ..» (٢).

بل في بعض النصوص : أن محمد بن مسلمة هو الذي تولى إخراجهم من ديارهم (٣).

وقال الواقدي : «كان محمد بن مسلمة الذي ولي قبض الأموال

__________________

(١) دلائل النبوة لأبي نعيم ص ٤٢٥ وراجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٦٤.

(٢) الثقات ج ١ ص ٢٤١ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٦٧.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٠ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٥ عن الكازروني وغيره ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٢ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٤.

١١٦

والحلقة ، وكشفهم عنها» (١).

وواضح : أن ذلك أيضا يضاعف ذلهم وخزيهم ، ويزيد من آلامهم ، وقد كان يفترض فيهم : أن يأخذوا من ذلك عظة وعبرة ، وأن يراجعوا حساباتهم بشأن هذا الرسول ودعوته ؛ فقد تبين لهم أن الإسلام قد هيمن على القلوب وغيّرها ، ومحا الإسلام العهود.

ومعنى ذلك هو : أن ثمة رعاية إلهية له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولدينه ، ورسالته الظافرة ، وقد تجاوزت هذه الرعاية كل التوقعات ، وقلبت جميع الموازين لديهم ، ولدى غيرهم من المشركين ، الذين كانوا يعيشون في المنطقة ، وكانوا يتعاملون مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومع الدين الذي جاء به من موقع التحدي ، والمكابرة ، والجحود ..

فما كان أحراهم بعد أن عاينوا ما عاينوا من آيات بينات ، ومن كرامات ومعجزات ، أن يسلموا ويشهدوا لنبي الإسلام بالرسالة والنبوة ، ولكنهم لم يفعلوا .. بل جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.

حامل اللواء :

وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» : تقدم إلى بني النضير ، فأخذ أمير المؤمنين الراية ، وتقدم ، وجاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأحاط بحصنهم (٢).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧٧.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٩ وعنه في البحار ج ٢٠ ص ١٦٩ والصافي ج ٥ ص ١٥٤.

١١٧

وحسب نص آخر : وحمل لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب (١).

ولكن الواقدي قال : «وقد استعمل عليا «عليه‌السلام» على العسكر ، وقيل : أبا بكر» (٢).

ونقول : لا بد من الإشارة هنا إلى أمرين :

الأول : بالنسبة لاستعمال أبي بكر على العسكر ، فإنه قول منسوب إلى مجهول ، لم يجرؤ الواقدي على ذكر اسمه ، ولا مستنده ، ونحن نشك في كونه مختلقا وموضوعا على أبي بكر ؛ وذلك لما قدمناه من أن عليا كان صاحب لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بدر وفي كل مشهد (٣).

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٤٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٥٨ والوفاء ص ٦٨٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦١ والبحار ج ٢٠ ص ١٦٥ عن الكازروني وغيره ، وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٧٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٥٥ وزاد المعاد ج ١ ص ٧١ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦١.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٧١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٥.

(٣) راجع : ترجمة الإمام علي أمير المؤمنين ، من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج ١ ص ١٥٤. وذخائر العقبى ص ٧٥ عن أحمد في المناقب ، والطبقات الكبرى ج ٣ قسم ١ ص ١٤ وكفاية الطالب ص ٣٣٦ وفي هامشه عن كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٨ عن الطبراني ، وراجع : هامش ص ١٨٠ من احتجاج الطبرسي عن الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٦٧ و ٢٠٢ عن نظام الملك في أماليه. وراجع أيضا : مناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ص ٢٠٠ والمناقب للخوارزمي ص ٢٥٨ و ٢٥٩ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢١٦ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٠٠ وتلخيصه

١١٨

وقد صرحوا : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يؤمّر على علي أحدا «عليه‌السلام» (١) ، وقد كان «عليه‌السلام» في غزاة بني النضير ، فكيف يكون قد أمّر أبا بكر عليه؟!

وعدا عن ذلك كله .. فإن أبا بكر لم يكن معروفا بالشجاعة والإقدام ، إن لم نقل : إن الأمر كان على عكس ذلك تماما ، حسبما أو ضحناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، حين الكلام حول حرب بدر ، وما يذكر من شجاعة أبي بكر فيها ، لبقائه مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في العريش.

ومن الواضح : أن إمارة الجيوش وراياتها إنما تكون بيد الشجعان وأصحاب النجدة ، قال علي «عليه‌السلام» : وهو يحث أصحابه على القتال :

«ورايتكم فلا تميلوها ، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم ، والمانعين الذمار منكم ؛ فإن الصابرين على نزول الحقائق ، هم الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها ؛ حفا فيها ، ووراءها ، وأمامها ، لا يتأخرون عنها فيسلموها ، ولا يتقدمون عليها ، فيفردوها» (٢).

__________________

بهامش نفس الصفحة للذهبي وصححاه على شرط الشيخين والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٢٨٨ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥١٤ و ٥١٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٤ وفتح الباري ج ٦ ص ٨٩ عن أحمد وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٠ وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج ٢ ص ١٠٦ وشرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ٦ ص ٢٨٩ ، والغدير للعلامة الأميني ج ١٠ ص ١٦٨ عنه.

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٢٢٣ والبحار ج ٤٧ ص ١٢٧ عنه.

(٢) نهج البلاغة ج ٢ ص ٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ١٧ والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٧٣ وصفين ص ٢٣٥ والكافي ج ٥ ص ٣٩.

١١٩

ولعل الهدف من تلك الأكذوبة التي نسبها الواقدي إلى القيل : هو التشكيك فيما هو حق وصدق فيما يرتبط بعلي «عليه‌السلام» ، والتخفيف من حدة النقد الموجه إلى أبي بكر ، بسبب ما عرف عنه من إحجام عن خوض الغمرات ، والفرار في مواطن الخطر ، والتحدي الحقيقي ، كما جرى له في أحد وخيبر وغيرهما ، مما هو مسطور في كتب الحديث والتاريخ.

الثاني : إن من الواضح : أن حمله «عليه‌السلام» لراية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقيادته للعسكر لمما يزيد في رعب اليهود ، ويهزمهم نفسيا.

كيف لا .. وقد كانت أخبار مواقفه وبطولاته في بدر ـ وكذا في أحد ، لو صح كون غزوة بني النضير بعدها ، وقد استبعدناه ـ قد أرهبت وأرعبت القاصي والداني ، من أعداء الله وأعداء رسوله ودينه.

فهو قد قتل نصف قتلى المشركين ، وشارك في قتل النصف الثاني في حرب بدر ، وفي أحد ـ لو كانت القضية بعدها ـ كان الفتح وحفظ الإسلام على يديه ، وقد آثرت قريش الفرار على البقاء والقرار ، حينما علمت أنه «عليه‌السلام» يلاحقها في غزوة حمراء الأسد ، رغم ما كانت تشعر به من زهو وخيلاء بالنسبة للنتائج التي تمخضت عنها حرب أحد.

الفتح على يد علي عليه‌السلام :

لما توجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى بني النضير عمد إلى حصارهم ، فضرب قبته في أقصى بني خطمة من البطحاء.

فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم ، فأصاب القبة ، فأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن تحول قبته إلى السفح ، وأحاط بها المهاجرون

١٢٠