الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

فارق الدنيا ، وكذا روي أيضا عن أنس (١).

وعدا عما تقدم من القنوت في الصلوات كلهن ، فقد روي عن أنس : أن القنوت كان في الفجر والمغرب ، ورواه البراء عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، فراجع (٢).

وعن أبي هريرة : كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذا قال : سمع الله لمن حمده من صلاة العشاء الآخرة قنت (٣).

حديث أبي هريرة في القنوت لا يصح :

عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد

__________________

(١) راجع : سنن الدارقطني ج ٢ ص ٤١ وراجع أيضا : كشف الأستار ج ١ ص ٢٦٩ وعمدة القاري ج ٧ ص ٢١ ونصب الراية ج ٢ ص ١٣١ و ١٣٢ و ١٣٦ و ١٣٧ والمغني لابن قدامة ج ١ ص ٧٨٧ ونقل أيضا عن الطحاوي ص ١٤٣ وغيره.

(٢) راجع في ذلك : منحة المعبود ج ١ ص ١٠١ وشرح الموطأ للزرقاني ج ٢ ص ٥٢ وصحيح البخاري ج ١ ص ٩٥ و ١١٧ وزاد المعاد ج ١ ص ٧١ والسنن الكبرى ج ٢ ص ١٩٨ و ١٩٩ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٣٩٧ والمصنف لعبد الرزاق ج ٣ ص ١١٣ والمحلى ج ٤ ص ١٤١ و ١٣٨ والمنتقى ج ١ ص ٥٠٣ وعمدة القاري ج ٧ ص ٢١ ونصب الراية ج ٢ ص ١٣٦ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٣٧ وراجع : سنن أبي داود ج ٢ ص ٦٨ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٣٧ وسنن النسائي ج ٢ ص ٢٠٢ ومسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣١٣ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٨٠ و ٢٨٥ و ٣٠٠ ومسند الطيالسي ص ١٠٠ وعن شرح معاني الآثار ج ١ ص ٢٤٢ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ٣١١ و ٣١٨.

(٣) مسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣١٠.

٣٤١

الرحمن بن عوف : أنهما سمعا أبا هريرة يقول :

كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ، ويكبر ويرفع رأسه : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد.

ثم يقول ، وهو قائم : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسني يوسف ، اللهم العن لحيان ، ورعلا ، وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله.

ثم بلغنا : أنه ترك ذلك لما أنزل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(١).

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ ص ١٣٤ و ١٣٥ وراجع : المصادر التالية : المحلى ج ٤ ص ١٤٩ ومسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣٠٥ و ٣١٢ و ٣١٣ وراجع ص ٣٠٦ و ٣٠٨ و ٣٠٩ والسنن الكبرى ج ٢ ص ١٩٧ و ٢٤٤ و ١٩٨ و ٢٠٨ و ٢٠٠ وفي هذه الصفحة أن ذلك كان في صلاة العتمة ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٥٥ و ٣٣٧ و ٤٧٠ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٧٤ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ ومصابيح السنة ج ١ ص ٤٤٥ و ٤٤٦ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٧٤ وراجع ج ٤ ص ٧٣ ويقال : إن الحديث موجود في أحد عشر موردا آخر في البخاري وبداية المجتهد ج ١ ص ١٣٥ وراجع : زاد المعاد ج ١ ص ٦٩ والمنتقى ج ١ ص ٥٠٣ و ٥٠٤ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٨٢ وج ٨ ص ١٧٠ و ١٧١ ونصب الراية ج ٢ ص ١٢٧ ـ ١٢٩ وص ١٣٥ وسنن النسائي ج ٢ ص ٢٠١ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ١٣٧ و ١٣٨ وكنز العمال ج ٨ ص ٥٣ و ٥٤ وراجع : الإعتبار ص ٩٢ وراجع ص ٨٨ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٥ ص ٣٠٧ و ٣٢٣ و ٣٢٤ و ٣٢١ وفي هامشه عن معاني الآثار ج ١ ص ٢٤١ و ٢٤٢ وعن سنن الدارقطني ج ٢ ص ٣٨ ومسند الحميدي

٣٤٢

وفي نص آخر : عن أبي هريرة ، بعد ذكره دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» للمستضعفين ، وعلى مضر ، قال أبو هريرة :

«ثم رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ترك الدعاء بعد ؛ فقلت : أرى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ؛ قد ترك الدعاء لهم!! قال : فقيل : أو ما تراهم قد قدموا»؟! (١).

وفي نص آخر : قال أبو هريرة : «وأصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذات يوم ؛ فلم يدع لهم ، فذكرت ذلك له : فقال «صلى الله عليه وآله» : أما تراهم قد قدموا؟!!» (٢).

وثمة روايات أخرى لأبي هريرة حول القنوت والدعاء فيه للمؤمنين ، وعلى الكافرين (٣) لا مجال لإيرادها.

__________________

(٩٣٩) ومسند الشافعي ج ١ ص ٨٦ و ٨٧ والمصنف لعبد الرزاق ، فإن هذه المصادر كلها قد أشارت إلى حديث أبي هريرة ، تاما أو ناقصا ، وستأتي مصادر أخرى أيضا حين الحديث عن نزول الآية بهذه المناسبة.

(١) صحيح مسلم ج ٢ ص ١٣٥ وراجع : المحلى ج ٤ ص ١٥٠ والسنن الكبرى ج ٢ ص ٢٠٠ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٣٩٦ والحديث نفسه رواه أبو هريرة ، ولكنه قد نسب الاعتراض على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسبب تركه الدعاء للنفر المؤمنين إلى عمر بن الخطاب ، فأجابه بذلك الجواب ، فراجع : السنن الكبرى ج ٢ ص ٢٠٠ والاعتبار ص ٩٧.

(٢) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٥ ص ٣٢٣ و ٣٢٤ والسنن الكبرى ج ٢ ص ٢٠٠ ومسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣٠٩ و ٣١٠.

(٣) ذكر إحداها مع مصادرها حين الرد على دعوى كون القنوت كان في خصوص صلاة الصبح ؛ فراجع.

٣٤٣

ونقول :

إن هذه الرواية لا يمكن أن تصح ، وذلك لعدة أمور ذكر البعض شطرا منها ، فنحن نكتفي بما قال ، ونصرف النظر عن سائر المؤاخذات التي يمكن تسجيلها هنا ، فنقول : قال في بغية الألمعي ما ملخصه :

١ ـ إن أبا هريرة أسلم بعد الهدنة ، ولم يكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليدعو على قوم صالحهم على أمر ما خانوا في شيء منه بعد.

٢ ـ وفي الحديث : أنه «صلى الله عليه وآله» ترك القنوت لمجيئهم ، وقد صالحهم على أنه لا يأتيه منهم رجل ـ وإن كان على دينه ـ إلا رده عليهم ، وما كان ليدعو بشيء لو استجيب له لسعى هو في خلافه.

٣ ـ ودعا لوليد ، وهشام ، وترك أبا جندل ، وأبا بصير وكانا أحق به ، وقد رأى من ابتلاء أبي جندل ما رأى.

٤ ـ وروي عن ابن سعد في طبقاته ص ٩٨ ج ٤ عن الواقدي : أن وليد بن الوليد انفلت منهم ؛ فأرسله رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى مكة ، ليأتي بسلمة وعياش ، وهذا بعد بدر بثلاث سنين.

٥ ـ ومن لفظ الدعاء : اجعل عليهم سنين كسني يوسف. وهذا لم يكن بعد الهدنة قط.

٦ ـ وفي قنوته عند مسلم ، والطحاوي : اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله. وهذا الدعاء كان على قاتلي القراء ببئر معونة ، في صفر ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، قاله ابن إسحاق.

٧ ـ وأكثر من روى حديث القنوت : كابن عباس ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأنس وأبي هريرة ، قالوا : قنت بعد

٣٤٤

الركعة في صلاة شهرا.

قال أنس : قنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» على رعل ، وذكوان ثم تركه.

إلى أن قال : «ما قاله الحازمي في الإعتبار ص ٩٦ والطحاوي ص ١٤٦ : إن قوله : بلغنا الخ .. من كلام الزهري ، لا دليل عليه ، والظاهر من رواية البخاري : أنه من كلام أبي هريرة.

نعم ، في بعض روايات الحديث عن مسلم ج ٢ ص ١٣٥ و ١٣٦ ، عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، من قوله : ثم رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ترك الدعاء ، الحديث. دلالة على حضور أبي هريرة تلك الصلاة. ولعل على هذا اعتمد من قال : بعد صلح الحديبية ، وبعد فتح خيبر ، لأن أبا هريرة حضر تلك الصلاة ، وقد أسلم بعدها. فلا بد إما القول بخطأ الرواية ..

إلى أن قال : أو القول بأن زيادة اللعن على لحيان ورعل. الحديث بهذا اللفظ عند مسلم ، وعنه التعبير بما جرى عند البخاري ، اللهم العن فلانا وفلانا ـ لأحياء من العرب ـ كلاهما خطأ الخ ..» (١).

وقد اعتذر البعض عن أبي هريرة لكونه بقي يقنت بعد وفاته «صلى الله عليه وآله» بجواز أن يكون لم يعلم بنزول الآية ، لأن قوله بلغنا هو من كلام

__________________

(١) بغية الألمعي في تخريج الزيلعي بهامش نصب الراية ج ٢ ص ١٢٨ وراجع : عمدة القاري ج ٧ ص ٢٢.

٣٤٥

الزهري (١).

ونقول : إن أبا هريرة نفسه يصرح بسماعه نبأ قدوم القوم من النبي «صلى الله عليه وآله» مباشرة كما هو صريح بعض نصوص روايته ، فراجع المصادر المتقدمة.

وأخيرا فإننا نلاحظ : أن نصا آخر ينقله لنا أبو عوانة عن أبي هريرة يصرح فيه بأن القنوت كان قبل الركوع ، وليس فيه دلالة على سماع أبي هريرة ذلك منه «صلى الله عليه وآله» مباشرة (٢).

آية : ليس لك من الأمر شيء :

وقد أفادت رواية أبي هريرة السابقة : أن آية : ليس لك من الأمر شيء ، أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، قد نزلت في قضية بئر معونة ، حيث ترك الدعاء عليهم حينما نزلت الآية المذكورة (٣).

ونحن نشك في ذلك بصورة كبيرة وذلك لما يلي :

__________________

(١) راجع : عمدة القاري ج ٧ ص ٢٢.

(٢) مسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣٠٦.

(٣) قد قدمنا شطرا من المصادر لذلك فيما سبق حين ذكرنا رواية أبي هريرة ونضيف هنا : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٥٠ والإستيعاب هامش الإصابة ج ٣ ص ٨ وأسد الغابة ج ٣ ص ٩١ والإتقان ج ١ ص ٦٥ والدر المنثور ج ٢ ص ٧٠ عن البخاري ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والبيهقي ، ومجمع البيان ج ٢ ص ٥٠١ والبحار ج ٢ ص ٢١ عنه والاعتبار ص ٩٣ و ٩٢ وعن الترمذي في تفسير آل عمران.

٣٤٦

أولا : قولهم : إنها نزلت في ناس من المنافقين كان «صلى الله عليه وآله» يلعنهم ، أو فيه «صلى الله عليه وآله» نفسه ؛ حيث كان في حرب أحد يلعن أبا سفيان ، والحرث بن هشام ، وصفوان بن أمية ، وعمرو بن العاص ، فنزلت الآية ؛ فتيب عليهم كلهم.

أو نزلت في حرب أحد ، حيث دعا «صلى الله عليه وآله» على رجل من قريش ، كشف عن أسته بحضرته «صلى الله عليه وآله».

أو حينما كسرت رباعيته في حرب أحد ، حيث قال «صلى الله عليه وآله» : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم الخ .. (١).

وعليه ، فإذا كانت الآية قد تعرضت لبئر معونة فكيف تكون قد نزلت في حرب أحد ، وهل يعقل أن يتأخر السبب في النزول (٢).

وقد صحح العسقلاني نزولها بمناسبة أحد ، قال : «ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يقتلهم ، (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) ، أي يخزيهم ثم قال : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي فيسلموا ، أو يعذبهم ، أي إن ماتوا كفارا» (٣).

ثانيا : إن سياق الآيات ظاهر في أنها قد نزلت في غزوة بدر ، والآيات هي التالية : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ

__________________

(١) تقدمت بعض المصادر في غزوة أحد في الجزء السابع ، الفصل الثاني : نصر وهزيمة.

(٢) راجع : فتح الباري ج ٨ ص ١٧١ وراجع ج ٧ ص ٢٨٢.

(٣) فتح الباري ج ٧ ص ٢٨٢.

٣٤٧

فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(١).

فإن الآيات تتحدث عن الإمداد بالملائكة في بدر ، وأن سببه هو البشرى للمؤمنين ولكي تطمئن قلوبهم ، مع العلم أن النصر هو من عند الله ، وإنما نصرهم الله في بدر ليقطع طرفا من الذين كفروا ويقلل عدتهم وقوتهم بالقتل والأسر ، أو يكبتهم أي يذلهم على حنق وغيظ ، ثم جاءت جملة معترضة تفيد : أن هذا القطع والكبت لهم ، ليس من صنع النبي «صلى الله عليه وآله» ، ليكون هو الممدوح والملوم في صورة النصر ، وعدمه وإنما هو قرار إلهي.

ثم جاءت جملة أخرى معطوفة على «ليقطع» وهي قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) ، والضمير فيها يرجع إلى الذين كفروا في الآية السابقة ، أي ليس لك يا محمد في أمر التوبة عليهم أو عذابهم شيء ، بل الأمر لله ، لأنه هو المالك لكل شيء ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

ولو كان الكلام منفصلا عما قبله ، لم يعرف مرجع الضمير في (عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ).

ولو صح : أن أهل بئر معونة قد أتوه تائبين ، فتاب الله عليهم ، لم يكن معنى لقوله : أو يعذبهم ، إلا إذا كان قد ورد على سبيل الترديد في المطلق ، أي على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية.

ثالثا : قد تقدم : أنه قيل له «صلى الله عليه وآله» : ادع على المشركين ،

__________________

(١) الآيات ١٢٦ ـ ١٢٨ من سورة آل عمران.

٣٤٨

فقال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة (١).

وقال لامرأة لعنت ناقتها ، ولرجل لعن ناقته : لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة.

هذا كله عدا عما روي عنه «صلى الله عليه وآله» من أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن لعانا (٢) وما روي عنه من أن المؤمن أو الصديق لا يكون لعانا ونحوه (٣).

رابعا : روى البخاري عن عائشة : إن يهودا أتوا إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فقالوا : السام عليكم.

فقالت عائشة : عليكم ولعنة الله ، وغضب الله عليكم.

قال : مهلا يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش الخ .. (٤).

التصرف المشين :

عن خالد بن أبي عمران ، قال : بينا رسول الله «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) راجع الجزء السابع من هذا الكتاب ، غزوة أحد ، فصل : نصر وهزيمة حين الحديث حول دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» على قومه.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ ص ٣٨ و ٧٣ ودلائل الصدق ج ١ ص ٤١٧ وصحيح مسلم.

(٣) راجع : دلائل الصدق ج ١ ص ٤١٦ وصحيح مسلم ج ٨ ص ٢٣ والغدير ج ١١ ص ٩٠ عن مستدرك الحاكم ج ١ ص ١٢ و ٤٧ والترغيب والترهيب ج ٣ ص ٤٦٩ و ٤٧٠ عن عدد من المصادر ومسند أحمد ج ١ ص ٤٠٥ و ٤١٦ وج ٢ ص ٣٣٧ و ٣٦٦ وراجع : ج ٥ ص ٧٠ وج ٢ ص ٣٣٧ و ٣٦٦.

(٤) دلائل الصدق ج ١ ص ٤١٧ وراجع : صحيح البخاري ج ٤ ص ٣٦ و ٥٨ و ٧٣ و ١٢٦ وصحيح مسلم ج ٧ ص ٥ و ٤ والجامع الصحيح ج ٥ ص ٦٠ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٤١ وج ٦ ص ٣٧ و ١٩٩.

٣٤٩

يدعو على مضر ، إذ جاءه جبرئيل ، فأومأ إليه : أن اسكت ، فسكت ، فقال :

يا محمد ، إن الله لم يبعثك سبابا ، ولا لعانا ، وإنما بعثك رحمة ، ولم يبعثك عذابا ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ثم علمه هذا القنوت : اللهم (ثم ذكر ما يعرف بسورتي الخلع والحفد) فراجع (١).

ونقول :

١ ـ لقد تحدثنا في كتابنا «حقائق هامة حول القرآن الكريم» عن عدم صحة هاتين السورتين المزعومتين ، واحتملنا أن تكونا من إنشاءات الخليفة الثاني ، وقد أحب بعض محبيه إثباتها في القرآن ، فلم يوفقوا.

٢ ـ إن هذه الرواية صريحة في أن الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد وقع في مخالفة صريحة ، وفعل خلاف ما تفرضه عليه مهمته ، وما لا ينسجم مع موقعه وشخصيته.

٣ ـ إن هذا القنوت الذي علمه إياه جبرئيل ليس فيه تلك البلاغة الظاهرة ، ولا أي من المعاني الخفية أو المتميزة ، هذا إلى جانب أنه لا ينسجم مع ضوابط اللغة ، واستعمالاتها ، فليراجع في مصادره.

٤ ـ لماذا جاءه جبرئيل وهو يدعو على مضر فقط ، ولم يأته ، وهو يدعو على رعل وذكوان وعصية ، حتى بقي شهرا أو أكثر يدعو عليهم ، أو حين لعن أبا سفيان ، والحرث بن هشام وغيرهما؟!

__________________

(١) راجع : سنن البيهقي ج ٢ ص ٢١٠ ونصب الراية ج ٢ ص ١٣٦ عن أبي داود في المراسيل ، والاعتبار ص ٨٩.

٣٥٠

أو في غير ذلك من المناسبات ، ثم ألم يلعن الحكم بن أبي العاص ، وغيره بعد ذلك؟!

٥ ـ إن لعنه لمضر ، الموجب لتدخل جبرئيل قد كان بعد نزول سورة النجم التي صرحت بأنه «صلى الله عليه وآله» لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى.

٦ ـ وهل لعنه «صلى الله عليه وآله» للمشركين الذين يحاربون الله ورسوله ، يجعله سبابا ، ولعانا ، ألم يلعنهم الله سبحانه ، ولعن غيرهم في محكم كتابه؟!

ألم يذكر الله ما يدل على وجود لا عنين ممدوحين في لعنهم ، حينما قرنهم مع نفسه حيث قال : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ..)؟!.

رواية ابن مسعود ، وما فيها :

وقد روي عن ابن مسعود أنه قال : ما قنت رسول الله في شيء من صلاته (زاد الطبراني : إلا في الوتر) وإنه كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلهن ، يدعو على المشركين ، ولا قنت أبو بكر ، ولا عمر حتى ماتوا ، ولا قنت عليّ حتى حارب أهل الشام الخ .. (١).

ونقول :

يرد على هذه الرواية :

__________________

(١) راجع : المحلى ج ٤ ص ١٤٥ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ١٣٦ و ١٣٧ وعمدة القاري ج ٧ ص ٢٣ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٣٩٤ عن الطبراني في الأوسط ، والحاكم في كتاب القنوت والبيهقي.

٣٥١

١ ـ قوله : ما قنت رسول الله في شيء من صلاته قد تقدم ما فيه ، وأنه «صلى الله عليه وآله» قد قنت في جميع صلواته. بل كان يقنت في كل مكتوبة ، واستمر على ذلك حتى فارق الدنيا.

٢ ـ روايات قنوت عمر ، قد رواها غير واحد من المحدثين ، فراجع كتب الحديث والرواية ، كالإعتبار للحازمي مثلا.

٣ ـ إن ابن مسعود لم يدرك موت عثمان ، ولا خلافة علي «عليه السلام» ، ولا حربه «عليه السلام» لأهل الشام. لأن ابن مسعود مات في خلافة عثمان ، كما هو معروف.

ولذا احتمل البعض : أن يكون الشطر الأخير من الرواية من كلام علقمة والأسود (١).

ولكنه خلاف الظاهر ، كما لا يخفى ، حيث إن لها سياقا واحدا لم يتغير ، وقد جاء عطف اللاحق على السابق بصورة طبيعية ، ومنسجمة ، كما هو الحال في كل كلام واحد.

جريمة الإحداث في الدين ، والسكوت عليها :

ونجد في الروايات : أن أول من جعل القنوت قبل الركوع هو عثمان بن عفان ، لكي يدرك الناس الركعة (٢).

__________________

(١) راجع : عمدة القاري ج ٧ ص ٢٣.

(٢) راجع : المصنف للصنعاني ج ٣ ص ١٠٩ و ١١٩ والسنن الكبرى ج ٢ ص ٢٠٩ وفتح الباري ج ٢ ص ٤٠٨ عن محمد بن نصر ، وشرح الموطأ للزرقاني ج ٢ ص ٥١.

٣٥٢

ونقول :

١ ـ لعل المراد : أن عثمان قد جعل القنوت الثاني في صلاة الجمعة قبل الركوع. ثم جاءت الأهواء بعد ذلك لتلغي القنوت من جميع الصلوات ، ما عدا الصبح عند البعض ، أو ما عدا شهر رمضان عند آخرين ، إلى غير ذلك من أقوال ومذاهب ، منشؤها اختلاف الروايات ، ولسنا هنا بصدد تحقيق ذلك.

٢ ـ قد قدمنا : ما يدل على أن القنوت كان قبل الركوع ، ونزيد هنا ما رواه البخاري وغيره ، من أن عاصما الأحول ، سأل أنسا عن القنوت ، أقبل الركوع ، أو بعد الركوع؟!

فقال : قبل الركوع.

قال : قلت فإنهم يزعمون : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قنت بعد الركوع.

فقال : كذبوا ، إنما قنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» شهرا ، يدعو على ناس الخ .. (١).

٣ ـ وبعد فإن ما يثير عجبنا واستغرابنا ؛ أننا نجد النص السابق يصرح بأن عثمان بن عفان يقدم على التغيير في أحكام الشرع والدين ، بمرأى ومسمع من الصحابة وعلماء الأمة ، لمصلحة يزعم أنه أدركها ، حتى كأنه

__________________

(١) الإعتبار ص ٨٧ و ٩٦ وصحيح البخاري ج ١ ص ١١٧ وج ٣ ص ٢٠ وج ٢ ص ١٣١ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٣٦ ومسند أبي عوانة ج ٢ ص ٣٠٦ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٧٤ و ٣٧٥ والسنن الكبرى ج ٢ ص ٢٠٧.

٣٥٣

أعرف بما يصلح الناس ، وينفعهم ، من ربهم وخالقهم سبحانه ، ومن نبيه الأكرم «صلى الله عليه وآله».

٤ ـ والأعجب من ذلك : أننا نجد هؤلاء الأتباع الأغبياء ، يسكتون على ما ينقل لهم من جرأة عثمان هذه ، ولا يدينونها ، كسكوتهم بل وتبريرهم لكثير من نظائرها ، مما صدر من سابقيه ، ومنه على حد سواء.

فإذا كان عثمان وسواه عندهم فوق الشبهات ، فلا يمكن أن يكون فوق الإسلام وفوق الدين الذي به يصول ويطول ، فليتحمسوا لدينهم وليتهموا الواضعين والكذابين بالافتراء على الخليفة الثالث ، وعلى غيره ممن يودون ويحبون!!

أو فليقدموا تفسيرا معقولا ومقبولا لإقدام الخليفة على ما أقدم عليه ، وما رضوا بنسبته إليه.

وأما تقييد العسقلاني والزرقاني بكون المراد : أنه جعله قبل الركوع دائما (١) فلا يحل المشكلة ؛ فإنه بالإضافة إلى كونه خلاف ظاهر النص المنقول. لا يبرر الإقدام على هذا التصرف ، ولو بهذا المقدار ، فإن حلال محمد «صلى الله عليه وآله» حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك.

٥ ـ وأخيرا .. فيجب أن لا ننسى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يقدم فيها الخليفة على مثل ذلك ، فلقد أقدم هو واللذان سبقاه ، وتبعهم من جاء بعدهم من الأمويين وغيرهم على تغيير الكثير من أحكام الشرع ، وحقائق الدين ، أو تحريفها ، وكان رأيهم كالشرع المتبع.

__________________

(١) فتح الباري ج ٢ ص ٤٠٨ وشرح الموطأ ج ٢ ص ٥١.

٣٥٤

وقد ذكرنا بعض ما يرتبط بهذا الموضوع الخطر والهام في كتابنا : (الحياة السياسية للإمام الحسن «عليه السلام») في عهد الرسول والخلفاء الثلاثة بعده ، فليراجعه من أراد.

اللعن رفض وإدانة :

وسواء ثبت لدينا : أن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد لعن رعلا وذكوانا ، وبني لحيان ، ومضر الخ .. أم لا ، فإن لعنه لبعض الناس ثابت لا ريب فيه.

وليس ذلك لأجل أن اللعن سلاح العاجز ، الذي لا يجد حيلة للتعبير عن مشاعره الثائرة إلا ذلك ، إذ إنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن لينطلق في مواقفه كلها من حالة انفعالية طاغية ، ومن اندفاع عاطفي غير مسؤول ، بهدف التنفيس عن حقد دفين ، وانسياقا مع انفعالات طائشة.

وإنما يريد «صلى الله عليه وآله» أن يلقن الناس جميعا عن طريق الشعور واللاشعور ويؤدبهم ، ويعلمهم : أن الاعتداء على الأبرياء ، والغدر ، والخيانة ، ونقض المواثيق والذمم ، وكذلك جميع أشكال الانحراف وأنحائه ،

إن كل ذلك مرفوض جملة وتفصيلا ، ولا بد من تربية الوجدان على الإحساس بقبحه ورذالته ليصبح النفور منه ، والابتعاد عنه بصورة عفوية حالة طبيعية ، وواقعية ذات جذور ممتدة في أعماق الإنسان ، وفي صميم ذاته.

ولا بد من الإعلان بإدانة الانحراف ، انطلاقا من المثل والقيم الإلهية ، بأسلوب اللعن ، الذي هو طلب البعد عن ساحة القدس الإلهي.

فاللعن إذا : أسلوب تربوي بناء ، وليس موقفا سلبيا عاجزا ولا مهينا.

٣٥٥

ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم لا يزال يؤكد على لزوم التبري من أعداء الله ، والتولي لأوليائه ، ويعلن الله سبحانه بلعن فئات كثيرة ، كالكاذبين والظالمين ، والبراءة منهم.

بل ويشير إلى وجود لاعنين آخرين ، حيث قال سبحانه وهو يتحدث عن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١).

وبعد ما تقدم ، فلا يمكن لنا أن نصدق ، أنه «صلى الله عليه وآله» قد لعن أحدا لا يستحق اللعن. وإلا ، لكان «صلى الله عليه وآله» ليس فقط لا ينطلق في تعامله ومواقفه من موقع المسؤولية والإنصاف ، وإنما من موقع العاطفة والطيش والانفعال ، وحاشاه. وذلك لو صح لوجدنا أنفسنا مضطرين لطرح التساؤلات الجدية حول عصمته «صلى الله عليه وآله» ، لا سيما إذا كان لعنا لأحد المؤمنين ، فإن لعن المؤمن كقتله ، أو لاعن المسلم كقاتله ، كما روي عنه «صلى الله عليه وآله» نفسه (٢).

ومن هنا فلا بد من رفض وعدم التصديق بالحديث الذي يقول : إن رجلين كلماه «صلى الله عليه وآله» ، فأغضباه ، فلعنهما وسبهما ، فلما خرجا سألته عائشة عن ذلك.

فقال لها : أما علمت ما شارطت عليه ربي؟!

__________________

(١) الآية ١٥٩ من سورة البقرة.

(٢) راجع : صحيح البخاري ج ٤ ص ٣٨ وسنن الدارمي ج ٢ ص ١٩٢ وصحيح مسلم ج ١ ص ٧٣ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٢٢ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٣.

٣٥٦

قلت : اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين لعنته ، أو سببته ، فاجعله له زكاة وأجرا.

زاد في لفظ آخر : أو جلدته.

وفي لفظ ثالث : إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر إلخ ..

وثمة نصوص أخرى ، فلتراجع في مصادرها (١).

نعم ، لا بد لنا من رفض أمثال هذه الأحاديث المزعومة لأنها تعني لنا :

١ ـ الطعن في عصمته «صلى الله عليه وآله».

٢ ـ لقد كان على المسلمين والحالة هذه أن يتعرضوا له «صلى الله عليه وآله» ليلعنهم ويسبهم لتنزل عليهم الرحمات وتعمهم البركات ، وكان يجب أن نراهم يتسابقون لذلك ، ويحتالون له بلطائف الحيل ، أم يعقل أن يكونوا قد زهدوا جميعا بالأجر والثواب؟!

٣ ـ لقد كان ينبغي أن يعتز الملعونون كأبي سفيان ومعاوية والحكم ومروان بهذه اللعنات ، ويباهوا بها ويتفاخروا ، ويعدوها من مآثرهم. ولكان من القبيح جدا أن يعيرهم بها المسلمون ، ويتخذوها وسيلة للطعن عليهم ، فلم يكن يصح من عليّ ، ولا من عائشة ، ولا من أبي ذر ، ولا من

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ ص ٢٤ و ٢٥ و ٢٦ و ٢٧ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٣١٥ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣١٧ و ٣٩٠ و ٤٤٩ و ٤٨٨ و ٤٩٣ و ٤٩٦ وج ٣ ص ٣٣ و ٣٩١ و ٤٠٠ وج ٥ ص ٤٣٧ و ٤٣٩ وج ٦ ص ٤٥ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١١٩ والغدير ج ٨ ص ٨٩ عنه و ٢٥٢ عن صحيح مسلم وعن صحيح البخاري ج ٤ ص ٧١ كتاب الدعوات.

٣٥٧

سائر صحابة أمير المؤمنين «عليه السلام» تسجيل هذا الطعن على خصومهم في مختلف الموارد والمناسبات.

٤ ـ تصويره «صلى الله عليه وآله» أنه إنسان طائش ، يثور لأسباب تافهة ، فيعصف ويعربد ويتفوه بما لا يليق ، ثم يتراجع ، ويهدأ ، ويحاول إزالة الآثار السيئة لتصرفاته الصبيانية ، ويلتمس لها المبررات.

٥ ـ ولا ندري أية قيمة تبقى للأحاديث التي تصر وتؤكد على أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن لعانا ، ولا سبابا (١).

٦ ـ كما أنه لا يبقى معنى للحديث الذي يقول : إنه «صلى الله عليه وآله» ، قال : «اللهم وما صليت من صلاة ، فعلى من صليت ، وما لعنت من لعنة ، فعلى من لعنت» (٢).

٧ ـ وكيف نفسر أيضا قوله «صلى الله عليه وآله» : «من لعن شيئا ليس له أهل رجعت اللعنة عليه» (٣).

السر الخفي :

والذي نفهمه : هو أن ثمة يدا تحاول التلاعب ، وتعمل على اغتيال الحقيقة وتشويهما ، بهدف تمييع مواقفه ، وإفراغها من زخمها ، وإبطال آثارها.

تلك المواقف ، التي لعن فيها «صلى الله عليه وآله» بعض الشخصيات

__________________

(١) راجع : صحيح مسلم ج ٨ ص ٢٤ ودلائل الصدق ج ١ ص ٤١٦ عنه وراجع : الغدير ج ١١ ص ٩١ وج ٨ ص ٢٥٢ وصحيح البخاري ج ٤ ص ٣٨ و ٣٧.

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ١٩١.

(٣) المعجم الصغير ج ٢ ص ٧٠.

٣٥٨

التي يهمهم أمرها ، ويحترمونها ، فعز عليهم ذلك ، وآثروا أن يتلاعبوا بحديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، بل ورجحوا الطعن في توازنه «صلى الله عليه وآله» ، وحكمته ، ويقينه ، ومتانة شخصيته ، وحتى في عصمته ، في سبيل حفظ أولئك الذين يحترمونهم ويقدسونهم من أن تمس شخصياتهم بأي سوء أو هوان.

وليس قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن : معاوية لا أشبع الله بطنه (١) ،

ثم لعنه «صلى الله عليه وآله» للحكم بن أبي العاص ، وما ولد (٢) ،

ولعنه الذين سبقوه إلى الماء في تبوك (٣) ،

والشجرة الملعونة في القرآن يعني بني أمية (٤) ،

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ ص ٢٧ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١١٩ والغدير ج ١١ ص ٨٨ عنهما وعن أحمد والحاكم وغيرهم وليراجع كلام ابن كثير الذي ذكر أن معاوية قد انتفع بهذه الدعوة في دنياه وآخراه!!.

(٢) مسند أحمد ج ٤ ص ٥ وقد ذكر العلامة الأميني أحاديث لعن الرسول للحكم بن أبي العاص وما ولد في كتابه القيم الغدير ج ٨ ص ٢٤٣ ـ ٢٥٠ عن عشرات المصادر المعتمدة لدى إخواننا أهل السنة ، فنحن نحيل القارئ عليه ، ونطلب منه الرجوع إليه.

(٣) صحيح مسلم ج ٨ ص ١٢٣ ومسند أحمد ج ٥ ص ٤٥٤ و ٣٩١.

(٤) تفسير العياشي ج ٣ ص ٢٩٧ و ٢٩٨ وتفسير القمي ج ٢ ص ٢١ ومجمع البيان ج ٦ ص ٤٣٤ وتفسير البرهان ج ٢ ص ٤٢٤ عمن تقدم ، عن الثعلبي ، وفضيلة الحسين. وراجع : الدر المنثور ج ٤ ص ١٩١ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر والغدير ج ٨ ص ٢٤٨ ـ ٢٥٠ عن عشرات المصادر فليراجع إليه من أراد.

٣٥٩

وإخباره «صلى الله عليه وآله» أن الله سبحانه قد أمره بأن يلعن قريشا مرتين ، فلعنهم «صلى الله عليه وآله» (١) ،

إلى غير ذلك من موارد لهج فيها «صلى الله عليه وآله» بلعن أولئك الذين يعزون عليهم ،

نعم ، ليس كل ذلك إلا الجرح الذي لا يندمل ، والمصيبة التي لا عزاء لها إلا بضرب وإهانة شخص الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» ولو عن طريق التزوير الرخيص ، والكذب الصراح حتى على الله ورسوله ، والعياذ بالله.

ولا ندري بعد هذه الأكاذيب والأباطيل كيف يفسرون لعنه «صلى الله عليه وآله» لأولئك الذين تلبسوا ببعض العناوين الساقطة والمرفوضة إسلاميا كلعنه للمحتكر ، وشارب الخمر ، وساقيها وغيرهما ، وآكل الربا ، والذي يلبس لباس المرأة ، والرجلة من النساء ، ومن قطع السدر ، والنائحة ، والمستمعة ، ومن هو مثل البهيمة ، والواشمة ، والمستوشمة ، ومن جلس وسط الحلقة ، ومن غيّر منار الأرض.

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه ، ويمكن مراجعة مادة (لعن) في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، وكتاب الترغيب والترهيب ، وأي كتاب حديثي آخر.

فإن الذي ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ، وقد أتى العلامة الأميني «رحمه الله تعالى» ، في كتابه القيم (الغدير) بشواهد كثيرة ومتنوعة لكثير مما يدخل في سياق ما ذكرناه ، فليراجعه من أراد.

__________________

(١) مسند أحمد ج ٤ ص ٣٨٧ وزاد : وأمرني أن أصلي عليهم ، فصليت عليهم مرتين ..

٣٦٠