الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

بين الروايات والنصوص.

وأما بالنسبة لسائر الأمور التي نود الإشارة إليها هنا ، مما يدل على ضعف هذه الروايات وسقوطها ، فإننا نشير إلى ما يلي :

آية الشراء :

قد ذكرت رواية إنزال الزبير والمقداد لجثة خبيب : أن آية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ..) نزلت فيهما ، وأن الملائكة تباهي بهما من بين أصحابه «صلى الله عليه وآله».

ونقول :

١ ـ إن ذلك ينافي قولهم المتقدم : إن آية الشراء قد نزلت في خبيب وابن الدثنة ، فكيف يقولون : إنها قد نزلت في الزبير والمقداد؟

كما أنهم يقولون : إنها قد نزلت في صهيب ، وهو ينافي ما يذكرونه هنا أيضا ، ودعوى تكرر نزول الآية لا تدفع التناقض في قصة خبيب هنا.

٢ ـ قد تقدم : أن آية الشراء قد نزلت في علي «عليه السلام» حين مبيته على فراش رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد ذكرنا عشرات المصادر لذلك ؛ فلا نعيد.

الكشاف الليلي والسحر الخارق :

١ ـ قد صرحت الروايات المقدمة : أن عمرو بن أمية ورفيقيه قد ذهبا إلى الكعبة للطواف والصلاة بعد حلول الظلام ؛ فكيف رآه معاوية وعرفه إذا.

٢ ـ قد صرحت الروايات المتقدمة : أنهما قد ذهبا إلى جثة خبيب ليلا ، فكيف رآهما ذلك الرجل ، وعرف مشية عمرو بن أمية بخصوصها؟

٢٤١

٣ ـ وبعد أن رآه ذلك الرجل وأخبر رفقاءه بوجود غريب حولهم ، كيف استطاع أن يقتلع الخشبة ، أو أن يحل الجثة منها ، وهم حولها يحرسونها؟!

وإذا كانوا حينئذ نائمين فكيف رآه ذلك الرجل وعرف مشيته؟

نبوءة وكهانة وموتة السوء :

وحين كان راجعا إلى المدينة ، ودخل الغار ، وجاءه الراعي ، كيف عرف أنه من بني بكر؟!

وهل مجرد وضع سية قوسه في عينه الصحيحة ، وقتله بهذه الصورة يعتبر أسوأ قتلة؟! أليس ثمة أشكال وأنحاء أخرى أسوأ من هذه القتلة؟!

أين هي جثة ابن الدثنة؟

الحديث كله ، وعند جميع المؤرخين ، يدور حول جثة خبيب ، فأين ذهبت جثة زيد بن الدثنة؟!

ولماذا لم ينزلها الضمري ، ولا الزبير والمقداد ، ولا ذكرها الرسول ، ولا حرسها المشركون ، ولا ابتلعتها الأرض ولا .. ولا الخ ..؟!

طاقية الإخفاء لدى الأعرج الطائر :

وصاحبه الذي لا رجلة له ، ولم يكن يستطيع المشي ، لماذا لم يأخذه حراس خبيب؟!

ولماذا لحقوا فقط بعمرو نفسه دونه ، ولماذا لا يثير وجوده تساؤلهم؟

وإذا كان لا يستطيع المشي ، فكيف استطاع أن ينجو من أهل مكة ،

٢٤٢

حينما صرح معاوية أو غيره يعلمهم بوجوده ، وكيف استطاع أن يرتقي الجبل وهو لا يستطيع المشي ولا يرتقيه أهل مكة وهم يستطيعون المشي؟!

تعمد المواجهة :

إنهما حين خرجا من الكعبة لماذا مرا على مجلس من مجالس قريش؟ ألم يكن بوسعهم تحاشي المرور على ذلك المجلس؟! لا سيما وأن الظلام كان يسترهما عن العيون؟!

طاقية الإخفاء مرة أخرى :

كيف قام عليهم عثمان التيمي على باب الغار ، وهو على فرسه ولم يرهم فيه؟! وكيف قتله على باب الغار ، وجاء أهل مكة إلى صاحبهم الذي كان ملقى على باب الغار ، ولم ينظروا فيه ، بل لم يفطنوا لوجوده؟!

وحين أخبرهم المقتول بقاتله ، كيف لم يبحثوا عنه ، وهو لا بد أن يكون قريبا منهم؟!

وكيف تقول الرواية : شغلهم موت صاحبهم عن البحث عنهما ، مع أن نفس الرواية تقول : إنهما أقاما في الغار يومين حتى سكن الطلب؟!

فإن ذلك يدل على أن المكيين قد واصلوا البحث عنهما.

بطل هنا .. ونعامة هناك :

إننا نلاحظ : أن البطولات كلها تنسب إلى عمرو بن أمية الضمري ، وليس لصاحبه أي دور يذكر.

فهو نجيب الساق .. وهو أعرف بمكة من الفرس الأبلق ، وهو معه

٢٤٣

خنجر مثل خافية النسر ، وهو يخرج من الغار مثل السبع ، ويأخذ المحجة كأنه نسر وهو الرجل المعافى ، وصاحبه ذو علة ، وهو صاحب الجمل ، ولا جمل لصاحبه وهو .. وهو الخ ..

ولكننا لا نجده في سرية بئر معونة نجيب الساق ، ولا كان مثل السبع ، ولا أخذ المحجة كأنه نسر ، بل ألقي عليه القبض مباشرة ولم يذكر لنفسه ولا ذكر غيره له أي شيء يشير إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد كما تقدم.

بطل يتحدث عن نفسه :

لم ترو قصة عمرو بن أمية إلا عن عمر بن أمية نفسه ، وهذا أمر يثير الشبهة والريب فيها.

يأس العاجز أم طاقية الإخفاء؟

تقول الرواية : إن أهل مكة حين رأوا عمرو بن أمية على رأس الجبل يئسوا.

ولكن النص الآخر يقول : إن الله قد عمّى عن أهل مكة طريق المدينة أن يهتدوا له ، فهل كان ذلك الغار على طريق المدينة ، أو أن ذلك الجبل كان على طريق المدينة؟!

فشدوا الوثاق :

لم نعرف معنى لشد إبهام أسيره بسية قوسه ، فلماذا لا يشد يده مثلا أو رقبته ، أو أي شيء آخر؟!

ولا ندري لماذا جاء الأمر بشد الوثاق في القرآن ، ولم يرد الأمر بشد

٢٤٤

الإبهام؟!

وهل شده لإبهامه يمنعه من التمرد عليه لو غفل عنه؟!

وأخيرا :

لماذا لم يعد إلى صاحبه ، ويركبا معا الجمل ، ويعودا إلى المدينة؟!

ولماذا؟ ولماذا؟

إلى آخر ما هنالك من الأسئلة الكثيرة التي لا مجال لإيرادها.

تحذير النبي «صلى الله عليه وآله» من الضمري :

عن الخزاعي ، عن أبيه قال : دعاني رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان ، يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح ، فقال : التمس صاحبا.

قال : فجاءني عمرو بن أمية الضمري.

فقال : بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحبا.

قال : قلت : أجل.

قال : فأنا لك صاحب.

قال : فجئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقلت : قد وجدت صاحبا.

وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : إذا وجدت صاحبا فآذني.

قال : فقال : من؟

فقلت : عمرو بن أمية الضمري.

قال : فقال : إذا هبطت بلاد قومه فاحذره ، فإنه قد قال القائل : أخوك

٢٤٥

البكري ، ولا تأمنه.

قال : فخرجنا ، حتى إذا جئت الأبواء قال : إني أريد حاجة إلى قومي بودّان ، فتلبث لي.

قال : قلت : راشدا.

فلما ولى ذكرت قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فشددت على بعيري ، ثم خرجت أوضعه ، حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط ، وأوضعت فسبقته ، فلما رآني قد فته انصرفوا ، وجاءني ، فقال : كانت لي إلى قومي حاجة.

قلت : أجل.

فمضينا حتى قدمنا مكة ، فدفعت المال إلى أبي سفيان (١).

سبعون يهربون من واحد أم العكس؟!

لا نعرف كيف انصرف سبعون من المشركين عن الزبير والمقداد ، لمجرد تهديد الزبير لهم ، وإذا كانوا قد خافوا منه إلى هذا الحد ، فلماذا لم يخافوا منه في أحد ، حيث فر مع الفارين؟! وكذا في غيرها من المواطن الصعبة ، ولماذا لم يبرز لواحد منهم وهو عمر بن عبدود في الخندق؟!

وإذا كان الحراس نشاوى ، فهل أفاقوا من نشوتهم بعد أن أتم الزبير عمله وأخذ الجثة من بينهم ، وحمل الجثة على فرسه وذهب ولم يستفيقوا قبل ذلك؟!

__________________

(١) الطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ٤ ص ٢٩٦ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٢٥ وراجع ص ٣٩٠ و ٣٩١.

٢٤٦

ما هي الحقيقة إذن؟

وغاية ما يمكن أن يطمئن إليه الباحث هو : أن جماعة من المسلمين كانوا قرب منازل هذيل في منطقة الرجيع ، فأتوا إليهم ، وقتلوهم ، وقد يبلغ عددهم الستة أشخاص ، ومن بينهم عاصم بن ثابت.

هذا بالإضافة إلى أسر اثنين آخرين هما : خبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، وقد انتهى أمر هذين الأسيرين إلى أن أصبحا في أيدي مشركي مكة ، فقتلوهما حقدا منهم وبغيا.

وما سوى ذلك فإنه إما لا ريب في كونه مكذوبا ومختلقا ، وإما يشك في صحته بنسبة كبيرة ، مع احتمال أن يكون ثمة أمور أخرى نالتها يد التحريف ، والتحوير لأهداف سياسية ، أو غيرها.

٢٤٧
٢٤٨

الباب الرابع

سرية بئر معونة

الفصل الأول : النصوص وتناقضاتها

الفصل الثاني : نقاط ضعف

الفصل الثالث : القنوت والدعاء على القبائل

الفصل الرابع : دلالات وعبر

٢٤٩
٢٥٠

الفصل الأول :

النصوص وتناقضاتها

٢٥١
٢٥٢

نص الرواية :

ويقولون : إن سرية بئر معونة (١) كانت في السنة الرابعة في المحرم ، كما قال البعض (٢).

وقد اختلفت الروايات في بيان حقيقة ما جرى ، ونحن نذكر أولا نص الطبري الذي قال :

قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ، ملاعب الأسنة ـ وكان سيد بني عامر بن صعصعة ـ على رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة ، وأهدى له هدية ، فأبى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يقبلها ، وقال : يا أبا براء ، لا أقبل هدية مشرك ، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك. ثم عرض عليه الإسلام ، وأخبره بما له فيه ، وما وعد الله المؤمنين من الثواب ، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد ، وقال : يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه

__________________

(١) ستأتي المصادر لذلك وبئر معونة : موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. وفي معجم ما استعجم : ماء لبني عامر بن صعصعة وفي الاكتفاء ج ٢ ص ١٤٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧٢ : هي بين أرض بني عامر ، وحرة بني سليم.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٤٥ وسيرة مغلطاي ص ٥٢ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٥١ و ٤٥٢ وغير ذلك.

٢٥٣

حسن جميل ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إني أخشى عليهم أهل نجد! فقال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.

فبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق (١) ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين ؛ منهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان أخو بني عدي النجار ، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ؛ في رجال مسمين من خيار المسلمين (٢).

فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» المنذر بن عمرو في سبعين راكبا ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، كلا البلدين منها قريب ، وهي إلى حرة بني سليم أقرب ـ فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى عامر بن الطفيل ، فلما أتاه لم ينظر في كتابه ، حتى عدا على الرجل فقتله ، ثم استصرخ عليهم بني عامر ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء ، قد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم : عصيّة ، ورعلا ، وذكوان ،

__________________

(١) المعنق : المسرع ؛ وإنما سمي بذلك لأنه أسرع إلى الشهادة.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ١٧٤.

٢٥٤

فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا السيوف ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم ، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار ، فإنهم تركوه وبه رمق ، فارتث (١) من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ، ورجل (٢) من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف ، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر ، فقالا : والله إن لهذه الطير لشأنا ، فأقبلا لينظرا إليه ، فإذا القوم في دمائهم ، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة.

فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى؟

قال : أرى أن تلحق برسول الله «صلى الله عليه وآله» فتخبره الخبر ، فقال الأنصاري : لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لتخبرني عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قتل.

وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا ، فلما أخبرهم أنه من مضر ، أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.

فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة ، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه ؛ وكان مع العامريين عقد من رسول الله «صلى الله عليه وآله» وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية ، وقد سألهما حين نزلا : ممن أنتما؟

__________________

(١) ارتث : أي وقع وبه جراح.

(٢) قال ابن هشام : «هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح».

٢٥٥

فقالا : من بني عامر ، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما ، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة (١) من بني عامر ، بما أصابوا من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخبره الخبر ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : لقد قتلت قتيلين لأدينهما.

ثم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : هذا عمل أبي براء ؛ قد كنت لهذا كارها متخوفا.

فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه ، وما أصاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسببه وجواره وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة (٢).

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عامر بن الطفيل كان يقول : إن الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه. قالوا : هو عامر بن فهيرة (٣).

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن أحد بني جعفر ، رجل من بني جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ، قال : كان جبار فيمن حضرها (٤) يومئذ مع عامر ، ثم أسلم بعد ذلك.

قال : فكان يقول مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم يومئذ

__________________

(١) الثؤرة : الثأر.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ١٧٥.

(٤) أي فيمن حضر يوم بئر معونة.

٢٥٦

بالرمح بين كتفيه ، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره ، فسمعته يقول حين طعنته : فزت والله!

قال : فقلت في نفسي : ما فاز! أليس قد قتلت الرجل؟! حتى سألت بعد ذلك عن قوله.

فقالوا : الشهادة.

قال : فقلت : فاز لعمرو الله!

فقال حسان بن ثابت (١) يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل :

بني أم البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكم عامر بأبي براء

ليخفره ، وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي (٢)

أبوك أبو الحروب أبو براء

وخالك ماجد حكم بن سعد

وقال كعب بن مالك في ذلك أيضا :

لقد طارت شعاعا كل وجه

فارة ما أجار أبو براء

فمثل مسهب وبني أبيه

بجنب الرّده من كنفي سواء (٣)

بني أم البنين أما سمعتم

دعاء المستغيث مع المساء!

وتنويه الصريخ بلى ولكن

عرفتم أنه صدق اللقاء

__________________

(١) ديوانه ص ٥٠ مع اختلاف في ترتيب الأبيات.

(٢) المساعي : السعي في طلب المجد والمكارم.

(٣) و : (بجنب المرو).

٢٥٧

فما صفرت عياب بني كلاب

ولا القرطاء من ذم الوفاء

أعامر عامر السوءات قدما

فلا بالفعل فزت ولا السناء

أأخفرت النبي وكنت قدما

إلى السوءات تجري بالعراء؟

فلست كجار جار أبي داود

ولا الأسدي جار أبي العلاء

ولكن عار كم داء قديم

وداء الغدر فاعلم شر داء

فلما بلغ ربيعة بن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب ، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه ، فشطب الرمح عن مقتله ، فخر عن فرسه.

فقال : هذا عمل أبي براء! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به ، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إليّ (١).

حدثني محمد بن مرزوق ، حدثنا عمرو بن يونس ، عن عكرمة ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ، قال : حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي الذين أرسلهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أهل بئر معونة.

قال : لا أدري ، أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» الذين بعثوا ؛ حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه.

ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله «صلى الله عليه وآله» أهل هذا الماء؟

فقال ـ أراه ابن ملحان الأنصاري ـ : أنا أبلغ رسالة رسول الله «صلى الله عليه وآله».

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٧٤ و ١٧٥.

٢٥٨

فخرج حتى أتى حواء منهم ، فاحتبى أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله.

فخرج إليه من كسر البيت برمح ، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة ، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار ، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل.

قال إسحاق : حدثني أنس بن مالك أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآنا : «بلّغوا عنا قومنا أنّا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا ، ورضينا عنه».

ثم نسخت ، فرفعت بعدما قرأناه زمانا ، وأنزل الله عز وجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ..)(١).

حدثني العباس بن الوليد ، قال : حدثني أبي قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، عن أنس بن مالك قال : بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى عامر بن الطفيل الكلابي سبعين رجلا من الأنصار قال : فقال أميرهم : مكانكم حتى آتيكم بخبر القوم!

فلما جاءهم قال : أتؤمنونني حتى أخبركم برسالة رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟

__________________

(١) الآيتان ١٦٩ و ١٧٠ من سورة آل عمران ، والخبر في التفسير ج ٧ ص ٣٩٣ والدر المنثور ج ٢ ص ٩٥ عن ابن المنذر وابن جرير.

٢٥٩

قالوا : نعم ، فبينا هو عندهم ، إذ وخزه رجل منهم بالسنان : قال :

فقال الرجل : فزت ورب الكعبة! فقتل.

فقال : عامر : لا أحسبه إلا أن له أصحابا ، فاقتصوا أثره حتى أتوهم فقتلوهم ، فلم يفلت منهم إلا رجل واحد.

قال أنس : فكنا نقرأ فيما نسخ : «بلغوا عنا إخواننا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» (١).

وتقول الروايات : إنه «صلى الله عليه وآله» قنت شهرا في صلاة الغداة يدعو على رعل وذكوان وعصية.

نص آخر للطبراني :

وثمة نص آخر ، عن سهل بن سعد ، ملخصه : أن عامر بن الطفيل قدم على النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة ، فراجع النبي «صلى الله عليه وآله» وارتفع صوته ، وثابت بن قيس قائم بسيفه على النبي «صلى الله عليه وآله» ، فأمره بغض صوته ، وجرى بينهما كلام.

فعطس ابن أخ لعامر ، فحمد الله ، فسمّته النبي «صلى الله عليه وآله» ، ثم عطس عامر ، فلم يسمّته ، فقال عامر : سمّت هذا الصبي ، ولم تسمّتني؟!

فقال «صلى الله عليه وآله» : إن هذا حمد الله.

قال : ومحلوفه ، لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٤٥ ـ ٥٥٠ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٧١ ـ ١٧٣ ولباب التأويل ج ١ ص ٣٠١ و ٣٠٢ ومجمع البيان ج ٢ ص ٥٣٥ و ٥٣٦ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤٢٦.

٢٦٠