الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

الكلام على وفاته.

وقد ذكرنا في الجزء الخامس : أن أم سلمة قد حضرت زفاف فاطمة كزوجة للنبي ، إلا أن تكون أم سلمة قد حضرت هذا الزفاف كامرأة من النساء ويكون المراد ببيت أم سلمة : البيت الذي صار لها فيما بعد. وإن كان ذلك خلاف الظاهر. حيث إن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما كان يبني لزوجاته البيوت بعد زواجه بهن ، ولأنه يظهر من الرواية : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يتعامل معها كزوجة ، كما ألمحنا إليه فيما تقدم. والله هو العالم بحقيقة الحال.

ب : يلاحظ : أن الرواية المتقدمة تقول : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أمر أبا سلمة بالإغارة عليهم بغتة ، قبل أن يعلموا أو يجمعوا الجيش.

ولعل ذلك يرجع إلى أنهم كانوا قد بادروا هم إلى نصب العداء للمسلمين ، وجمع الجموع للإغارة على المدينة ، فأصبحوا من المحاربين ، الذين لا بد من كسر شوكتهم ، ودفع غائلتهم ، ولم يعد لهم أمان ، ولا حرمة ، ولا عهد. فلا مانع من تربص غفلتهم ، والإغارة عليهم بغتة ، فإنما : «على نفسها جنت براقش» ، ولا يعتبر ذلك غدرا بهم ، ولا تجنيا عليهم ، فإن المحارب إذا قصر في الاحتياط لنفسه ، لا يكون معذورا ، ولا يجب على غيره أن ينوب عنه في ذلك.

ومن جهة ثانية : فإن هذا الأمر من شأنه أن يقلل من حجم الخسائر في الأرواح في صفوف المسلمين ، وحتى في صفوف المشركين أيضا.

كما أن من شأنه أن يعود بالفائدة الكبيرة على المسلمين من الناحية

١٦١

الاقتصادية ـ كما يتضح من حجم الغنائم التي حصلوا عليها ـ ويضعف عدوهم من هذه الناحية أيضا ، وبالتالي فإنه يربك خطط العدو وخطواته في مجال التآمر على المسلمين ، وضربهم ، ويؤجل كثيرا من المشاكل ، والأخطار إلى أجل مسمى ، الأمر الذي ربما يحمل معه الكثير من المستجدات ، التي قد لا يبقى معها مجال للحرب ، ولا للخصومة على الإطلاق.

ولعل ما ذكره ابن سعد من قول الرسول «صلى الله عليه وآله» لأبي سلمة : سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم (١) ، يشير إلى الأمرين السابقين.

ج : إن ذلك يعطينا : أنه لا مانع من المبادرة إلى أعمال وقائية ، تمنع الأعداء من تسديد الضربات القاسية للمؤمنين ، ما دام العدو بصدد ذلك ، ويعد العدة له.

أضف إلى ذلك : أن غزو المسلمين في عقر دارهم يضعف أمرهم ، ويوهن عزمهم ، ويطمع فيهم أعداءهم.

أما إذا بادروا هم إلى مبادءة أعدائهم في عقر دارهم ، فإن ذلك أبعد للسمع ، وأنكى للعدو ، وأقوى لقلوب المسلمين.

د : لعل الرواية الأخيرة أقرب إلى الصواب ، إذا ثبت أن مسعود بن

__________________

(١) الطبقات ج ٢ قسم ١ ص ٣٥ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٤١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٦٤.

١٦٢

عروة أو عروة بن مسعود قد قتل في هذه الغزوة : كما نص عليه البعض (١).

كما ويلاحظ : دقة نصوصها وتفصيلاتها ، ولعلها لا تأبى عن الجمع بينها وبين الرواية الأخرى التي لا تخلو من شيء من الإجمال.

إغتيال سفيان بن خالد :

وتعرف بسرية عبد الله بن أنيس.

ويقولون : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد بعث عبد الله بن أنيس ـ وحده ـ إلى قتل سفيان بن خالد ، وفي الإكتفاء والمواهب اللدنية : خالد بن سفيان ، حيث بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنه يجمع الجموع لحرب المسلمين ، وضوى إليه بشر كثير من أفناء الناس.

فخرج عبد الله بن أنيس إليه ليقتله ، فرواية تقول : لقيه وهو في ظعن يرتاد لهن منزلا ، فسأله عن نفسه ، فأخبره بأنه رجل من العرب سمع بجمعه لهذا الرجل أي النبي فجاءه لذلك ، فقال : أجل ، أنا في ذلك.

فمشى معه شيئا ، حتى إذا أمكنته الفرصة قتله ، وترك ظعائنه مكبات عليه.

وعند البلاذري : أنه قتله وهو نائم. ويبدو أنه ناظر إلى ما جاء في الطبقات وغيره ، عن ابن أنيس قال : «واستأذنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن أقول ، فأذن لي ، فخرجت ، وأخذت سيفي ، وخرجت أعتزي إلى خزاعة ـ وفي السيرة الحلبية والواقدي : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله»

__________________

(١) راجع : مغازي الواقدي وغيره مما تقدم ، وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٥٩ عن ابن إسحاق ، والإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ٤٤٨.

١٦٣

أمره بالانتساب إليها ـ حتى إذا كنت ببطن عرنة (١) لقيته يمشي ووراءه الأحابيش ، ومن ضوى إليه».

فمشى معه ، وحدثه بما هو قريب مما تقدم ، وفيه أنه استحلى حديث ابن أنيس ، حتى انتهى إلى خبائه ؛ وتفرق عنه أصحابه ، حتى إذا هدأ الناس وناموا ، اغتررته فقتلته ، وأخذت رأسه ، ثم دخلت غارا في جبل ، وضربت العنكبوت عليّ الخ ..

ثم صار يسير بالليل ويكمن بالنهار حتى قدم بالرأس على النبي ، فوضعه بين يديه ، وكانت مدة غيبته ثمانية عشر يوما.

ويذكر أيضا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» أعطاه بهذه المناسبة عصا ليتخصر بها في الجنة ، فأوصى أهله ، حتى لفوها في كفنه ـ أو بين جلده وكفنه ـ ودفنوها معه.

كما أنه هو نفسه قد ذكر : أنه حينما رأى خالدا ، وكان قد دخل وقت صلاة العصر ، خشي أن يكون له معه ما يشغله عن الصلاة ، فصلى وهو يمشي نحوه ، ويومي برأسه.

أما بالنسبة لتاريخ هذه القصة ، فقد ذكرها المؤرخون في السنة الرابعة يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم ، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة ، ورجع يوم السبت لسبع بقين من المحرم.

وعند الواقدي : في المحرم على رأس أربعة وخمسين شهرا.

وعند البلاذري : سنة ست ، وفي الوفاء : في الخامسة ، بعد غزوة بني

__________________

(١) بطن عرنة : واد بعرفة ، وليس من الموقف.

١٦٤

قريظة وذكره المسعودي في التنبيه والإشراف بلفظ : قيل.

وبعض أهل السير أوردها بعد سرية عاصم بن ثابت ، وقال : إنه ـ يعني سفيان بن خالد ـ كان سببا لقصة الرجيع التي قتل فيها عاصم وأصحابه. فتكون قصة قتل سفيان بعد سرية الرجيع (١).

ملاحظات على ما تقدم :

ولنا هنا ملاحظات :

ألف : بالنسبة لمدى اعتبار الرواية ، نشير إلى :

١ ـ إن الملاحظ : هو أن المؤرخين والمحدثين إنما يروون هذه الحادثة الهامة عن خصوص بطلها عبد الله بن أنيس ، وذلك أمر ملفت للنظر حقا : فلماذا لم ترو عن غيره يا ترى؟!

هذا مع ملاحظة : أنه يحاول إعطاء نفسه بعض الأوسمة البراقة ، مثل قوله عن نفسه : إنه كان لا يهاب الرجال.

__________________

(١) راجع قضية سفيان وابن أنيس إجمالا أو تفصيلا في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٥٠ و ٤٥١ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٥٣١ ـ ٥٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٦٧ والمحبر ص ١١٩ وزاد المعاد ج ٢ ص ١٠٩ وأنساب الأشراف (قسم سيرة النبي «صلى الله عليه وآله») ص ٣٧٦ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٤ و ١٦٥ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ١ ص ٣٥ و ٣٦ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٤ وسيرة مغلطاي ص ٥١ و ٥٢ والإصابة ج ٢ ص ٢٧٩ عن أبي داود وغيره والإكتفاء ج ٢ ص ٤١٧ ـ ٤١٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥٤ و ٢٥٥.

١٦٥

أو قوله : فاستحلى حديثي ، أو قصة تخصره بالعصا في الجنة ، أو نحو ذلك. مما يظهر من تتبع نصوص الرواية في المصادر المشار إليها في الهامش آنفا وغيرها.

٢ ـ إننا نلاحظ : أنه يدخل غارا ، ثم يحدث له نفس ما حدث للنبي «صلى الله عليه وآله» حين هجرته ، من نسج العنكبوت عليه ؛ ثم يأتي رجل ، ومعه إداوة ضخمة ، ونعلاه في يده ، وكان ابن أنيس حافيا ، وكان أهم أمره عنده العطش ، فوضع إداوته ونعله ، وجلس يبول على فم الغار ، ثم قال لأصحابه : ليس في الغار أحد ، فانصرفوا راجعين ، فخرج عبد الله وأخذ النعلين ، وشرب من الإداوة ولم يره أحد فطلبهما صاحبهما بعد ذلك فلم يجدهما فرجع إلى قومه ، ثم سار عبد الله نحو المدينة (١).

وهذه هي نفس الأمور التي حدثت للنبي «صلى الله عليه وآله» في غار ثور حين هجرته ، لا ندري كيف عادت وتكررت لابن أنيس دون سواه!! ومن دون أي تفاوت أو تغيير تقريبا.

ويلاحظ أيضا : أن هذا الرجل يحاول أن ينسب قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي لنفسه أيضا : كما سنرى.

٣ ـ إن الرواية ـ رغم أنها عن شخص واحد ، وهو نفسه بطلها ـ وردت مختلفة النصوص إلى حد التنافي ، كما يظهر من ملاحظة ما تقدم.

٤ ـ إن هذه الرواية تقول : إن عبد الله بن أنيس قد حمل رأس سفيان إلى

__________________

(١) مغازي الواقدي ص ٥٣٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٥.

١٦٦

النبي «صلى الله عليه وآله».

ولكن قد جاء عن الزهري قوله : «لم يحمل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» رأس إلى المدينة قط» (١).

وقد جعل الحلبي قصة حمل رأس سفيان وكعب بن الأشرف إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ردا على الزهري ، وإبطالا لقوله (٢).

ونقول : إن ذلك ليس بأولى من العكس ، بل العكس هو الأولى ، ما دام الزهري بصدد تكذيب ما نقل من ذلك. فلو لا أنه بحث عن ذلك واستقصاه ، وسأل عنه ، لما حكم بهذا الحكم القاطع.

ولا سيما بملاحظة أن ناقل إحدى القصتين رجل واحد ، هو نفس بطلها ، إلى آخر ما تقدم من وجوه الوهن في القصة.

ب : بالنسبة لتاريخ الرواية ، وكونها على رأس خمسة وثلاثين شهرا ، في السنة الرابعة ، فقد قلنا بعض ما يرتبط بذلك حين الكلام على سرية أبي سلمة إلى قطن.

كما أننا قدمنا آنفا : أن هذا التاريخ محل نظر ، ولا بد أن تكون بعد سرية الرجيع ، وهي بعد التاريخ الآنف الذكر.

ومهما يكن من أمر : فقد تكلمنا حول الاغتيالات في الجزء السادس من هذا الكتاب فما بعده ، فلا نعيد.

ج : ولو أننا أغمضنا النظر عما تقدم ، ففي الرواية دلالة على جواز

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٥.

(٢) المصدر السابق.

١٦٧

التبرك بآثاره «صلى الله عليه وآله».

وحتى لو فرضنا : أن الرواية المتقدمة غير صحيحة من الأساس ، فإن قبول المؤرخين القدامى هذا الأمر ـ «التبرك» ـ وإدراجه في كتبهم ، من دون اعتراض عليه ، أو تسجيل ملاحظة حوله يشير إلى أنهم كانوا لا يرون هذا التبرك شركا بالله سبحانه ، ولا خروجا عن الدين.

وقد تحدث العلامة البحاثة الشيخ علي الأحمدي «رحمه الله» حول هذا الموضوع بإسهاب في كتابه القيم : التبرك ، تبرك الصحابة والتابعين بآثار الأنبياء والصالحين فليراجعه من أراد.

د : لقد ذكر البعض (١) : أن قبيلة هذا الرجل وهي هذيل كان لها خصومات دامية مع خزاعة (٢).

فكيف يمكن لابن أنيس أن يدّعي : أنه من خزاعة ، ثم يثق به سفيان بن خالد؟!

__________________

(١) محمد في المدينة ص ١٣٥.

(٢) راجع مغازي الواقدي ج ٢ ص ٨٤٣ و ٨٤٤ و ٨٤٥ و ٨٤٦.

١٦٨

الفصل الثاني :

مأساة الرجيع : نصوص وآثار

١٦٩
١٧٠

يوم الرجيع كما يرويه المؤرخون :

قالوا : إنه في سنة ثلاث ، بعد أحد ، قدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» رهط من عضل ، والقارة ، فقالوا : يا رسول الله ، إن فينا إسلاما ؛ فابعث معنا نفرا من أصحابك ، يفقهوننا في الدين ، ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام.

فبعث «صلى الله عليه وآله» معهم نفرا ، ستة من أصحابه ، وهم :

١ ـ مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، حليف حمزة بن عبد المطلب.

٢ ـ خالد بن البكير الليثي.

٣ ـ عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.

٤ ـ خبيب بن عدي الأسدي.

٥ ـ زيد بن الدثنة.

٦ ـ عبد الله بن طارق.

وأمر عليهم : مرثد بن أبي مرثد ، وخرجوا مع القوم ، حتى إذا كانوا على الرجيع ـ ماء لهذيل بناحية الحجاز بين عسفان ومكة ـ غدروا بهم ، فاستصرخوا عليهم هذيلا ، فلم يرع القوم ، وهم في رحالهم ، إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم.

١٧١

فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا لهم : إنا والله ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه : أن لا نقتلكم.

فأما مرثد بن أبي مرثد ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت ، فقالوا : والله ، لا نقبل من مشرك عهدا ، ولا عقدا أبدا.

ثم ارتجز عاصم أبياتا ذكرها ابن هشام في السيرة ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وقتل صاحباه.

فأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ، ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد : لئن قدرت على رأس عاصم ، لتشر بن في قحفه الخمر ، فمنعته الدبر ـ أي الزنابير والنحل ـ فقالوا : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه ، فنأخذه ، فبعث الله سيلا ، فاحتمل عاصما ، فذهب به.

وكان عاصم قد أعطى الله عهدا : أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا ، تنجسا ، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدّبر منعته : يحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا في حياته ، فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع منه في حياته.

وأما زيد بن الدثنة ، وخبيب بن عدي ، وعبد الله بن طارق ، فلانوا ورقوا ، ورغبوا في الحياة ، فأعطوا أيديهم ، فأسروهم ، ثم خرجوا بهم إلى مكة ، ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران ـ واد قرب مكة ـ انتزع عبد الله بن طارق يده من الحبل الذي كان قد ربط به ، ثم أخذ سيفه ، واستأخر عنه القوم ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره ـ «رحمه الله» ـ بالظهران.

١٧٢

وأما خبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، فقدموا بهما إلى مكة.

قال ابن هشام : فباعو هما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.

قال ابن إسحاق : فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي ، حليف بني نوفل ، لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ، وكان أبو إهاب أخا للحارث بن عامر لأمه ، ليقتله بأبيه.

وأما زيد بن الدثنة ، فابتاعه صفوان بن أمية ، ليقتله بأبيه أمية بن خلف.

وبعث به صفوان مع مولى له ، يقال له : نسطاس إلى التنعيم ـ موضع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة ـ وأخرجوه من الحرم ليقتلوه.

واجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان ، حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك ، نضرب عنقه ، وأنك في أهلك؟

قال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه أن تصيبه شوكة تؤذيه ، وأني جالس في أهلي.

قال : يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.

ثم قتله نسطاس ، يرحمه الله.

وأما خبيب بن عدي ، فقد حدثت ماوية ، (أو مارية) مولاة حجير بن أبي إهاب ، قالت : كان خبيب بن عدي حبس في بيتي ، فلقد اطلعت عليه يوما ، وإن في يده لقطفا من عنب ، مثل رأس الرجل ، يأكل منه ، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.

١٧٣

وقالت أيضا : قال لي حين حضره القتل : ابعثي إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل.

قالت : فأعطيت غلاما من الحي الموسى ، فقلت : أدخل بها على هذا الرجل البيت.

قالت : فما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه.

فقلت : ماذا صنعت؟! أصاب ـ والله ـ الرجل ثأره بقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل.

فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ، ثم قال : لعمرك ، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي؟ ثم خلى سبيله.

قال ابن هشام : ويقال : إن الغلام ابنها «وسماه بعضهم : أبا حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، كما في شرح المواهب».

قال ابن إسحاق : ثم خرجوا بخبيب ، حتى إذا جاؤوا به إلى التنعيم ليصلبوه ، طلب منهم السماح له بصلاة ركعتين ، فسمحوا له ، فصلاهما ، ثم قال لهم : أما والله لو لا أن تظنوا : أني إنما طولت جزعا من القتل ، لاستكثرت من الصلاة.

فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.

قال : ثم رفعوه على خشبة فلما أو ثقوه ، قال : اللهم إنّا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا.

ثم قال : اللهم احصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، ثم قتلوه «رحمه الله».

١٧٤

فكان معاوية بن أبي سفيان يقول : حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان ؛ فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب.

وكانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه.

قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، عن عقبة بن الحارث ، قال : سمعته يقول : ما أنا ـ والله ـ قتلت خبيبا ، لأني كنت أصغر من ذلك. ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار ، أخذ الحربة ، فجعلها في يدي ، ثم أخذ بيدي ، وبالحربة ، ثم طعنه بها حتى قتله.

وكان عمر بن الخطاب قد استعمل سعيد بن عامر بن حذيم على بعض الشام ، وكانت تصيبه غشية ، فقيل لعمر ، فسأله عن ذلك ، فقال : إنه كان فيمن حضر خبيبا حين قتل ، وسمع دعوته ، فكان إذا ذكرها غشي عليه.

قال ابن هشام : أقام خبيب في أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم ، ثم قتلوه.

وروي عن ابن عباس : أن المنافقين قالوا في هذه المناسبة : يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا ، لا هم قعدوا في أهليهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم.

فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين ، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم ، فقال سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لما يظهر من الإسلام بلسانه (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) وهو مخالف بما يقول بلسانه (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك.

١٧٥

وقال ابن إسحاق : قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي لا يجب عمله ولا يرضاه ، (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١).

يعني : قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله ، والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك يعني تلك السرية.

ثم ذكر خبيبا حين بلغه أن القوم اجتمعوا لصلبه ، قال :

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

ثم ذكر عدة أبيات.

ولكن ابن هشام قال : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.

ثم ذكر خمسة أبيات لحسان بن ثابت يبكي بها خبيبا ، أولها :

ما بال عينك لا ترقى مدامعها

سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق

وأبياتا أخرى ستة ، أولها :

يا عين جودي بدمع منك منسكب

وابك خبيبا مع الفتيان لم يؤب

ثم قال ابن هشام : وهذه القصيدة مثل التي قبلها ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكرهما لحسان ، وقد تركنا أشياء قالها حسان في أمر خبيب لما ذكرت.

قال ابن إسحاق : وكان الذين أجلبوا على خبيب في قتله حين قتل من قريش : عكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن أبي عبد الله بن أبي قيس بن عبد

__________________

(١) الآيات ٢٠٣ ـ ٢٠٦ من سورة البقرة.

١٧٦

ود ، والأخنس بن شريق الثقفي ، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي ، حليف بني أمية بن عبد شمس ، وأمية بن أبي عتبة ، وبنو الحضرمي.

ثم ذكر عدة مقطوعات شعرية لحسان يبكي فيها خبيبا أو يهجو هذيلا ، والمقطوعة الأخيرة ، وهي خمسة أبيات ، أولها :

صلى الإله على الذين تتابعوا

يوم الرجيع ، فأكرموا وأثيبوا

ثم قال ابن هشام : «وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان».

كان ما تقدم سردا لقضية يوم الرجيع ، حسبما يريد ابن هشام أن يصورها لنا (١).

__________________

(١) راجع فيما تقدم : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ١٧٨ ـ ١٩٣ وراجع : الإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٣٤ ـ ١٤١ وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٥٥ و ٥٦ وج ٨ ص ٣٠٢ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٠٩ ـ ٢١١ وتاريخ الطبري (ط دار المعارف) ج ٢ ص ٥٣٨ ـ ٥٤٢ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ القسم الثاني ص ٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٦٢ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ج ١ ص ٣٧٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٦٧ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٥٤ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٥٤ ـ ٤٥٨ وزاد المعاد ج ٢ ص ١٠٩ وتاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي) ج ١ ص ١٨٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥٥ و ٢٥٦ والسيرة الحلبية لابن كثير ج ٣ ص ١٢٣ والأغاني ج ٤ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٧ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠٣ وقصة خبيب في الإستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٤٢٩ ـ ٤٣٢ وحلية الأولياء ج ١ ص ١١٣ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٣٤ والاشتقاق ص ٤٤٢.

١٧٧

ولسوف نجد : أن ثمة نصوصا أخرى تخالف ما ذكر ، ولسوف يتضح بعض الأمر في المناقشات التالية.

رأينا في الرواية :

ونقول :

إننا لا نملك دليلا قاطعا يجعلنا نخضع لصحة هذا الحدث ، ونستسلم لواقعيته بصورة نهائية.

بل لدينا الكثير من الموارد المثيرة لأكثر من سؤال ، ولا سيما فيما يتعلق ببعض التفاصيل التي أشارت إليها الروايات المختلفة. وهي من الكثرة بحيث نكاد نشكك في أصل هذه السرية.

وقد رأينا أن نقسم الحديث عن هذه السرية إلى قسمين ، ثم عززناهما بثالث.

أولهما : يتناول بشيء من التفصيل التناقضات الظاهرة فيما بين النصوص المختلفة التي بحوزتنا.

الثاني : يتعرض لمناقشة طائفة من الموارد التي جاءت في هذه النصوص ، وإبطالها ، وفقا لما يتوفر لدينا من وسائل ، تعطينا القدرة على ذلك.

أما القسم الثالث : فقد تعرضنا فيه للرواية التي تتحدث عن إنزال خبيب عن خشبته التي صلب عليها ، حسبما نرى.

فإلى ما يلي من مطالب وفصول.

تناقضات في روايات الرجيع :

إن روايات سرية الرجيع ، ثم ما جرى لحبيب وصاحبيه ، وكذلك ما

١٧٨

يرتبط بإنزال جثة خبيب ، لا تكاد تتفق على شيء ، فهي متنافرة ، ومتدابرة بصورة عجيبة وغريبة.

الأمر الذي يشير إلى وجود تعمد للكذب والوضع ، والتصرف والتحريف ، بحيث أصبح من الصعب تحديد نتيجة واضحة لا لبس فيها في هذا المجال.

بل إن هذه التناقضات الواضحة تكاد تجعلنا نشك في مجمل ما يذكرونه هنا ، سوى أننا لا نجرؤ على نفي الموضوع من أساسه ، ولا ضير في أن يكون ثمة أشخاص قد قتلهم ناس من عضل والقارة (١) ولا نمانع في أن يكون خبيب وصاحبه قد قتلهما أهل مكة.

وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه ، إن لم نقل إن فيه الكثير مما نقطع بأنه مكذوب وموضوع ، أو محرف عن عمد ، أو عن غير عمد كما سنرى.

وإذا أردنا أن نلم بطائفة من هذه التناقضات ، فإننا نشير إلى ما يلي :

ألف : بالنسبة لتاريخ سرية الرجيع ، نجد : أن معظم المؤرخين يذكرون قضية الرجيع في صفر سنة أربع (٢) مع أن عددا آخر يذكرها في سنة ثلاث

__________________

(١) عضل (بفتحتين) : بطن من بني الهون بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، ينسبون إلى عضل بن الديش.

والقارة (بتخفيف الراء) : بطن من الهون أيضا ، وينسبون إلى الديش المذكور ، والقارة : أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسمعوا بها.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٦٢ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ج ١ ص ٣٧٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٦٧ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٥٤ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٥٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣

١٧٩

بعد غزوة أحد (١).

وفي نص آخر : أنهم انطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة ، بعد وقعة بدر (٢).

ب : وبينما نجد بعض النصوص تشير إلى : أن غزوة الرجيع كانت بعد بئر معونة ، التي كانت في محرم (٣).

فإن البعض يذكر : أن خبرهما (بئر معونة ، والرجيع) قد جاء إلى النبي «صلى الله عليه وآله» في ليلة واحدة (٤).

ونص ثالث : يشير إلى أن أهل مكة قد اشتروا خبيبا وابن الدثنة في ذي

__________________

وتاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي) ج ١ ص ١٨٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٢٣ وتاريخ الطبري (ط دار المعارف) ج ٢ ص ٥٣٨ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٢٧ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٠ والتنبيه والإشراف ص ٢١٢ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٦٦.

(١) الإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٣٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٥٤ عن ابن إسحاق وراجع : البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٠٩ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٩٠ والإستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٤٢٩ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢١٧ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٠ عن ابن إسحاق والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ قسم ٢ ص ٢٧ وكتاب الجامع للقيرواني ص ٢٧٨ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٦٦ عن ابن التين.

(٢) أسد الغابة ج ٢ ص ١٠٤ وصحيح البخاري ج ٢ ص ١١٥ ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٩٤ وصفة الصفوة ج ١ ص ٦٢٠ وحلية الأولياء ج ١ ص ١١٢.

(٣) راجع : المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

(٤) راجع : المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

١٨٠