الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

٢ ـ روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : أن عليا كان يقطع اليد من الأصابع ، والرجل من نصف الكف (١).

٣ ـ ويشير إلى ذلك : أنهم يروون : أنه «عليه السلام» قد جيء بسارق ، فقال لقنبر : اذهب به يا قنبر ، فشد إصبعه ، وأوقد النار ، وادع الجزار ليقطع الخ .. (٢).

فإن الظاهر : أنه أمره بشد إصبعه ، ليكون القطع من أصول الأصابع.

٤ ـ ويؤيد ذلك : قول عمر : لا تقطع الخمس «أي الأصابع» إلا في خمس (٣) أي دراهم.

٥ ـ «وكان علي بن أصمع على البارجاه ، ولاه علي بن أبي طالب «صلوات الله عليه» ، فظهرت منه خيانة ، فقطع أصابع يده ، ثم عاش حتى أدرك الحجاج ؛ فاعترضه يوما ، فقال : أيها الأمير ، إن أهلي عقوني.

قال : بم ذاك؟

قال : سموني عليا.

قال : ما أحسن ما لطفت. ثم ولاه ولاية ، ثم قال : والله لئن بلغتني عنك خيانة لأقطعن ما أبقى علي من يدك (٤).

__________________

(١) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١٠ ص ١٨٥.

(٢) كنز العمال ج ٥ ص ٣١٦ عن مسند أبي يعلى ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٦٤ عنه.

(٣) سنن الدارقطني ج ٣ ص ١٨٦ ، وأخرجه ابن المنذر والنسائي. وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد. وفي هامش سنن الدارقطني عن : ابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن البصري.

(٤) الإشتقاق ص ٢٧٢ ووفيات الأعيان (ط دار صادر) ج ٣ ص ١٧٥.

١٤١

٦ ـ بل الظاهر : أن قطع الأصابع قد كان شائعا قبل زمان عطاء ، أي في الصدر الأول ، كما يفهم من تساؤل ابن جريج ، وجواب عطاء له ، فقد قال ابن جريج لعطاء : سرق الأولى.

فقال : يقطع كفه.

قلت : فما قولهم : أصابعه؟!

قال : لم أدرك إلا قطع الكف كلها (١).

خسوف القمر :

ويقولون : إنه في السنة الخامسة من الهجرة في جمادى الآخرة انخسف القمر ، وجعل اليهود يضربون بالطساس (جمع طاس) ويقولون : سحر القمر. فصلى بهم النبي «صلى الله عليه وآله» صلاة الخسوف ، حتى انجلى القمر (٢).

ونقول :

إن من الواضح : أن اليهود لم يكونوا سليمي النوايا حينما ضربوا بالطساس ، وقالوا : سحر القمر.

وذلك لأن خسوف القمر أمر عادي يحدث كثيرا ، ويعرفه كل أحد.

فهل أراد اليهود بعملهم هذا التلاعب بأفكار الناس ، وإيهامهم بأن هذا من فعل محمد «صلى الله عليه وآله» ، وأنه ساحر ، وليس بنبي؟!

إن تاريخ اليهود ، ونشاطاتهم الماكرة والهدامة ، لا تأبى عن تقوية هذا الاحتمال ، وتأكيده.

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ج ١٠ ص ١٨٥.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٩ عن ابن حيان.

١٤٢

النبي «صلّى الله عليه وآله» يبعث بالأموال إلى مكة :

وفي السنة الخامسة كما يقولون : أصابت قريشا شدة ، فبعث إليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» بفضة ، يتألفهم بها (١).

وفي بعض النصوص : أنه أرسل إليهم بخمس مئة دينار (٢).

عن عبد الله بن علقمة الخزاعي ، عن أبيه ، قال : بعثني النبي «صلى الله عليه وآله» بمال لأبي سفيان بن حرب ، يفرق في فقراء قريش ، وهم مشركون يتألفهم. فقدمت مكة ودفعت المال إلى أبي سفيان فجعل أبو سفيان يقول : من رأى أبرّ من هذا ولا أوصل ـ يعني : النبي «صلى الله عليه وآله» ـ إنا نجاهد ونطلب دمه وهو يبعث إلينا بالصلات يبرنا بها (٣).

أما ما ذكره ابن سعد : من أنه «صلى الله عليه وآله» أرسل إلى أبي سفيان بمال يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح (٤) فلعلها كانت مرة أخرى غير التي كانت في السنة الخامسة. ولعل الرسول في كلا الحادثتين رجل واحد أيضا.

ونقول :

إن هذا الموقف للرسول «صلى الله عليه وآله» من مشركي مكة لا يجوز

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٠.

(٢) آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص ٥٢٢ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٩٢ وراجع : الثقات ج ١ ص ٢٦١ عن شرح السير الكبير ج ١ ص ٧٠.

(٣) التراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٩٠ ، ٣٩١ عن كنز العمال ج ٥ ص ٤٢ عن ابن عساكر.

(٤) الطبقات الكبرى (ط صادر) ج ٤ ص ٢٩٦ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٢٥ وراجع : ص ٣٩٠ ، ٣٩١ عن ابن عساكر وعن كنز العمال ج ٥ ص ٤٢.

١٤٣

تفسيره على أنه محاولة منه لشراء ولائهم ، عن طريق استغلال ضعفهم الناشئ عن مكابدة الحاجة ، ومكافحة الجوع ، ومعاناة البلاء والالآم ؛ لأن معنى ذلك هو أن مواقفه «صلى الله عليه وآله» وتصرفاته كانت تمليها عليه الروح التجارية ، والشعور الانتهازي وأهداف لا إنسانية بصورة عامة.

وإنما عكس ذلك هو الصحيح. فإن مواقف المشركين معه «صلى الله عليه وآله» ، وجرائمهم تجاهه ، وتجاه أهل بيته وأصحابه والتي كانت قد بلغت الغاية ، وأوفت على النهاية ، لو فرض أنها قد كان لها دور في ما يتخذه من مواقف ويقوم به من أعمال ، فقد كان اللازم هو أن يجد في معاناة أهل مكة أنواع البلاء ما يشفي غليل صدره ومتنفسا لحقده ووجده.

ولكننا نجده يعلن بفرحه وسروره ، ويعرب عن تمنياته بزيادة النكبات ، وتوالي المصاعب والمتاعب وبمضاعفة البلايا والمآسي على أولئك الذين لم يألوا جهدا ولم يدخروا وسعا في حربه ، وقهره ، وإلحاق مختلف أنواع الأذى به وبكل من يلوذ به.

نعم ، إن هذا هو الذي كان يمكن أن نتوقعه منه «صلى الله عليه وآله» في ظروف كهذه ولكن من يراجع حياة النبي «صلى الله عليه وآله» ومواقفه من أهل مكة قبل وبعد هذه القضية ، فإنه يجده ذلك الرجل المشفق ، والوالد الرحيم لهم حتى وهم يتخذون ضده وضد أهل بيته وأصحابه أعتى المواقف ، ويرتكبون في حقهم أبشع الجرائم وأفظعها ، فهو القائل في حرب أحد ، التي قتل فيها عمه أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وهو الذي قال لأهل مكة ، حينما دخلها بعد ذلك في سنة ثمان للهجرة :

١٤٤

اذهبوا ؛ فأنتم الطلقاء.

مع أنهم قد حاربوه ، ونابذوه على مدى سنوات طويلة ، وقتلوا ، أو تسببوا في قتل الكثيرين من الخيرة من أهل بيته وأصحابه.

وقد وصف القرآن الكريم حالته ومشاعره هذه بأنه : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

بل لقد كانت نفسه تذهب حسرات عليهم ، حتى لقد قال الله تعالى له : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)(٢).

وقال مخاطبا إياه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٣).

نعم .. وهو هو شأن المسلم الأول ، وتلك هي تعاليم الإسلام والتربية الإلهية الخالصة ، التي تسمو بالإنسان عن أن يكون أسير انفعالاته وأحقاده ، وتفتح أمامه الآفاق الرحبة ، ليعيش الحياة بكل صفائها ونبلها ، وبكل كمالاتها ومواهبها ، لا تقيده قيود ، ولا تحده حدود.

أول وافد على رسول الله صلّى الله عليه وآله :

ويقولون : إنه في السنة الخامسة قدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بلال بن الحارث ، في أربعة عشر رجلا من مزينة ، فأسلموا. وكان أول وافد مسلم بالمدينة.

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

(٢) الآية ٨ من سورة فاطر.

(٣) الآية ٦ من سورة الكهف.

١٤٥

فقال لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ارجعوا ، فأينما تكونوا فأنتم من المهاجرين. فرجعوا إلى بلادهم (١).

ونقول : إننا نسجل هنا ما يلي :

١ ـ إن اعتبار النبي «صلى الله عليه وآله» هؤلاء من المهاجرين أينما كانوا وحيثما وجدوا يشير إلى :

ألف : إن المهاجر لا ينحصر بمن قدم من مكة إلى المدينة ، بل يعم كل من هاجر من بلاده إلى الله ورسوله ، كما أشارت إليه الآية بل الآيات القرآنية.

إذا : فلا يحق لأهل مكة أن يعتبروا أنفسهم «المهاجرين» دون غيرهم.

فالامتيازات التي حاولوا أن يختصوا بها لأنفسهم دون غيرهم على هذا الأساس تصبح بلا مبرر مهما كان ضعيفا وغير معقول.

ب : إن اعتبارهم من قبل النبي «صلى الله عليه وآله» مهاجرين ، حتى مع بقائهم في بلادهم هو بدوره أيضا توضيح ومعيار آخر لمفهوم المهاجر الذي يعترف به الإسلام ويتعامل على أساسه.

ج : إننا نلاحظ : أنه «صلى الله عليه وآله» قد ركز على كونهم من المهاجرين ، ولم يعتبرهم من الأنصار ، ولا ندري إن كان ذلك منه «صلى الله عليه وآله» وهو الذي كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق إلماحة إلى سياسة الاستئثار والتجني التي سوف ينتهجها الحكام تجاه الأنصار ، لصالح المهاجرين ، وهو بذلك يبذل محاولة لإعطاء المبررات المنطقية لإدانة تلك

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٠.

١٤٦

السياسة الظالمة وإظهار بعدها عن النزاهة ، وعن العدالة.

وقد رأيناه «صلى الله عليه وآله» قد اعتبر : أن كل من دخل في الإسلام طوعا فهو مهاجري (١) حسبما روي عنه.

وهذا بدوره إدانة أخرى لتلك السياسات التي انتهجها الخليفة الثاني بعده لصالح المهاجرين ضد الأنصار ، بهدف تكريس الحكم في هذا الفريق الذي يهتم الخليفة الثاني بأمره ، ويرسم لذلك الخطط ، ويضع له المناهج.

وقد أشرنا إلى شيء مما حاق بالأنصار في الجزء الخامس من هذا الكتاب فليراجعه من أراد ، وتحدثنا عن جانب من هذه السياسات في كتابنا «الحياة السياسة للإمام الحسن عليه السلام».

٢ ـ إننا نلاحظ : أن هذه الوفود قد بدأت في السنة الخامسة ، وذلك يدل على : أن الناس قد بدأوا يشعرون بقوة الإسلام ، وشوكته ، وأصبح واضحا لديهم : أن قريشا ، بكل جبروتها وقوتها ونفوذها قد باتت عاجزة عن تسديد ضربة قاضية لهذا الدين الجديد رغم أنها قد ألحقت بالمسلمين خسائر كبيرة في حرب أحد ، ولكن تحرك النبي «صلى الله عليه وآله» في غزوة حمراء الأسد وفي غيرها وحتى في حرب أحد بالذات قد ضيع عليها فرص تكريس النصر لها كما هو معلوم.

إذا ، فقد كان من الطبيعي أن يظهر من يرغب بالإسلام إسلامه ، دونما خوف أو وجل.

__________________

(١) راجع : الجعفريات ص ١٨٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٣ ص ٢٠٧ عنه ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٦٨ عن روضة الكافي.

١٤٧

كما أن من الطبيعي أن يخطب أولئك الذي يعيشون في المنطقة ود المسلمين ، وأن يعقدوا معهم معاهدات وإتفاقات توضح نوع ومستوى ومنطلقات العلاقة بهم.

وهذه الوفود ، وإن كانت قد ظهرت على نطاق واسع في سنة تسع من الهجرة أي بعد فتح مكة ، وكسر شوكة قريش والقضاء على جبروتها ،

ولكن بدء هذه الوفود ولو بصورة محدودة في السنة الخامسة ، يدلل على وجود تحول حقيقي في ميزان القوى في المنطقة ، ثم في نظرة الناس للإسلام ، والمسلمين ، وحساباتهم الدقيقة وتصوراتهم فيما يختص بالتعامل معه كقوة جديدة في المنطقة ، وكدين جديد أيضا.

٣ ـ قولهم : إن وفد بلال بن الحارث كان أول وفد مسلم إلى المدينة قد يكون موضع ريب وشك إذا أردنا أن نبحث هذا الموضوع بدقة وأناة ، فلعل وفد ضمام بن ثعلبة كان قبله.

إلا أن يدّعى : أن ضماما لم يكن قد أسلم حينئذ.

ومهما يكن من أمر : فإن موضوع الوفود وسائر ما يتعلق به موكل إلى ما يأتي إن شاء الله تعالى.

٤ ـ وإذا كان بلال بن الحارث شابا في مقتبل العمر ، لم يتجاوز الخمس وعشرين سنة (١) فإن نسبة هذا الوفد إليه ، من بين سائر الرجال الذين رافقوه ، ولعل الكثيرين منهم كانوا أسن منه ، وقد يكون فيهم من هو من ذوي الشرف والرياسة في تلك القبيلة ،

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ١٦٤.

١٤٨

نعم .. إن نسبة الوفد إلى هذا الشاب دون أي منهم يصبح بحاجة إلى مزيد من التأمل والتحقيق والتدبر.

٥ ـ إن بلالا كان يسكن وراء المدينة (١) ـ كما يقولون ـ فلا بد من التأمل أيضا في سبب اعتبار قدومه إلى النبي «صلى الله عليه وآله» وفادة عليه.

نسأل الله التوفيق لمزيد من البحث في ذلك في الوقت المناسب.

وفد ضمام بن ثعلبة :

قال الدياربكري : «وفي هذه السنة قدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ضمام بن ثعلبة ، من بني سعد بن بكر ، وعليه جمع كثير من أكابر أهل السير.

لكن الحافظ ابن حجر ، قال في فتح الباري : إن قدوم ضمام كان في السنة التاسعة ، كما ذهب إليه محمد بن إسحاق ، وسيجيء في الخاتمة» (٢).

ونحن نوكل الحديث والتحقيق في ذلك إلى الحديث عن سنة تسع ، وهي سنة الوفود إن شاء الله تعالى.

وإنما ذكرنا ذلك هنا متابعة لهم ، وللإشارة إلى الموضع الذي نفضل إرجاء طرح هذه المسائل إلى حين بلوغه.

غدر مقيس بن حبابة :

قالوا : وفي السنة الخامسة ، قدم مقيس بن حبابة من مكة ، متظاهرا

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ١٦٤.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٠ وراجع : الإصابة ج ٢ ص ٢١١.

١٤٩

بالإسلام ، فقال : يا رسول الله ، جئتك مسلما ، وجئتك أطلب دية أخي ، قتل خطأ ، فأمر له رسول الله بدية أخيه هشام بن حبابة ، فأقام عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» غير كثير ، ثم اعتدى على قاتل أخيه ، فقتله ، ثم رجع إلى مكة مرتدا (١).

وذلك إن دل على شيء ، فإنما يدل على : عدل الإسلام ، وسماحته وتسامحه ، ويظهر زيف وسقوط مناوئيه ، وغدرهم.

وهو يعطي الصورة العملية عن أخلاقيات الإسلام ومناقبيته ، ووفائه بالتزاماته.

وإلى جانب ذلك تظهر اللاأخلاقية والفلتان واللامبدئية الجاهلية.

أعاذنا الله من شرور أنفسنا ، وهدانا إلى سواء السبيل.

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٣ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٦٠٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩٤ و ٩٢ و ٢٥٠.

١٥٠

الباب الثالث

حتى بئر معونة

الفصل الأول : سريتان ناجحتان

الفصل الثاني : مأساة الرجيع : نصوص وآثار

الفصل الثالث : حدث ونقد

الفصل الرابع : جثة خبيب

١٥١
١٥٢

الفصل الأول :

سريتان ناجحتان

١٥٣
١٥٤

بداية :

هذا .. وقد كانت فيما بين أحد والخندق العديد من السرايا والغزوات وكانت لها نتائج إيجابية ، على الصعيد السياسي العام وكذلك على الصعيد الاجتماعي ، والعسكري وغير ذلك كما سنرى.

وحيث إن السرايا لم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» يشارك فيها ، وإنما كان يشارك في الغزوات فقط ، فلسوف نحاول الفصل فيما بينهما في الحديث ، ولسوف نهتم بالغزوات التي يشارك فيها النبي «صلى الله عليه وآله» بنفسه أكثر ، لنستفيد من أقواله ومواقفه «صلى الله عليه وآله» الدروس والعظات والعبر ، ولتكون لنا نهج حياة ، ومنار هداية ، ودليل خير وفلاح.

وليعلم : أن كثيرا مما يذكر في هذه الغزوات والسرايا ، يحتاج إلى بحث وتمحيص ، وقد لا نرى ضرورة كبيرة للمبادرة لتحقيقه ومعالجته في هذه العجالة ، توفيرا للفرصة لما هو أهم وأكثر ضرورة وإلحاحا.

فما نذكره هنا لا يدل على أننا نقطع بصحته ، وإنما نذكره متابعة للمؤرخين ، فليعلم ذلك.

ونذكر هذه السرايا حسب الترتيب الزمني ، فيما ظهر لدينا ، أو حسب ما نص عليه المؤرخون فنقول :

١٥٥

سرية أبي سلمة إلى قطن :

ويقولون : إنه في هلال المحرم ، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة ،

وقيل : في آخر سنة ثلاث ، على رأس أربعة وثلاثين شهرا كانت سرية أبي سلمة ، عبد الله بن عبد الأسد ، إلى قطن (١) ، وكان معه مئة وخمسون رجلا من الأنصار والمهاجرين ، منهم : أبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسيد بن حضير ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وغيرهم.

فإن رجلا من طيء ، وقيل : من نفس الذين توجه أبو سلمة لغزوهم ـ واسمه الوليد بن زهير بن طريف ـ وقيل : الوليد بن الزيه الطائي ، ولعله تصحيف زهير ، أو العكس ـ كان قد قدم المدينة لزيارة زينب الطائية ابنة أخيه ، وزوجة طليب بن عمير ـ فأخبر صهره أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يريدون أن يدنوا من المدينة لحرب رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وقالوا : نسير إلى محمد في عقر داره ، ونصيب من أطرافه ؛ فإن لهم سرحا يرعى جوانب المدينة ، ونخرج على متون الخيل ، فقد أربعنا خيلنا ـ أي أرعيناها الربيع ـ ونخرج على النجائب المخبورة ؛ فإن أصبنا نهبا لم

__________________

(١) قطن : جبل بناحية فيد كذا في المواهب اللدنية وفي غيره : ببلاد بني أسد على يمينك إذا فارقت الحجاز ، وأنت صادر من النقرة ، قال إسحاق : قطن : ماء من مياه بني أسد بنجد. راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٥٠ وعددا من المصادر الآتية في الهامش التالي.

١٥٦

ندرك ، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها ؛ معنا خيل ولا خيل معهم ، ومعنا نجائب أمثال الخيل ، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش ، فهم لا يستبلون دهرا ولا يثوب لهم جمع.

فقال رجل منهم اسمه : قيس بن الحارث : يا قوم ، والله ما هذا برأي ، ما لنا قبلهم وتر ، ولا هم نهبة لمنتهب ، إن دارنا لبعيدة من يثرب ، ما لنا جمع كجمع قريش ، مكثت قريش دهرا تسير في العرب تستنصرها ، ولهم وتر يطلبونه ، ثم ساروا وقد امتطوا الإبل ، وقادوا الخيل ، وحملوا السلاح ، مع العدد الكثير ، ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم ، وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مئة رجل ، إن كملوا ، فتغررون بأنفسكم ، وتخرجون من بلدكم ، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم.

فكاد ذلك أن يشككهم في المسير ، وهم على ما هم عليه بعد ، فذهب به صهره إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فأخبره كما أخبره.

وفي رواية : أنهم كانوا قد جمعوا ، وتوجهوا إلى المدينة ، ثم بدا لهم الرجوع ، فرجعوا إلى منازلهم.

وعند البلاذري : كانوا قد جمعوا جمعا عظيما.

فبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا سلمة ، وأرسل معه نفس ذلك الرجل الذي أخبره بجمعهم ، وقال «صلى الله عليه وآله» لأبي سلمة : سر حتى تنزل أرض بني أسد ، فأغر عليهم ، قبل أن تلاقى عليك جموعهم.

فخرج ، وكان الطائي دليلا خريتا ـ أي ماهرا ـ فأغذّ السير فسار بهم أربعا إلى قطن ، وسلك بهم غير الطريق وعارض الطريق ، وسار بهم ليلا ونهارا.

وفي رواية أخرى : أنهم كان يسيرون في الليل ويكمنون في النهار

١٥٧

ليعمي عليهم الأخبار ، فسبقوا الأخبار ، وانتهوا إلى أدنى قطن ، ماء من مياه بني أسد.

فتذكر رواية : أن أبا سلمة أغار على سرحهم ودوابهم وأصابوا ثلاثة أعبد ، كانوا رعاة ، وهرب الباقون ، وأخبروا قومهم بمجيء أبي سلمة ، وكثرة جيشه ـ وبتعبير الواقدي : وكثروه عندهم ـ.

فخافوا ، وهربوا عن منازلهم في كل وجه ، ثم ورد أبو سلمة ، فوجد الجمع قد تفرق ، وجعل أصحابه ثلاث فرق ، فرقة أقامت ، وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى ، وأوعز إليهم ألا يمعنوا في طلب أحد ، وألا يفترقوا ، وألا يبيتوا إلا عنده ، واستعمل على كل فرقة عاملا منهم ؛ فآبوا إليه جميعا سالمين ، ولم يلقوا أحدا ، وجمعوا ما قدروا عليه من الأموال ورجعوا إلى المدينة.

وفي رواية أخرى : أنه لقيهم فقاتلهم ، فظفر وغنم ، وأنه قتل عروة بن مسعود (الصحيح : مسعود بن عروة) في هذه الغزوة على ما قاله أبو عبيدة البكري.

وأن أبا سلمة لما ورد قطن ، وجدهم قد جمعوا جمعا ، فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح ، فوعظ القوم ورغبهم في الجهاد ، وأوعز إليهم في الإمعان في الطلب ، وألف بين كل رجلين ، فانتبه الحاضر قبل حملة القوم عليهم ، فتهيأوا وأخذوا السلاح ، أو أخذه بعضهم ، فقتل سعد بن أبي وقاص رجلا منهم ، وقتل رجل منهم مسعود بن عروة ، فحازه المسلمون إليهم ، حتى لا يسلب من ثيابه ، ثم حمل المسلمون فانكشف المشركون ، وتفرقوا في كل وجه ، ثم أخذ أبو سلمة ما خف لهم من متاع القوم ، ولم يكن في المحلة ذرية ، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة ، حتى إذا كانوا من الماء على

١٥٨

مسيرة ليلة أخطأوا الطريق ، فهجموا على نعم لهم ، فيها رعاؤهم ، فاستاقوا النعم والرّعاء ، فكانت غنائمهم سبعة أبعرة.

وفي رواية : أنهم لما أخطأوا الطريق .. استأجروا دليلا فقال لهم : أنا أهجم بكم على نعم ؛ فما تجعلون لي منه؟

فقالوا : الخمس.

قال : فدلهم على النعم ، وأخذ خمسه.

وفي نص آخر : أن أبا سلمة أعطى الدليل الطائي ما أرضاه ، وعزل للنبي «صلى الله عليه وآله» عبدا ، (صفي المغنم) ، ثم خمسها ، وقسم الباقي على السرية ، فبلغ سهم كل واحد سبعة أبعرة ، وأغناما.

وكانت مدة غيبتهم عشرة أيام ، وقيل : أكثر من ذلك (١).

ملاحظات لا بد منها :

ولنا على ما تقدم ملاحظات ، هي :

ألف : إن النص المتقدم يقول : إن سرية أبي سلمة إلى قطن قد كانت في هلال المحرم ، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة.

__________________

(١) راجع فيما تقدم المصادر التالية : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٤١ ـ ٣٤٦ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٥٠ والمحبر ص ١١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٢١ ، ١٢٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٦١ و ٦٢ وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ص ٣٧٤ ، ٣٧٥ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٠ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ١ ص ٣٥ وسيرة مغلطاي ص ٥١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٤ و ١٦٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٥٤.

١٥٩

ونقول :

أولا : إن من الواضح : أن هجرة الرسول الأعظم والأجلّ الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد كانت في شهر ربيع الأول.

وهذا معناه : أن سرية أبي سلمة كانت على رأس أربعة وثلاثين شهرا ، إلا إذا كان المقصود : أنها كانت في أول الشهر الخامس والثلاثين كما هو الأولى.

ثانيا : إنها إذا كانت في أول المحرم ، فلا يمكن أن تكون في أول السنة الرابعة ، إلا بنحو من المسامحة ، وزيادة شهرين ، لأن الهجرة كانت في ربيع الأول ، كما قلنا ، وكان هو أول السنة ، وتغييره إلى المحرم إنما كان من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد سنوات طويلة.

فمن قال : إنها كانت في أول الرابعة فقد اعتمد التاريخ الذي وضعه عمر بن الخطاب ، وتسامح بإضافة شهرين.

ومن قال : إنها كانت في أواخر الثالثة فقد اعتمد التاريخ الأصيل الذي وضعه النبي «صلى الله عليه وآله» والذي يكون أول السنة فيه هو ربيع الأول ، ويكون كلامه أكثر دقة وانسجاما مع الواقع.

ثالثا : إن كون سرية أبي سلمة هذه قد كانت سنة ثلاث في آخرها ، أو في أول سنة أربع ، لا يتلاءم مع القول بأن أبا سلمة قد توفي سنة اثنتين ولا مع القول بأنه قد توفي في جمادى الآخرة سنة ثلاث ، حسبما قدمناه ، حين الكلام على وفاته.

رابعا : إنه قد تقدم في المجلد الخامس من هذا الكتاب بعض القرائن التي تفيد أنه توفي سنة اثنتين ، وهو ما ذهب إليه البعض ، حسبما ألمحنا حين

١٦٠