الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

«حتى على صاحبته يقيها الحجارة ، حتى قتلا جميعا ، فكان مما صنع الله لرسوله «صلى الله عليه وآله» في تحقيق الزنى منهما».

لم نفهم كيف يكون حنوّه عليها ليقيها الحجارة دليلا على تحقيق الزنى منهما ؛ فإن الإنسان قد يعطف حتى على الحيوان ، فضلا عن الإنسان. فلا يمكن أن يكون حنوه عليها ولا على غيرها دليلا على شيء من هذا القبيل.

٤ ـ لقد نصت رواية أبي هريرة على أنهم يعتذرون إلى الله سبحانه عن ترك الرجم بأنهم قد عملوا بفتيا نبي من أنبيائه (يعني محمدا «صلى الله عليه وآله»).

ومعنى ذلك هو : أنهم يعتقدون بنبوّته «صلى الله عليه وآله» فلا يكونون من اليهود.

لكن نصا آخر عن أبي هريرة نفسه يقول : إنه إن أفتى بغير الرجم ، فإنه يكون ملكا ، وإن أفتى بالرجم ، فاحذروا على ما في أيديكم أن يسلبكموه.

فنبوّته إذا توجد لهم الحذر من أن يسلبهم ما في أيديهم ، وليس ثمة اعتذار منهم إلى الله سبحانه وإن أفتاهم بغير الرجم ، فذلك دليل على كونه ملكا.

ومعنى ذلك هو ترددهم في نبوته وعدمها ، وذلك بعكس النص السابق.

٥ ـ إن الآيات التي في سورة المائدة ، والتي يدّعى نزولها في هذه المناسبة وهي الآيات ٤١ ـ ٥٠ لم تتعرض لحكم التوراة في الزنى أصلا ، وإنما تعرضت بالتفصيل لأحكام القتل والجروح ونحوها. مع أنها لو كانت نازلة في هذه المناسبة فإن المفروض هو أن تبين حكم الواقعة المختلف فيها

١٠١

والتي أوجبت نزولها ، والذي يلاحظ الآيات المذكورة ؛ فإنه يجدها مترابطة ومنسجمة مع بعضها البعض ، ويدرك : أنها نزلت في واقعة واحدة ، لا أن كل واحدة منها نزلت في واقعة تختلف عن الواقعة التي نزلت فيها الآية الأخرى.

٦ ـ إن بعض الروايات تفيد : أنه «صلى الله عليه وآله» هو الذي عرض نفسه للحكم في هذه المسألة ، حينما رآهم يجرون أحكام دينهم على الزانيين ، فتدخل هو نفسه متبرعا ، وانجر الأمر إلى الحكم بالرجم.

مع أن الآيات المذكورة تقول : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ..)(١).

إذا ، فحكمه «صلى الله عليه وآله» بينهم معلق على مجيئهم إليه ، وترافعهم (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ ..).

أضف إلى ذلك : أن الآية تقول : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) الظاهر بحدوث خلاف بين المترافعين والمتنازعين يحتاج إلى الحكم ، وفصل الخصومة فيه ، وليس في النصوص المتقدمة ما يشير إلى حدوث خلاف في أمر الزانيين المرجومين ، بل في بعضها تلويح ، بل تصريح بعدمه.

٧ ـ ويلاحظ على بعض الروايات أيضا : محاولة إظهار تعظيم النبي «صلى الله عليه وآله» للتوراة ، التي كانت لديهم ، وإيمانه «صلى الله عليه وآله» بما جاء فيها.

__________________

(١) الآية ٤٢ من سورة المائدة.

١٠٢

وهذا هو ما دعا البعض إلى القول بأن التوراة لم تتعرض للتحريف ، حيث استدل بالروايات المتقدمة على ذلك (١).

ولعل مما يزيد في تأكيد ذلك وتثبيته قولهم بنزول آية : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا)(٢) في هذه المناسبة.

على أساس أن مراد الآية ـ والحالة هذه ـ بالتوراة التي لها هذه المواصفات : هو نفس هذه التوراة التي عظمها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وقرأها ابن صوريا ، وعليه فإن التوراة التي كانت بحوزة اليهود كانت سليمة عن التحريف ، بنص الآية الشريفة.

مع أن تحريف التوراة كالنار على المنار ، وكالشمس في رابعة النهار.

وقد حاول العسقلاني دفع هذه الغائلة بطرح فكرة : أن المراد : أنه «صلى الله عليه وآله» مؤمن بما جاء في أصل التوراة ، لا بهذه التوراة المحرفة (٣).

وهو تمحل ظاهر ؛ فإنه «صلى الله عليه وآله» إنما خاطب بكلامه هذا خصوص التوراة الموضوعة أمامه.

واحتمال أن تكون خصوص تلك النسخة غير محرفة ، دون غيرها (٤) يدفعه : أن من غير المعقول أن يأتوه بالتوراة الصحيحة ، لأجل التحاكم إليها ، وليس من الممكن لهم تسجيل إدانة ضدهم ، بأنهم يتعاملون بتوراتين :

__________________

(١) راجع : فتح الباري ج ١٢ ص ١٥٣.

(٢) الآية ٤٤ من سورة المائدة.

(٣) راجع : فتح الباري ج ١٢ ص ١٥٣.

(٤) راجع : فتح الباري ج ١٢ ص ١٥٣.

١٠٣

إحداهما محرفة ، والأخرى صحيحة!!

٨ ـ وحين قال البعض : إن حكم الرجم لم يكن مشرعا في الإسلام ، فإنه ادّعى أنه «صلى الله عليه وآله» إنما رجمهما بحكم التوراة ، فإنه «صلى الله عليه وآله» كان أول قدومه إلى المدينة مأمورا باتباع التوراة والعمل بها حتى يأتي ناسخ ، ثم نسخ حكم التوراة بالرجم بعد ذلك (١).

وأجابوا عن ذلك : بأن اليهود إنما جاؤوا يسألون النبي «صلى الله عليه وآله» عن الحكم الذي عنده ، وقد قال سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ..)(٢).

فمراجعته للتوراة إنما كانت من أجل أن يثبت لليهود أن حكم التوراة لا يخالف حكم القرآن (٣).

هذا كله ، عدا عن الأحاديث التي أشرنا إليها في عدة مواضع ، من أنه «صلى الله عليه وآله» كان يخالف اليهود في كل مورد ، حتى قالوا : «إن محمدا يريد أن لا يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه» (٤).

٩ ـ وأما أنه «صلى الله عليه وآله» قد رجم اليهوديين في أول قدومه المدينة ، أو في السنة الرابعة ، ويؤيد الأول ذكر كعب بن الأشرف في عدد من النصوص ،

__________________

(١) فتح الباري ج ١٢ ص ١٥١ وراجع المصادر الآتية في الهامش التالي أيضا.

(٢) الآية ٤٩ من سورة المائدة.

(٣) فتح الباري ج ١٢ ص ١٥٢ وراجع : المغني لابن قدامة ج ١٠ ص ١٣٠ والشرح الكبير بهامشه ج ١٠ ص ١٦٢ و ١٦٣ ، وراجع أيضا : عون المعبود ج ١٢ ص ١٣٣.

(٤) قد تحدثنا عن إصرار النبي «صلى الله عليه وآله» على مخالفة اليهود في الجزء الخامس من هذا الكتاب فراجع.

١٠٤

مع أن كعبا قد قتل قبل السنة الرابعة بمدة طويلة ، أما ذلك فيرد عليه :

ألف : إنهم يقولون : إن عبد الله بن الحرث بن جزء قد حضر ذلك ، وعبد الله إنما قدم المدينة مسلما بعد فتح مكة.

ب : إنه يظهر من حديث ابن عباس : أنه هو أيضا قد شاهد ذلك ، وابن عباس إنما قدم المدينة مع أبيه بعد فتح مكة أيضا.

ج : إن الآيات التي يدّعى نزولها في هذه المناسبة قد جاءت في سورة المائدة ، النازلة في أواخر أيام حياته «صلى الله عليه وآله» ، وقد نزلت دفعة واحدة ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

د : قال العيني : «وقد وقع الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور ، لأن نزولها كان في قصة الإفك ، واختلف هل كان سنة أربع ، أو خمس ، أو ست ، والرجم كان بعد ذلك ، وقد حضره أبو هريرة ، وإنما أسلم سنة سبع» (١).

وبعد ما تقدم ، فكيف يكون رجم اليهوديين في السنة الرابعة ، أو في أول الهجرة؟!

١٠ ـ وترد هنا الأسئلة التالية :

لماذا عرف المؤرخون اسم المرأة المرجومة ولم يعرفوا اسم الرجل؟! (٢)

ولماذا تعلقت بنو قريظة ببني النضير حينما حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالرجم؟

__________________

(١) عمدة القاري ج ٢٣ ص ٢٩١.

(٢) راجع : عون المعبود ج ١٢ ص ١٣١.

١٠٥

ولماذا يستفتي اليهود النبي «صلى الله عليه وآله» حينما كرهوا رجم صاحبيهما؟

وكيف ذكرت رواية الإمام الباقر «عليه السلام» التحميم والتجبيه عند القتل ، لا عند الزنى؟ ثم إننا لم نفهم المراد من كونه كان يجانئ (أي ينحني) على المرأة ، يقيها الحجارة بنفسه ، فهل كانا في حفرة واحدة؟!

أضف إلى ذلك : أن الرواية عن الإمام الباقر «عليه السلام» تفيد : أن الرجم كان معمولا به عند اليهود حتى ذلك الوقت ، حيث تقول : إن اليهود كرهوا رجم صاحبيهما ، ولذلك استفتوا النبي «صلى الله عليه وآله».

١١ ـ إن نزول الآيات المتقدمة في أول البحث : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، وغير ذلك من آيات تقدمت ، غير معقول ، وذلك للأمور التالية :

ألف : لأن هذه الآيات في سورة المائدة : ٤١ ـ ٤٧ وسورة المائدة كانت من آخر ما نزل ؛ فلا يعقل أن يحتفظ بهذه الآيات من أول الهجرة إلى قبيل وفاته «صلى الله عليه وآله» ، ثم تنزل سورة المائدة ، فيجعلها فيها (١).

ب : أضف إلى ذلك أنهم يقولون : إن سورة المائدة قد نزلت كلها ، دفعة واحدة ؛ فراجع (٢).

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، وأبي عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والترمذي ، وحسنه ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عمن تقدم ، حيث صرحوا بتاريخ نزول السورة ، وصرح بأنها نزلت دفعة واحدة كل من : أحمد ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر في الصلاة ، وأبي نعيم في الدلائل ، والبيهقي في شعب الإيمان.

١٠٦

ج : إنهم قد ذكروا سببا آخر لنزول الآيات في بني النضير وبني قريظة وهو : أن بني النضير كانوا أكثر مالا ، وأحسن حالا من بني قريظة ، وكانوا حلفاء لابن أبي ، وكان من يقتل منهم لا يرضون من بني قريظة بالقود ، بل يلزمونهم بالدية وبالقود من القاتل معا.

أما لو قتل نضيري قريظيا ؛ فإن القاتل يحمم ويجبه ، ويدفع نصف الدية ، ولا يقاد به ، وكتبوا بذلك كتابا في الجاهلية ، فلما هاجر «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة ، وضعف أمر اليهود قتل قريظي نضيريا فطالبوهم بالدية والقود ، فأبوا وطلبوا أن يحكم «صلى الله عليه وآله» بالأمر فطلب بنو النضير من حليفهم ابن أبي : أن يقنع النبي «صلى الله عليه وآله» بعدم نقض الشرط الذي بينهم وبين القريظيين ، وقال لهم ابن أبي : إن حكم بنقض الشرط فلا تطيعوه في ذلك ، فنزلت الآيات : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ..). إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.)

بل في بعض النصوص : أن الحرب كادت تقع بينهما ، ثم ارتضوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» (١).

__________________

(١) إنتهى ملخصا عن : البرهان ج ١ ص ٤٧٢ وص ٤٧٣ و ٤٧٨ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٢٣ و ٥٢٤ وعون المعبود ج ١٢ ، ص ١٣٦ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٨١ و ٢٨٣ و ٢٨٤ و ٢٨٥ و ٢٨٧ و ٢٨٨ و ٢٩٠ عن أحمد ، وأبي داود ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه وعبد بن حميد ، وابن إسحاق ، وابن أبي شيبة ، والحاكم وصححه ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه وفتح القدير ج ٢ ص ٤٣ و ٤٤ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ١٧٦ و ١٨٧ و ١٩١ وتفسير ابن كثير

١٠٧

ولعل هذا أنسب بالآيات وسياقها ، كما أنه هو الأنسب بالمعاهدة التي أبرمت بين المسلمين واليهود حين قدوم النبي «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة (وتقدمت في الجزء الرابع من هذا الكتاب) ؛ حيث قد نصت على : «أن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ؛ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد «صلى الله عليه وآله».

فهذه القصة كاد أن يحدث فيها حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فالمرجع فيها إلى الله سبحانه وإلى محمد «صلى الله عليه وآله».

ويظهر من رواية ابن جريج وغيره : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لما حكم بالرجم في الزنى ، ورأت قريظة : أنه قد جاء بحكم التوراة ، عرفت أن بإمكانها أن تطرح قضيتها عليه «صلى الله عليه وآله» ، وتحصل على حقها ، ففعلت ذلك ؛ فلما حكم النبي «صلى الله عليه وآله» فيها ، غضب بنو النضير ، وقالوا : لا نطيعك بالرجم ، ولكننا نأخذ بحدودنا التي كنا عليها (١) ، وذلك من أجل أن يتخلصوا من حكمه «صلى الله عليه وآله».

ولكن يبقى في المقام إشكال ، وهو : أن نزول الآيات قد كان بعد

__________________

ج ٢ ص ٥٨ و ٦٠ و ٦١ وتفسير القمي ج ١ ص ١٦٨ و ١٦٩ وتفسير التبيان ج ٣ ص ٥٢١ و ٥٢٤ و ٥٢٥ و ٥١٨ والتفسير الحديث ج ١١ ص ١٠٧ و ١٠٨ ومجمع البيان ج ٣ ص ١٩٤ و ١٩٦ وفي ظلال القرآن ج ٢ ص ٨٩٤ وتفسير الرازي ج ١١ ص ٢٣٥ وج ١٢ ص ٦ وتفسير الخازن ج ١ ص ٤٦٨ وتفسير الطبري ج ٦ ص ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥٤ و ١٥٧ و ١٦٤ و ١٦٥ و ١٦٧ وتفسير النيسابوري بهامشه ج ٦ ص ٤٥ والكشاف ج ١ ص ٦٣٣.

(١) راجع المصادر السابقة.

١٠٨

محاربته «صلى الله عليه وآله» لهاتين الطائفتين بمدة طويلة ، فلا بد أن يكون سبب نزولها أمرا آخر.

إلا أن يدّعى : أن بقايا هاتين الطائفتين كانت لا تزال في المنطقة ، ولا سيما أولئك الذين لم يشاركوا في الحرب منهم ـ وإن كانوا ـ فلعل القصة قد حصلت بعد ذلك ، أي في أواخر حياته «صلى الله عليه وآله».

وأما بالنسبة لعبد الله بن أبي ، فإنهم يقولون : إنه قد توفي في سنة تسع من الهجرة ، فلا إشكال من هذه الناحية.

سر الوضع والاختلاق :

ويبقى أن نشير إلى أن سر وضع الرواية المتقدمة ، التي عرفنا عدم إمكان صحتها بوجه ، يمكن أن يكون حسبما يفهم من النصوص ومن تصريحاتهم ما يلي :

١ ـ ما تقدم من إظهار تعظيم النبي «صلى الله عليه وآله» للتوراة حتى لينزع الوسادة من تحته ليضع التوراة عليها.

٢ ـ النص على إيمانه «صلى الله عليه وآله» بما جاء فيها.

إذا ، فيجب على كل مسلم أن يقتدي برسول الله «صلى الله عليه وآله» ويؤمن بها.

٣ ـ إن ذلك يعني : أنها صحيحة ، وغير محرفة ، فلا يصح ما يدّعيه المسلمون على اليهود من تحريفهم لها.

٤ ـ إظهار : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يعمل بالتوراة في كل ما لم ينزل فيه عليه شيء ، فلا مانع من العمل بها الآن في كل مورد لا يجد

١٠٩

المسلمون حكمه ، أو يرون أنه لم ينزل فيه شيء.

٥ ـ إظهار دور عبد الله بن سلام المتميز ، في تحقيق الحق ، وإظهاره ، حتى إنه ليأتي بنفس التعبير القرآني : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١). ولا بد أن يكون هذا من شدة انسجامه مع القرآن ، ومع آياته ، وعمق إيمانه به ، حتى أصبح كلامه عين الآيات القرآنية ، ونفس عباراتها.

٦ ـ إظهار ورع أحبار اليهود ورؤسائهم ، حتى ليقرون للنبي «صلى الله عليه وآله» بالحقيقة بمجرد مناشداته لهم.

ولا ندري كيف يكون هذا الورع والتقوى من أناس يحرفون كتابهم ويستبدلون أحكامه ، أو يسكتون على تبديلها ، ويرضون به؟

٧ ـ التأكيد ، أو فقل الإلماح إلى جواز أن يفتي الرجل للآخرين بما يخالف دينه وشريعته ، لأنهم يقولون : إن حكم الإسلام لم يكن هو الرجم ، رغم أن الله سبحانه قد أمره «صلى الله عليه وآله» أن يحكم بينهم بما أنزل الله.

٨ ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» يشارك اليهود في كتمانه ما أنزل الله سبحانه ، حيث طلب ابن صوريا من النبي «صلى الله عليه وآله» أن لا يذكر الكثير مما حرفوه ، فاستجاب «صلى الله عليه وآله» لطلبه.

٩ ـ ولعل المقصود أيضا : إبعاد سورة المائدة عن أن تكون قد نزلت في أواخر أيام حياته «صلى الله عليه وآله» ، وذلك لأن فيها آيتي الولاية النازلتين يوم غدير خم ، الذي كان قبيل وفاته «صلى الله عليه وآله» ، والآيتان هما ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ

__________________

(١) الآية ٩٣ من سورة آل عمران.

١١٠

تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١).

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(٢).

فإذا كانت سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، وثبت نزول آيات في قضية رجم اليهوديين ، التي يصرحون : أنها كانت في أول الهجرة ، أو في السنة الرابعة ،

فإن معنى ذلك هو أن الآيتين المتقدمتين لم تنزلا في مناسبة غدير خم قبيل وفاته «صلى الله عليه وآله» ، فيتطرق الشك إلى أصل حديث الغدير.

اليهود في آيات سورة المائدة :

إننا إذا راجعنا الآيات الكريمة ، الواردة في سورة المائدة ، أعني قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٣ من سورة المائدة.

١١١

حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(١).

إننا إذا راجعنا هذه الآيات ، وتأملناها ، فلسوف نجد فيها الكثير من الحقائق الهامة ، والمطالب العالية ، التي يهم الإنسان المسلم الوقوف عليها ، والتعرف إليها ، وبما أن المجال لا يتسع لطرح كل ما نجده ـ بفهمنا القاصر ـ في ثنايا هذه الآيات ، فلسوف نقتصر على الإلماح العابر لأمرين فقط ، لربما نجد فيهما بعض الصلة فيما نحن بصدده ، وهذان الأمران هما :

الأول : إننا نلاحظ : أن بعض الأمور تبدو لنا صغيرة وثانوية ، وغير ذات أهمية كالحض على طعام المسكين ، ثم إننا إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجده قد أولاها المزيد من العناية ، واهتم بها اهتماما بالغا ، فنزلت بخصوصها الآيات الكثيرة ، ذات الطابع القوي ، والعنيف ، والمركز ، مع إظهار : أن النبي «صلى الله عليه وآله» ، الذي يتصرف من موقع الوالد الرحيم لكل أحد ، والذي تذهب نفسه حسرات ، من أجل هداية الناس ، وإبعادهم عن مزالق الشر والجريمة ـ هذا كله عدا عن موقعه «صلى الله عليه وآله» كقائد مشرع وحكيم ـ نعم إن هذا النبي يهتم ، ويغتم ، ويحزن كثيرا لأجل هذه الأمور بالذات.

ولعل ذلك يرجع إلى أن هذا الذي رأيناه ثانويا ، وغير ذي أهمية ، بنظرنا القاصر ، إنما يكشف عن خلفيات مرعبة ، وبواعث ومنطلقات خطيرة ، من شأنها أن تقوض كل بناء وتنسف كل جهد ، وتحبط كل مسعى في سبيل إقامة صرح العدل ، وتثبيت الحق وترسيخه.

ولتصبح من ثم كل تلك الجهود ، وهاتيك المنجزات مجرد ظواهر ومظاهر

__________________

(١) الآيات ٤١ ـ ٤٣ من سورة المائدة.

١١٢

لامعة ، وشكليات خادعة ، ليس لها من الثبات ، والأصالة والرسوخ ، ما يمكنها من الصمود والتصدي في مواقع التحدي ، ولا من مواجهة المحن ، والعوادي ، والأخطار.

وواضح : أن كل جهد وبناء لا يقوم على الركائز العقيدية والإيمانية ، والأخلاقية ، والسلوكية الثابتة ، لا يكون سوى جهد ضائع ، وسراب خادع ، لا حياة له ولا بقاء ، ولسوف ينتهي إلى التلاشي والدمار والفناء.

وهذا هو القرآن نراه في هذا المناسبة يركز على الخصائص الإيمانية والعقيدية ، بالنسبة إلى اليهود والمنافقين على حد سواء.

فهو تعالى يقول عن اليهود : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

ويقول عن المنافقين : (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) و (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).

وعنهما معا يقول : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

وعن خصائصهم السلوكية والأخلاقية يقول : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ..)(١).

أي أنهم رغم كل خبثهم وشيطنتهم ، هم من الحمق ، وقلة العقل إلى حد : أنهم أصبحوا سمّاعين للكذب ، الذي ينبت النفاق (٢) ، وهو فساد كل شيء (٣).

__________________

(١) كل ما تقدم ما هو إلا فقرات من الآيات ٤١ ـ ٤٣ من سورة المائدة وقد سلفت.

(٢) راجع : ميزان الحكمة ، حرف الكاف ، مادة : كذب.

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم.

١١٣

وجعلت الخبائث في بيت ، وجعل مفتاحه الكذب (١) ، إلى غير ذلك مما يوضح : أن الكذب هو أم الخبائث ، وأساس الموبقات.

نعم ، لقد بلغ الحمق وقلة العقل بهم حدا ، أصبحوا معه بحيث يستهويهم الكذب ، وأصبح له دور رئيس في حياتهم وتعاملهم ؛ فهم سمّاعون له ، بملء إرادتهم ، ومع مزيد من الأنس به ، والإلف له.

كما أنهم قد رضوا بأن يكونوا آلات ودمى طيّعة بأيدي الآخرين ، الذين يرون : أن الحفاظ على امتيازاتهم الظالمة لن يكون إلا في ظل مقاومة دعوة الإسلام ، التي هي دعوة الحق والعدل والخير والأمن والسلام ، والنعمة ، والبركات.

ويلاحظ هنا : أنه سبحانه وتعالى قد كرر عبارة : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ، ولعله ليشير بذلك إلى أن تعاملهم قائم على أساس مواصلة السماع للكذب ، الذي هو أحد أهم مناشئ البلايا والمصائب ، والنكبات ، حينما يكون ثمة من يتخذ الكذب شعاره ، ودثاره ؛ فهو يتحرك ، ويخطط ، ويتعامل على أساسه ، عن سابق إرادة واختيار وسابق معرفة وتصميم ، حيث رضي بأن يكون الكذب رائد انطلاقته في الحياة ؛ بهدف الحصول على الامتيازات الظالمة واللا مشروعة ، والحفاظ عليها.

نعم ، لقد كرر سبحانه ذلك ليؤكد على مدى حمقهم وقلة عقلهم ، حتى ليتلذذون بالكذب ، وقد رضوا لأنفسهم أن يصبحوا دمى في أيدي الذين

__________________

(١) راجع : بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٧٢ ص ٢٦٣ ، وراجع ج ٧٨ ص ٣٧٧ وميزان الحكمة حرف الكاف ، مادة : كذب.

١١٤

يتعاملون على أساس الكذب ، والدجل فهم : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ، (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) من دون تعقل وتدبر ، أو تفكير وتأمل.

والصفة الثانية ، التي نعى سبحانه وتعالى عليهم اتصافهم بها هي : حبهم للمال ، وتفانيهم في سبيله ، ولكنه المال الذي لا يحصل عليه الإنسان بالطرق المشرفة والمشروعة ، وإنما يرتكب من أجله ما يسحت دينه ومروءته ، ويلزمه العار ، ليكون «سحتا» حسبما ورد في تفسير السحت (١).

وهذا يدلّل على مدى الانحطاط والمهانة والرذالة في شخصيتهم ، وفي إنسانيتهم ، حتى ليصح أن يقال : إنهم أصبحوا موجودات ممسوخة ، لا تملك شيئا من الميزات والخصائص الإنسانية على الإطلاق.

فالمهم لدى هؤلاء هو الدنيا ، والحصول على زخرفها ، من أي طريق كان ، وبأية وسيلة كانت ، حتى ولو كان ثمن ذلك هو دينهم ، ومروءتهم ولزوم العار الدائم لهم.

ولعل هذا هو ما سهل على الآخرين أن يسخروهم لإرادتهم حتى ليصبحون أداوت طيعة في أيديهم ، فإن حبهم العظيم للمال ، وتفانيهم في سبيل الحصول عليه قد أعمى بصائرهم ، وسلبهم عقولهم وأعماهم وأصمهم ، وأصبحوا حمقى وقليلي عقل ، ودمى طيّعة بأيدي الطامعين والمستغلين ، إذ قد أصبح المال والدنيا بالنسبة إليهم كل شيء ، وليس قبلهما ولا بعدهما شيء ، فهما المعيار لهم في كل موقف ، وليست هي المبادئ الإلهية ، والمثل والقيم الإنسانية.

__________________

(١) راجع : مفردات الراغب مادة السحت.

١١٥

وإن هذين الأمرين أعني : قلة عقولهم ، وصيرورتهم أدوات طيعة مسلوبة الاختيار بأيدي الطامعين والمفسدين ،

وأيضا .. انسلاخهم عن الخصائص الإنسانية ، وعن الالتزام بالمبادئ ، بسبب حبهم للمال ، حتى لو كان ثمنه هو أن يسحت دينهم ومروءتهم ويلزمهم العار ،

إن ذلك من أهم العوامل لتبديد كل الجهود الخيرة ، وإحباط كل الأعمال الجهادية والتضحيات الكبيرة في سبيل إعلاء كلمة الحق ، والعدل ، وتعميق جذور شجرة الإسلام المباركة ، لتنمو باسقة وارفة الظلال ، عزيزة الشموخ.

الثاني : إننا نلاحظ : أن القرآن الكريم حين يستنكر تحاكمهم للنبي «صلى الله عليه وآله» ، إنما يستنكر أن يكون قصدهم من ذلك هو الوصول إلى الحق ، والحصول على الحكم العدل ، إذ لو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى التحاكم إليه «صلى الله عليه وآله» ؛ لأن حكم هذه القضية ـ سواء أكانت هي قضية الرجم ، أو هي قضية القود ؛ التي نميل إلى أنها هي مورد نزول الآية ـ إن حكم هذه القضية واضح وجلي في التوراة التي عندهم ، وهي واضحة الدلالة على هذا الحكم.

وهم إنما يقبلون بالتحاكم إليه «صلى الله عليه وآله» من أجل تحقيق مآربهم في الابتعاد عن حكم الله ، حسب ظنهم ، حتى إذا ما أحسوا بأن الحكم سوف يأتي موافقا لما عرفوه من حكم الله في التوراة نجد لديهم التصميم والتآمر والتمرد سلفا على هذا الحكم الإلهي ، حتى قبل صدوره.

فتواجههم الإرادة الإلهية بالإصرار على إقامة حكم الله سبحانه ، إن

١١٦

كان لابد من الحكم ، وإلا فإن الإعراض عنهم ، حيث يكون هذا الحكم في معرض الاغتيال والتآمر هو أيضا لا حرج فيه ، ما دام أنهم قد تآمروا على هذا الحكم سلفا ؛ بهدف اغتياله ، بل وحتى التمرد عليه بصورة علنية وفاضحة.

فيكون حكم النبي فيما بينهم خاضعا لما يراه مفيدا للإسلام ، وللمسلمين ، ويساهم بشكل أو بآخر في فضيحتهم وخزيهم ، وإبطال تآمرهم في الدنيا ، ثم لهم في الآخرة عذاب عظيم ، تماما كما قال تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١).

وبعد كل ما تقدم فإن هذه الآيات تفيدنا : أنه لا مجال للمهادنة ولا للمساومة مع أحد أيا كان على حساب الدين ، والحق ، وأنه لا يمكن التنازل عن الأحكام الإلهية في مجال التشريع ، استجابة لحالات طارئة ، ولضغوطات معينة. وإن كان قد الواقع يفرض عدم التوسل ببعض الوسائل العنيفة لفرض الحكم الإلهي وتطبيقه أو انتظار الفرصة المناسبة من أجل ذلك.

وفقنا الله للسير على هدى القرآن ، والالتزام بتعاليمه ، والاهتداء بنوره ، إنه ولي قدير ، وبالإجابة جدير.

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة المائدة.

١١٧
١١٨

الفصل السادس :

من متفرقات الأحداث

١١٩
١٢٠