وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

اتلفوا كل الكتابات التي تحمل اسماء المغلوبين بكتابتهم الخاصة وذلك كي يهينوا هؤلاء فضلا عن أنهم استبدلوا بها كتابتهم. وهكذا انتزعوا في نفس الوقت ، عدا كرامة الأفارقة ، كل ذكرى عن ماضيهم كي لا يتركوا سوى ذكر الشعب الروماني. وهذا ما أراد فعله ايضا القوط بالنسبة للرومان وما فعله العرب بالنسبة للمخلفات الفارسية. وهذا ما يصنعه اليوم الاتراك في المواقع التي يستخلصونها من النصارى إذ لا يقومون باتلاف الذكريات الجميلة فحسب بل الأسماء المجيدة ، وحتى صور القديسين والقديسات التي توجد في الكنائس (١٨٩) ألسنا نرى في روما نفسها ، وفي زمننا هذا نفسه ، عمارة فخمة (١٩٠) اقيمت بنفقات ضخمة ، ولم يكمل بناؤها بعد موت البابا الذي بدأ تشييدها في عهده؟ ، وذلك ان خليفته اما ان يعمد الى هدمها كي يشرع ببناء جديد او يقوم بعد استكمال بنائها بنزع شعارات الحبر المتوفي كي يضع مكانها شعاراته بدعوى أنه أضاف شيئا ما الى البناء المذكور ، أو يعمد أيضا ، هذا إذا كان منصفا ، الى ترك شعارات سلفه ويضع شعاراته الخاصة فوقها ، مع كتابات طويلة «في المسطرة وفي الفرجار» في مكان الشرف." ولهذا لا داعي للدهشة من ضياع الكتابة الافريقية منذ تسعمائة سنة وان الأفارقة يستعملون الحروف العربية. وقد كتب المؤلف الافريقي إبن رقيق في تاريخه بحثا طويلا تساءل فيه عما اذا كان للأفارقة كتابة خاصة بهم أم لا. وخلص الى أن هؤلاء كانت لهم كتابة ، ذاهبا الى ان من ينكر عليهم ذلك يستطيع ان ينكر عليهم ايضا لسانهم الخاص بهم وبالاضافة الى ذلك يقول ان من المستحيل على شعب له لغة خاصة به ان يستخدم في كتابته حروفا أجنبية. (١٩١).

__________________

(١٨٩) هذه الحالة لم تكن عامة. فقد لاحظنا بأنفسنا في كاتدرائية القديس نيقولا ، في فاماغوستا في شرق قبرص ، الذي تحول وسطها الى جامع وتم كساؤه بالكلس لهذه الغاية ، أن صور جدران صدر الكنيسة التي تمثل قديسين واقفين ، ظلت محترمة ومحفوظة في حالة طيبة جدا ، هذا علما بأن فاماغوستا هذه لم تسقط بيد الاتراك الذين انتزعوها من البنادقة إلا في عام ١٥٧١ م «ويصح هذا أيضا بالنسبة لصور جدران كنيسة أيا صوفيا في الآستانة التي ظلت ماثلة وطلى بعضها بالجص رغم تحويل الكنيسة الى جامع طيلة حكم الخلفاء العثمانيين (المترجم)»

(١٩٠) اشارة الى بناء كنيسة القديس بطرس في روما ، الذي استأنفه البابا جول الثاني الذي تسنم منصبه بين ١٥٠٣ و ١٥١٣ م.

(١٩١) يبرهن هذا الفصل على أن الكتابة الليبية والبونية وحتى اليونانية كانت مجهولة في عصر المؤلف ، وسيظل الناس دوما لا يعرفون ما اذا كانت بعض كتب مكتبة الملك البربري هيمبال ، في القرن الأول قبل الميلاد ، مكتوبة بحروف ليبية ، وهذا غير محتمل وعلى كل فان هذه الكتابة كانت منتشرة حتى جزر كناري (الخالدات) وفي أواسط الصحراء الكبرى وغربيها وتعتبر كتابة الطوارق تيفيناغ مشتقة منها.

٨١

مواقع إفريقيا

كما تنقسم افريقيا الى أربعة اجزاء ، فإن كل جزء فيها يحتوي على طابع مختلف. فساحل البحر الابيض المتوسط من جبل طارق حتى تخوم مصر يكون مشغولا بجبال تمتد في اتجاه الجنوب على مسافة مائة ميل (١٩٢) وأكثر من ذلك في بعض النقاط ، وأقل من ذلك في أخرى. وبين هذه الجبال الى جبال الاطلس توجد سهول وبعض التلال. وفي كل جبال هذا الساحل تشكل الينابيع العديدة انهارا صغيرة بديعة المنظر.

وفيما وراء هذه السهول وهذه التلال تقع جبال الاطلس التي تبدأ عند المحيط غربا وتمتد نحو الشرق حتى قرب مصر (١٩٣) ، وبعد جبال الاطلس تقع سهول نوميديا ، حيث ينمو النخيل ، وهنا تكون البلاد رملية برمتها. وبعد نوميديا تقع صحاري ليبيا التي تكون بدورها رملية حتى بلاد السودان. وتوجد جبال كثيرة في هذه الصحاري. ولكن التجار لا يخترقونها في الطريق الذي يسلكون فيه ، اذ توجد بين هذه الجبال ممرات عديدة ، عريضة ومنبسطة.

وتقع بلاد السودان بعد صحاري ليبيا ، ويكون القسم الاعظم منها عبارة عن سهل رملي ، باستثناء ضفاف النيجر وكل النقاط التي تبلغها مياهه وتبلل ثراها.

الأماكن الموحشة والثلجيّة في إفريقيا

إن كل ساحل بلاد البربر والبلاد الواقعة فيه عبارة عن منطقة تميل للبرودة. ففيها فصل يتساقط فيه الثلج. وتنبت في كل هذه الجبال الحبوب والثمار ، غير ان القمح لا ينجح فيها إلا بكميات قليلة ، ويأكل الناس خبز الشعير في معظم أيام السنة. ويكون لماء الينابيع فيها طعم التراب. وتكاد تكون كلها عكرة المياه لا سيما في القسم الذي يحاذي موريتانيا. وتوجد في هذه الجبال غابات كثيفة مؤلفة من أشجار كبيرة ، تعج معظمها بالحيوانات ، منها النافع ومنها الضار. ولكن لكل التلال الصغيرة والسهول الواقعة بين

__________________

(١٩٢) ١٦٠ كيلومتر.

(١٩٣) «وهذا غير صحيح اذ تنتهي جبال الاطلس في تونس. ولكن المؤلف يعتبر جبال طرابلس ويرقة امتدادا لجبال الاطلس» (المترجم).

٨٢

هذه الجبال (١٩٤) وجبال الأطلس تربة ممتازة تنتج مقادير كبيرة من الحبوب والثمار الجيدة. وتجري بين هذه التلال ومن خلال هذه السهول كل الأنهار التي تهبط من جبال الأطلس ذاهبة الى البحر المتوسط ، ولكن لا يوجد في هذا النطاق سوى القليل من الغابات. وأجود هذه السهول هي التي تقع بين جبال الاطلس والمحيط ، كمنطقة مراكش وإقليم دكاله ، وكل التادلة وتامسنه (١٩٥) مع أزغار حتى مضيق جبل طارق.

وجبل الأطلس بارد وعقيم. وينبت فيه القليل من الحب. ونجد فيه غابات كثيفة في كل مكان. وتتولد من جبل الأطلس كل انهار إفريقيا تقريبا. والعيون التي تقع فيه شديدة البرودة في قلب الصيف حتى إن من يضع يده فيها بعض الوقت يفقدها بلا شك بسبب التجمد. ولا تكون كل أجزاء الجبل بالتالي قاحلة. وهناك بعض الأمكنة التي يمكن وصفها بأنها معتدلة ويمكن سكناها بشكل طيب ، والتي هي بالفعل كذلك ، كما سنعرض ذلك بشكل خاص في الجزء الثاني من كتابنا. وتكون المناطق الخاوية باردة أو موحشة ، وتكون المناطق المقابلة لتامسنة عسيرة المسلك ، وتقابل المناطق الباردة لموريتانيا. والناس الذين يربون الأغنام (١٩٦) يعيشون في هذا القسم من الأطلس في أثناء الصيف كي ترعى فيه ماشيتهم ، ولكن يتعذر عليهم الإقامة فيه اطلاقا في الشتاء ، لأنه بمجرد سقوط الثلج تهب ريح الشمال الخطرة جدا التي تميت كل الحيوانات الموجودة في هذه الانحاء ، ويموت منه كثير من الناس ايضا. ويمر من هنا الطريق الذاهب من موريتانيا الى نوميديا (١٩٧) ولما كانت عادة التجار الذهاب من نوميديا (١٩٨) في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) مع اوساقهم من التموز فقد يباغتهم الثلج حتى لا يبقى منهم واحد على قيد الحياة ، إذ عندما يأخذ الثلج بالتساقط ليلا تتعرض القافلة للدفن تحته والاختناق. ولا تتغطّى القافلة وحدها بالثلج بل حتى الاشجار المجاورة ذاتها أيضا بحيث لا يمكن التعرف على الدرب ولا العثور على معلم لاكتشاف الجثث.

وقد نجوت ، شخصيا ، في مناسبتين ، بمعجزة من خطر الموت ، هذا في الزمن

__________________

(١٩٤) أي جبال الريف وجبال التل.

(١٩٥) أي سهل الشاوية.

(١٩٦) أي سكان سهل الشاوية أو الشوايا.

(١٩٧) أي طريق فاس تافيلالت.

(١٩٨) أي من تافيلالت.

٨٣

الذي كنت فيه أتردد على هذه الطرق. ولن تكتئب اذا قصصت عليك احدى هذه المغامرات :

فقد كنا بعض تجار من فاس (١٩٩) ذاهبين سوية وكنا في الأطلس مع هذه القافلة في شهر تشرين الأول (اكتوبر) وقبيل غروب الشمس اخذ ثلج كثيف وبارد بالتساقط. وعندئذ اجتمع عشرة فرسان ، أو اثنا عشر ، ودعوني لمغادرة القافلة والذهاب معهم للبحث عن مأوى طيب. ولم أستطع رفض عرضهم ، ولكن كنت أخشى الوقوع في فخ ، وخطر لي أن أتخلص من مبلغ كبير من الدنانير كانت معي ، ولما أصبح هؤلاء الرجال فوق جيادهم وطلبوا مني الاستعجال ، تظاهرت بأني مضطر لقضاء حاجة طبيعية وتنحّيت عنهم خلف شجرة. وهناك أخفيت دنانيري على أحسن شكل قدرت عليه وغطيتها بالتراب والحجارة وحفظت مكان الشجرة بعناية. وسرنا بعدئذ صامتين حتى قرابة منتصف الليل. وعندئذ رأى احد هؤلاء العرب ان الوقت مناسب لأن يعمل معي ما كانوا قد تآمروا عليه ، أي أن يسلبني نقودي وأن يتركني أذهب وشأني وطلب مني فيما إذا كانت دنانيري معي ، فأجبته بأنني تركت دراهمي عند القافلة ، وأودعتها عند أحد اقاربي الأقربين. ولكن هؤلاء الأعراب لم يصدقوني ولكي يتأكدوا من ذلك ولكي يعرفوا الحقيقة نزعوا عني ثيابي حتى القميص في هذا البرد القارس. ولما لم يجدوا شيئا راحوا يداعبونني متعللين بأنهم فعلوا ذلك مزاحا ، وكي يعرفوا ما إذا كنت رجلا صلبا وقادرا على تحمل البرد. وعندئذ تابعنا طريقنا في الظلام ، منزعجين من رداءة الطقس ومن الليل. وبعدئذ سمعنا ، بفضل الله ، ثغاء أغنام عديدة. فوجهنا خيولنا نحو الجهة التي تصدر منها هذه الضوضاء ، وذلك وسط الأحراش ، وبين الصخور العالية ، بحيث كنا نتعرض ايضا لخطر اضافي. واخيرا اكتشفنا رعاة في غار أدخلوا اليها نعاجهم بكل عناء ، وأوقدوا نارا طيبة تحلقوا حولها. وعندما رآنا هؤلاء وتعرفوا على العرب ، شعروا أولا بالخوف خشية التعرض لمعاملة سيئة. وبعد ان تأكدوا من استمرار العاصفة ، بدوا لنا مضيافين جدا وقدموا لنا ما لديهم للأكل من خبز ولحم وجبن. وبعد أن فرغنا من الطعام رقدنا حول النار وفرائصنا ترتعد من البرد ، ولا سيما وأني قد عريت من ثيابي قبل قليل ، ويقصر الكلام عن التعبير عن الخوف الذي انتابني. وقد أمضينا نهارين وليلتين مع هؤلاء الرعاة ولم يتوقف الثلج عن التساقط خلال تلك الفترة. وأخيرا توقف الثلج في اليوم

__________________

(١٩٩) يبرهن هذا النص على أن بعض أسفار المؤلف كانت لغرض تجاري.

٨٤

الثالث. وبادر الرعاة بسرعة يجرفون الثلج الذي أغلق مدخل الكهف ، وبعد ذلك أو صلونا الى المكان الذي آووا فيه خيولنا التي كانت في مغارة اخرى والتي قدموا لها التبن بغزارة ، وقد وجدناها في حالة طيبة. وهكذا انطلقنا ، وفي ذلك اليوم كانت الشمس تسطع حتى تلاشى برد الأيام السابقة. وقطع الرعاة بضعة أميال بصحبتنا كي يرشدونا الى بعض الدروب التي يعرفونها والتي لا يمكن ان يكون الثلج فيها سميكا جدا ، ومع هذا فقد كان الثلج يصل الى لبانات الخيل.

وعندما وصلنا الى بلدة قريبة من فاس (٢٠٠) ، أكدوا لنا أن القافلة اختنقت في الثلج. وعندئذ فقد العرب الأمل في استلام تعويض أتعابهم. فقد رافقوا القافلة لتأمين سلامتها. فأمسكوا بيهودي كان في صحبتنا ، والذي كان له خمسون حملا من التمور في القافلة واقتادوه الى مخيمهم مع نية الاحتفاظ به إلى أن يدفع عن الجميع ، وأخذوا مني حصاني واستوصوا بي خيرا. فاستأجرت بغلا مجهزا له جلال من الذي يستعمله الجبليون وفي اليوم الثالث بلغت فاس حيث كان النبأ المفجع قد وصلها وحيث كان أهلي يعتقدون أنني هلكت كالآخرين. ولكن الله لم يشأ هذا. (٢٠١) وأتوقف الآن عن سرد مغامراتي وأستأنف ترتيب عرضى من النقطة التى تركتها.

وفيما وراء جبل الاطلس (٢٠٢) تقع بلاد جافة وحارة. وهنا توجد بعض المجاري المائية النادرة والتي تنشأ أيضا من الأطلس وتجري في اتجاه الصحراء الليبية حيث تغيض في الرمل. وتشكل بعضها بحيرات. ولا يوجد في هذه الأنحاء سوى القليل من الأراضي التي يمكن زرعها ، ولكن هناك عددا لا يحصى من أشجار النخيل. ونجد فيها ايضا بعض الأشجار المثمرة ولكنها نادرة. وتوجد في اجزاء نوميديا المتاخمة الى ليبيا جبال قاحلة لا شجر فيها ولا ثمر. ويرى في حضيض هذه الجبال باقات أشجار عديدة مغطاة بأشواك ولا تعطي ثمارا (٢٠٣) ، ولا توجد هنا ينابيع ولا أنهار. وكل ما هنالك بعض الآبار التي تكاد

__________________

(٢٠٠) بلدة صفر وبالتأكيد.

(٢٠١) هناك بدون شك مبالغة في القول بأن قافلة بكاملها يمكن ان تدفن تحت الثلج لدرجة لا يعثر منها على أثر ، وان الاشجار نفسها تختفي ، ولكن الحوادث الناتجة عن الثلج كثيرة. وقد حدث لنا شخصيا ان احتجزنا ثلاثة ايام في أنوصر ، أي في المنطقة ذاتها التي يتكلم عنها المؤلف في أعقاب عاصفة ثلجية لا انقطاع فيها ، ولم نتمكن من بلوغ صغر وإلا في اليوم الرابع ، مخفورين بفارسين مغربيين كانا يحسان خوفا شديدا.

(٢٠٢) الواقع هي سلاسل جبال الأطلس ، وهي الاطلس الأوسط والكبير والاطلس الصحراوي.

(٢٠٣) هي أشجار سنط متنوعة ولا سيما الهشاب.

٨٥

تكون مجهولة لدى الناس وتقع جميعها بين التلال وبين هذه الجبال الجرداء. وتكثر في كل هذه الأراضي النوميدية الأفاعي والعقارب. وتقتل لسعاتها وعضاتها الكثير من الأشخاص في اثناء الصيف. وكذلك ليبيا فهي بلاد خاوية تماما ، ورميلة برمتها ، ولا يوجد فيها نهر ولا ماء ، ما عدا بعض آبار ليست كبيرة العدد ، وماء معظمها مالح. وهناك مناطق لا يعثر فيها المسافر على ماء في أثناء سفره مدة ستة ايام أو سبعة أيام. ويجب على التجار أن يتزودوا بالماء في قرب فوق جمالهم ، وخاصة على المسافة الواقعة بين فاس وتومبوكتو ، ومن تلمسان الى آغادس. وأسوأ من هذا كله الرحلة المفتتحة مؤخرا بين فاس والقاهرة عبر صحاري ليبيا ، غير ان القوافل تمر في هذه الرحلة بجوار بحيرة كبيرة يعيش حواليها أقوام سو (٢٠٤) والقرعان.(٢٠٥)

ونصادف على المسافة بين فاس وتومبوكتو بعض آبار مبطنة من الداخل بجلد جمل أو مدعومة الجدران بعظام هذا الحيوان. ومن الخطورة بمكان بالنسبة للتجار القيام برحلة في غير فصل الشتاء ، اذ تهب حينئذ رياح السيروكو أو القبلي (٢٠٦) التي تثير الكثير من الرمل الذي يغطي الآبار ، حتى إن الناس حينما يذهبون على أمل العثور على الماء في المواقع المألوفة لا يميزون أبدا أي أثر أو رسم ، لأن هذه الآبار تكون محجوبة بالرمل. وهكذا يضطرون للموت عطشا. ويرى المسافرون أحيانا عظام هؤلاء الرجال البيضاء وعظام جمالهم. وتجاه هذا لا يوجد سوى علاج واحد مستغرب كثيرا. اذ يعمد المسافرون الى ذبح جمل وتعصر الكرشة لاستخلاص الماء الموجود فيها ويشرب جزء من هذا الماء ويوزع الآخر الى أن يتم العثور على بئر أو يموتون من العطش. ويرى الإنسان في صحراء أزواد ضريحين مصنوعين من حجارة مهملة نقش فوقهما كتابات تقول ان رجلين قضيا نحبهما هنا. وكان أحدهما تاجرا غنيا أنهكه العطش عند مروره من هذه الصحراء واشترى من صاحبه ، وكان حارس قافلة تجارية ، كوبا من الماء بعشرة آلاف دينار غير انهما ماتا من العطش ، أي التاجر الذي اشترى الماء والذي باعه إياه.

ويوجد في هذه الصحراء الكثير من الحيوانات الضارة ، ولكن هناك ايضا حيوانات غير مؤذية. وسأتحدث عنها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، حين أعالج موضوع ليبيا ،

__________________

(٢٠٤) أوساء والمجاورة لبحيرة التشاد.

(٢٠٥) أوغوران وهم فرع من التدا.

(٢٠٦) وعلى وجه الدقة رياح الجنوب الشرقي.

٨٦

أو عندما أعمل عرضا خاصا للحيوانات التي توجد في إفريقيا. (٢٠٧)

ولكي يحصل كل واحد على معرفة أفضل وعلى إدراك اكثر وضوحا لكل ذلك سأذكر ، على الخصوص ، المخاطر التي تعرضت لها في أثناء رحلاتي التي قمت بها في ليبيا وخاصة في اثناء الرحلة من ولّاته الى القاهرة فتارة كنا نضل الطريق المؤدي الى مواطن الماء ، لأن الدليل خانته ذاكرته ، وتارة اخرى لأن العدو كان يسيطر على الممرات الموصلة الى موقع الماء ، حتى إننا كنا نضطر للاقتصاد في الماء إذ كان من الواجب أن يكفي الماء المحمول لخمسة أيام لتوزيعات تمتد على عشرة أيام. ولكي نسرد تفاصيل رحلة واحدة نحتاج الى مجلد في نحو مائة صفحة.

وبقاع بلاد السودان شديدة الحرارة. ومع هذا يسود فيها بعض الرطوبة بسبب نهر النيجر وكل المناطق المجاورة لهذا النهر تتمثل في أراض زراعية طيبة حيث تنمو الحبوب بوفرة كبيرة وتغزر أنواع الماشية ولكن لا يوجد أي ثمر كان سوى الثمر الذي تنتجه شجرة كبيرة جدا ، وهي ثمرة تشابه الكستناء ولكن طعمها يميل الى المرارة. وهذه الاشجار على مسافة ما من النهر ، فوق الأرض الصلبة ، وتدعى هذه الثمرة التي أتكلم عنها ، غورو في لسان أهل البلاد. (٢٠٨)

وينمو هنا اليقطين والخيار والبصل بكثرة. ولا نرى جبلا ولا تلا على ضفاف نهر النيجر ، حتى ولا على تخوم ليبيا. ولكن يشكل فيضان النيجر بحيرات عديدة مأهولة بفيلة وبحيوانات اخرى سأقف عليها حديثا خاصا في مكانه.

حركات الهواء الطبيعية في إفريقيا والتغيّرات التي تنجم عنها

تبدأ الأمطار في كل بلاد البربر بعد منتصف شهر تشرين الأول (اكتوبر) وفي

__________________

(٢٠٧) ونرى هنا ان المؤلف بعد أن خصص كتابه الأول لعموميات جغرافية ، كانت عنده نية وصف بلاد البربر في الكتاب الثاني ، ونوميديا في الكتاب الثالث ، وليبيا في الكتاب الرابع ، ولكنه لم يتقيد بهذا المخطط.

(٢٠٨) وهو دوما اسم محلي لجوز الكولا ، ولكن شجرة الكولاCola nitida هي من أشجار الغابة الاستوائية ولا توجد ابدا على ضفاف نهر النيجر ، والمؤلف الذي رأي الكثير منها في أسواق تومبوكتو والسودان لم يستفهم عن مكان اصلها.

«يقصد بالسودان هنا البلاد الواقعة جنوب نهر النيجر أو مالي ودولة النيجر والسنغال حاليا» (المترجم).

٨٧

كانون الثاني (يناير) حيث يكون البرد على أشده. ولكن هذا يكون في الصباح فقط ، كما في غيرها من الأماكن ، بحيث لا يحتاج الإنسان لإيقاد النار كي يصطلي. ولكن الطقس يتبدل احيانا خمس مرات أو ست مرات في اثناء النهار. وفي آذار (مارس) تهب رياح عنيفة من الغرب وفي الشمال تخصب الأرض وتكون الأشجار مزهرة. وفي نيسان (ابريل) وعندما تمر الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أيار (مايو) تقطف ثمار التين الناضجة كما في الصيف. ويأخذ العنب في النضج في الاسبوع الثالث من حزيران.

وتنضج كل ثمار التفاح والكمثرى والمشمش والخوخ في حزيران وتموز (يونيه ويوليه) وتكون ثمار التين الخريفي ناضجة في آب (أغسطس) وكذلك العناب. ولكن تكثر في أيلول (سبتمبر) ثمار التين والدراق. وبعد منتصف شهر آب (اغسطس) يأخذ الناس بتجفيف العنب تحت الشمس. وإذا هطل المطر في أيلول (سبتمبر) يصنع من العنب الباقي خمر أو سلاف مطبوخ ، ولا سيما في إقليم الريف ، كما سنشير الى ذلك عند كلامنا عن هذا الإقليم. (٢٠٩)

وفي شهر تشرين الأول (اكتوبر) تجنى ثمار التفاح والرمان والسفرجل وأخيرا الزيتون في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ولا يتم جنى الزيتون بوساطة سلم يركز على الشجرة ويقطف الثمر باليد كما يحدث في أوربا ، إذ لا يمكن صنع سلالم عظيمة الطول تكفي للوصول إلى أعالي هذه الاشجار ، لأن أشجار الزيتون في هذه المنطقة ضخمة وكبيرة جدا ، ولا سيما في قيصرية وموريتانيا. ولكن أشجار الزيتون في تونس تكون مماثلة لأشجار أوربا. وعندما يبدأ الناس جنى الزيتون يصعدون الى الاشجار ومعهم عصى طويلة جدا يضربون بها الأغصان لإسقاط الثمار. ويعرفون أن في صنيعهم هذا ضررا للأشجار لأنهم بهذه الطريقة يتلفون البراعم وكثيرا من الأغصان الصغيرة الفتية. وفضلا عن ذلك يحدث أن يكون الزيتون في افريقيا وفيرا جدا في عام وفي عام آخر يفتقده الناس فلا يرون حبة واحدة. وهناك بعض أنواع الزيتون الكبيرة لا تصلح لصنع الزيت ، ولكن تؤكل مصبرة في كل الفصول.

__________________

(٢٠٩) يصنع الخمر حسب الاسلوب المألوف. أما السلاف المطبوخ ، أو السامت ، فهو عصير عنب يتوقف تخميره في فترة معينة وذلك بوضع الجرار المليئة به في الزبل ، مما يرفع درجة حرارته ويساعد على نضجه وتركيزه ، ويتشكل منه شراب يحبه الناس هنا كثيرا.

٨٨

حدود ومميّزات الفصول

تكون شهور الربيع معتدلة نسبيا. ويبدأ الربيع في ١٥ شباط (فبراير) وينتهي في ١٨ أيار (مايو). ويكون الطقس في أثناء هذا الفصل صحوا باستمرار ، ولكن إذا انحبس المطر بين ٢٥ نيسان (ابريل) و ٥ ايار (مايو) فان محصول ذلك العام يكون رديئا جدا. ويسمى ماء المطر الذي يسقط في هذه الفترة «ماء نيسان» ويعتبر بركة من الله. ويحتفظ كثير من الناس بشيء منه في أوعية صغيرة وفي قوارير ، وهذا من قبيل التبرك.

ويستمر الصيف حتى ١٦ آب (اغسطس) ويكون الطقس حارا جدا لا سيما في حزيران وتموز (يونيه ويوليه). وفي هذا الفصل تظل السماء صحوا وصافية الأديم ، باستثناء بعض السنوات التي يسقط فيها المطر في تموز وآب (يوليه وأغسطس) مما يجعل الهواء ضارا. وفي هذه الفترة يصاب كثير من الناس بالحمى الحادة والمستمرة ونادر من يسلم منها. (٢١٠)

ويبدأ الخريف ، عند الأفارقة ، في ١٧ آب (أغسطس) ويستمر حتى ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) غير أن شهري آب وأيلول (أغسطس وسبتمبر) يكونان أقل حرا. والأيام الواقعة بين ١٥ آب و ١٥ أيلول كانت تدعى عند القدامى «فرن الطقس» لأنه في شهر آب ينضج التين والرمان والسفرجل ويجفف العنب. وفي ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) يبدأ فصل الشتاء الذي يمتد حتى ١٥ شباط (فبراير) ، وتبدأ عمليات البذار في شهر تشرين الاول (اكتوبر).

ويعتقد الأفارقة أنه يوجد في العام أربعون يوما حارة للغاية ، (٢١١) وهي تبدأ في ١٢ حزيران (يونيه) ويرون أن هناك كذلك أربعين يوما باردة جدا (٢١٢) وهي التي تبدأ في ١٢ كانون الأول (ديسمبر). وهم يعرفون الاعتداليين اللذين يحددونهما في ١٦ آذار (مارس) وفي ١٦ أيلول (سبتمبر) ويقولون بأن الشمس تعود في دورتها (٢١٣) في ١٦

__________________

(٢١٠) ملاحظة صحيحة للغاية ، ففصول الصيف المطيرة تؤدي الى أوبئة كثيرة الانتشار أو الى نكسات لا تظهر على شكل نوبات متقطعة بل على شكل حمى شديدة مستمرة.

(٢١١) وتسمى السمعميم عند البربر أو الأربعينية عند العرب.

(٢١٢) الليالي.

(٢١٣) الانقلابان.

٨٩

حزيران (يونيه) و ١٦ كانون الأول (ديسمبر).

تلك هي القواعد الفلكية التي يلاحظها الأفارقة سواء فيما يتعلق بتحديد أوقات التصرف بممتلكاتهم أو فيما يتعلق بزروعهم وقطاف ثمارهم أو فيما يتعلق بأوضاع النجوم في بيوت التنجيم ولحساب حركات الكواكب السيارة. وهم يعلمون الأولاد في المدارس كثيرا من الاشياء المفيدة جدا والمتعلقة بهذه القضايا.

هذا وكثير من الفلاحين ، من عرب وسواهم ، أميون تماما ، ولكنهم يعرفون الكلام عن الفلك بإطناب ، ويستخلصون مما يقولون استنتاجات هم على يقين مطلق بها. وتأتي القواعد التي يتبعونها في سبيل ذلك ، والتي تعتبر ضرورية لهم ، تأتي من البحوث اللاتينية ، التي ترجمت الى العربية وهناك مطول ضخم مقسوم إلى ثلاثة كتب يدعى بالعربية «كنز الزراعة». وقد جرت ترجمته من اللاتينية الى العربية في قرطبة ، في عصر المنصور ملك غرناطة. (٢١٤) ويعالج هذا الكتاب كل المفاهيم والمبادىء المتعلقة بالزراعة كأوقات البذر ، والغرس ، وتطعيم الاشجار. وإعداد كل ثمرة أو حبة أو أي نوع من الخضار للزراعة ... ويدهشني كثيرا ان يكون لدى الأفارقة هذا القدر من الكتب المترجمة من اللاتينية وألا نجد الآن مثلها عند اللاتين.

ويعتمد على القمر في حساب الوقت والقواعد المتعلقة به في كل القضايا التي تخص العقيدة والأحكام الدينية ، والتي يتبعها الأفارقة وسائر المسلمين ، وتتألف السنة من ٣٥٤ يوما ، لان لكل شهر من ستة أشهر فيها ثلاثين يوما ، ولكل شهر من ستة أشهر اخرى تسعة وعشرين يوما ، مما يعطى هذا الرقم للمجموع ويقع العيدان والصوم في تواريخ مختلفة. أي تكون السنة العربية أقصر من السنة اللاتينية بأحد عشر يوما. وهذه الايام الإحدى عشر تجعل سنتنا دائما متأخرة عن العام الشمسي. (٢١٥)

__________________

(٢١٤) هو المنصور بن أبي عامر ، حاجب الخليفة الأموي في قرطبة ، الحكم ، وهو الملك الحقيقي لاسبانيا الإسلامية ، التي كان العرب يسمونها الأندلس ، ويسميها مؤلفنا غرناطة ، وقد توفي المنصور سنة ١٠٠٢ م.

(٢١٥) إن التقويم العربي هو أقدم من الإسلام بكثير وجاء حين من الوقت كانت الأيام التكميلية تسمح فيه بتوافق عامة مع التقويم الشمس. وبعد وفاة محمد صلّى الله عليه وسلّم بسبعة أعوام قرر الخليفة عمر أن يبدأ التاريخ الإسلامي من أول يوم من العام الهجري ، أي من السنة التي تمت فيها القطيعة مع المكيين وهي قطيعة تدعى الهجرة ، وجاء الرسول ليقيم في يثرب ، التي دعيت فيما بعد مدينة النبي. ووصل محمد صلّى الله عليه وسلّم الى يثرب ، التي كان يسكنها بعض اليهود ، يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول من هذا العام العربي والعاشر من شهر تشري. من هذا العام العبري ، وهو يوم عيد الغفران عندهم. ولم يكن التقويم ـ

٩٠

ويجب أن نعرف ايضا أنه تحدث عواصف مصحوبة ببرد. (بفتح الباء والراء) فى آخر الخريف ، وخلال كل الشتاء وجزء من الربيع ، وكذلك صواعق وبرق ، ويتساقط الثلج في كثير من بقاع بلاد البربر. وتكون كل الرياح الثلاثة أي الشرقية والسيروكو (٢١٦) الجنوبية الشرقية والجنوبية تكون ضارة جدا ، ولا سيما في أيار وحزيران (مايو ويونيه) لأنها تقضي على كل المحاصيل وتحول دون نمو الثمار ونضجها. ويضر الضباب ضررا بليغا بالثمار ، ولا سيما اذا حدث وقت الإزهار ، لأنه يستمر احيانا طيلة اليوم.

أما في جبال الاطلس ، فلا يكون في العام سوى فصلين. وفي الواقع تعتبر الفترة الواقعة بين تشرين الأول ونيسان (اكتوبر وإبريل) شتاء ، وبين نيسان وأيلول (إبريل وسبتمبر) صيفا. ولكن يعثر على الثلج دوما على مدى العام فوق أعلى القمم.

أما في نوميديا فان مجرى الفصول يكون نوعا ما متقدما ، فيتم حصاد القمح في أيار (مايو) وتجنى التمور في تشرين الأول (أكتوبر). وبين منتصف أيلول (سبتمبر) وكل تشرين الأول (اكتوبر) حتى كانون الثاني (يناير) يقع اكثر الفصول بردا. واذا هطلت الأمطار في أيلول تلفت معظم التمور فلا يحصل الناس إلا على محصول هزيل ، وتحتاج كل أراضي نوميديا للري لكي يتم بذرها ، فإذا انحبس المطر في جبل الاطلس وجفت بالتالي أودية نوميديا ، فإن ذلك يؤدي الى استحالة ري الأراضي وإذا لم يهطل المطر في تشرين الاول (اكتوبر) ، فمن العبث توقع امكانية بذر الأرض في ذلك العام. وإذا لم يهطل مطر نيسان (إبريل) يصبح محصول القمح منعدما في الأرياف. ولكن اذا انقطع المطر فهناك محصول طيب من التمور. وينظر أهل نوميديا باهتمام أكبر الى محصول التمور اكثر من نظرهم الى محصول القمح ، لأن الحنطة ، حتى لو كان محصولها وفيرا ، لا تكفي لأكثر من نصف السنة. ولكن إذا كان موسم التمور طيبا أصبح من الممكن الحصول على القمح. وذلك لأن العرب الذين ينصرفون لتجارة التمور يجلبون معهم كمية كبيرة من

__________________

ـ المسيحي معروفا حينئذ لأن التأريخ المسيحي لم يتم تبنيه من قبل شارلمان إلا في عام ٨٠٠ م. وقد نتج عن الحساب أن يوم الهجرة هذا يقع في ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٦٢٢ م وأن أول يوم من العام العربي هذا ، أي الاول من شهر المحرم ، كان يوافق الجمعة ١٦ تموز (يوليه) ٦٢٢ م. وهذا التاريخ الاخير ، الذي كثيرا ما اختلط مع التاريخ الهجري ، هو في الحقيقة تاريخ بداية التأريخ الإسلامي ولأول عام من الهجرة وظل التقويم الإسلامي ثابتا تماما ، ولكن يضطر كل الفلاحين الى استخدام التقويم الشمس.

(٢١٦) «كلمة ايطالية تعني الرياح الساخنة مثل السموم والهبوب والخماسين والطوز» (المترجم).

٩١

القمح لمقايضتها بالتمور.

وإذا تبدل الطقس في صحراء ليبيا في أواسط آب (أغسطس) ، وإذا استمرت الأمطار حتى تشرين الثاني (نوفمبر) وحتى في اثناء شهر كانون الأول (ديسمبر) وفي كانون الثاني (يناير) وفي قسم من شباط (فبراير) فإن ذلك يؤدي الى وفرة العشب. وحينئذ نجد في كل ليبيا العديد من البحيرات ويكثر الحليب. وهذا هو السبب الذي يجعل تجار بلاد البربر يقومون برحلتهم في هذه الفترة ، وهي رحلتهم الى بلاد السودان.

وتبدأ الفصول في هذه البلاد في وقت مبكر. وتظهر أوائل الامطار في نهاية تموز (يوليه) ولكن لا يسقط الكثير من المطر ، ويتصف مطر بلاد السودان بتلك الخاصية ، وهي أنه لا يفيد ولا يضر. والواقع تكفي مياه النيجر لزراعة الحبوب ، ففيضان النهر يطرّي الأرض ويخصبها ، تماما كما يفعل النيل في مصر. ومن الصحيح القول أنه تكون هناك حاجة للمطر في بعض الجبال. ويحدث فيضان النيجر في ١٥ حزيران (يونيه) ويستمر أربعين يوما. وفي فترة الفيضان يمكن التجوال في المراكب في كل بلاد السودان تقريبا ، إذ في ذلك الوقت تتحول كل السهول والأودية والحفر الى مجار مائية. ولكن من الخطر جدا ركوب مراكب كالتي يستعملها أهل البلاد ، كما سأعرض لذلك في الجزء الخامس من هذا الكتاب. (٢١٧)

قصر أمد الحياة وطوله عند الأفارقة

تصل أعمار الناس في كل مدن بلاد البربر وأريافها الى خمس وستين وحتى سبعين عاما : والقليل منهم من يعيش أكثر من ذلك. غير أننا قد نعثر في جبال البربر على أناس يبلغون المائة عام وبعضهم يتجاوزون ذلك. ولهؤلاء كهولة قوية ونضيرة. فقد رأيت بالفعل بعض سكان الجبال في سن الثمانين وفوق ذلك. وهم يحرثون الأرض ويعزقون الكرمة وينجزون ببراعة مدهشة الأعمال الأخرى التي تكون مفيدة لهم. وأكثر من ذلك

__________________

(٢١٧) لما كان المؤلف قد عدل مخططه ، فنجده في كتاب السابع ، في معرض كلامه عن جنّه ، يقول بضع كلمات عن المراكب المصنوعة من نصف جذع شجرة مجوف ، والتي يستخدمها تجار تومبوكتو لنقل سلعهم الى جنة في فترة الفيضان. ويختلف نظام نهر النيجر الهيدرولوجي كثيرا عن نظام النيل ، فالحد الأقصى للفيضان يقع في كانون الاول وكانون الثاني (ديسمبر ويناير) في عقفه النيجر قرب تومبوكتو ، وتكون المسطحات الغارقة واسعة ، ولا سيما في الدلتا الداخلي في عالية تومبوكتو.

٩٢

فقد رأيت في الأطلس شيوخا من نفس السن يشتركون في المعارك ، ويناجزون الشباب بشجاعة ، وكان الكثير منهم من المنتصرين. ويكون للناس في بلاد النخيل حياة طويلة أيضا ، ولكنهم يفقدون أسنانهم ويقل نظرهم كثيرا ، وينجم سقوط الأسنان من كثرة أكلهم للتمر ، وينتج قصر بصرهم من ان هذه البلاد تكون عرضة لريح شرقي يدفع بالرمل ويثيره بحيث يهيج الغبار العيون ويتلفها مع الزمن (٢١٨).

ومتوسط أعمار أهل ليبيا يقل عن متوسط الأعمار لدى أهل المناطق السابق ذكرها.

ولكنهم أقوياء البنية وأصحاء حتى سن الستين أو ما يقارب ذلك ، ولكن يجب أن نضيف الى ذلك أنهم رشيقو البنية وممشوقو القوام. والحياة في بلاد السودان أكثر قصرا من حياة الناس من الاجناس لأخرى. ولكن هؤلاء يظلون دائما أقوياء البنية وأسنانهم صلبة ، ويحتفظون بها سليمة. وهم أناس يتصفون بفرط الشبق ، وكذلك حال سكان ليبيا وأهل نوميديا. أما سكان بلاد البربر فلهم على العموم مزاج أقل تطرفا.

اكثر الأمراض شيوعا عند الأفارقة

من الشائع رؤية مرض القرع فوق رؤوس الأولاد الصغار وفوق رؤوس النساء البالغات ، ويعانون الكثير في سبيل شفائه ، كما يصاب الكثير من الرجال بآلام الرأس التي تعتورهم أحيانا دون أن يصابوا بالحمى. وتكثر أوجاع الأسنان بصورة كبيرة بينهم. والمعتقد أن سببها يرجع الى أن الناس يشربون المأ البارد فور تناولهم حساء ساخنا. ويشكون أيضا من آلام المعدة التي يسمونها عن جهل آلام القلب.

وكثيرون منهم يتألمون في كل ايامهم من الزحار ومن آلام شديدة في الاحشاء ، ويعود هذا أيضا للماء البارد الذي يشربونه. هذا ويكثر الذين يشكون من أمراض عرق النساء وأوجاع الركبة. وتنتج هذه من عادة الناس هناك الجلوس على الأرض دون لبس أي نوع من السراويل. وهناك القليل من الأشخاص الذين يشكون من النقرس ، غير انه يلاحظ وجوده لدى بعض الأمراء المصابين به لأنهم ألفوا شرب الخمر وأكل الدجاج أو الوجبات اللذيذة. ويؤدي استهلاك الكثير من الزيتون والجوز وبعض الأطعمة الغليظة

__________________

(٢١٨) يجهل المؤلف طبعا طبيعة التراخوم ، وهو المسئول في الغالب عن الرمد في الواحات ، ولكنه يجد في الرياح الرملية مساعدا رئيسيا.

٩٣

التى ليس ليها كبير قيمة في التغذية الى مرض الجرب الشديد الألم للذين يصابون به (٢١٩) ، ويؤدي الجلوس على الارض في أثناء الشتاء أحيانا لسعال شديد ومؤلم لدى الذين تكون طبيعتهم دموية. وغالبا ما يتسلى الناس أحيانا في المساجد يوم الجمعة حيث يجتمع عادة آلاف الأشخاص. فإذا كان الخطيب في أفضل جزء من خطبته وحدث أن سعل أحد المصلين ، فإن آخر يأخذه السعال وهكذا دواليك ، بحيث يأخذ كل المصلين بالسعال في نفس الوقت تقريبا حتى نهاية الخطبة ، وينتشر الناس بعد الصلاة دون ان يسمع أحد شيئا من الخطبة.

أما المرض الافرنجي (٢٢٠) الموجع جدا ، والذي تصاحبه الآلام ، مع بثور وقروح ، فهو شديد الانتشار للغاية في كل بلاد البربر ، حتى ان القليل من الناس الذين ينجون منه. ولكن من الصحيح أنا لا نكاد نجد فردا واحدا مصابا به في الأرياف وفي جبال الأطلس ، كما لا يوجد مطلقا بين العرب إلا في نوميديا ، أي بلاد النخيل وليبيا. كما لا يأتي حتى ذكر هذا المرض في بلاد السودان وعندما يصاب به إنسان ما ، فإنه يشفى حالا بمجرد أن يغير الهواء ، أي إذا ذهب الى نوميديا مثلا.

وفي الماضي لم ير أحد هذا المرض كما لم بسبق أن سمع أحد باسمه. ولكن في العصر الذي أخذ فيه دوق فرديناد ملك أسبانيا ، يطرد اليهود من هذا البلد (٢٢١) ، وفد كثير من هؤلاء الى بلاد البربر. ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا المرض بالظهور فيها ، لأن عددا من هؤلاء اليهود نقلوه معهم من أسبانيا ، وكان من سوء حظ بعض الأفراد المساكين من المسلمين ان حدثت لهم علاقات مع نساء من هؤلاء اليهوديات. وهكذا ، وشيئا فشيئا ، لم تبق أسرة واحدة سليمة منه في خلال عشرة أعوام. والمصابون الأوائل بالعدوى اعتبرهم الناس مجذومين ، وطردوا من يبوتهم كي يقيموا مع الجذومين. ولكن عندما ظهر أن عدد الأشخاص المصابين به يتزايد يوميا ، وعندما لوحظ أن هذا التعفن قد انتاب عددا عظيما من الناس في كل أسبانيا ، راح المرضى يتابعون حياتهم اليومية العادية ، وعاد الى بيوتهم الذين أبعدوا عنها ، ويؤكد الناس في بلاد البربر ، أن أصل هذا المرض هو من أسبانيا ، ويحمل نفس الاسم كما في أسبانيا ، ولا سيما في موريتانيا. ويسميه أهل تونس

__________________

(٢١٩) ونرى من هذا أن الاصل هو الطفيلي لمرض الجرب وسريانه بالعدوى لم يكن معروفا حينذاك.

(٢٢٠) وهو مرض الزهرى أو السيفيليس ، الذي لم يكن يميز حينذاك عن مرض القروح والسيلان.

(٢٢١) مرسوم ٣ آذار ١٤٩٢ م أي بعد سقوط غرناطة بحوالى أقل من شهرين.

٩٤

المرض الافرنجى كالايطاليين ، وكذلك الحال في مصر وفي بلاد الشام ، وقد أدى هذا المرض إلى كثير من الكوارث ، ولا سيما في مملكة تونس (٢٢٢).

وهناك عدد من الناس المصابين بمرض الخاصرة (٢٢٣)

وقليل من الناس في بلاد البربر يشكون في المرض الذي يسميه اللاتين الهرني hernie (الفتاق). ولكن الكثير من الناس يشكون منه في مصر. وأحيانا تصبح الخصيتان عند بعضهم متورمتين لدرجة تبدو عند رؤيتها شيئا غير عادي. ويعتقد ان علة كهذه تنجم عن اكل الصمغ والكثير من الجبن المالح (٢٢٤)

ويلاحظ مرض القرع في كثير من الاحيان بين اطفال افريقيا. ولكن هؤلاء لا يشفون منه مع تقدم سنهم. وتصاب الكثيرات من النسوة بهذا المرض وخاصة في بلاد البربر وفي بلاد السودان. ويعتبر بعضهم هؤلاء المرضى كأن بهم مسا من الشيطان ، وهذا من الحمق.

ويظهر الطاعون في بلاد البربر مرة في كل عشرة اعوام ، او خمسة عشر عاما او كل خمسة وعشرين عاما (٢٢٥). عندما يداهم الطاعون الناس يقضي على الكثير منهم لأنه لا يوجد انسان يهتم بهذا المرض ولا باستعمال اي علاج ، فيما عدا دهن الجسم بتراب ارمينية حول الدمامل. ولم يظهر في بلاد نوميديا منذ مائة سنة. ولم يظهر مطلقا في بلاد السودان.

__________________

(٢٢٢) تعتبر هذه الفقرة تقليدية في وصف المرض الإفرنجي. ومن المتفق عليه أن جرثومة اللولبيات الشديدة التخريب ، والتي أدت للجائحة الكبرى في هذا المرض في القرن السادس عشر ، قد نقلت من أمريكا بواسطة رفاق كريستوف كولومبس الذين عادوا ونزلوا في أسبانيا في شهر تشرين الاول (أكتوبر) ١٤٩٢ م. ولكن قبل هذه الجائحة كانت هناك في أسبانيا جائحة خطيرة من مرض القروح الجنسيةchancrelle وهو المرض الذي أعطوه اسم (لاس بوباس) ومن الإغريقي ، بوبون ، أو مرض الحالب. وقد أطلق المغاربة على ظاهرات مرض الإفرنجي الجلدية اسم الحبوب ، وهي عبارة لا تزال دارجة بين العوام ، والذين خدعوا بتوافق الاصوات اللفظية. أما تسميته بالمرض الافرنجي إي «الافرنسى» وهو الاسم الذي عرف في ايطاليا ، والذي شاع في كل الاصقاع التي كانت على علاقات تجارية مع الملاحين الطليان فيعود الى أن الجيوش الفرنسية التي كانت منهمكة في عمليات حربية في ايطاليا في ذلك العصر ، كانت مصابة بعدوى شديدة من هذا المرض.

(٢٢٣) وربما كان مغصا كلويا أو كبديا.

(٢٢٤) ويخلط المؤلف هنا مرض الفتاق مع مرض داء الفيل الذي يصيب الصفن ، وهو مرض منتشر فعلا في مصر ، وهو ناجم عن دودة طفيلية هي الخيطية.

(٢٢٥) لقد كان هذا التوقيت في الجائحات الطاعونية يعود الى يقظة البؤر المحلية للطاعون ، والكامنة دوما ، وكان هذا ملحوظا وصحيحا قبل نصف قرن تقريبا.

٩٥

المزايا والأشياء المحمودة عند الأفارقة

إن الافارقة الذين يسكنون مدن البربر ، ولا سيما مدن البحر المتوسط ، يجدون متعة كبيرة في التعلم وينصرفون للدراسة بعناية كبيرة. ومن بين هذه الدراسات نذكر العلوم الانسانية والشرعية الاسلامية التي تحتل المكانة الأولى. وقد اعتادوا في الماضي دراسة الرياضيات والفلك والفلسفة. ولكن منذ أربعمائة عام ، كما ألمحت الى ذلك سابقا ، حظر عليهم علماؤهم وملوكهم تعلم الكثير من هذه العلوم (٢٢٦). وكذلك كان الحال بالنسبة للفلسفة ، وكذلك بالنسبة للتنجيم القضائي.

هذا ويتصف سكان أفريقيا أيضا بشدة تقواهم (٢٢٧). فهم يطيعون علماءهم وأئمتهم ويهتمون بشكل كبير في معرفة الأمور الضرورية لديانتهم. فهم يذهبون بلا انقطاع لتأدية صلواتهم في مساجدهم ، ويتحملون بصبر لا يتصور القيام بفرض الوضوء قبل الصلاة ، ويعمدون أحيانا حتى الى غسل جسمهم كله ، كما اعتزمت توضيحه في الكتاب الثاني من مؤلفي عن الايمان والشريعة الاسلامية.

وفضلا عن ذلك فإن سكان مدن بلاد البربر ماهرون ، كما يظهر ذلك في نوعية الأشغال المختلفة الطبيعية والتي يتقنونها. ويتمتعون بتربية طيبة جدا وحسن مجاملة للناس. وهم أناس طيبو السريرة قليلو الاتجاه إلى الإساءة. ويظهر الصدق لديهم في القلب واللسان ، رغم أن الوضع كان على خلاف ذلك في القرون الغابرة ، كما تؤكد ذلك كتب التاريخ التي كتبها المؤلفون اللاتين (٢٢٨) ، وهم رجال أو لو بأس وشجاعة كبيرة جدا ، لا سيما أهل الجبال منهم. ويحترمون العهد قبل كل شيء ، ويفضلون ضياع حياتهم عن أن يخلفوا وعدا. وهم غيورون إلى أبعد الحدود ، ويحتقرون الحياة مقابل احتمال إهانة حول موضوع نسائهم. وهم يحبون المال حبا جما مثلما يحبون الثروة والسمعة الطيبة ، ويذهبون إلى مختلف أنحاء العالم بتجارتهم ، ويرى بعضهم في مختلف المواسم

__________________

(٢٢٦) وذلك على أثر حركة الإصلاح الموحدى المتزمتة في القرن الثاني عشر.

(٢٢٧) أي بلاد البربر.

(٢٢٨) إشارة الى كتاب FidesPunica تأليف ساللوست ، وهو مؤرخ لاتيني ولد سنة ٨٦ ق. م. وتوفي سنة ٢٤ ق. م. وقد حكم إقليم أفريقية وجمع ثروات طائلة سمحت له ببناء قصر فخم محاط بحدائق شهيرة. وترك لنا كتاب «حياة جوغورته» و «تآمر كاتالينا».

٩٦

في مصر وأثيوبيا وفي بلاد العرب وفارس وفي الهند وتركيا ، وحيثما ذهبوا ، يكونون موضع الاحترام والتبجيل ، لأنهم مزودون بحذق كبير في المهن التي يمارسونها. وفضلا عن ذلك يتصفون بأنهم محتشمون وشرفاء في حديثهم ، ولا يتفوهون أبدا بكلمات غير لائقة أمام الآخرين. ويعبر الأصغر عن احترامه للأكبر منه ، سواء في المحادثة أو في أية مناسبة أخرى. ويبلغ هذا الاحترام درجة تحول بين الشاب وبين الكلام عن الحب أو عن الفتاة التي يحبها بحضور والده أو عمه. كما أنه يستحي أن ينشد قصيدة حب وغناء بمجرد أن يرى أخاه الأكبر. وعندما يصل الأولاد لجوار أناس يتكلمون عن الحب ، يغادرونهم حالا. تلك هي العادات الطيبة وتقاليد التربية الجيدة التي تجدها عند سكان مدن البربر.

ويتصف الناس الذين يسكنون الخيام ، أي العرب والرعاة (٢٢٩) بأنهم رجال كرماء ، مفعمون بالرحمة ، شجعان ، صبورون ، طيبو المعشر ، يؤلفون ، طيبو السيرة ، مطيعون ، متدينون ، ومحبوبون مع طبع مرح. وسكان الجبال كرماء أيضا ، شجعان ، طيبو الحديث ، شرفاء في حياتهم العامة.

أما سكان نوميديا فهم أكثر تهذيبا من السابقين ، لأنهم يتمسكون بقواعد الأخلاق ، ويدرسون الشريعة الاسلامية. ولكنهم لا يعرفون شيئا كبيرا عن العلوم الطبيعية. وهم رجال مدربون على استعمال السلاح ، شجعان ، ولكنهم طيبون جدا.

هذا وسكان ليبيا ، الأفارقة منهم والعرب ، كرماء ، لطفاء ، ويعملون كل ما يستطيعون في سبيل أصدقائهم. وينظرون للغرباء نظرة ودودة. وقلوبهم طيبة وهم صادفون ومخلصون.

ويبدو الزنوج وديعين واوفياء ، ويستقبلون الاجانب بترحاب كبير. ويصرفون وقتهم في المتعة كي يحيوا حياة مرحة ، فيرقصون ، ويقيمون اكثر ما يمكن من المآدب ، ويزاولون كل ضروب التسلية. وهم صادقون جدا ، ويعاملون المثقفين والفقهاء باكبر قدر من التبجيل. وهؤلاء المثقفون والفقهاء هم الذين ينعمون باسعد الاوقات بين جميع من يلقونهم من الافارقة.

__________________

(٢٢٩) أي الشاوية.

٩٧

العيوب والأشياء المذمومة عند الأفارقة

مما لا ريب فيه ان لدى الافارقة من العيوب قدر ما لهم من المزايا ، ولكن لننظر ما إذا كانت هذه العيوب متفاوتة فى ظهورها.

فسكان بلاد البربر فقراء ومتغطرسون ، حقودون بدرجة لا مثيل لها. ويقال انهم يحفرون فوق الرخام عبارات السباب ولا ينزعون الغل من صدورهم. وهم غير موطيّ الأكناف لا يألفون ولا يؤلفون حتى إنه من النادر أن يستطيع الغريب سبيلا الى صداقتهم.

وهم على درجة من السذاجة تجعلهم يصدقون أيّ أمر مستحيل. والشخص العامى منهم يجهل تماما كل القوانين الطبيعية ، حتى إنه ليعتبر كل الظواهر الطبيعية مهما كانت كأنها أعمال ربانية. وهم غير منسجمين في أسلوب عيشهم كما في تصرفاتهم ، ويتعرضون للغضب كثيرا. وفي أغلب الأحيان نجدهم يتجاذبون أطراف الأحاديث المتعجرفة بصوت مرتفع. ومن النادر ألا يرى الإنسان في الشوارع المزدحمة شخصين أو ثلاثة وهم يتلاكمون بقبضات أيديهم. وهم من طبيعة حقيرة. وليس لأمرائهم مكانة يعتد بها حتى يمكن القول بأن الأمير فيهم هو أقرب الى الحيوان منه الى إنسان متحضر. وليس بينهم وجهاء ولا قضاة مكلفون بإدارة شئونهم أو بنصحهم على مسألة ما في سياسة أمورهم. وفضلا عن ذلك فهم محدود والتفكير وجهال في أمور التجارة ، فليس لديهم مصارف ، وليس لديهم شخص يتعهد بنقل البضائع من بلد لآخر ، فعلى كل تاجر أن يبقى قرب بضائعه وأن يسافر معها.

وهم من أكثر الناس بخلا حتى إن معظمهم لا يرغب الواحد منهم في ايواء غريب لا مجاملة ولا تقربا إلى الله. والقليل منهم أيضا الذين يردون المعروف لمن له عليهم فضل سابق. وهم اناس مفعمون بالقلق وسوداويون لا يتذوقون الدعابة. وهذا يعود الى اهتمامهم بمطالب الحياة المادية دون توقف. لأن فقرهم شديد وارباحهم هزيلة. ويعيش الرعاة (٢٣٠) في ضنك سواء في ذلك اهل الجبال منهم واهل السهول ، وذلك لقلة مواردهم فهم في بؤس مقيم وفاقة مزرية. وهم جفاة ، لصوص ، وجهال. ولا يسدودن ما سبق ان اقترضوه. والديوثون منهم اكثر من الذين يتصفون بالعفة. فكل الفتيات قبل زواجهن يستطعن ان يعشقن وان يتذوقن ثمرة الحب. وحتى الاب نفسه يقوم باستقبال عاشق ابنته

__________________

(٢٣٠) أي الشاوية.

٩٨

بكل ترحاب ، وكذلك الاخ بالنسبة لعاشق اخته ، بحيث لا نجد امرأة تحمل بكارتها لزوجها. ولكن من الصحيح القول انه ما ان تتزوج الفتاة حتى يكف العشاق عن مطاردتها ، فيذهبون الى اخرى. ومعظم هؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ، ويزيد بعدهم عن المسيحية. وليس لديهم اي معتقد ، وهم ليسوا بلا ديانة فحسب ، بل ليس لديهم اي ظل من الدين ، ولا يقومون باي صلاة وليس لهم معابد ويعيشون كالسائمة. واذا كان بينهم من عنده شيء ضئيل من شعور التقوى ، فهو مضطر ان يعيش كالآخرين لانه يفتقر لأية مبادىء دينية ، وليس هناك من فقهاء يرشدونه ، ولا قاعدة مستقيمة يسير عليها.

والنوميديون قوم بعيدون عن رحاب المعرفة ، ويجهلون طريقة السلوك النظامي في الحياة العادية. فهم غدارون ، قتلة ، ولصوص ، دون أي اعتبار أو مراعاة. وهم أيضا بلا إيمان ولا قاعدة دينية. لقد عاشوا في كل الأزمنة ويعيشون وسيعيشون دوما في البؤس. ولا يوجد صنف من الخيانة لا يرتكبونه مدفوعين بالحاجة أو الرغبة في شيء ما. ولا يوجد بين الحيوانات من يحمل قرونا في طول قرون هؤلاء الأسافل (٢٣١). فهم يكرسون كل حياتهم لفعل الشر وللصيد وللاحتراب فيما بينهم ولرعي ماشيتهم في الصحراء ، ويمشون دوما حفاة عراة. أما أهل بلاد السودان فهم غلاظ بلا عقل ، بدون ذكاء ودون خبرة. وهم مجردون من جميع مظاهر المعرفة. ويعيشون كالبهائم بدون قواعد ولا شرائع. وتكثر فيهم البغايا والديوثون ، باستثناء القليل منهم من الذين يسكنون في المدن الكبرى والذين لديهم بعض الشيء من الكرامة الانسانية.

ولا يفوتني أن أقول إنني أشعر ببعض الحياء من الإقرار بعيوب الأفارقة ومن الكشف عنها. فقد كانت إفريقيا موطن نشأتى ، وفيها قضيت أزهى وأطول شطر من حياتي. ولكن لدى العذر من الجميع لواجب المؤرخ الذي يفترض فيه أن يقول حقائق الامور بدون أن ينحرف لإرضاء ميل شخص ما. وهذا هو ما أجدنى بسببه مضطرا لكتابة ما كتبت ، وهذا هو ما يجب أن يكون إذا أردت عدم الابتعاد عن الحقيقة في أية نقطة ، واذا ما تركت جانبا زخارف الاسلوب وصناعة الكلام.

وأود في سبيل الدفاع عن نفسي أن اسرد حكاية صغيرة ستكون مثالا كافيا لذوى النفوس المستنيرة والاشخاص المحترمين الذين سيتفضلون بقراءة هذا الكتاب الطويل

__________________

(٢٣١) تعبير شائع في البلاد العربية ، وهو وصف الديوث بذى القرنين ، أو يقصد به المفرطين في غبائهم.

٩٩

يتناقل الناس في بلدي قصته مفادها أن شابا في حالة وضيعة وحياة ممقوتة ، دخل السجن بسبب ارتكابه سرقة صغيرة وحكم عليه بالجلد. وعندما حل يوم توقيع العقوبة فيه ، وعند ما أصبح بين أيدي رجال تنفيذ العدالة ، وجد أن الجلاد هو أحد أصدقائه. فاعتقد أنه سيحظى بمراعاة لم يعرفها أي إنسان آخر. ولكن على العكس فقد بدأ هذا يكيل ضربة أليمة قاسية اليه. وهكذا راح الصاحب البائس المبتئس يصرخ قائلا : «يا أخي أنت تعاملني مع أنني صديقك ، أسوأ من الآخرين» وحينئذ كان الجلاد يسدد اليه ضربة أكثر شدة ، وأجابه «يا رفيقى ، يجب ان أقوم بوظيفتي على الوجه الذي يجب أن أؤديها عليه ، وهنا لا مكان للصداقة» واستمر في عمله كي يعاقبه بالعدد الحقيقي من الضربات التي سبق أن حددها القاضي.

وهذا هو السبب الذي سيجعلني عرضة للتبكيت فيما لو تغاضيت عن ذكر معايب الأفارقة. وقد يتصور البعض أنني تصرفت بهذا الأسلوب لأنه كان لدى قدر كبير من هذه العيوب ، وأنني على العكس مجرد من هذه المزايا الموجودة لدى الآخرين .. وبما أنني لا أملك خيرا مماسأ ذكره للدفاع عن نفسي ، فإنني أقترح الاستفادة من الطريقة التي استعملها عصفور ، لأن طبيعة الأمر ، إذا ما أردت أن أشرحها لكم ، تضطرني لأن أسرد عليكم قصة هذا العصفور ، وهي أقصوصة أخرى صغيرة ممتعة :

في العصر الذي كانت الطيور تتكلم فيه ، كان يوجد عصفور صغير لطيف وجريء ، كان متمتعا بذكاء عجيب بشكل خاص. وكان من طبيعته هذه الميزة أيضا ، وهي أنه يستطيع أن يعيش في الماء بين الاسماك كما يعيش فوق الأرض بين الطيور الأخرى. وفي ذلك الزمن كانت كل الطيور مكلفة بدفع ضريبة سنوية لملكها. وهكذا خطر ببال هذا العصفور فكرة كي يتخلص من دفع أي شيء وحينما أرسل له الملك موظفا لجباية الضريبة تعهد له هذا الماكر الصغير بالدفع ولكنه اندفع في الفضاء طائرا. وما لبث أن دخل البحر واختفى في غياهب مياهه. ولما رأت الأسماك هذا الأمر الجديد ، هرعت جميعا على شكل فرقة كبيرة وتحلقت حوله لمعرفة السبب الذي حدابه للمجيء عندها. فتوجه العصفور إليها بالكلام قائلا : «وا حسرتاه ، ألا تعرفون ، أيها الطيبون ؛ أن الحالة بلغت درجة لم يعد من الممكن معها العيش أبدا فوق الأرض؟ فقد أراد ملكنا الجبان ، وذلك بتأثير نزوة خطرت برأسه ، اراد تقطيع اوصالي وانا حي رغم صلاحي ، ورغم أني أكبر وجيه شرفا وفضلا بين كل العصافير». ثم تابع يقول :

١٠٠