وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

قبيلة بني هلاك ـ مناطقهم

إن الفرع الرئيسي من قبيلة بني هلال هو فرع بني عامر. ويسكن هؤلاء العرب بجوار تخوم مملكتي تلمسان ووهران وينتجعون نحو صحراء قرارة. ويستخدمهم ملك تلمسان في أعمال كثيرة مقابل أجور تدفع لهم ، وهم أولو بأس شديد وثروة واسعة ، وفيهم ٦٠٠٠ فارس جميل الطلعة جيد التجهيز. وتملك عشيرة عروة ضواحي مستغانم ورجالها متوحشون ولصوص ولباسهم رديء ، ولا يبتعدون عن الصحراء ، إذ ليس لديهم أراض خاصة بهم ، ولا ينالون مساعدات في بلاد البربر. ولديهم قرابة ٢٠٠٠ فارس.

وتقيم عشيرة عقبة بضواحي مليانة. وينالون بعض المساعدات الصغيرة من ملك تينس. ولكن هؤلاء عبارة عن سفاكين مجردين من كل عاطفة انسانية وفيهم حوالي ١٠٠٠ فارس. وتسكن عشيرة هبرة السهل الواقع بين وهران ومستغانم. وهؤلاء مزارعون يدفعون الضريبة لملك تلمسان. ويستطيعون تقديم ١٠٠٠ فارس. وتسكن مسلم صحراء مسيلة التي تمتد باتجاه مملكة بجاية ، ويتلقون عائدات من مسيلة ومن بعض البقاع الأخرى.

وتسكن رياح صحاري ليبيا الواقعة إلى الجنوب من قسنطينة. وتمتد سلطتهم على جزء من نوميديا. وينقسمون الى ستة اقسام ، وهم اشراف وحسنو التجهيز وبواسل في الحروب ، ويتلقون مساعدات من ملك تونس ، وفيهم ٥٠٠٠ فارس.

وتسكن سويد الصحاري التي تمتد نحو مملكة تينس ، ولهم شهرة كبيرة وسلطة واسعة. ويخصص لهم ملك تينس معونات ، وهم أشراف وبواسل ولديهم كل ما يحتاجون إليه.

وتخضع سجاع لقبائل عربية مختلفة ، ويسكن عدد كبير منهم صحراء غارت مع العمارنة. ويسكن فرع منهم مع عرب دكالة (١٠٨) وضواحي آسفي (١٠٩)

__________________

(١٠٨) أي العربية.

(١٠٩) لا زال يوجد عدد من فروع سجاع حتى الآن.

٦١

وتسكن هريت سهول هلان بصحبة سيديمه ويضربون الجزية على سكان حاحه (١١٠) وهم فقراء معدمون. ويسكن الندر (١١١) سهول حاحه. ولدى عرب حاحه هؤلاء حوالي ٤٠٠٠ فارس وكلهم من ذوي التجهيز الرديء. ونجد عشيرة الغرفة (١١٢) في نقاط مختلفة. ولا رؤساء لهم بل هم مختلطون مع قبائل اخرى ، ولا سيما مع منبه والعمارنة وهؤلاء الذين ينقلون تمور سجلماسة إلى مملكة فاس حيث يعودون إلى سجلماسة مع الأقوات الضرورية.

قبيلة معقل ـ أراضيها ـ عددها

تسكن عشيرة الروحة ، وهي فرع من مختار ، الصحاري المجاورة لدادس وفيركله (١١٣). وهم فقراء لأنهم لا يملكون سوى القليل من الأراضي. غير أنهم محاربون أشداء راجلون ، حتى إنهم يعتبرون من المعيب جدا أن ينهزم راجل واحد أمام فارسين. ولا نجد واحدا منهم ، مهما كان بطيء السير ، يعجز عن أن يسير لغرضه بسرعة تقل عن أي فارس ، مهما كان طول الطريق الذي يقطعه. وفيهم حوالي ٥٠٠ فارس و ٨٠٠٠ راجل ، ونقصد بذلك رجال الحرب (١١٤).

وتسكن سليم قرب وادي الدرعة. وينتجعون عبر الصحراء. وهم أغنياء ويذهبون مرة في كل عام مع سلعهم إلى تومبوكتو. ولدى هذه القبيلة الكثير من الأملاك في الدرعة والعديد من الأراضي الزراعية وعدد ضخم من الإبل. وفيهم حوالي ٤٠٠٠ فارس. وتسكن عشيرة الحسن على ضفاف المحيط عند تخوم ماسّه. وفيهم حوالي ٥٠٠ فارس مجهزون أسوأ تجهيز. ويسكن قسم منهم أزغار. وأهل منطقة ماسّه أحرار في حين يخضع أهل إقليم أزغار لملك فاس.

__________________

(١١٠) لا يزال عرب هريت في مكانهم في جنوب نهر التانسفت إلى الشرق من عرب شيادمة ، وأما اسم «هلان» الذي ورد في النص فهو غير معروف ، ولعله تحريف ناشىء عن سبق قلم

(١١١) أنقرضوا أو انصهروا بغيرهم من العرب.

(١١٢) أنقرضوا حاليا.

(١١٣) صوابها تودجه

(١١٤) لا تزال عشيرة الروحة حتى أيامنا هذه ، مجتمعة على شكل جماعات صغيرة في بعض قصور وادي الدرعة ، ويعرفون أصلهم العربي. ولكنهم لا يختلفون في شيء عن بقية سكان القصور البربر ، وليس لديهم خيول ، وقد فقدوا جميع صفاتهم لخاصة.

٦٢

وتسكن كنانة مع خلوط ويخضعون أيضا لملك فاس ، وهم رجال أقوياء الشكيمة ولديهم كل ما هو ضروري ، وفيهم ٢٠٠٠ فارس.

وينقسم دوى حسان (١١٥) إلى دليم (١١٦) والبرابيش والأوداية ودوى منصور (١١٧) ودوى عبيد الله (١١٨). وتسكن الدليم صحراء ليبيا مع زناقة ، وزناقة شعب إفريقي وليس لهؤلاء العرب نفوذ ولا مورد. وهم كذلك بؤساء ومن كبار اللصوص. ويذهبون أحيانا إلى منطقة درعة ليستبدلوا التمر بأنعامهم. ويلبسون رث الثياب. ويبلغ تعدادهم حوالي عشرة آلاف رجل منهم أربعمائة فارس وستمائة راجل.

وتسكن البرابيش صحراء ليبيا في القسم الواقع باتجاه إقليم السوس ، وهم كثر وفقراء ، ولكن لديهم الكثير من الابل وهم يحكمون مقاطعة تيشيت (١١٩) التي لا يكفيهم دخلها حتى لتكاليف الحديد الذي يضعونه في حوافر القليل مما يملكونه من خيول.

وتسكن الأودايه (١٢٠) الصحاري الواقعة بين وادان وولّاته ولهم قيادة السود وعددهم لا يكاد يحصى ، إذ يقدرون بحوالي ٧٠٠٠٠ رجل حرب ، ولديهم القليل من الخيل. ويسيطر الرحامنة على الصحراء المجاورة لعكا (١٢١) ، ولهم أيضا النفوذ على تيشيت حيث اعتادوا الذهاب إليها كل شتاء وعندهم كذلك القليل من الخيل. ويسكن الحمر صحراء تاغاوست وينالون بعض المعونات من عمالة تاغاوست. ويجوبون الصحراء حتى نون ويقارب عدد محاربيهم ٨٠٠٠ رجل (١٢٢).

__________________

(١١٥) وقد نزح هؤلاء فيما بعد إلى موريتانيا الحالية وأسبحت اللهجة السائدة هناك تدعى الحسانية.

(١١٦) وربما أولاد دليم.

(١١٧) او الرحامنة.

(١١٨) أو عمرو.

(١١٩) في موريتانيا الحالية (المترجم).

(١٢٠) واسمهم في موريتانيا الأوداي وفى المغرب الأوداية. «وإليهم ينسب الحي القديم المركزي في مدينة الرباط» (المترجم)

(١٢١) كان الرحامنة ينتجعون حتى عكا في جنوب الدرعة في المغرب ، وقد أجلوا فيما بعد إلى شمالي مراكش ولا يزالون هناك شمال نهر التانسفت.

(١٢٢) يقول ماسينيون سنة ١٩٠٦ ص ١٤٠ : إن الحمر هم أولاد الأحمر الذين يقيمون في مخزن الحوز ، ومنهم آيت باعمران في السوس وفي إقليم باكونو في موريتانيا ، في جنوب شرق موريتانيا الحالية ، وليس من المؤكد اطلاقا أن تاغاوست التي يذكرها المؤلف هي تاقنت الحالية في موريتانيا.

٦٣

دوي منصور

تسكن عمران وهي فرع من دوي منصور في الصحاري المجاورة لسجلماسة وينتجعون في صحراء ليبيا حتى إيغيدي (١٢٣). ويجبون الجزية من سكان سجلماسة وفيركله وتبلبلة والدرعة. ولديهم الكثير من حدائق النخل ويستطيعون العيش كما يعيش الأمراء ويتمتعون بشهرة كبيرة. وفيهم حوالي ٣٠٠٠ فارس. ويعيش بين ظهرانيهم العديد من العرب الأقل غنى منهم ، ولكنهم يملكون خيولا ومواشي بأعداد لا بأس بها. مثل عرب الكرفة وسجاع.

ولعشيرة حمرون فرع متفرد تمتد سلطته على بعض الأراضي الزراعية الواقعة في بلاد البربر. ويتجول هؤلاء حتى صحراء فيقيق. وتدر عليهم أراضيهم المزروعة وقراهم في نوميديا موارد كثيرة هامة. ويأتي هؤلاء العرب ليقيموا في الصيف في منطقة غارت على تخوم موريتانيا ، في قسمها الشرقي. وهؤلاء الرجال شرفاء وعلى درجة قصوى من البسالة. ولهذا كان من عادة كل ملوك فاس تقريبا أن يتخذوا من بناتهم زوجات لهم ، وبذلك عقدوا مع هؤلاء صلات قرابة. وتسكن منبه أيضا نفس صحراء فيقيق. ولهم السلطة على متغاره والرتب وهما إقليمان من موريتانيا ، وهؤلاء أيضا رجال شجعان ويجبون الضرائب من سكان سجلماسة ، ويقدر عدد فرسانهم بألفين.

وتمت عشيرة الحسين أيضا بصلة النسب إلى دوى منصور. وتسكن بين جبال الأطلس. ومنهم زعماء يملكون بضعة جبال مجهولة ومدنا وقصورا ، أقطعهم إياها مختلف ملوك بني مرين ، لأن هذه القبيلة قدمت عونا ممتازا لهذه الأسرة عندما ملك أفرادها زمام الحكم. وتمارس عشيرة الحسين سلطتها على مملكة فاس وسجلماسة. ويحكم زعيمهم مدينة تدعى غرسلوين (١٢٤) وينتجعون أيضا في صحراء الضهرة (١٢٥) ، وهم أناس أغنياء وشجعان ويقدر عدد فرسانهم بحوالي ٦٠٠٠ فارس. ويعيش بينهم عرب آخرون يدينون لهم بالطاعة.

وتسكن عشيرة أبي الحسين جزئيا في صحراء الضهرة المذكورة ولا يملكون فيها

__________________

(١٢٣) ايغيدي (الرمل) وهي منطقة كثبان كبيرة جنوبي تافيلالت جنوبي المملكة المغربية.

(١٢٤) وتحمل أطلالها اليوم اسم دوار وتقع على ضفة واد زيز في مديرية غير في جنوب شرق المملكة المغربية.

(١٢٥) الضهرة سهل صحراوي يقع بين دبدو وفيقيق في شرقي المملكة المغربية

٦٤

الشيء الكثير. وهم على درجة من البؤس بحيث لا يستطيعون حتى البقاء تحت خيامهم في هذه الصحراء. وإذا كان من الصحيح القول بأنهم انشأوا بعض الملكيات الزراعية في صحراء ليبيا ، فهم يعيشون هنا أيضا عيشة شظف ، يعتورهم الجوع ، ويدفعون بعض الإتاوات لأقاربهم.

دوي عبيد الله

تؤلف عشيرة الخراج جزءا من قبيلة عبيد الله. ويسكن هؤلاء العرب صحراء بني قومي (١٢٦) وفيقيق. ويملكون الكثير من الأراضي الزراعية في نوميديا. وينالون معونات من ملك تلمسان الذي يعمل جاهدا وبلا انقطاع لكي يعودهم على حياة هادئة شريفة ، لأنهم قطاع طرق يغتالون تقريبا كل من يقع في أيديهم. ويؤلفون حوالي ٤٠٠٠ فارس. ومن عادتهم أن ينقلوا مخياتهم في الصيف إلى ضواحي تلمسان.

وتسكن ثعلبة سهل الجزائر. وينتجعون إلى الصحراء حتى تغوات (١٢٧) وقد كانت لهم السلطة على مدينتي الجزائر ودلّيس. أما في أيامنا فقد انتزعت هاتان المدينتان من أيديهم على يد بربروس (١٢٨) وعلى أثر ذلك دمرت قبيلة ثعلبة. وقد كانت عشيرة نبيلة وباسلة في الحرب ، وكانت تضم قرابة ٣٠٠٠ فارس.

وتسكن حدج في صحراء مجاورة لمدينة تلمسان وتدعى صحراء أنجاد ، وليس لديهم أملاك عقارية ولا ينالون مساعدات ، ولا يعيشون إلا على القتل والسلب ، وفيهم ٥٠٠ فارس.

ويعيش الجعوان على شكل فصيلتين منفصلتين : الأولى مع خراج والأخرى مع حدج. ولكنهم يعتبرون اتباعا لهم ويحتملون هذه التبعية بإذعان. والآن يجب علينا أن نوجه أنظاركم إلى أن القبيلتين الأوليين ، وهما الحكم وبنو هلال ، هما من عرب نجد ، وتنحدران من إسماعيل بن إبراهيم. ويعود أصل القبيلة الثالثة ، أي المعاقيل ، إلى اليمن وأصلهم من سبأ. ويعتبر المسلمون أن ولد سماعيل أكثر نبلا من السبئيين. ولهذا لا

__________________

(١٢٦) تقع قصور بني قومي ، وأهمها قصر تاغيت ، على ضفاف واد الزوز فانه في الجنوب المغربي.

(١٢٧) ربما يقصد توات التى تبدو بعيدة جدا عن مدينة الجزائر وربما يقصد تغدمت قرب تيارت ، أي في إقليم سرسو.

(١٢٨) وهو القائد عروج أمير البحر التركي ، وهو الأخ الأكبر لأخوين يحملان لقب بر بروس

٦٥

ينفك النزاع قائما بين القبيلتين على النبل ، وقد نظمت في كلا الجانبين قصائد تحاورية يسرد فيها كل من الفريقين فضائله وأعماله المجيدة ومآثر قبيلته.

ومن المستحسن أن نعرف أيضا أن العرب القدامى الذين كانوا موجودين قبل ظهور أبناء إسماعيل يسمون عند المؤرخين الأفارقة العرب العاربة (١٢٩) ، أي عرب جزيرة العرب. أما العرب الذين ينحدرون من إسماعيل فيسمون العرب المستعربة ، وفيها معنى الحدوث ، لأنهم لم يولدوا عربا (١٣٠). والعرب الذين قدموا لسكنى افريقيا سمّوا العرب المستعجمة ، أي العرب المتبربرين ، لأنهم سكنوا مع أمة أجنبية ، ففسد لسانهم مع تطاول الزمن حتى اصبحوا من البربر (١٣١).

وسيكون من الأفضل لو أمكن الرجوع لتاريخ العرب لابن خلدون ، الذي ألف كتابا ضخما يكاد يكون مخصصا برمته لعلم أنساب العرب المتبربرة (*). ولم تحتفظ ذاكرتي الهزيلة أكثر مما استطعت قوله هنا ، لأنني أؤكد أن نظري لم يقع على كتاب في تاريخ العرب منذ أكثر من عشرة أعوام. ومن ناحية أخرى رأيت كل العشائر العربية التي ذكرتها آنفا وكانت لي محادثات مع أهلها وظلت خصائصها عالقة في ذاكرتي.

عادات وأنماط معيشة الأفارقة الذين يعيشون في صحراء ليبيا

يطلق اللاتين عبارة النوميديين (١٣٢) على كل القبائل الخمس التي سبق لنا الكلام عنها ، وأقصد بذلك زناقة والونزيقة والطوارق ولمتونة وبردوه. ويعيشون جميعا على أسلوب واحد ، بدون أية قاعدة وبدون أي تعقل (١٣٣). ويتألف كساؤهم من «فوطة» ضيقة من صوف خشن. ويضع كل واحد فوق رأسه قطعة قماش سوداء ملفوفة حول

__________________

(١٢٩) لا تزال عشيرة تدعى عارب موجودة في منطقة جبل باني المشرف على وادي الدرعة بجوار عكا.

(١٣٠) وهذه العبارة أطلقت على الأسبان الذين عاشوا كالعرب أيام الحكم الإسلامي في الأندلس ، ومنها عبارة موزاراب.

(١٣١) أي الذين يتكلمون لغة عربية محرفة ومختلطة بعبارات أجنبية.

(*) يقصد «كتاب العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (المراجع)

(١٣٢) الحقيقة كان النوميديون بالنسبة إلى اللاتين هم سكان تونس الشمالية وسكان شمال شرق ولاية قسنطينة الحالية. أما سكان الجنوب فيسمون جتول أو القرمنط وكان مجال القرمنط في منطقة فزان خاصة. أما الصحراويون فلم يكن لهم كما يبدو أية تسمية خاصة.

(١٣٣) قول فيه الكثير من المبالغة.

٦٦

وجهه كالعمامة. أما الوجهاء والشخصيات الهامة فيضعون قميصا كبيرا ذا أكمام عريضة ، من قماش القطن الأزرق الذي يشترونه من تجار قادمين من السودان ، وذلك لكي يتميزوا عن الآخرين. ولا يركبون سوى الإبل ويستخدمون لهذا سرجا يضعونه بين السنام وبين عنق الحيوان (١٣٤) وإنه لمنظر جميل أن يرى الإنسان هؤلاء الناس راكبين جمالهم. وأحيانا يضعون ساقا فوق ساق على عنق الجمل ، وأحيانا أخرى يضعون أقدامهم في سيور مربوطة بالسرج بدون ركابات (١٣٥) ويستخدمون سهما مربعا من الحديد مثبتا في نهاية عصا طولها ذراع (١٣٦) ولكنهم لا يوخزون بها الحيوانات إلا في اكتافها. ولإبل الركوب ، أي الهجن ، منخار مثقوب ، على طريقة بعض الجواميس التي ترى في إيطاليا ويمرر في هذا الثقب شريط من الجلد يمكن بواسطته تدوير الجمل أو توجيهه كما يقاد الجواد باللجام. ويستعمل هؤلاء الناس لنومهم حصرا من خيزران ناعمة جدا. ويصنعون خيامهم من وبر الجمل ومن ألياف خشنة تنمو بين براعم النخيل العليا (١٣٧). أما غذاؤهم فلا يستطيع من لم يرهم أن يتصور مدى صبرهم على تحمل الجوع. فليس من عادتهم أكل الخبز أو أية وجبة مجهزة ، إذ يتغذون بحليب نوقهم. والعادة أن يشربوا صباحا صحفة كبيرة من الحليب الحار بمجرد خروجه من الضرع. أما في المساء فيتألف عشاؤهم من لحم مقدد مغلي في الحليب مع السمن. وعندما ينضج اللحم يتناول كل واحد نصيبه باليد. وبعد أن يأكل قطعة يشرب المرق مستخدما يده ملعقة. وبعد ذلك يرشف صحفة من الحليب وتنتهي الوجبة. وعندما يكون الحليب متوافرا لديهم لا يهتمون مطلقا بالماء ، ولا سيما في الربيع ، وهي الفترة التي لا يغسل فيها بعضهم يده ولا وجهه بالماء. وذلك لأنهم في هذا الفصل لا يقصدون مناطق تتوافر فيها المياه ، وهم ينزلون في هذه المناطق لتوافر الحليب عندهم من جهة ، ولأن الإبل من جهة أخرى لا تحتاج في هذا الفصل إلى الماء لأنها

__________________

(١٣٤) الرحلة.

(١٣٥) لم تعد هذه الطريقة دارجة في الصحراء الكبرى ـ ه. ل.H.LHOTE

(١٣٦) الذراع الروماني يساوي ٦٧ سم. وهذا المهماز اليدوي ـ ويدعى سكرد في لهجة تاماهاك ـ يستخدم عادة لدى العرب وأقل من ذلك بكثير عند الطوارق الشماليين ـ ه. ل.H.LHOTE

(١٣٧) ربما كانت هذه الخيام الموصوفة هي خيام البدو التي استطاع الحسن أن يراها في الجنوب المراكشي. أما خيام بدو الصحراء الغربية فتصنع من صوف الغنم والماعز ولا تحوي ألياف التخيل. ويستعمل الطوارق خياما من جلد باستثناء قبيلة كلوي وبعض جماعات كلكرس في مرتفعات آيير في أواسط الصحراء الكبرى ، كما أشار إلى ذلك الحسن عند كلامه عن هذه البلاد ، وخيامهم مصنوعة من الحصر ـ ه. ل H.L

٦٧

تأكل حينئذ العشب الأخضر (١٣٨)

وتجري حياة هؤلاء البدو في الصيد أو في سرقة إبل أعدائهم. ولا يتوقفون في أي مكان أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام ، أي في أثناء الوقت الكافي لكي ترعى إبلهم العشب الذي تجده هناك.

ومع أننا ذكرنا أن هؤلاء لا يخضعون لنظام ولا قانون ، فإن لكل من هذه الأقوام أميرها ، وهو ملك يدينون له بالطاعة المطلقة ويؤدون له واجب الاحترام (١٣٩).

وهؤلاء أناس جهلة تماما لا يعرفون شيئا ، فهم لا يجهلون الآداب فحسب ، بل يجهلون كذلك الفنون وسائر المعارف الأخرى. ومن الصعوبة بمكان أن يعثر الإنسان في العشيرة كلها على حاكم يكون مؤهلا للفصل في نزاع ، حتى إن أحدهم لو تورط في دعوى أو كان ضحية أذى ما فإنه يكون مضطرا أن يمضي ستة أيام على الطريق فوق جمله كي يصل إلى خيمة القاضي. ويتأتى هذا الجهل عن أن هؤلاء الرجال لا يخصصون أي وقت للدراسات ولا يحبون الخروج من صحاريهم كي يتثقفوا. ولا يأتي القضاة إلا مكرهين عند هؤلاء الأوشاب ، وهم لا يستطيعون تحمل عاداتهم ونمط حياتهم. أما أولئك الذين يأتون إليهم راغبين فيتقاضون أجرا عاليا جدا ، إذ ينال كل واحد منهم ألفي دينار (١٤٠) فى العام أو أكثر أو أقل حسب تفاوت كفاءته.

ويلبس أشراف هؤلاء الرعاع فوق رؤوسهم ، كما قلت ، لثاما أسود يغطون وجوههم كلها بقسم منه حتى لا تظهر من خلاله سوى عيونهم ، ويحافظون على هذا الوضع حتى عندما يريدون تناول طعامهم. ففي كل مرة يتناولون فيها لقمة يكشفون عن فمهم ثم يسترونه في الحال. ويقدمون لتبرير هذه العادة الزعم التالي : كما أن من العيب بالنسبة للرجل أن يرى وهو يطرد غذاءه بعد هضمه ، وكذلك من المعيب أن يرى

__________________

(١٣٨) هذا صحيح تماما ، ويلاحظ في الشتاء عندما ترعى الإبل أعشابا غضة جدا تنمو في هذا الفصل كالجرجير واسمه اللاتيني :

Schouwia purpureaesp. Schimper

(H.L.).

(١٣٩) ويدعى آمينوكال عند الطوارق.

(١٤٠) أودوكا ، وإذا كان المؤلف يمثل الدوكا الإيطالي بالدنيار أو المثقال العربي ، فإن الدوكا الذهبي ، أوزكشيتو على الأصح والذي سكه البابا كليمنت الرابع في العصر الذي كتب فيه الحسن كتابه يعادل ٥ ، ٣ غرامات من الذهب (أي أن الدوكا الذهبي كان يعادل إذن حوالي ٧٥ ريالا سعوديا ، أو أقل من مائة ليرة سورية بقليل). (المترجم).

٦٨

وهو يدخل الغذاء إلى جوفه (١٤١).

وتتميز نساؤهم ببدانة شديدة وبالسمنة ، ولكنهن غير بيضاوات كثيرا. ولهن كفل ناهد وسمين والثديان كذلك ، ولكن قوامهن دقيق للغاية (١٤٢) ، وهن سيدات لطيفات جدا.

وعند الحديث يمددن إليك أيديهن عن طيب خاطر. ويندفعن في الملاطفة أحيانا حتى السماح بتقبيلهن ، ولكن سيكون من الخطورة بمكان التمادي أكثر من ذلك ، لأن الرجال يقتتلون بلا رحمة مدفوعين بأسباب من هذا القبيل. وحول هذا الموضوع يظهرون أكثر تعقلا من بعض الناس منا. وهم يعزفون كل العزوف عن أن تظهر لهم قرون (١٤٣). وهو شعب مضياف جدا. ولا يستطيع إنسان أن يمر في مخيماتهم بسبب جفاف بقاعهم ، ولأنهم يتحاشون الطرق الرئيسية. ولكن القوافل التي تخترق صحاريهم مضطرة لدفع رسوم لأمرائهم ، وهي عبارة عن قطعة قماش ، تبلغ قيمتها دينارا واحد عن كل حمل جمل (١٤٤).

وقد مررت من هناك قبل بضعة أعوام ضمن قافلة مع مسافرين آخرين (١٤٥) ، وعندما بلغنا سهل أروان ، قدم أمير زناقه لملاقاتنا مصحوبا بخمسمائة رجل ، وكلهم على

__________________

(١٤١) لقد سردت أساطير عديدة حول قضية اللثام الذي يدعى بالبربرية تاغلموست. وكلها تكون أيضا اعتباطية وغير مقنعة. وسيكون من نافلة القول سردها جميعا. والطوارق أنفسهم يجهلون أصله ، ويظهر أنه لدفع أمر محرم حقيقي ألا وهو الفم أمام المرأة والأشخام المحترمين ، ولا يعرف العصر الذي شاع فيه استعماله ، ولا يشير المؤرخون القدامى إلى ذلك باستثناء كوريبوس الذي يقول ، في معرض كلامه عن الجتول ، إن لهم لثاما لستر وجوههم الشنيعة. وعلى خلاف ذلك فإن أوائل الرحالة العرب الذين توغلوا إلى غرب الصحراء الكبرى مثل ابن حوقل والبكري الخ يشيرون إلى ذلك. وعند ما يبلغ الولد سن البلوغ يبدأ وضع اللثام ويكون ذلك مناسبة لاحتفال عائلي صغير. فحتى ذلك الحين كان يعتبر طفلا ، ولكن لبس اللثام يدخله في عداد الأشخاص الكبار ويمنحه كل المزايا المترتبة على ذلك. وابتداء من ذلك الحين يستطيع أن يشترك في حملات الغزو وأن يتردد على النساء. وهناك مراجع عديدة بالفرنسية يمكن الرجوع إليها حول هذا الموضوع مذكورة بالنسخة الفرنسية.

(١٤٢) من المعروف أن النساء الموريتانيات والطوارق ، وبشكل خاص بين القبائل الأرستقراطية ، يلجأون عمدا للسمنة ، لأن البدانة تعتبر شيئا مرغوبا جدا بالنسبة للمرأة. ولتحقيق هذا الهدف يخضعن منذ الصغر إلى تغذية مفرطة ولا سيما من الحليب والدقيق ـ ه. ل HL

(١٤٣) تعبير لا يزال دارجا في بعض البلاد الأوربية والعربية ويقصد به الرجل الديوث. وهذا طابع مميز للأخلاق لدى الطوارق. ومن عاداتهم أن الرجال يستطيعون زيارة النساء بكل حرية ، حتى المتزوجات ، وأن يقوموا بنوع من مغازل خفيفة ، ولكن لا يجوز مطلقا أن يصل الأمر إلى اتصال جنسي ، خشية وقوع عقوبات قاسية صارمة ، قد تصل إلى الإعدام ، لا سيما بالنسبة للذين يضبطون متلبسين بهذا الجرم. ه. ل H.L

(١٤٤) هذه القطعة من القماش التي تبلغ قيمتها دينارا واحد تقريبا في مختلف العملات الأوربية ، والتي كانت تستخدم كعملة في الصحراء الكبرى ، كانت تدعى بوردا بالفرنسية.

(١٤٥) وربما كان ذلك في أثناء رحلته الثانية التي قام بها المؤلف إلى تومبوكتو في عام ١٥١٢ م أو ٩١٨ ه‍.

٦٩

متن الهجن ، وبعد أن استلم منا العوائد دعا كل القافلة لمرافقته حتى خيامه والبقاء فيها مدة ثلاثة أيام كي تستريح. ولما كان مخيمه على مسافة ثمانين ميلا (١٤٦) خارج طريقنا ، ولما كانت جمالنا مثقلة بالأحمال ، لم يرغب التجار في قبول دعوته كيلا يطيلوا الطريق ، ولكن نظرا لإصرار الأمير على استضافتنا فقد تقرر أن يتابع الجمالة سفرهم مع حيواناتهم وأن يذهب التجار معه. وما إن بلغنا المخيم حتى أمر هذا الرجل الكريم بنحر بضعة جمال ، بين كبير وصغير ، ونفس العدد من الخراف وبعض طير النعام التي اقتنصها في أثناء الطريق. وذكر التجار للأمير بأنه لا داعي لذبح جمال ، إذ ليس من عادتهم أن يأكلوا غير لحم الخراف. فأجابهم بأن عادتهم لا ترى من المناسب الاكتفاء بذبح صغار الماشية في وليمة ، ولا سيما بالنسبة لنا باعتبارنا غرباء ، فضلا عن أننا نزلنا في مخيمه. وهكذا أكلنا ما قدم لنا. ولكن الطعام الرئيسي في هذه الوليمة كان يتألف من لحوم مشوية ومسلوقة. وكان اللحم المقدم على المائدة يتألف من شرائح متبلة بالأعشاب وبكمية طيبة من توابل بلاد السودان. وكان الخبز مصنوعا من دقيق غاية في النعومة من الذرة البيضاء والدخن. وفي نهاية الطعام قدمت لنا التمور بكثرة مع آنية كبيرة مليئة بالحليب. ورغب الأمير كثيرا في أن يشرف الوليمة بحضوره مع طائفة من سراة القوم من حاشيته وبعض أقاربه ، ولكنهم أكلوا على حدة. واستقدم بعض الفقهاء والأدباء الذين كانوا هناك وأجلسهم بجواره. ولم يمس أي نوميدي الخبز في أثناء الطعام ، إذ لم يتناولوا سوى اللحم والحليب.

وعند ما لاحظ الأمير علينا الدهشة والاستغراب الشديد ، راح يشرح لنا ذلك بكل ملاطفة قائلا : «إنه ولد في هذه الصحاري حيث لا ينبت أي نوع من الحبوب ، وأن الناس كانوا يتغذون بما تنتجه أرضهم. وقال لنا إنه يمتار كل سنة كمية من الحبوب كي يكرم الغرباء الذين يمرون ببلاده. غير أنه من الصحيح القول إن من عادتهم أكل الخبز في أيام بعض الأعياد الكبرى كعيد الفطر وعيد الأضحى (١٤٧).

وبعد أن أمسك بنا الأمير لمدة يومين في مخيمه وأحاطنا دوما بالكثير من الرعاية وعاملنا بإكرام وحفاوة ، سمح لنا بالذهاب في اليوم الثالث. وأراد أن يرافقنا شخصيا حتى القافلة. وسأقول لكم إن الحقيقة هي أن ثمن الحيوانات التي نحرها لإطعامنا كان

__________________

(١٤٦) أو ١٢٨ كم.

(١٤٧) ويدعي عيد تاباسكى في عدة بلاد سودانية أي جنوب الصحراء الكبرى.

٧٠

يساوي عشرة أضعاف ما دفعناه له رسم مرور. وقد كان هذا الأمير نبيلا وبشوشا في تصرفه وفي حديثه. ونظرا لعدم فهمه لساننا ، وعدم فهمنا لغته ، فقد كان من اللازم أن يكون بيننا ترجمان. وهذا النمط من المعيشة والعادات التي وصفناها لدى هؤلاء القوم مطابق لما تسير عليه القبائل الأربع الأخرى المبعثرة في صحاري نوميديا.

نمط حياة العرب الذين يسكنون إفريقيا وعاداتهم

للعرب عادات مخثلفة وأنماط حياة متباينة بقدر اختلاف المناطق التي يسكنونها.

فالعرب الذين يعيشون في نوميديا وفي ليبيا يحيون حياة بائسة وهم في فقر شديد.

ولا يختلفون في ذلك عن السكان الأفارقة الذين سبق لنا الكلام عليهم. ولكن يمتازون عنهم بشجاعة كبيرة. ويمارسون تجارة الابل في بلاد السودان ولديهم أعداد كبيرة من الخيول ، تلك الخيول التي نسميها في أوربا الخيل العربية. ويذهب هؤلاء العرب باستمرار لصيد الوعل (١٤٨) ، والحمار الوحشي ، والنعام واللمت (١٤٩) ، والمها (١٥٠) والحيوانات الأخرى.

هذا ويجدر أن نشير إلى أن لدى القسم الأعظم من العرب في نوميديا شعراء مديدون ينظمون قصائد طويلة يتكلمون فيها عن حروبهم وعن قنصهم وعن أمور الحب وذلك مع أناقة وعذوبة كبيرتين وتكون الأبيات مقفاة كأبيات الشعر العامي في إيطاليا. وهؤلاء الناس كرماء ولكن ليس لديهم أي مورد لدعم شهرتهم وممارسة الكرم ، لأنهم يفتقرون إلى كل شىء في هذه الصحارى. ولباسهم مثل النوميديين. ونساؤهم وحدهن هن اللواتي يتميزن ببعض الاختلافات في اللباس عن النساء النوميديات ، أي البربريات.

وكانت الصحاري التي يسكنها هؤلاء العرب ، في الماضي ، بأيدي أقوام إفريقية ، ولكن حينما نفذت القبائل العربية إلى إفريقيا ، طردت منها النوميديين بقوة السلاح.

__________________

(١٤٨) لم يكن ثمة وعول في إفريقيا ، ويقصد المؤلف بذلك بعض الغزلان الضخمة المسماة ودّان في ليبيا أو غزال داما ـ وفي المناطق الأخرى يكون هذا الحيوان هو التيس الوحشي.

(١٤٩) وهو غزال ضخم يدعى أوريكس في اللغة الفرنسيةoryx

(١٥٠) أو الغزال الأبيض ويسمى أيضا بقر الوحش.

٧١

فاقاموا في الصحاري المجاورة لواحات النخيل ، في حين سكن النوميديون الصحاري المجاورة لبلاد السودان. (١٥١)

أما العرب الذين يسكنون أفريقيا بين جبال الأطلس والبحر المتوسط (١٥٢) فهم أفضل حالا وأكثر غنى من العرب السابقين وخاصة فيما يتعلق بكسائهم ، وبتجهيز خيولهم ، وبرونق خيامهم واتساعها. ولديهم أيضا خيول أكثر جمالا بكثير من خيول سكان الصحراء ، ولكن ليس لها نفس السرعة في العدو. ويحرث هؤلاء العرب أراضيهم ويستمدون منها الكثير من الحب ، ولديهم عدد لا يحصى من الأغنام والأبقار. وهذا هو السبب الذي يجعلهم يعجزون عن الاستقرار في بقعة واحدة ، إذ ليس هناك ما يكفي من الأرض لرعي مثل هذا العدد من الماشية ، غير أنهم مع هذا كرماء. ويخضع بعضهم ، أي أولئك الذين يسكنون مملكة فاس ، للملك ويدفعون له الضريبة. وظل عرب بوادي مراكش وعرب دكّالة بعض الوقت معفين من أي تكليف ، إلى أن احتل البرتغاليون اسفي وآزمور (١٥٣). وعندئذ انقسموا إلى أحزاب ووقعت فتن داخلية ، قام على أثرها ملك فاس (١٥٤) بإفناء أحد الأحزاب في حين قام ملك البرتغال (١٥٥) بتدمير الفريق الآخر. وفضلا عن ذلك فإن المجاعة التي سادت في السنوات الأخيرة في أفريقيا قد أرهقتهم كل الارهاق حتى أصبح هؤلاء الفقراء يهاجرون بمحض إرادتهم إلى البرتغال ويبيعون أنفسهم بيع الرقيق لمن يقدم لهم الطعام. وهكذا لم يبق أي واحد منهم في دكّالة (١٥٦).

__________________

(١٥١) إن تقهقر هؤلاء الصحراويين الملثمين ببطه هو واقع تاريخي : إذ يظن أن بعض القبائل كانت تستوطن شمالي الصحراء الكبرى في القرنين الثاني والثالث الميلادي ، ولكنها تزحزحت عن موطنها بضغط من زنانة البدوية ، وبعد الزحف الهلالي تقهقروا مرة أخرى بسبب التقدم العربي. غير أن هذا التراجع كان مختلفا باختلاف المناطق ، وكان واضحا في الصحراء الكبرى الغربية أكثر من الصحراء الكبرى الوسطى. ويبدو اليوم وذلك على ضوء الرسوم التي عثر عليها في الكهوف ، أن الناطقين بالبربرية بلغوا مالي وضفاف نهر النيجر قبل بضعة قرون من الميلاد. أما نفوذهم إلى غرب الصحراء الكبرى فقد كان متأخرا عن ذلك نسبيا.

(١٥٢) أي كل بلاد البربر أو برباريا بالفرنسية.

(١٥٣) لقد كان احتلال آسفي التي كانت تحت الحماية البرتغالية منذ السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر احتلالا حقيقيا في عام ١٥٠٨ م ، ووقع احتلال أزمور بتاريخ سيتمبر ١٥١٨ م.

(١٥٤) هو أبو عبد الله محمد البرتغالي.

(١٥٥) الملك عما نويل الأول.

(١٥٦) أثبتت وثائق المحفوظات البرتغالية أن الوضع الاقتصادي لم يكن كارثيا إلى هذا الحد في هذا الاقليم ، وكانت الهجرة محدودة بالتأكيد لأن القبائل العربية في ذلك العصر كانت كلها تقريبا في نفس مواقعها في أيامنا الحالية.

٧٢

ولكن العرب الذين يشغلون الصحاري المجاورة لمملكتي تلمسان وتونس يعيشون جميعا حسب أسلوب شيوخهم. ويتلقى كل أمير من أمرائهم معونات هامة من الملك ويوزعها في عشيرته لتحاشى الشقاقات وللحفاظ على السلام وعلى الوحدة. ويجب هؤلاء العرب أن يظهروا بثياب جيدة وبأن تكون خيولهم جيدة التسريج. وخيامهم كبيرة وجميلة. ومن عادتهم أن يقصدوا تونس في كل صيف كي يمتاروا منها. وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) وبعد أن يكونوا قد حصلوا على كل ما هم بحاجة إليه من أقوات وأقمشة وسلاح يعودون أدراجهم إلى الصحراء حيث يمضون الشتاء. وبعدئذ أي في الربيع يتلهون بالصيد بواسطة كلاب وصقور ، ويطاردون في صيدهم كل نوع من الحيوانات أو الطيور البرية. وقد أقمت عندهم عدة مرات وحصلت منهم على الكثير من ألأقمشة واوعية من النحاس ومن النحاس الأصفر (١٥٧). ولكن لا ينبغي الاطمئنان إلى هؤلاء الناس ، لأنهم قد يسلبونك ويقتلونك مطمئنة نفوسهم إلى سلبك وقتلك على الرغم من المبالغة في مجاملتهم لك.

وهم يحبون القريض ويرددون في عربيتهم الدارجة ابياتا انيقة جدا على الرغم من ان لهجتهم قد حرفت عن اصولها. ويحترم الامراء أي شاعر له بعض الشهرة ويمنحونه جوائز جزيلة. ولست قادرا على التعبير عن النقاوة والجمال اللذين يسكبونهما في ابياتهم. وتكتسي نساء هؤلاء الاعراب كساء جميلا للغاية حسب طراز البلاد. وتتألف ثيابهن من قميص اسود عريض الكمّين يضعن فوقه خمارا من نفس اللون او من لون ازرق. ويتغطين بهذا الخمار ويلففن به اجسادهن بصورة تصل معها حافته الى الكتفين من امام ومن خلف ، وهنا يكون مثبتا بدبابيس فضية مصنوعة بشكل فني رفيع. ويضعن في آذانهن اقراطا من فضة على شكل حلقات وخواتم في اصابعهن. ويضعن كذلك في سيقانهن خلاخيل طبقا لعادة الافارقة. ويضعن على وجوههن نقابا هو عبارة عن قطعة قماش صغيرة مثقوبة تجاه العينين. وعندما يظهر امامهن رجل غريب لا يمت لهن بصلة قرابة ، فانهن يسرعن في اخفاء وجوههن بهذا الحجاب ويصمتن. ولكن يرفعن هذا الحجاب عندما يكن مغ از وجهن واقاربهن.

ولما كان العرب ينتجعون من مكان لآخر ، فهم يعمدون الى إركاب نسائهم فوق

__________________

(١٥٧) يمكن الافتراض أن المؤلف يقدم لنا لوحة صغيرة عما لاحظه عند عرب عشرة حكم ، أو الحكم ، أو الحاكم الذين كانوا يقيمون بين سوسه والجم والتي اعتبرها في عداد القبائل التي قدمت مع الزحف الهلالي.

٧٣

نوع من سروج مصنوعة على شكل قفة مغطاة بزرابي بديعة جدا (١٥٨) ، وهذه القفاف صغيرة جدا حتى إنها لا تتسع لأكثر من امرأة واحدة. وعندما ينفرون لحروبهم ينطلقون إليها بصحبة نسائهم كي يستمدوا من وجودهن الشجاعة وحتى يذهب عنهن أكبر قدر من الخوف (١٥٩).

ومن عاداتهن أن تخضب المرأة وجهها وصدرها وذراعها ويديها حتى نهاية الأصابع ، وذلك قبل الذهاب لرؤية زوجها ، لأن في ذلك تعبيرا عن الذوق الرفيع للغاية. وقد انتقلت هذه العادة إلى عرب إفريقيا بعد أن جاءوا ليستوطنوا فيها ولم تكن معروفة لديهم قبل ذلك. ولكن هذه العادة غير مألوفة عند سكان المدن ولا عند وجهاء البربر إذ تحتفظ نساؤهم ببياض وجوههن الطبيعي. ولكن من الصحيح القول أيضا بأن نساءهم تستعملن خضابا مركبا من سخام الدخان لجوز العفص او الزعفران يضعن منه فوق وسط الخد ، ويرسمن به زينة مدورة كالدرهم كما يرسمن به مثلثا فوق الحاجب. أما على الذقن فيرسمن شكلا يماثل ورقة الزيتون. وتعمد بعضهن إلى صبغ الحواجب تماما (١٦٠). ويمدح الشعراء العرب والوجهاء هذا الزي كما نعتبره النسوة نوعا من الأناقة والظرف. ولكنهن لا يحتفظن بهذا الخضاب لأكثر من يومين أو ثلاثة لأنهن لا يستطعن مقابلة الأبوين ما دام على وجوههن. ولكن للزوج وللأبناء الحق في رؤية المرأة في هذه الحالة ، لأنهن يصنعن هذا كي بصبحن أكثر إثارة ، ويتصورن أن هذا الزي يؤدي لزيادة جمالهن بشكل فريد.

العرب الذين يسكنون الصحارى الواقعة بين بلاد البربر ومصر

تبدو حياة هؤلاء العرب بائسة تماما لأن الأصقاع التي يسكنونها عقيمة وكالحة.

__________________

(١٥٨) وهو الهودج.

(١٥٩) تدعى هذه القفة باصور وهي لا تزال دارجة الاستعمال ومتنوعة الشكل والأبعاد باختلاف القبائل ، ولمعظمها مقعدان ، وتعنى كلمة باصور عند قبائل المغرب ما يفيد الرصد من بعيد ، أو مرصد. وفي أيام الاحتفالات الحالية التي تجري في جنوب الجزائر ، والتي فيها تمثيل للمعارك الحربية بين الاعراب ، يحارب الرجال بعضهم بعضا وهم فوق خيولهم ، في حين تظل النساء معتكفات ضمن البواصير فوق جمال مزدانة بأبهة ، وهن يشهدن الهجمات الحماسية التي يقوم بها المحاربون ويطلقن زغاريد حادة.

(١٦٠) «وهي عادة كانت مألوفة حتى حوالي ثلاثين عاما لدى نساء بلاد الشام ، وهذا الخضاب المصنوع من دخان العفص كان يسمى الخطاط ...» (المترجم)

٧٤

ولديهم أغنام وإبل ولكنها لا تنتج سوى القليل بسبب ضآلة كمية المرعى. ورغم امتداد مجال تجوالهم فليس فيه أية أرض صالحة للزراعة. ومع ذلك نجد في هذه الصحارى بعض القرى الصغيرة التي تشابه المداشر (١٦١) حيث تقوم بعض حدائق النخيل الضئيلة جدا ، وهنا يزرع قليل من القمح بل إن ما يزرع منه ليس شيئا مذكورا ، ومن أجل ذلك يكون سكان هذه المداشر مرهقين بالهموم والمشاكل الناجمة عن هيمنة العرب عليهم. وكثيرا ما يأتي هؤلاء لمقايضة إبلهم وأغنامهم بالقمح ، غير أن كمية القمح ضئيلة جدا بحيث لا تكفي لعدد ضخم كهؤلاء. وينجم عن ذلك ان نجد في أغلب الأوقات ، كثيرا من أبناء هؤلاء العرب عند الصقليين (١٦٢) وقد تركوهم ضمانة ورهائن مقابل القمح الذي اقترضه هؤلاء الفقراء. وإذا عجزوا عن تسديد المبلغ المطلوب في نهاية المدة المحددة في السوق ، يحتفظ الدائنون بالأولاد عبيدا لهم. وإذا رغب آباؤهم بافتدائهم فعليهم ان يدفعوا ثلاثة أمثال مبلغ الدين ، ولهذا يضطرون غالبا الى التنازل عنهم ، ويؤدي هذا الى أن هؤلاء العرب قد أصبحوا من أكثر القتلة في العالم شراسة. وكل غريب يقع في أيديهم يتعرض أولا لتجريده من كل ما يمكن ان يكون عليه ثم يباع الى الصقليين. ولم تعد أية قافلة تجرؤ على المرور من الساحل الذي يحاذي الصحراء التي يعيش فيها هؤلاء منذ مائة عام. وعندما يكون على قافلة ان تجتاز البلاد فعليها ان تمر من الداخل على مسافة ٥٠٠ ميل تقريبا من البحر (١٦٣)

وللتخلص من مخاطر هذا اللقاء ، فقد واكبت كل ذلك الساحل عن طريق البحر مع ثلاثة مراكب تجارية. (١٦٤) وعندما رآنا العرب تراكضوا نحو المرسي بدعوى انهم يرغبون عقد صفقات معنا يمكن ان تكون مفيدة لنا ولكن سوء ظننا بهم لم يشجع أي إنسان منا على النزول الى البر قبل ان يضعوا بعض أبنائهم بين أيدينا ضمانا. وبعد حصولنا على ذلك اشترينا كمية صغيرة من خرافهم ومن سمنهم وأقلعنا بسرعة ، خشية ان يدركنا قراصنة صقلية او جزيرة رودس.

__________________

(١٦١) جمع مدشر وهو عبارة عن تجمع يضم بضعة بيوت للفلاحين لا تتجاوز العشرة. وليس فيها مسجد أو سوق. وهي كلمة مغربية استخدمها مؤرخو المغرب ومنهم ابن خلدون

(١٦٢) أي نصارى صقلية.

(١٦٣) أي من الطريق الذي يمتد من خليج سيرت الكبير الى مصر عن طريق واحات أوجلة وجغبوب وسيوه ، على مسافة ٤٠٠ كم من الساحل. وإلا فعن طريق التشاد ودارفور.

(١٦٤) ربما كانت هذه هي آخر مرة عاد فيها المؤلف من مصر.

٧٥

الشاويّة أي أرباب الشاة

سكان إفريقيا الذين يعيشون على النمط العربي

هناك بضع عشائر إفريقية تهتم بتربية الأغنام والبقر وهم لا يقومون بأي عمل آخر بقية اليوم. ويسكن معظم هؤلاء عند حضيض جبال الاطلس وفي الجبال نفسها. ويكون هؤلاء دوما ، وأينما كانوا ، في طاعة الملك أو العرب. واستثنى منهم أولئك الذين يعيشون في نامسنة الذين هم أحرار وأقوياء جدا ، (١٦٥) ويتكلم هؤلاء اللغة الافريقية ، (١٦٦) ويتكلم بعضهم العربية بسبب جوار العرب وعلاقاتهم بهم : تلك هي حالة الذين يسكنون أرياف لوربس (١٦٧) في جوار مدينة تونس. وتوجد مجموعة أخرى منهم تشغل منطقة نحوم تونس مع بلاد التمور (١٦٨) وبلغت الجرأة بهؤلاء أن يتصدوا لمحاربة ملك تونس ، كما حدث منذ عدة أعوام. ففي هذه الفترة ذهب ابن ملك تونس من قسنطينة لتحصيل الضريبة منهم في مضاربهم (١٦٩) فتعرض للهجوم من أميرهم (١٧٠) الذي اعترض ابن الملك مع ألفي فارس. وقد انكسرت قوات ابن الملك ، وقتل ونهبت القافلة. وقد حدث هذا في العام ٩١٥ للهجرة. (١٧١) وعلى أثر اندحار الجيش الملكي أخذ اسم هذه العشيرة في الصعود واكتسبت شهرة كبيرة بين الجميع. واختفى كثير من العرب الذين كانوا في خدمة الملك التونسي إذا نسحبوا من المناطق الخاضعة للملك وجاءوا ليسكنوا الى جانب المنتصرين ، حتى لقد أصبح هذا الأمير (١٧٢) اشهر زعماء إفريقيا.

ديانات قدامى الأفارقة

كان الأفارقة في قديم الزمان مجوسا على غرار الفرس الذين يعبدون الشمس

__________________

(١٦٥) وجاء من اسم الشاوية ، أي رعاة الشاة ، أو الشوايا في سورية ، اسم إقليم الشاوية في المملكة المغربية والذي كان يدعى في الماضي تامسنه. أي السهل الواقع شمال نهر أم الربيع والى الجنوب الشرقي من مدينة الدار البيضاء (المترجم).

(١٦٦) أي البربرية.

(١٦٧) وربما كانت مدينة قربص.

(١٦٨) شاوية الأوراس وجنوب شرق ولاية قسنطينة.

(١٦٩) كان حاكم قسنطينة الناصر ابن سلطان تونس أبو عبد الله محمد.

(١٧٠) النصر.

(١٧١) أبين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٨ / ٤ / ١٥١٠ م

(١٧٢) أي النصر نفسه.

٧٦

والنار. وكان لديهم معابد مزدانة تكريما لهذه وتلك. وكانوا يوقدون في هذه المعابد على الدوام نارا تحرس ليلا ونهارا كيلا تخمد كما كانت العادة لدى الرومان الذين يصنعون نفس الشيء في هيكل الآلهة فستا (١٧٣) وكذلك يبدو من المؤكد ان أفارقة نوميديا وليبيا كانوا يعبدون الكواكب السيارة ، وكانوا يقدمون لها القرابين. وكان بعض الأفارقة السود يعبدون جويجيمو ، ويعني في لسانهم رب السماء (١٧٤). ولقد سادت لديهم هذه الاتجاهات الدينية بدون أن يأخذوها عن نبي وعن عالم. وبعد مضى بعض الوقت اعتنقوا الديانة اليهودية ، التي ظلوا متمسكين بها سنين عديدة إلى أن أصبحت بعض الممالك نصرانية. (١٧٥) وظلوا أوفياء للإيمان المسيحي الى أن حدث تمرد من أتباع نحلة اسلامية عام ٢٦٨ للهجرة وحينئذ قدم بعض أتباع الشريعة المحمدية ونشروا الدعوة في هذه المناطق واستطاعوا بالحكمة والموعظة الحسنة كسب قلوب هؤلاء الأفارقة لدينهم ، الى أن أصبحت الممالك الزنجية المتاخمة إلى ليبيا مسلمة (١٧٦). غير اننا لا نزال نجد بضع ممالك ظل السود فيها ولا يزالون نصارى (١٧٧) ، واليهود وحدهم الذين تم القضاء عليهم على أيدي النصارى والأفارقة (١٧٨) ، أما بقية الزنوج الذين يسكنون على حافة المحيط فلا يزالون وثنيين يعبدون الاصنام وقد رآهم العديدون من البرتغاليين ، وكان لهم مع هؤلاء بعض العلاقات التجارية.

وقد ظل سكان بلاد البربر وثنيين لمدة طويلة ، وأصبحوا نصارى قبل مائتين

__________________

(١٧٣) وكلامه هنا موضع شك كبير لأن الحسن (يقصد المؤلف) يطبق على أفريقيا الشمالية ما كان يعرفه عن ديانة الفرس.

(١٧٤) من المحتمل ان يكون هذا الاسم «ويغيما» ، وهو اسم مجهول لنا.

(١٧٥) لقد كانت بعض جماعات البربر متهودة ، ولكن تنصر البلاد كان سطحيا فيما يظهر فيما عدا العنصر المتأثر بالرومان ، ولم يكتب للجماعات النصرانية في افريقيا الشمالية أن تعيش طويلا بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام.

(١٧٦) يطابق التاريخ المذكور أي ٢٦٨ ه‍ الفترة الواقعة بين ١ / ٨ / ٨٨١ م و ٢٠ / ٧ / ٨٨٢ م. وفي هذه الفترة كانت دعوة الشيعة ، من أنصار الخليفة علي وأحفاده ، ومن خصوم أهل السنة ، دعوة نشيطة جدا. وكان أحد فروع هذا المذهب ، وهو المذهب الفاطمي ، وقد ابتعث الى كل أرجاء العالم الاسلامي ، دعاة فقهاء ، وقد تمكن الداعي ابو عبد الله أن يكسب لجانبه قبيلة كتامة التي كانت تسكن بجوار مدينة ستيف فدخلت في هذا المذهب ، وفتح افريقية وهيأ لظهور الخلافة الفاطمية في القيروان ، وبذلك أصبح شهيرا. ويظهر ان المؤلف قد نسب لهؤلاء الدعاة دخول الأقوام السود في الإسلام والواقع أن اعتناق هؤلاء الدين الحنيف كان على أيدي تجار قادمين من الشمال ، في المرحلة التي أخذت التجارة تنهض في أثنائها ببط في بلادهم.

(١٧٧) وفي ذلك اشارة الى النوبة حيث ظلت مملكة علوة النصرانية قائمة حتى عام ١٥٠٤ م والى الحبشة التي كانت دائما نصرانية.

(١٧٨) أي مسلمو المغرب ولكن هذا لم يمنع من أن تظل في المغرب أعداد كبيرة منهم.

٧٧

وخمسين عاما من ولادة الرسول (١٧٩) وذلك لأن المنطقة التي تقع فيها تونس وطرابلس كانت واقعة تحت هيمة أمراء بوليا وصقلية ، في حين كان ساحل قيصرية وموريتانيا تحت سيطرة القوط (١٨٠) ، وفي ذلك العصر أيضا هرب الكثير من الأمراء النصارى من جبروت القوط ، وهجروا مناطقهم الوادعة وجاءوا ليسكنوا ضواحي قرطاج حيث اتخذوا على أثر ذلك ملكيات لانفسهم. ولكن يجب ان نعرف ان هؤلاء النصارى اعتنقوا مذهب الأريوسيين الذين كان ينتسب اليهم القديس أو غسطين (١٨١). وعندما جاء العرب لفتح بلاد البربر ، وجدوا النصارى قد أصبحوا سادة وأمراء هذه المناطق. كما كان ينشب بينهم الكثير من الحروب ، ولكن أراد الله أن يمنح النصر للعرب. وهكذا هرب بعض الآريوسيين الى ايطاليا وبعضهم الى اسبانيا. (١٨٢)

وبعد مائتي عام من وفاة محمد (١٨٣) كانت بلاد البربر قد أصبحت جميعا تدين بالإسلام صحيح ان أهل هذه البلاد قد ثاروا عدة مرات وتنكروا لدين محمد صلّى الله عليه وسلّم وقتلو رجال دينهم وحكامهم (١٨٤). ولكن الخلفاء كانوا يرسلون جيوشا ضد البربر في كل مرة تبلغ فيها مسامعهم انباء هذه الانتفاضات ، واستمر هذا الامر حتى وصول الشيعة الذين هربوا من الخلفاء. وعندئذ فقط تمكنت الديانة الاسلامية من ترسيخ جذورها نهائيا في

__________________

(١٧٩) من المسلم به على العموم أن الرسول ولد بتاريخ ٢٠ نيسان (إبريل) ٥٧١ حسب التاريخ المسيحي. وقد ظهرت كنيسة المغرب النصرانية في عصر شهداء سيللي ومادور سنة ١٨٠ م. وفي سنة ١٩٧ م استطاع أغربينوس ، مطران قرطاج ان يدعو لمجمع ضم سبعين مطرانا من نوميديا ومن ولاية الشمال التونسي الرومانية.

(١٨٠) هذه المعطيات التاريخية غير صحيحة ، ولا يزال تاريخ تنصر البربر غامضا جدا ، ومن المفروض أن الدعوة للنصرانية كانت تجري في الكنائس بين الجماعات اليهودية التي كانت كبيرة العدد جدا حينذاك. ويقصد الحسن بالقوط الفندال.

(١٨١) وهنا ارتكب المؤلف خطأ تاريخيا شنيعا ، ويرجع ذلك الى أنه كان حديث عهد باعتناق النصرانية ، وذلك ان القديس أو غسطين الفظ ـ على عكس ما زعمه المؤلف ـ كان من ألد خصوم المذهب الأريوسي.

(١٨٢) والأريوسيون هم من أتباع آريوس الذي أنكر ألوهية المسيح ، وقد ظهر المذهب بين عام ٣١٣ و ٣٢٣ م على يد آريوس وهو كاهن كان ملحقا بكنيسة الاسكندرية وعاضده عدة أباطرة من الرومان ، وبضعة ملوك من البرابرة وزعرع سلطة الكثلكة فترة من الزمن. وقد حكم عليه في مجمع تيقية (ازنيك في تركيا) عام ٣٢٥ م ... (المترجم).

(١٨٣) كان ذلك بتاريخ ٧ أو ٨ حزيران (يونيه) ٦٣٢ م ، ويشاء القدر ان تحدث معركة بواتييه عام ٧٣٢ م ، أي بعد قرن كامل من انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى (المترجم).

(١٨٤) لا يجهل المؤلف ابدا بأنه لا يوجد رجال دين متخصصون في الدين الإسلامي ، بل هناك من عامة الناس أناس تفقهوا في الدين وعهد اليهم بوظائف العبادة. ويضم ذلك مختلف الموظفين الدينيين من أئمة وخطباء ومؤذنين وقضاة ورجال الإفتاء.

٧٨

هذه البلاد. (١٨٥)

غير أنه كانت هناك بين البربر ولا زالت بدع جديدة ومذاهب شتى. وآمل ان أتمكن بعون الله عن معالجة كاملة لقضية الدين الإسلامي في كتاب آخر عند فراغي من هذا ، وذلك فيما يتعلق بالنقاط الجوهرية والاختلافات التي تلاحظ في مجال هذا الدين بين مسلمي افريقيا ومسلمي آسيا. (١٨٦)

الكتابة التي يستعملها الأفارقة

يعتقد المؤرخون العرب بصورة جازمة أن الأفارقة لم يكن عندهم اية كتابة سوى الحروف اللاتينية. ويقولون ان العرب عندما فتحوا افريقيا لم يعثروا فيها على كتابة بغير اللاتينية. وهم يقرون تماما بأن للأفارقة لغة خاصة بهم ، ولكنهم يلاحظون انهم يستخدمون الحروف اللاتينية على العموم ، تماما كما يفعل الالمان في أوربا فكل الكتب التي بحوزة العرب عن افريقيا مترجمة عن اللغة اللاتينية. وهي مؤلفات قديمة كتبت طبعا في عصر الآريوسيين وغيرهم من قبل. وأسماء مؤلفيها معروفة ولكنني لا أذكرهم الآن. وأعتقد ان هذه المؤلفات كانت طويلة جدا ، لأن من عادة مترجميها القول : «ان تلك القضية معروضة في ستين كتابا». والحقيقة ان العرب لم يترجموا هذه الكتب حسب

__________________

(١٨٥) يظهران عرب الفتح لم يرغبوا في أكثر من دخول الزعماء المحليين في الإسلام ، فعلى الرغم من الدعوة الإسلامية ، لم يكن من مصلحتهم أن يتلاشى النصارى واليهود ، وهم الذين يدفعون الضرائب ويزاولون المهن. إذن كانت الرافضة المشارقة ، وقد وصل هؤلاء وهم مفعمون بإيمانهم الجديد ، وراغبون في الحصول على قوى دفاعية هجومية فقاموا بدعاية مكثفة. وكان اول من وصل على وجه الدقة ، أي اللاجئون الى المغرب بسبب الاضطهاد وهم الذين ادخلوا جماهير البربر الإسلام ، الى جنوب بلاد البربر ، الخوارج حوالي القرن السابع الميلادي ، ومنذ عام ٧٤٠ م كان لهم أتباع امتدوا حتى طنجة ، كما كان منهم بين جيوش المسلمين في اسبانيا. وفي ٧٥٧ م أسسوا الإمارة الصفرية في سجلماسة ، وفي ٧٦١ م أسسوا الخلافة الأباضية الوهبية في تاهرت. ويعتقد عموما أن البربر الذين اصبحوا امام الخيار بين الإسلام السني والعقيدة الخارجية التي جاء بها اللاجئون السياسيون ، رجحوا الأخيرة ، لأنها اكثر انسجاما مع مزاجهم الديمقراطي والعصيان. وهذا الخيار لم يعرض عليهم إذ كانت الدعاية الإسلامية الخوارجية اكثر نشاطا واتساعا بما لا يقاس من الدعوة السنية ، ولا سيما في الجنوب. وإذا كان اليهود قد ناهضوا الدعوة بنوعيها فإن النصارى لم يكونوا يشكلون أكثر من جماعات محلية راحت تتفتت وتتلاشى تدريجيا. وقد خمد آخرها حوالي القرن الحادي عشر أو الثاني عشر ، ونالت الضربة القاضية على يد حركة المرابطين الإصلاحية.

(١٨٦) وسنرى فيما بعد ان المؤلف قد وضع هذا المشروع قيد التنفيذ في نفس الوقت الذي كان يدبج فيه «الوصف» الذي بين ايدينا.

٧٩

النسقى الذي تركه عليه مؤلفوها. إذ رتبوا لوحة موجزة عن الملوك وصنفوا كتبهم استنادا اليها ووزعوا الحقب المتعلقة بهؤلاء الملوك والأمراء ، وذلك بالتوافق مع علم تأريخ ملوك الفرس ، أو آشور ، أو الكلدان ، أو اسرائيل.

ففي الزمن الذي كان يحكم فيه الرافضة افريقيا سمعت من اولئك الذين هربوا من خلفاء بغداد ان هؤلاء الخلفاء كانوا يحرقون كتب الأفارقة العلمية والتاريخية لظنهم ان هذه المؤلفات من شأنها ان تثبت الافارقة في صلفهم القديم ، وانها قد تدفعهم للتمرد على الاسلام والتنكر لمعتقداته (١٨٧) ويقول بعض مؤرخينا الآخرين أنه كان للأفارقة لغة خاصة بهم مكتوبة ولكنهم اضاعوا هذه الكتابة في أعقاب الحكم الروماني لبلاد البربر ، وبسبب تطاول الأمد لهيمنة النصارى الذين فروا الى ايطاليا ، ثم القوط من بعدهم (١٨٨) وتضطر الرعايا الى اتباع عادات سادتهم اذا ما أرادوا كسب رضاهم. وهذا هو ما وقع للفرس تحت الحكم العربي ، فهؤلاء ايضا أضاعوا كتابتهم وأحرقت كل كتبهم بأمر من الخلفاء المسلمين ، الذين حسبوا انه ما دامت في أيدي الفرس كتب عن العلوم الطبيعية ، والقانون ، والديانة الوثنية ، فلن يستطيعوا ان يصبحوا مسلمين راشدين. فأحرقوا كل هذه الكتب وحظروا ممارسة هذه العلوم (*) ويقال ان الرومان والقوط فعلوا نفس الشيء عندما حكموا بلاد البربر.

ويبدو أن البرهان التالي كاف : ففي كل بلاد البربر ، سواء كانت من مدن الساحل أو مدن الداخل ، وأقصد بذلك المدن التي شيدت في العصر القديم ، لا نجد كتابة يمكن رؤيتها فوق القبور أو فوق جدران عمارة ما بغير الحروف اللاتينية ، وهذا بدون استثناء. ولا أتصور من جهة اخرى ان الأفارقة استخدموا هذه الحروف وانهم استعانوا بها لكتابة لغتهم الخاصة. وليس ثم شك في أن الرومان عندما انتزعوا هذه البقاع من اعدائهم قد

__________________

(١٨٧) من المحتمل أن أوامر كهذه قد صدرت في القرن الثامن الميلادي عن ملوك من الخوارج وفي القرن التاسع الميلادي من قبل الامراء العلويين ولكن التعصب ولا سيما الجهل والتهاون الشعبي كل ذلك يكفي لتفسير اختفاء مؤلفات القذامى وهو أمر حدث مثله في أوربا ايضا لا سيما في الأندلس بعد خروج المسلمين.

(١٨٨) ويغلب على الظن أن هذه الكتابة المعينة هي الكتابة الليبية البربرية التي تثبتت حتى أيامنا لدى الطوارق على شكلها الحديث وهي المسماة التفيناغ. وعلى كل حال فمن المشكوك فيه ان تكون قد ظهرت مؤلفات هامة مكتوبة بحروف ليبية بربرية ، وربما المقصود بذلك الكتابة البونية (الفينيقية الافريقية) التي كانت منتشرة حول قرطاج ، والتي كان لها انتشار كبير في أفريقيا الشمالية ، والتي ظلت دارجة مدة طويلة بعد خراب المدينة المذكورة.

(*) هذه فرية وضيعة على الإسلام والمسلمين. وقد افترى مثلها فيما يتعلق بحريق مكتبة الاسكندرية (المراجع).

٨٠