وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

القبض عليهم وإرسالهم للبيع في القاهرة. ولجأ صلاح الدين الى اخراجهم من الديانة النصرانية ، والى تعليمهم مهنة استعمال السلاح واللغة التركية التي كانت لغتهم الخاصة (١٣٣). وزادت أهمية وعدد هؤلاء الرقيق حتى لقد ظهر فيهم جنود جيدون وضباط ذو وخبرة وموظفون ممتازون لكل المملكة (١٣٤). وبعد وفاة صلاح الدين ظلت الدولة بيد أسرته (١٣٥). في أثناء مدة مائة وخمسين عاما (١٣٦) وحافظ خلفاؤه من بعده على عادة شراء الرقيق.

وعلى أثر سقوط أسرة صلاح الدين ، اختار هؤلاء العبيد أميرا عليهم وسلطانا مملوكا عالى الهمة اسمه بيبرس (١٣٧). وابتداء من تلك الفترة ظلت هذه الطريقة هي الدارجة ، حتى إن السلطان كان لا يستطيع بلوغ تلك المرتبة ما لم يكن مملوكا ، وكان في البداية نصرانيا ، ثم اعتنق الإسلام ، ولم تسبق له معرفة اللغة الشركسية واللغة التركية. وقد أرسل بضعه سلاطين أبناءهم الى قفقاسيا. حيث أمضوا طفولتهم كي يتعلموا هناك اللغة التركية ، لكي ينشأوا على العادات الخشنة كي يصبحوا مؤهلين لكي يصبحوا سلاطين (١٣٨) فيما بعد ، ولكن وسيلتهم هذه ظلت بلا نتيجة لان المماليك لم يقبلوهم مطلقا (١٣٩).

__________________

(١٣٣) الواقع كان صلاح الدين كردي الاصل ، وليس تركيا ، وكانت ثقافته عربية.

(١٣٤) لقد كان التنظيم العسكري والمدني المملوكي موجودا قبل صلاح الدين بكثير ولكن هذا لم يعمل اكثر من إتقانه واستعماله لأقصى حد. والواقع التاريخي المدهش حقا هو قوة هذا التنظيم الذي استمر يقاوم ستة قرون ، وكان ينتج نخبة من الرجال عرفت كيف تحكم بلدا واسعا اوصلت عاصمته لدرجة عالية من الازدهار ، وهي نتيجة باهرة بالنسبة لفرق أجنبية حقيقية تم جمع أفرادها بصورة فريدة غريبة ، وكونت فئة متعملة وممتازة.

(١٣٥) أى الايوبيين.

(١٣٦) توفي صلاح الدين في ليلة ٣ الى ٤ آذار (مارس) ١١٩٣ م / ٢ صفر ٤٨٦ ه‍ وكان توارن شا آخر ملك أيوبي هو الذي اغتيل على يد قائد مملوكي هو بيبرس بتاريخ ٣٠ نيسان (إبريل) ١٢٥٠ م / ٢٦ محرم ٦٤٨ ه‍ ، أي بعد مائة سنة واثنين وستين عاما.

(١٣٧) هذا غير صحيح لأن القائد المملوكي الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري لم يستلم السلطة إلا بعد ان قتل بيده السلطان المملوكي مظفر سيف الدين بتاريخ ٢٢ تشرين الاول (اكتوبر) ١٢٦٠ م.

(١٣٨) «كانت هذه الطريقة معروفة عند الخلفاء الامويين والعباسيين ، فقد كانوا يرسلون أبناءهم للبادية كسبا للفصاحة في اللسان والتعود على شظف العيش والخشونة والاقتراب من الفطرة. ويقول أحد العلماء الجغرافيين الفرنسيين : تولد الشعوب في الريف وتحتضر في المدن. فهل هناك علاقة بين الحضارة والاحتضار؟» (المترجم)

(١٣٩) الواقع كان هناك عدة سلاطين متوارثين ، ولعبت القرابة أحيانا دورا لا يستهان به كما لدى المماليك البحرية.

٦٠١

ذاك هو ذكر وقائع الأسرة المملوكية وامرائها الملقبين بالسلاطين ، وذلك حتى العصر الحالي.

* * *

الداوادار (١٤٠). كانت هذه ثاني رتبة بعد رتبة السلطان ، الذي كان يعطي صاحب هذا المنصب سلطة لا تكاد تقل عنه للقيادة ، وللاجابة على المراسلات ، وتعيين الموظفين ، وتسريحهم ، وتسوية كل القضايا ، وكان للداوادار بلاط لا يختلف كثيرا عن بلاط السلطان.

الامير الكبير او كبير الأمراء : كان هذا ثالث منصب. وكان صاحبه نوعا من قائد عام. فكان ينظم الجيوش ويرسلها ضد العرب والأعداء ، وكان يسمى أمراء الحصون وحكام المدن. وكان يتصرف في أموال الخزينة وينفق منها على كل ما يراه ضروريا.

نائب الشام ـ كان رابع شخصية في الدولة ، وكان يقيم في بلاد الشام كنائب ملك. وكان يحكم هذه الدولة وينفق ريع البلاد كما يروق له. ولكن من الصحيح القول إن القصور والقلاع كانت بأيدي قواد يسميهم السلطان. وكان على هذا الوزير ان يدفع للسلطان بضعة آلاف من الاشرفيات في العام.

أستاذ الدارأ والاستدار ـ خامس شخصية. وكان سيد القصر وكانت مهمته تموين السلطان وأسرته بالأقوات ، والمجوهرات ، وكل الأشياء الضرورية. وكان السلطان يعين عادة لهذه الوظيفة رجلا فاضلا متقدما في السن ، تحترمه جماعته الذين رباهم منذ طفولتهم.

امير الآخور ـ وهو السادس ومهمته توفير الخيول والجمال للبلاط مع تجهيزاتها وأعلافها. وكان يوزعها بين عائلات البلاط حسب وضع كل منهم ومرتبته.

أمير الألف (١٤١) وهو سابع منصب وكان يعهد به لبعض كبار المماليك الذين هم في

__________________

(١٤٠) ضابط المحبرة أو الدواة.

(١٤١) أمير الألف ، وهو من أقدم المناصب في العالم والذي نعثر عليه في الألواح البابلية ، وتعطينا قصيدة رولان ، في الأبيات ٨٥٠ ، ٨٩٤ ، ١٢٦٩ هذه العبارة على شكل «أميرافل» مما يدل على أن هذه التسمية انتقلت الى اللغة الرومانية.

٦٠٢

مرتبة تعادل مرتبة الكولونيل أو العقيد في أوربا. وكان كل منهم زعيما على ألف مملوك (١٤٢). وكان ثم عدة مناصب من هذا النوع وكان لهم صلاحية لشن المعركة وتدريب جيوش الملك(١٤٣).

أمير المائة ـ وهي ثامن وظيفة ويتولاها بعض ذوي المناصب ويقود كل منهم مائة مملوك ، وكانوا يحيطون دوما بالملك في حالة ركوبه وفي حالة أخذ التحية العسكرية (١٤٤).

الخزندار (١٤٥) ـ وهو التاسع بين أصحاب المناصب ، أي أمير الخزينة ، الذي يمسك بحساب ايرادات المملكة. وهو يستلمها ويصرفها لصندوق السلطان. ويعطى أصحاب المصارف المبالغ الضرورية للنفقات ويحتفظ بالباقي في القلعة.

أمير السلاح ـ ويمثل المنصب العاشر ، وهو المسئول عن أسلحة السلطان : يحرسها ويحتفظ بها مخزونة في قاعة كبيرة ويقوم بصقلها وتنظيفها ، ويبدلها حسب الحاجة. ولصيانة هذه الاسلحة يكون تحت تصرفه بضعة مماليك (١٤٦).

تختخانة ـ وهو صاحب المنصب الحادي عشر في الترتيب. ومهمته العناية بكسوات التشريفات ، التي يعهد بها اليه من قبل سيد القصر. ويقوم بتوزيعها حسب أوامر الملك. وكان من رسم السلطان ، بالفعل ، أن يكسو كلا من أولئك الذين كان يعهد إليهم بمنصب عال ، وكانت هذه الثياب من المخمل ، ومن البروكار ، ومن الساتان (١٤٧). ويمشي صاحب هذا المنصب في الشارع مصحوبا دوما بالعديد من الحشم المسلحين.

__________________

(١٤٢) وكانوا مسئولين عن هؤلاء ويحققون احتياجاتهم حسب كيفيات محددة.

(١٤٣) أي فيما عدا الألف مملوكي ، فقد كانوا يستطيعون ان يضعوا تحت امرته قوات أخرى.

(١٤٤) يستطيع أمير المائة ان يكون مقدما ، أي على ألف.

(١٤٥) ضابط الخزينة أو بيت المال.

(١٤٦) السلجدار ، عند استيلاء الخليفة الموحدي يعقوب المنصور على قفصة ، سنة ١١٨٧ م ، كان فيها حاكم اسمه ابراهيم بن قرة تيكين ودافع عنها ، وكان يشغل وظيفة سلحدار عند صلاح الدين الايوبي.

(١٤٧) لقد وقع المؤلف هنا في التباس ، لان تختحانة تعني المكان الذي كانت تحفظ فيه الاقمشة المعدة لكسوة السلطان والحجارة الكريمة ، والسيوف والأشياء الاخرى التي من نفس النوع ، وحيث كانت تغسل ثيابه. وكان رئيس هذه المصلحة يحمل لقب تختدار. وكان الملوك المسلمون يوزعون ثيابا تشريفية ، والمعروف انهم خلعوها والتي كانت تسمى خلعة ، وجمعها خلع ، ولكن هذه الخدمة التوزيعية كانت متميزة عن وظيفة التختدار.

٦٠٣

وكان في البلاط وظائف أخرى كوظيفة الشرابدار. وهذا يهتم بمشروبات السلطان فكان يحتفظ بأنواع لذيذة من المياه المحلاة وبأخرى من المياه المركبة.

وهناك الفراشون ، اي مختلف الحجّاب ، ومهتمهم تزيين شقق السلطان بالبسط من الساتان وبالزاربي وكذلك يهتمون بالمصابيح وبمشاعل الشمع الذي يمزج بالعنبر ، لكي تقوم في حالة إشعالها بتنوير الغرف وبتعطيرها ، وكان يوجد أيضا «شبابا طية» أي الحشم المسلح (١٤٨).

وهناك آخرون يدعون تبردارية. وهم الرماحة الذين يقفون بجانب السلطان عند ما يركب الحصان أو عند ما يستقبل (١٤٩) ، وهناك العدّاوية الذين يسبقون موكب السلطان عند ما يكون في البرية أو في رحلة. ومن بين هؤلاء ينتقى الجلاد عند ما تشغر وظيفته. وفي كل مرة يمارس فيها الجلاد وظيفته على مجرم ما ، فان أحد هؤلاء يساعده كي يتعلم المهنة ، ولا سيما لسلخ الحكومين وهم أحياء ، أو لممارسة التعذيب لأنتزاع الاعترافات (١٥٠). وهناك أيضا السعاة الذين كانوا ينقلون رسائل السلطان الى بلاد الشام والذين كانوا يقطعون ستين ميلا باليوم سيرا على الأقدام (١٥١) لأنه لا يوجد جبل ولا أراض وحلية بين مصر وبر الشام. غير أن أولئك الذين يحملون الرسائل ذات الأهمية القصوى كانوا يمتطون الخيل (١٥٢).

__________________

(١٤٨) وربما كانت محرفة عن شبط؟ اي ارتبط بشيء ما ، فالحشم المسلح كانوا يرتبطون من حيث المبدأ بمخزن عدة الخيل.

(١٤٩) وهنا يقع المؤلف في التباس ، فالتبردية او التبردار ، اي المسلحون بالبلطة ، من كلمة تبار الفارسية ، وكانوا يمشون امام السلطان ، مع صلاحية قتل أي إنسان يحاول الاقتراب منه.

(١٥٠) لم يكن التعرف على لقب هؤلاء الاشخاص العاملين في الشرطة الملكية ، ترى هل يمكن قراءته الداوية ، أى الذين يأتون ليلا ، كنوع من حراسة الليل في موكب السلطان.

(١٥١) أو ٩٦ كم ، وقد تعرفنا شخصيا على الركاس الذي ظل يقطع لمدة خمسة عشر عاما ، في عام ١٩٠٧ ، في خدمة البريد المغربي بين الدار البيضاء والرباط ، وكان يقطع في كل يوم مسافة ٩٢ كم وهي المسافة الفاصلة بين المدينتين.

(١٥٢) كان ساعي البريد الذي يركب الجمل العادي يسمى النجاب ، اما الساعي على الهجن او ابل السباق فيسمى الهجان.

٦٠٤

عسكر السّلطان

كانت عساكر السلطان تقسم أربعة أصناف.

الأولى وتضم الخساكية (١٥٣) اي الفرسان. وكانوا عبارة عن نخبة في مهنة السلاح ، وكان السلطان يختار من بينهم قواده وولاته في المدن ، وكان ينال البعض منهم راتبا نقديا من الخدمة الملكية ، بينما كان البعض الآخر يقبض عوائد القرى والقصور (١٥٤).

أما العسكر من الصنف الثاني فكانوا يسمون السيفية : وكانوا مشاة لا سلاح لهم غير السيف. وكان راتبهم يأتي أيضا من ميزانية السلطان (١٥٥).

وكانت الفئة الثالثة تدعى القرانصة ، أي الذين ينتظرون. وكان هؤلاء فضلا عن كونهم من الجيش ذي الراتب ، كانوا أيضا معفين من أية ضرائب أخرى. فعندما كان يموت مملوك ذو مرتب ، كان أحد هؤلاء يعيّن في مكانه (١٥٦) وكان هناك جنود آخرون يدعون الجلب (١٥٧). وكان هؤلاء عبارة عن مماليك انخرطوا حديثا في سلك الجندية من الذين لا يعرفون التركية ولا العربية ، ولم يقدموا بعد ما يدل على أن لهم مكانة يعتدبها.

__________________

(١٥٣) ومفردها خسّاكي.

(١٥٤) كان هؤلاء الخساكية في الواقع من المماليك الذين يثق بهم السلطان ، فكانوا في صحبته عند ما يكون بلا عمل ، وكان يعهد اليهم بالقضايا الشخصية.

(١٥٥) وهم مماليك السلطان السابق الذين ورثهم السلطان الجديد ، لأن المماليك لم يتخلصوا ابدا من كونهم عبيدا.

(١٥٦) لم يتوضح تركيب تنظيم الجيش المملوكي في هذا النص ، ولكن المماليك القرانصة ، او القرناصية ، وهي كلمة أجنبية الأصل كان من المفروض أن يكونوا من قدامى المحاربين ، في حين يعتبرهم المؤلف من الجند في مرحلة التمرين.

«وفي حلب مدرسة قديمة تدعى القرناصية وتعود للعهد المملوكي» (المترجم).

(١٥٧) الجلب ، عبارة تنطبق على الرقيق الدين جلبوا من عهد قريب. «وكلمة جلب تعني في بلاد الشام غير محلى ، أو مستورد» (المترجم).

٦٠٥

الموظفون المعيّنون في الإدارة العامة.

النادر الخاص (١٥٨) ـ وهو نوع من كامر لنغ (١٥٩) كانت مهمته الإشراف على مكوس وضرائب الدخولية في الدولة. وكان يدفع عوائدها للخازن. وكان يمارس بشخصه في القاهرة وظيفة مدير المكوس. وهذا ما كان يعود عليه بمبلغ يقارب مائة الف أشرفي. ولا يستطيع إنسان أن يمارس هذه الوظيفة بدون أن يدفع سلفا مبلغ مائة ألف أشرفي للسلطان ، واذا دفع هذا المبلغ أمكن ان يتسلم هذا المنصب في مدة ستة شهور.

كاتب السر (١٦٠) ـ وكان هذا أمين السر ، وتتمثل وظائفه العادية في إملاء الرسائل والوجيزات (١٦١) والإجابة باسم السلطان ، وكان بجانب ذلك يمسك بكشف خاص عن تعداد الأرض المزروعة في مصر. ويستلم شخصيا عوائد قسم من هذه الأراضي التي كان يملكها إقطاعا له.

الموقّع (١٦٢) ـ وكان سكرتيرا ثانيا ، من مرتبة أدنى من الأول ، ولكنه أكثر اتصالا وثقة لدى السلطان وكانت مهتمه استلام الوجيزات المكتوبة بيد الاول لملاحظة ما إذا كانت مطابقة لتعليمات السلطان ، ثم يسجل في المجال الأبيض الذي تركه الخطاط لهذا الغرض اسم السلطان. ولكن كان يعمل لدى السكرتير الاول عدة مختزلين معتادين على كتابة هذه الوثائق حتى إنه ليكون من النادر ان يجد الموقع فيها شيئا يمكن طمسه نظرا لشدة تمرس هؤلاء المختزلين بعملهم.

المحتسب (١٦٣) ـ وكان هذا الموظف عبارة عن مشرف على شئون السوق. فكان يراقب أسعار بيع القمح وكل السلع الغذائية ، التي كانت ترتفع وتنخفض حسب عدد المراكب القادمة من الصعيد ومن الريف وكذلك حسب فيضان النيل. وكان يفرض

__________________

(١٥٨) المفتش الخاص.

(١٥٩) موظف في البلاط البابوي في ذلك العصر ، ومكلف على وجه الدقة بالقضايا الإدارية والشئون المالية.

(١٦٠) وهو يقابل في أيامنا السكرتير او أمين السر.

(١٦١) «كان المؤلف يستخدم عبارات الإدارة البابوية لأنه كان يعيش في روما ، والوجيزة هي الرسالة القصيرة المكتوبة بيد البابا شخصيا ومختومة بالشمع الأحمر» (المترجم)

(١٦٢) من فعل وقّع ، ومعناها يسجل الأمر الملكي ويمهره بالخاتم.

(١٦٣) أو مدقق المكاييل والموازين.

٦٠٦

على المخالفين عقوبات يحددها السلطان. وقد تناقل الى مسمعي عندما كنت في إلقاهرة ان هذه الوظيفة كانت تعود بمبلغ ألف أشرفي يوميا ، ولا تأتي من القاهرة فحسب ، بل من كل المدن والمواقع التي وضع فيها هذا الموظف مأمورين وممثلين عليهم ان يكتبوا له.

أمير الحج (١٦٤) ـ وكانت هذه الوظيفة تمثل منصبا عاليا ومهمة ثقيلة. وكان السلطان يعهد بها لأغنى مملوك وأكثرهم أهلية لديه. وكان هذا الشخص قائد القافلة التي كانت تذهب مرة في العام من القاهرة إلى مكة. وهو لا يستطيع أن يقوم بتنفيذ هذه المهمة بدون نفقة ضخمة اذا أراد ان يقوم بهذه الرحلة بأبهة ويسر. وكان يصطحب معه الكثير من المماليك الآخرين لحراسة القافلة. وكانت الرحلة تدوم ثلاثة شهور ذهابا وايابا. ولا يمكن وصف شدة المصاعب ولا كثرة النفقات التي كانت تقع على عاتق هذا القائد ، وذلك بدون تعويض من السلطان ولا من أهل القافلة (١٦٥).

وهناك وظائف أخرى أقل أهمية ، ولا فائدة ترجى من وراء الكلام عنها.

الجيزة

الجيزة (١٦٦) مدينة واقعة على ضفة النيل ، تجاه المدينة القديمة. وتفصلها الجزيرة (١٦٧) عن هذه المدينة. وهي آهلة كثيرا بالسكان المتمدنين. وتحوي قصورا جميلة ، بناها كبار المماليك لمتعتهم بعيدا عن دهماء القاهرة. ويوجد فيها أيضا الكثير من الصناع والباعة ، ولا سيما باعة المواشي. ويأتي العرب بهذه الماشية من جبال برقة. ولا يتم نقل الماشية في المراكب لعبور النهر الا بصعوبة كبيرة ، ولهذا السبب يوجد هنا تجار

__________________

(١٦٤) ويدعى أيضا امير الركاب.

(١٦٥) يروي جان تينوJ.Thenaud ، وهو من الإخوة الفرنسيكان الذي وصل إلى القاهرة في ٢٥ آذار (مارس) ١٥١٢ م ، يروي المشاهدة التالية : «وما إن وصلنا إلى القاهرة حتى دخلت القافلة الكبيرة ، أي الجماعة التي ذهبت الى مكة سواء لجلب البضائع أو للرحلة ، والتي كانت تضم ما بين مائة ومائة وعشرين ألف جمل ، والتي كانت بقيادة الأمير الكبير ، وهو ابن عم السلطان مع مائتي مملوك ، وجلب معه كمية كبيرة من التوابل والأدوية والحجارة الكريمة والعطور».

(١٦٦) الجيزة تعني اتجاه ، أو جانب ، حسب رأي المقريزي.

(١٦٧) أي جزيرة الروضة التي كان فيها مقياس النيل.

٦٠٧

يشرونها ويبيعونها مرة ثانية إلى قصابي القاهرة الذين يأتون اليهم ليأخذوا ما يحتاجون اليه من هذه الانعام. ويرى على ضفة النيل جامع المدينة وأبنية أخرى جميلة وجذابة. وتقوم حول الجيزة مزارع شجر وحدائق نخيل. ويأتي مختلف الصناع من القاهرة ليعملوا في الجيزة ويعودوا في المساء لمنازلهم.

ويمر من خلال هذه المدينة طريق الأهرامات ، التي هي أضرحة ملوك مصر القدامى. وكان يسمّى المكان الذي تقع فيه منفيس في العصور القديمة (١٦٨). ولا يوجد بين الجزيرة والأهرامات سوى صحراء رملية حيث يوجد الكثير من البرك المتشكلة من فيضان النيل. ومع هذا يمكن الذهاب إليها بدون صعوبة كبيرة مع دليل طيب يعرف البلاد بصورة جيدة (١٦٩).

المعلقة

المعلقة مدينة صغيرة تقع على مسافة ثلاثة أميال تقريبا من المدينة القديمة ، وقد شيدت على حافة النيل في عصر قدامى المصريين. وفيها بيوت جميلة وأبنية حسنة ، ولا سيما الجامع الذي قام على ضفة النيل ذاتها وتقوم حول هذه المدينة مزارع نخيل وجميز. وللسكان نفس عادات سكان القاهرة (١٧٠).

الخانقاة

الخانقاة (١٧١) مدينة كبيرة مبنية على طرف الصحراء التي تقع على طريق سيناء ، على مسافة ستة اميال من القاهرة (١٧٢). وتضم بيوتا جميلة وجوامع حسنة ومدارس. وعلى

__________________

(١٦٨) كانت ممفيس تقع في الحقيقة إلى الجنوب أكثر من ذلك أي بين اهرامات سقارة وبين النيل.

(١٦٩) يجب ان نفترض أن المؤلف يتعرض هنا للرحلة التي تعقب الفيضان بقليل ، حيث كان يوجد وقتئذ مستنقعات وحلية ، لأنه في الوقت العادي ، وحتى قبل بناء الطريق المعبد الحالي ، كان الطريق ميسورا نسبيا.

(١٧٠) والمقصود بها في الحقيقة القاهرة القديمة ، او الفسطاط العتيق الذي خلف بابل ، والواقع لقد تشوشت مذكرات المؤلف ، فالمعلقة ليست سوى صفة كنيسة قبطية في القاهرة القديمة. وقد سميت كذلك لأنها مبنية فوق مصطبة السور القديم لمدينة فوساتون الإغريقية ، والتي تحمل بقاياها اليوم اسم قصر الشمعة ، وهذه الكنيسة القبطية هي كنيسة الست مريم.

(١٧١) الخانقاة ، ومعناها زاوية الصوفيين ، وتكتب في أيامنا خطأ على شكل خانقة.

(١٧٢) والحقيقة أربعة عشر ميلا او ٢٢ كم.

٦٠٨

مسافة ستة أميال على الطريق بين هذه المدينة وبين القاهرة يوجد الكثير من البساتين وحدائق النخيل ، ولكن من هنا إلى ميناء سيناء لا يوجد أي مكان مأهول على مسافة مائة وأربعين ميلا (١٧٣).

وسكان الخانقاه واسعو الثراء لأن المسافرين يتجمعون فيها بقصد السفر في القافلة (١٧٤) الى بلاد الشام. ويشتري هؤلاء المسافرين منها اشياء مختلفة تأتي من القاهرة ، إذ لا ينبت شيء في خانقاه فيما عدا النخيل. وينطلق منها طريقان رئيسيان ، الاول يذهب الى جزيرة العرب والآخر الى بلاد الشام. وليس لها من موارد اخرى للماء سوى ما يأتي اليها بواسطة القنوات من فيضان النيل وينتشر الماء في السهل حيث يشكل بحيرات صغيرة ، ومنها يجر الماء الى المدينة بواسطة سواق ويدخل في الصهاريج والخزانات (١٧٥).

المعيصرة

وهي مدينة صغيرة على ضفة النيل ، على مسافة ثلاثين ميلا من القاهرة. وتنبت هنا كمية كبيرة من السمسم ويوجد في المدينة بضعة طواحين تستخرج الزيت من حبات السمسم. وكل السكان زراع باستثناء بعضهم الذين يعملون في دكاكين (١٧٦).

بني سويف

بني سويف مدينة صغيرة بنيت على الضفة الإفريقية للنيل على مسافة مائة وعشرين ميلا من القاهرة (١٧٧) وهي محاطة برقعة كبيرة من الأراضي الزراعية الممتازة حيث تجود فيها زراعة الكتان والقنب. والكتان فيها من الدرجة الاولى ، حتى إنه ليصدر منه إلى تونس في بلاد البربر. ويصنع منه قماش مدهش لنعومته ومتانته. وتستمد مصر كل حاجاتها من هذا الكتان. ويقرض النيل باستمرار أرض هذه المنطقة

__________________

(١٧٣) او ٢٢٤ كم ، وميناء سيناء هو القلزم او السويس الآن.

(١٧٤) ولكنها ليست نفس محطة الذهاب إلى الحج الى مكة.

(١٧٥) «يطلق عليه الصهريج او الخزان وفى اللهجة التونسية الماجن وجمعه مواجن» (المترجم).

(١٧٦) في الحقيقة تقع المعصرة على مسافة ١٢ ميلا أو ٢٠ كم ، بالطريق النهري ، ابتداء من ميناء بولاق. وقد استعمل المؤلف هنا تصغير المعصرة ، أي المعيصرة.

(١٧٧) حوالي ٧١ ميلا أو ١٢٥ كم.

٦٠٩

حتى إنه ليقتلع الأرض في أثر الفيضان ، ويؤدي لتقليص الرقعة الزراعية. وعندما كنت موجودا فيها ، على الخصوص ، قضى النيل على أكثر من نصف حديقة النخيل. وينهمك نصف السكان في الاشغال التي يتطلبها الكتان بعد حصاده.

ويوجد فيما وراء المدينة التماسيح التي تفترس المخلوقات الآدمية ، كما سنقول في الكتاب المخصص للحيوانات ، في هذا الكتاب.

المنيا

المنيا مدينة حسنة جدا بنيت في زمن المسلمين على يد نائب في مصر اسمه الخصيب ، وكان صديقا لخليفة بغداد (١٧٨). وتمثل موقعا مرتفعا على ضفة النيل الافريقية. وهي محاطة بالعديد من مزارع الاشجار والكروم التي تنتج ثمارا ممتازة ، وتصدر كمية كبيرة منها الى القاهرة ، ولكنها لا يمكن ان تظل طازجة ، لأن هذه المدينة تقع على مسافة مائة وثمانين ميلا عن القاهرة (١٧٩). وتملك المنيا عمارات حسنة جدا ، وقصورا وجوامع ، وكذلك أطلال أبنية تعود لقدامى المصريين والسكان أغنياء لأنهم يقصدون ممكلة غاوغه في بلاد السودان.

مدينة الفيوم

وهي مدينة قديمة بناها أحد الفراعنة في الزمن الذي خرج فيه العبريون من مصر. وقد استخدمهم هذا الفرعون في صنع الطوب وفي الاشغال الأخرى. وقد بنى المدينة على فرع صغير من النيل (١٨٠). في بقعة مرتفعة حيث يوجد الكثير من الأشجار المثمرة ومن الزيتون. ولكن زيتونها لا يصلح إلا للاكل ولا يستخرج منه زيت. وفي هذه المدينة دفن يوسف بين يعقوب (أو اسرائيل). وقد نقل موسى جسمه عندما هرب

__________________

(١٧٨) كان الخصيب بن عبد الحميد وكيل المالية في مصر من طرف الخليفة هارون الرشيد ، فظلت المدينة لمدة طويلة تحمل اسم منية الخصيب ، «كما في رحلة ابن بطوطة» أي محطة الخصيب النهرية ، ثم أصبحت مع تقادم الزمن المينا.

(١٧٩) الحقيقة ١٥٧ ميلا أو ٢٥٢ كم.

(١٨٠) هو فرع بحر يوسف.

٦١٠

العبرانيون من مصر. وهذه المدينة مطمئنة ، ومأهولة بصورة حسنة ، وتضم الكثير من الصناع لا سيما الحاكة (١٨١)

منفلوط

منفلوط مدينة كبيرة للغاية وموغلة في القدم. فقد بناها المصريون وهدمها الرومان. وفي عصر المسلمين استؤنف سكناها من جديد ، ولكنها لا تكاد تبدو مأهولة بالموازنة مع ما كانت عليه في غابر الزمن. ولا تزال تظهر منها اعمدة غليظة ومرتفعة وبوابات كتبت عليها أشعار باللغة المصرية. وبقرب النيل توجد خربة كبيرة هي أطلال بناء فسيح يبدو أنه كان معبدا. ويجد السكان أحيانا مداليات ذهبية وفضية ورصاصية تحمل على الوجه الواحد حروفا مصرية وعلى الآخر صورة ملوك قدامى. والأرض هنا خصيبة ولكن الطقس هنا حار جدا ، وتسبب التماسيح أضرارا جمة. ويعتقد أن هذا هو السبب الذي جعل الرومان يهجرون المدينة (١٨٢). بيد ان سكان منفلوط في رغد من العيش لأنهم يزاولون التجارة مع بلاد السودان (١٨٣).

أسيوط

وهي كذلك مدينة قديمة بناها المصريون على ضفة النيل على مسافة مائتين وخمسين ميلا تقريبا من القاهرة (١٨٤) وهي مدهشة لا تساعها. ولأبنيتها القديمة ، وكتاباتها العديدة ، ولكنها جميعا بحالة خراب وتلف. ومع هذا يمكن التعرف فيها على الكتابات المصرية. وكانت في عهد المسلمين مأهولة بكثير من الفرسان والأشراف.

__________________

(١٨١) لقد اعتبر المؤلف مسبقا أن بيتوم الواردة في التوراة هي مدينة الفيوم ، ويبدو انه اعتبر متاهة هيرودوت على أنها قبر يوسف عليه السلام. ونلاحظ من جهة أخرى أنه قال آنفا بأنه لا يريد الكلام عن الفيوم ، التي يعتبرها لسبب غير مفهوم غير تابعة لإفريقيا.

(١٨٢) تقع مغارة التماسيح بجوار منفلوط حيث عثر بعد اجتيازتيه تحت الأرض من العسير الوصول إليه ، على آلاف من مومياءات التماسيح وأيضا على مومياءات بشرية تعود للعصر الإغريقي الروماني.

(١٨٣) منفلوط واقعة على ضفة النيل اليسرى على مسافة ٣٦٠ كم من القاهرة ، ومن هناك يصعد درب يؤدي لواحة الداخلة ، ومنها إلى واحة الخارجة ، والتي يسميها المؤلف الواحات ، وكان يذهب منها المسافرون إلى السودان الأوسط.

(١٨٤) مسافة صحيحة تماما أو ٤٢٢ كم.

٦١١

وحتى هذا اليوم تحتفظ بالغنى والنبل. وفيها حوالي مائة بيت من النصارى مع ثلاث أو أربع كنائس. ويقوم في خارج المدينة دير نصراني يعيش فيه مائة راهب لا يأكلون لحما ولا ، سمكا ، بل يتغذون بالخبز والخضر والزيتون ، ويطهون أكلات ممتازة لا يدخل فيها أي دهن. وهذه الدير غني ومن عادته ان يقدم الطعام لكل غريب عابر سبيل كما يحقق له الضيافة مدة ثلاثة أيام. ولهذا الغرض يربون الكثير من الحمام والدجاج والمواشي.

أخميم

أخميم هي أقدم مدينة في مصر. فقد أسسها أخمين ، إبن مسرائيم ، الذي كان أبوه كوش ، إبن حام (١٨٥). وقد بناها على ضفة النيل الآسيوية ، وعلى مسافة ثلاثمائة ميل إلى الشرق من القاهرة (١٨٦). ولكنها تخربت عند مجيء المسلمين إلى مصر لأسباب يسردها التاريخ ، حتى لم يبق شيء آخر من المدينة سوى الأساسات لأن الأعمدة والحجارة الأخرى نقلت إلى الضفة المقابلة لبناء المدينة الآتية وهي (١٨٧) :

المنشية

لقد شيّدت هذه المدينة ، إذن بأنقاض المدينة السابقة على يد نائب خليفة (١٨٨). وليس لها ظرف ولا جمال ، فشوارعها ضيفة ولا يمكن التجول فيها صيفا لكثرة الغبار (١٨٩).

__________________

(١٨٥) سفر التكوين ، الاصحاح العاشر ، فقرات ٦ ، ١٣ ، ١٤ ، تجعل من مسرائيم ومن كوش أخوين. ولدي حام. ولا نجد بين أبناء مسرائيم السبعة واحدا يحمل إسم اخمين. والحقيقة هي أن إسم هذه المدينة خمين بالقبطية وخمينس باليونانية ، وقد أشتق هذا الاسم من اسم الوثن الذي كانت تعبده وهو «مين» الذي يتمثل بانسان له عضو تناسلي بحالة انتصاب.

(١٨٦) في الحقيقة ٣٢٠ ميلا أو ٥١٢ كم جنوب القاهرة بالطريق النهري.

(١٨٧) لقد احتفظ المؤلف طبعا بذكرى الكتابات المتعلقة بالاضطرابات الخطيرة التي تعاقبت في هذه المدينة حيث سخط النصارى أولا والمسلمون فيما بعد من التقاليد المحلية الناجمة عن التمثيلات الفاحشة للوثن المعبود «مين».

(١٨٨) يقصد خليفة فاطميا ، واعطيت إسما مسجلا في تعداد القرى عام ١٣٧٥ م هو المنشية «أو التي تنشر رائحة» ولكن الإسم تحرف اليوم إلى المنشاة.

(١٨٩) «وهنا يغيب عن المؤلف شيئا ، وهو أن الغبار هنا لا ينتشر في الصيف فقط بل ينتشر كذلك في الشتاء لانعدام ـ

٦١٢

ويكثر في هذه المدينة القمح والمواشي.

وقد كانت هذه البلدة وأراضيها اقطاعة أمير افريقي من قوم البربر يدعون الهوارة. وكان هذا الرجل يحتفظ بالأمارة عن أجداده ، الذين كانوا أمراء هوارة ، والذين قدموا لمساعدة جوهر الصقّلي ، الذي أسسّ القاهرة. وعندما جاء الخليفة القائم من القيروان ووصل القاهرة أعطى أراضي أخميم إلى أمير هوارة مكافأة له (١٩٠). ولم يرغب هذا الامير في إعادة بناء أخميم لأن العرب كانوا يسببون له المتاعب. لهذا بنى المنشّية على الضفة الأخرى للنيل (١٩١) لتحاشي العرب. وظلت الأمارة في هذه الأسرة حتى العهد الحاضر وتدفع دوما عائداتها للسلطان. ولكن انتزعت منها أمارتها في عهد سليمان ، تاسع الأباطرة الأتراك ، وصودر الجميع لمصلحة خزينة عظيم الترك (١٩٢).

جرجا (١٩٣)

كانت جرجا ديرا نصرانيا كبيرا وغنيا جدا يدعى دير القديس جورج (١٩٤) على مسافة ستة أميال من المنشية (١٩٥) وكانت محاطة بأراض زراعية واسعة ومروج وكانت تضم أكثر من مائتي راهب ، كان من عادتهم أيضا إطعام الغرباء. وما كان يزيد عن حاجتهم من عوائد الدير كانوا يرسلونه الى بطريرك القاهرة الذي كان يوزعها على فقراء النصارى. ولكن ظهرت منذ مائة عام جائحة طاعون في مصر وقضت على كل رهبان هذا الدير. وظل المكان خاليا خلال ثلاثة أعوام ولم يأت إنسان لسكنى الدير حتى أن

__________________

ـ الأمطار تقريبا في هذه المنطقة على مدار العام ، ونظرا لأن المؤلف من بلاد ذات مناخ رومي (مناخ البحر الأبيض المتوسط) ذي أمطار شتوية ، فهو يتصور ان الغبار لا يمكن أن يثور إلا في أثناء الصيف في كل مكان» (المترجم)

(١٩٠) كان الخليفة الفاطمي ، وهو أبو القاسم محمد القائم ، قد توفي عام ٩١٦ م بينما جاء حفيد أبو تميم معدّ المعز ليستقر في القاهرة في حزيران (يونيه) ٩٧٣ م.

(١٩١) أي على الضفة اليسرى على مسافة ٣٣١ ميل أو ٥٣٠ كم عن القاهرة.

(١٩٢) تشير دوائر الكادسترو لثلاثة مواقع باسم منشية وهي متجاورة : منشية بني ضبعان ، ومنشية بني غرواسان ، ومنشية كاي ، وتحمل الاثنتان الأخيرتان بشكل واضح إسمى فخذين من بربر هوارة.

(١٩٣) رسمها المؤلف بفتح الجيم ، ولكنها تنطق الآن بكسر الجيم.

(١٩٤) لقد اختفى دير مار جرجس منذ حوالي قرن ونصف من الزمن.

(١٩٥) المسافة الحقيقية هي ثلاثة عشر ميلا أي ٢٠ كم إلى الجنوب.

٦١٣

أمير المنشية بدأ يحيطه بجدار. ثم راح ينبى فيه بيوتا لإسكان الصناع والتجار من مختلف المهن وجاء هو بنفسه ليسكن هنا ، مجذوبا بجمال بعض مزارع الأشجار الجميلة الواقعة فوق التلال بجوار الدير. غير أن البطريرك اليعقوبي اشتكى للسلطان ، حتى لقد اضطر أن يبنى ديرا آخر في المكان الذي كانت فيه المدينة القديمة ، ومنحه دخلا كافيا لمعيشة ثلاثين راهبا بصورة لائقة.

الخيام

الخيام (١٩٦) مدينة صغيرة مبنية على النيل في عهد المسلمين. ولا يسكن فيها سوى نصارى يعاقبة وهم جميعا مزارعون ويربون الدجاج والأوز. ولديهم أيضا أعداد لا تحصى من الحمام ، حتى أنك لو قدّمت لهم قطعة نقد قيمتها حوالي درهمين لأعطوك عشرة من الطير. ويوجد بضعة أديرة نصرانية تقدم الطعام أيضا للأغراب. ولا يوجد في هذه المدينة من المسلمين سوى الوكيل وأسرته.

دندرة

دندرة (١٩٧) مدينة بناها قدامى المصريين على ضفة النيل ، على مسافة أربعمائة ميل من القاهرة (١٩٨). وقد خربها الرومان ولا يرى منها اليوم أي شيء سوى أطلال ضخمة. وقد نقلت أفضل مواد البناء منها إلى إسنا التي سنتكلم عنها بعد قليل. ويعثر في هذه الأطلال على الكثير من المداليات الذهبية والفضية وكذلك الكثير من قطع الزمرد (١٩٩).

قنا

قنا مدينة قديمة بنيت على النيل تجاه دندرة. وهي محاطة بسور من الطوب

__________________

(١٩٦) جمع خيمة ، بلدة على ضفة النيل اليمنى على مسافة ٣٥٩ ميل أو ٥٧٧ كم من القاهرة.

(١٩٧) أطلال معبد دندرة الفرعوني.

(١٩٨) تقع دندرة على مسافة ٤١٧ ميل من القاهرة على الطريق النهري أي ٦٧١ كم ، وهي على الضفة اليسرى.

(١٩٩) والمقصود بذلك بلا ريب أطلال معبد الإلهة هاتور الفسيح ، قرب دندرة.

٦١٤

النيء. وسكانها أناس فقراء الحال ، من الزراع. ولكن المدينة تغصّ بالقمح لأنها مستودع البضائع التي تنقل من القاهرة إلى مكة بواسطة النيل.

وبالفعل تقع قنا على مسافة تقارب مائة وعشرين ميلا (٢٠٠) من البحر الأحمر عن طريق الصحراء. ولا يوجد في هذه الصحراء ماء حتى الساحل (٢٠١). ويقوم على الساحل ميناء يدعى القصير (٢٠٢). ويوجد هنا بضع أكواخ لتفر مغ البضائع وجميع بيوت هذا الميناء مبنية بالحصر ويصاد الكثير من السمك في القصير.

وفي مقابل هذا الميناء على الساحل الآسيوي من البحر الأحمر يقوم ميناء يدعى ينبع (٢٠٣). وتتوقف المراكب والقوافل في هذا الميناء للذهاب إلى المدينة حيث يوجد جثمان محمد صلّى الله عليه وسلّم. وتغذي ينبع المدينة المنورة ومكة بالقمح ، لأن هاتين المدينتين تعانيان من شحّ فيه.

اسنا

كانت اسنا تسمى سيان في العصر القديم ، ولكن العرب سموها إسنا لأن اسم سيانة كان يشابه كلمة عربية تعني قبيح (٢٠٤) ، في حين أن اسنا تعني حسنة (٢٠٥). وهي في الواقع مدينة جميلة جدا مبنية على ضفة النيل الإفريقية (٢٠٦). ومع أنها كانت شبه مخربة على أيدي الرومان فقد أعيد بناؤها بصورة حسنة جدا في عصر المسلمين. ولكن بالموازنة مع الأزمنة القديمة تبدو مهجورة ، لأننا لا نزال نرى فيها في الوقت الحالي أسس أسوارها على دائرة واسعة. وسكانها أثرياء بالحبوب وبالمواشي وبالعملة النقدية لأنهم

__________________

(٢٠٠) ١٩٢ كم.

(٢٠١) وهذا غير صحيح تماما فقد أوجد الرومان عدة آبار ليست الآن سوى آثار.

(٢٠٢) أي القصر الصغير على مسافة أربعة أو خمسة أيام من قنا بالنسبة للقوافل.

(٢٠٣) وهو ينبع البحر.

(٢٠٤) «سيان ، وحل المستنقع الآسن» (المترجم). [أو لعل الكلمة كانت قريبة من كلمة «شين» بمعنى قبيح] (المراجع)

(٢٠٥) ليس لهذا التفسير قيمة ، فكلمة سيان هو اسم أسوان القديمة ، أما أسنا أو على الارجح إيسنا ، فهو تحريف للإسم القبطي سنه ، والذي هو نفسه تحريف عن اللغة المصرية القديمة تيسنان.

(٢٠٦) على مسافة ٤٩٦ ميل أو ٩٧٨ كم من القاهرة بالطريق النهري.

٦١٥

يزاولون التجارة مع النوبة عن طريق الصحراء وبواسطة النيل (٢٠٧).

ونجد في سور المدينة القديم أطلال أبنية كبيرة جدا وقبورا مدهشة مع شواهد قبور تحمل كتابات بحروف مصرية وأحيانا بحروف لاتينية (٢٠٨).

مدينة أسوان

أسوان مدينة كبيرة قديمة بناها المصريون على شط النيل ، على مسافة ثمانين ميلا من اسنا (٢٠٩). وهي محاطة بأراض ممتازة لزراعة الحبوب (٢١٠). وهذه المدينة عامرة جدا بالسكان ، والتجارة فيها هامة لأنها تتاخم مملكة النوبة ولأنه لا يمكن أبدا ركوب النيل فيما بعدها باتجاه الجنوب. والواقع يعرض النيل في عاليتها خلال سهول ويكون الماء ضحلا للغاية مما يتعذر استخدامه (٢١١).

وتتاخم أيضا الصحراء التي يخترقها المسافرون للذهاب إلى سواكن على البحر الأحمر ، عند بداية اثيوبيا.

ويكون الحر في أسوان مفرطا في الصيف ، وبسببه يكون كل السكان سمر الوجوه ، كذلك لأنهم مختلطون مع النوبيين ومع الأحباش. وتظهر فيها ايضا في عديد من الأماكن أبينة قدامى المصريين وبعض الأبراج الشديدة الارتفاع (٢١٢) والتي تسمى في هذه البلاد باربه.

* * *

وفيما وراء أسوان لا نجد أية مدينة ولا أي مكان مأهول يستحق الذكر. فليس هناك سوى بعض القرى المأهولة بأناس من عرق أسمر يتكلمون لغة تخالطها العربية

__________________

(٢٠٧) لقد كانت اسنا بكل تأكيد منذ غابر الأزمنة القديمة سوقا كبيرة للجنوب المصري عند عقدة مواصلات هامة بين الطريق النهري النيلي والطرق البرية.

(٢٠٨) وهي أطلال معبد الرب خموم ، وهو معبد تعرض لتعديلات على أيدي عدة اباطرة رومان.

(٢٠٩) في الحقيقة ٥ ، ٩٨ ميلا من اسنا أو ١٥٨ كم وعلى مسافة ٥ ، ٥٩٤ ميل من القاهرة أو ٩٥٦ كم.

(٢١٠) تبدو اليوم محروقة بالحرارة.

(٢١١) والحقيقة لأن الشلالات تقطع الخط الملاحي على النهر.

(٢١٢) وهي أعمدة معابد جزيرة فيلة وجزيرة برباع عند العرب.

٦١٦

والمصرية (٢١٣) والحبشية. ويخضع هؤلاء السكان لقوم يسمّون البجا الذين يعيشون في البوادي حسب أسلوب العرب. وليس للسلطان أي نفوذ في هذه المناطق وهنا تنتهي دولته.

* * *

تلك هي أشهر المدن على ذراع النيل الكبير. وقد رآها كاتب هذه الاسطر ، ودخل بعضها ، ومرّ من قرب بعضها الآخر ، ولكنه استفهم تماما عنها من سكانها أو من الملاحين الذين رافقوه من القاهرة حتى أسوان والذين عاد معهم إلى قنا. ومن هناك ذهب في الصحراء الى البحر الأحمر الذي اجتازه للوصول إلى ساحل بلاد العرب الصحراوية إلى ميناءي ينبع وجدة (٢١٤) الواقعين في آسيا. وبما أنهما لا يقعان في افريقيا فلا مجال للتحدث عنهما.

* * *

ولكن لدى المؤلف أكبر رغبة من أن يصف ، بعون الله ، في كتاب صغير الجزء الآسيوي الذي رآه. وهكذا سيتكلم عن بلاد العرب الصحراوية ، وعن بلاد العرب السعيدة ، وعن بلاد العرب الحجرية ، وعن القسم المصري الواقع في آسيا ، كما سيتكلم عن بابل ، وعن قسم من فاس وارمينيا وجزء من بلاد التتر التي تجول فيها في بداية مراهقته. كما سيصف بضع جزر رآها خلال آخر رحلة له من فارس إلى القسطنطينية ، ومن القسطنطينية الى مصر عن طريق البحر ، ثم في اثناء عودته من مصر إلى ساحل إيطاليا.

وبعد ذلك لديه النية الصادقة في أن يضع مؤلفه في انتظام عند ما يعود سالما معافى ، بفضل الله ، من رحلته في أوروبا. وسيبدأ بوصف أوروبا ، والتي هي أجدر بأن تأتي في رأس البحث لشرفها ، ثم يتابع مع اكبر عناية واجتهاد وصف آسيا ، أي القسم الذي رآه من آسيا ، وأخيرا سيضع هذا المؤلف الصغير في المرتبة الثالثة.

__________________

(٢١٣) أي القبطية.

(٢١٤) «لأداء فريضة الحج» (المترجم)

٦١٧

٦١٨

القسم التاسع

٦١٩

٦٢٠