وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

ذلك فنادق الأقمشة الصوفية ، والتي تستورد من كل أقطار أوربا مثل أجواخ البندقية ومايورقة ، وأجواخ إيطاليا الوسطى ، والمارش ، وبعد ذلك تباع أقمشة مصنوعة من شعر الماعز (٧٨) ، وشيئا فشيئا نصل إلى باب زويله حيث نجد عددا لا يحصى من الصناع. ويوجد قرب هذا الباب فندق خان الخليلي ، حيث يقيم التجار العجم. ويشبه هذا الفندق قصر أمير كبير ، فهو مرتفع كثيرا ، ومتين البنيان جدا ، ومؤلف من ثلاثة أدوار. ففي الطابق الأرضي توجد الغرف التي يستقبل فيها التجار زبائنهم ويمارسون تجارة البضائع العالية القيمة. والتجار الذين يملكون موارد عظيمة هم وحدهم الذين يملكون مستودعات في هذا الفندق. وتتألف بضائعهم من التوابل والأحجار الكريمة والأقمشة الهندية مثل الكريب ... الخ.

وعلى الطرف الآخر من الشارع الرئيسي يقع حي باعة العطور : كالزباد ، والمسك والجاوي. وهذه المنتجات وفيرة ، حتى إنه لو أراد أحدهم شراء أونس واحد (٧٩) من المسك ، يعرض عليه مائة رطل (٨٠) وهو أمر عجيب ويقع على جزء من هذا الشارع الرئيسي حيّ يباع فيه الورق الجميل الصقيل. والتجار الذين يبيعون هذا الورق يبيعون أيضا الحجارة الكريمة. وهناك مناد يحملها من مكان لآخر معلنا المزاد.

وعلى نفس الشارع يقع حي يقيم فيها الصاغة. وهم يهود تمر بين أيديهم ثروات كبرى. وفي حي آخر يوجد التجار الذين يبيعون كمية كبيرة من المنسوجات من النوع الفاخر ويكونون قد اشتروها من أهل المدينة أو من أناس مرموقين. وليست هذه الأشياء عبارة عن برانس أو عباءات أو خمارات بل قطع رائعة ذات قيمة لا يتصورها عقل. وقد رأيت فيما رأيت سجاف خيمة أسود اللون ، وهو مشغول بالإبرة ، ومغطى تغطية كاملة بشبكة من اللآلى. وقال لي البائع إن اللآلى تزن لوحدها خمسة واربعين رطلا (٨١) من الأرطال المصرية وقد بيع البساط لوحده دون اللآلى بمبلغ عشرة آلاف أشرفي. وقد رأيت الكثير من الأشياء الأخرى في هذه الدكاكين وبأسعار مماثلة.

__________________

(٧٨) كانت هذه الأقمشة عبارة عن منسوجات من شعر نوع معين من الماعز ، هو المرعز ، الذي يربى خصوصا في ضواحي قونية ، في آسيا الصغرى. وكان هذا القماش ناصع البياض للغاية ، وله نعومة الحرير.

(٧٩) ٢٥ ، ٢٨ غراما.

(٨٠) أو ٤٤ كغم.

(٨١) او ٢٠ كغم.

٥٨١

وفي القاهرة مستشفى كبير بناه بيبرس ، أول سلطان من المماليك (٨٢). ولهذا المستشفى إيرادات تبلغ مائة ألف أشرفي. ويمكن قبول أي شخص فيه ويجد المريض فيه كل التسهيلات والعناية الطبية ، وكذلك كل ما يحتاج إليه حتى شفائه. ولكن إذا توفي فإن كل أرزاقه تؤول للمستشفى.

ربض باب زويله

وهو ربض كبير جدا يضم حوالي اثني عشر ألف أسرة ويبدأ عند باب زويلة. ويمتد غربا على مسافة ميل تقريبا وجنوبا حتى قلعة السلطان ، وشمالا حتى ربض يدعى باب اللوق (٨٣). ويحوي ربض باب زويلة هذا تقريبا نفس الوجهاء من السكان كما في المدينة. فكثير من السكان لهم دكاكينهم في الربض ومسكنهم في المدينة والعكس بالعكس. وهو بضم العديد من الجوامع والزوايا والمدارس ، وعلى الخصوص المدرسة الشهيرة التي أسسها السلطان الحسن. ولهذه المدرسة من علو قبابها ومن متانة بنيانها الرائع ما يجعلها وسيلة للتحصن والهجوم ، في حالة تمرد سلطان ضد آخر ، فإذا استطاع المتمرد بشيء من الحذق والمهارة أن يحتل هذه المدرسة ، فإنه يتحصن فيها ومنها يهاجم القلعة التي يمسك بها السلطان الآخر ، لأن المدرسة لا تبعد عن القلعة أكثر من نصف رمية من راشقة السهام (٨٤).

ربض جامع طولون

وهو ربض آخر يتاخم السابق من الشرق ، ويمتد غربا حتى الخرائب التي تجاور

__________________

(٨٢) لم يكن بيبرس ، رابع سلطان مملوكي (وهو الذي حكم بين ١٢٦٠ و ١٢٧٧ م) هو الذي أسس هذا المارستان ، بل السلطان السابع ، المنصور سيف الدين قلاوون ، الذي حكم من ١٢٧٩ إلى ١٢٩٠ م. وقد تمت عمارته في ١٢٩٣ م في عهد ابنه. وقد تلاشى المارستان ، غير أن الجامع والمدرسة اللذين كانا يؤلفان مجموعة هندسية وائعة لا يزالان حتى اليوم معروفين باسم جامع ومدرسة قلاوون.

(٨٣) كان ربض باب اللوق في غرب الشمال الغربي بين باب زويلة والنيل.

(٨٤) تعتبر هذه المدرسة من أكثر ابنية القاهرة جمالا وحتى في العالم قاطبة. وتسمى جامع الحسن ، والأحرى أن تسمى مدرسة الحسن وكانت تدرس فيها ، في ذلك العصر ، المذاهب الأربعة في الإسلام السني. وقد شيدت في عهد السلطان الناصر سيف الدين حسن بين ١٣٥٥ و ١٣٥٦ م وبالتدقيق في نفس الوقت الذي كان يجري فيه بناء تلك الدرة الفريدة في الفن الهندسي ، وهي المدرسة الأبوعنانية (نسبة إلى أبي عنان من ملوك بني مرين) في فاس.

٥٨٢

المدينة القديمة (٨٥). وقد بنى هذا الربض قبل القاهرة بمساعي المدعو طولون ، وهو مولي أحد خلفاء بغداد ، ووالي مصر ، وكان رجلا عاقلا وحذرا وقد هجر المدينة القديمة وجاء ليسكن هذا الربض. وبنى فيه قصرا فخيما وكبيرا جدا. وكذلك جامعا فسيحا أيضا لا يقل بهاء عن القصر (٨٦). ويوجد في هذا الربض عدد ضخم من الصناع والتجار ، ولا سيما من بلاد البربر.

ربض باب اللوق

وهو أيضا ربض كبير على مسافة ميل تقريبا من سور القاهرة. ويضم حوالي ثلاثة آلاف أسرة. وهو يشتمل على صناع وباعة من كل نوع. وفيه ساحة كبيرة فيها قصر فسيح ومدرسة بديعة بناها مملوك اسمه يزبك ، كان مستشار أحد السلاطين في الماضي. وكانت هذه الساحة تدعى بسبب ذلك الأزبكية (٨٧). ويجتمع في هذه الساحة عادة كل جمعة كل سكان القاهرة بعد الصلاة والخطبة ، إذ توجد في هذه الضاحية بعض الملاهي غير الشريفة ، كالمواخير والنساء الساقطات. ويجتمع في هذه الساحة أيضا العديد من المشعوذين الذين يقومون بترقيص الجمال والحمير والكلاب. وهذا بالفعل أمر مروح عن النفس. واليكم مثلا مشهد الحمار : فبعد أن يرقص المهرج حماره قليلا يتحدث إليه فيشرح له أن السلطان يريد أن يقوم بمشروع بناء كبير وأن في نيته استخدام كل حمير القاهرة لنقل الكلس والحجارة وكل ما هو ضروري لهذا البناء. وفي الحال يرخي الحمار جسمه ويسقط على الأرض رافعا قوائمه في الهواء. وينفخ بطنه ويغمض عينيه كما لو كان ميتا. وهنا يأخذ المهرج بالنحيب أمام المشاهدين على فقدان حماره ويطلب المساعدة لشراء حمار آخر. وبعد أن يجمع التبرعات يتابع كلامه : «لا تصدقوا أن حماري قد مات فهذا النهم يعرف فقر صاحبه ، ويتظاهر بالموت كي أشتري له ما

__________________

(٨٥) أطلال حي العسكر الذي كان أيضا مقر الحكام.

(٨٦) هو أبو الحسن أحمد بن طولون ، ابن عبد تركي كان عند الخليفة المأمون ، وعين على حكومة مصر في ١٥ أيلول (سبتمبر) ٨٦٨ م. واستغل المصاعب التي كانت عليها خلافة بغداد حينئذ وأصبح مستقلا. وأقام مدينته كوتاي فوق مرتفع يدعى جبل يشكر شمال شرق حي العسكر. وقد اختفى قصره ولكن جامعه الذي شيد سنة ٨٧٦ ـ ٨٧٧ م لا زال من أشهر أبنية القاهرة.

(٨٧) تلك هي ساحة الأزبكية الشهيرة التي تحتلها الحدائق حاليا. وهي مركز القاهرة الحديث. وكان الأمير يزبك الذي تنسب إليه الأزبكية هو القائد العام لدى السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي. وقد اختفت الأبنية المذكورة. أما الجامع ـ المدرسة الذى شيد عام ١٤٩٦ م فقد كان جديدا تماما في عصر المؤلف.

٥٨٣

يأكله بما جمعته من المشاهدين» ثم يلتفت إلى الحمار ويناشده أن ينهض. ولكن الحيوان لا يتحرك مطلقا. وهنا تحين الفرصة لأن يوجه له عدة ضربات عصى متواترة. ولكن الحمار لا يبدي حراكا. وحينئذ يستأنف الرجل شعوذته ويقول : «سادتي : يجب أن تعلموا أن السلطان أصدر المرسوم التالي : على كل سكان القاهرة في الغد أن يخرجوا لحضور دخوله المظفر. وهو يأمر أن تركب كل سيدات المجتمع الراقي وكل النساء الجميلات على حمير جميلة وستعطيها شعيرا وشرابا من ماء النيل». وما يكاد المهرّج يتلفظ بهذه الكلمات الأخيرة حتى يقفز الحمار على قوائمه ويتصنع الزهو ويبدو فرحا جدا. ويستأنف المشعوذ : «الحقيقة لقد طلب مني عمدة الحي أن أعيره حماري الأنيق لزوجته العجوز والقبيحة» وعند سماعه هذه الكلمات يتظاهر الحمار بالاشمئزاز وكأن لديه ذكاء بشريا ، فيخفض عينيه ويأخذ بالمشي متصنعا العرج كما لو كان كسيحا. وعندها يقول له سيده : «هل تعجبك الصبايا إذن؟» وهنا يهز الحمار رأسه وكأنه يقول «نعم» ويستمر المهرج قائلا : «يوجد هنا الكثير من الصبايا ، قل لي إذن : من هي التي تعجبك أكثر؟» وهنا يدور الحمار حول دائرة النظار الذين توجد بينهم دائما بعض النساء اللواتي يتفرجن على المشهد ، فيختار أجملهن ويتجه نحوها ويلمسها برأسه. وعندها يصرخ الجمهور «هيه يا زوجة الحمار» استهزاء بالمرأة. وعندئذ يفقز المهرج على حماره ويمضي لمكان آخر.

وهناك نوع آخر من المشعوذين. ولدى هؤلاء عصافير صغيرة مربوطة إلى جانب صندوق صغير على شكل مائدة صغيرة. وتستخرج هذه العصافير بمنقارها بطاقات مكتوبة تشير إلى الحظ من الفأل الحسن أو العكس. وما على الذين يرغبون في التعرف على المستقبل إلا أن يرموا فلسا أمام العصفور الذي يحمله في منقاره ويضعه في العلبة ثم يعود حاملا في منقاره البطاقة التي تحمل الجواب المكتوب. وقد حدث لي شخصيا أن تناولت بطاقة حظ سيء لم أعرها أدنى اهتمام ، غير أن ما حدث لي كان أسوأ بكثير مما كان مكتوبا فيها (٨٨).

ويرى الإنسان أيضا فوق ساحة الأزبكية المتبارزين بالسيف والترس ،

__________________

(٨٨) «وهذا قبل أن يعود إلى بلاده بحرا ويسقط في أسر القراصنة عند جزيرة جربة. ويظهر هنا فرط تأثره على ما حدث له من آلام البعد عن الأهل والوطن والإكراه على تغيير الدين ولو إلى حين لأنه عاد إلى تونس في أواخر حياته ومات في أحضان الإسلام» (المترجم).

٥٨٤

وبالعصا ، والمتصارعين ... إلخ وأناسا آخرين ينشدون أمجادا لمعارك بين العرب والمصريين في إثر فتح مصر. وعلى كل فإن الحماقات والدعابات والكلام القبيح الذي يقال هنا ، كل ذلك لا يحصره عد ، ويعتبر من وسائل التسلية. ولكن لا يمكن سرد كل هذه الأمور في كتاب كهذا.

الربض المسمى بولاق

بولاق ربض كبير يبعد مسافة ميلين تقريبا عن المدينة المسورة. ولكن نجد على طول الطريق بيوتا ومطاحن تديرها الحيوانات. وقد بنى هذا الربض القديم جدا على ضفة النيل. ويضم حوالي أربعة آلاف أسرة. ويشتمل على كثير من الصناع والباعة ولا سيما تجار الحبوب والزيت والسكر.

وتوجد في هذا الحي أبنية جميلة كالجوامع والبيوت ومدارس الطلاب. والبيوت المبنية على ضفة النيل على الخصوص ، جميلة جدا ، وإنها لمتعة كبيرة أن يرى الإنسان من نوافذ هذه البيوت السفن التي تأتي من طريق النيل لميناء القاهرة الواقع في هذا الربض. ويظهر هنا أحيانا حوالي ألف مركب في الميناء ولا سيما في موسم حصاد الحبوب. وهنا يقف موظفو الضريبة الذين يراقبون البضائع القادمة من الإسكندرية أو من دمياط. غير أن هذه البضائع لا تخضع إلا لضرائب خفيفة بعد أن دفعت عنها رسوم المكس عند إنزالها على الشط. ولكن البضائع التي تأتي من مصر هي وحدها التي تدفع رسما كاملا.

ربض القرافة

القرافة (٨٩) ربض أشبه بمدينة صغيرة ، على مسافة رمية حجر من الجبل ، وعلى مسافة ميلين تقريبا من أسوار المدينة وتضم حوالي ألفي أسرة. وقد كانت في الماضي أكثر سكانا مما هي في الوقت الحاضر حيث تظهر شبه مخربة. وتظهر فيها قبور عديدة لشخصيات يعتبرها العوام ، في جملة حمقهم ، كأنهم أولياء. ولهذه القبور (٩٠) ابنية

__________________

(٨٩) القرافة من اسم قبيلة عربية كانت تعسكر عند قدم المقطم عند الفتح ، ثم اتخذ هذا الاسم معنى مقبرة في القاهرة.

(٩٠) تدعى الآن قبور المماليك.

٥٨٥

عالية مع قباب جليلة. وهي مزدانة من الداخل بنقوش متنوعة وبرسوم ، وأرضها وجدرانها مغطاة بأجود أنواع الزرابي ، ويأتي كثير من أهل القاهرة وأرباضها في صبيحة أيام الجمعة لزيارة هذه الأضرحة ورعا وتبركا ويتركون فيها صدقات عديدة.

المدينة القديمة المسمّاة مصر العتيقة

وهي أول مدينة بنيت في مصر في عصر المسلمين (٩١) وقد أسسها عمرو والي ثاني خليفة ، عمر (٩٢). وقد بناها على ضفة النيل. وهي ليست محاطة بسور ، ولكنها بنيت على شكل ربض كبير يمتد على طول النيل ، وتوجد فيها بضعة قصور عالية ، ولا سيما تلك التي تقع على ضفة النهر. وفيها جامع عجيب ، يدعى جامع عمرو ، ويعتبر مدهشا لجماله وعظمته ومتانته (٩٣). وهذه المدينة مجهزة بما يكفي من صناع من مختلف المهن.

وهنا يوجد قبر السيدة المبجلة جدا لدى المسلمين وهي السيدة نفيسة (٩٤). وقد كانت ابنة المسمى زين العابدين بن علي ، ابن عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) (*). وبعد أن رأت هذه السيدة أسرتها وقد انتزعت منها الخلافة على أيدي أقاربها أنفسهم ، انتابها اليأس ، وغادرت الكوفة ، وهي مدينة ببلاد العرب السعيدة ، وجاءت لتسكن هذه

__________________

(٩١) كانت موجودة قبل ذلك بثمانية أو تسعة قرون باسم بابل ، وربما تأسست على يد جماعة قدمت من بابل وظلت معروفة بهذا الاسم بعدئذ على ألسنة الأوربيين ، وكان سلطان مصر. يحمل حتى ذلك العصر لقب سلطان أو سلطان بابل.

(٩٢) عمرو بن العاص والى مصر من قبل عمر بين الخطاب.

(٩٣) عندما رأى المؤلف جامع عمرو كان هذا قد توسع منذ عهد قريب وجرت عليه تصليحات.

(٩٤) هذا خطأ ، لأن المسجد الذي يحوي ضريح السيدة نفيسة يقع عند أحد أبواب القرافة.

(*) [سلسلة النسب التي ذكرها المؤلف غير صحيحة. فالسيدة نفيسة صاحبة المقام المعروف في مصر هي بنت الحسن الأنور ابن زيد الأبلج ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وقد تزوجت من إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين. فهي حفيدة الإمام الحسن لا الإمام الحسين وزوجها هو الذي يتصل نسبه بالحسين. ولدت السيدت نفيسة بمكة المكرمة سنة ١٤٥ ه‍ وتوفيت بمصر سنة ٢٠٨ ه‍. وأنجبت من زوجها إسحاق الذي كان يدعى إسحق المؤتمن ، ولدين هما القاسم وأم كلثوم. وقد كان لها بمصر مجلس علم حضره الإمام الشافعي نفسه وسمع عليها فيه الحديث] (المراجع).

٥٨٦

المدينة (٩٥). ولهذا أصبحت نفيسة معتبرة لدى الشعب ، نظرا لحياتها الفاضلة جدا التي كانت تحياها ، ولأنها من أسرة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ، على أنها من أولياء الله. ولهذا السبب عمل الخلفاء الشيعيون في فترة حكمهم ، وهم من أقارب هذه السيدة ، على تشييد ضريح حسن جدا لها ، ازدان اليوم بسجاد الحرير وبالمصابيح الفضية (٩٦) ... الخ وبلغت شهرة نفيسة درجة جعلت كل مسلم يأتي إلى القاهرة ، سواء كان تاجرا أم غير تاجر ، جاء عن طريق البر أو البحر ، يقصد هذا الضريح للتشرف به ويقدم له النذور والهدايا. ويصنع كل سكان المناطق المجاورة نفس الشيء ، حتى إن الصدقات تصعد سنويا إلى مائة ألف أشرفي ، وتوزع بين الفقراء من نسل محمد (صلّى الله عليه وسلّم) وعلى الذين يقومون بخدمة الضريح. ويحاول هؤلاء باسم الكرامات المزعومة المنسوبة لهذه السيدة أن يشحذوا ورع البسطاء ليدفعوا بهم إلى حماس أكبر وإلى أن يبسطوا أيديهم كل البسط بالصدقات والنذور التي تعود فائدتها على هؤلاء. وعلى أثر دخول عظيم الترك سليم إلى القاهرة (٩٧) قامت الانكشارية بنهب المزار ووجدوا فيه خمسمائة ألف أشرفي نقدا ، هذا عدا المصابيح والسلاسل الفضية والسجاد. وقد أعاد سليم القسم الأعظم من هذا الكنز للضريح. أما الذين كتبوا عن حياة الأولياء المسلمين فلا يكادون يشيرون بأي ذكر لهذه السيدة : وقد قالوا إنها كانت سيدة شريفة طاهرة ونبيلة من أسرة علي. ولكن العامّي في سذاجته اعتقد في هذه الكراما وهذه الكرامات هي التي شكلت ثروة هذا القبر.

وفي جنوبي هذه الضاحية ، على النيل ، يقوم المكس بالنسبة للبضائع القادمة من الصعيد.

* هذا ويوجد في خارج المدينة المسوّرة أضرحة السلاطين وهي جميلة وفخمة ،

__________________

(٩٥) لقد اغتيل الإمام علي ، ابن عم الرسول وصهره ، في جامع الكوفة ، وهي مدينة فى العراق وليست في اليمن ، بتاريخ ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٦٦١ م وتوفي بعد يومين. وقد كان قريبه ومنافسه معاوية قد أصبح خليفة بدمشق ، واعترفت به أكثرية المسلمين. وكان معاوية الحفيد الأصغر لأمية ، ابن عم جد الرسول ، واتخذت الأسرة التي انشأها معاوية لهذا السبب اسم الأسرة الأموية.

وأضطرت أكثرية العلويين لمغادرة أوطانهم. وقد التجأت زينب بنت على وأخوها زين العابدين إلى الفسطاط.

(٩٦) كان الخلفاء الفاطميون يدعون أنهم ينحدرون من على ومن فاطمة ، ابنة الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم)

(٩٧) في ٢٢ كانون الثاني (يناير) ١٥١٧ م.

٥٨٧

ومبنية بشكل حسن جدا ، ومؤلفة من أبنية مرتفعة تعلوها قباب كبيرة. وقام سلطان عاش في زمن قريب منا بمد شارع بين جدارين عاليين ، يبدأ من أحد أبواب المدينة ويمتد حتى المكان الذي توجد فيه القبور (٩٨). وفي نهاية هذين الجدارين ، كان يوجد برجان للحرس الذي يرصد البضائع القادمة من ميناء جبل سيناء.

وعلى مسافة ميل من هذه الأضرحة تقع الأراضي الزراعية المسماة المطريّة. وهنا يقع البستان والشجرة الوحيدة التي تنتج البلسم ، إذ لا يوجد في العالم قاطبة سوى هذه الشجرة. وقد زرعت في وسط نبع يشبه البئر ، وهي ليست بالشجرة الكبيرة جدا وأوراقها تشابه أوراق الكرمة ، ولكنها أصغر. وبناء على ما سمعته يعتقد السكان أنه إذا انخفض ماء العين ، يبست الشجرة فورا ، وسيحدث لها أسوأ من ذلك إذا سقيت من ماء آخر. وفي ذلك إحدى عجائب الطبيعة. والبستان الذي تقع فيه محاط تماما بأسوار حصينة ، ولا يمكن الدخول إليه إلا بالتماس كبير أو بفضل بعض الهدايا التي تقدم للحارس (٩٩).

وتقع في وسط النيل ، وتجاه المدينة القديمة ، جزيرة تدعى المقياس ، لأنه يظهر فيها الجهاز الذي يقيس فيضان النيل (١٠٠). وبالفيضان يتعلق الرخاء أو المجاعة التي سيسود أحدهما في مصر. وهي تجربة لا تخطىء توصل إليها قدامى المصريين.

وهذه الجزيرة غاصة بالسكان ، وتحوي قرابة ألف وخمسمائة أسرة. ويظهر في نهايتها قصر كبير بناه سلطان عاش في أيامنا ، وجامع فسيح ذو مظهر جميل لأنه على حافة النهر. وعلى طرف هذا الجامع يقع بناء صغير منعزل ومغلق ، أقيمت في وسطه حفرة مربعة مغطاة عمقها سبعة عشر ذراعا (١٠١). وعلى واجهة هذه الحفرة تنفتح قناة باطنية

__________________

(٩٨) كانت قبور السلاطين التي تدعى خطأ اليوم قبور الخلفاء ، أي أضرحة الخلفاء الفاطميين ، كانت واقعة في المكان الذي قام فيه خان الخليلي ، ولكنها خربت واختفت ، مثلما اختفى الطريق المذكور. ومن المحتمل أن برح الظفر الذي بقيت منه أطلاله ، كان أحد برجي المراقبة. أما ميناء سيناء فمن المحتمل أنه كان القلزم الذي حل مكانه ميناء السويس.

(٩٩) هناك مسافرون فرنسيون معاصرون تقريبا للمؤلف أعطونا وصفا عن بستان المطرية ، أي بستان العذراء مريم ، وكذلك عن البلسم ، أكثر تكاملا وأكثر صحة. فلم يكن عبارة عن حديقة هزيلة يقصدها السياح ، بل كان من أكثر الأمكنة أهمية في العالم.

(١٠٠) وتدعى هذه الجزيرة الروضة ، وكان المقياس في نهايتها.

(١٠١) في الحقيقة ١٤ ذراعا ، والذراع ٥٤ سم ، ويقسم كل ذراع من الأذرع العشرة العليا إلى ٢٤ قيراطا ، أو إصبعا ، او ٢٢٥١ سم.

٥٨٨

تتصل مع مجرى النيل. وفي وسط الحفرة عمود مدرّج ومقسم إلى عدد مساو من الأذرع لعمق الحفرة ، أي سبعة عشر ذراعا. وعندما يأخذ النيل بالزيادة (١٠٢) ، يدخل الماء في القناة ويصل إلى الحفرة. ويصعد يوميا بمقدار إصبعين ، وفي يوم ثلاثة أصابع ، وفي يوم آخر نصف ذراع. ويأتي كل يوم أشخاص معينون لهذه الوظيفة لمراقبة ارتفاع الفيضان على هذا العمود (١٠٣). وينقلون ذلك لأولاد معممين بمنديل أصفر كي يمكن التعرف عليهم ، ومهمة هؤلاء الأولاد إعلان ارتفاع النيل في سائر أنحاء القاهرة وفي الأرباض. وينالون على ذلك هدايا من كل الصناع ومن كل التجار ومن النساء حتى نهاية الفيضان. وتبيّن التجربة أنه إذا بلغ الفيضان خمسة عشر ذراعا على العمود ، فإن العام سيكون ممتازا (١٠٤) ، وإذا لم يبلغ مستواه لأكثر من اثني عشر ذراعا إلى خمسة عشر ذراعا فإن العام سيكون هزيلا. أما إذا تراوح بين عشرة أو اثني عشر ذراعا فإن هذا يدل على أن سعر كيل القمح سيبلغ عشرة دنانير. ولكن إذا بلغ الفيضان ثمانية عشر ذراعا فإن كل الأماكن المسكونة في مصر ستتعرض لخطر الغرق. وعلى موظفي المقياس تحذير السكان من ذلك ، وينطلق الأولاد في الشوارع صارخين : «أيها الناس اتقوا الله من جبل إلى جبل». وهذا معناه أن الماء يصل إلى الجبل في ضفة النيل وإلى الجبل الآخر على الضفة الأخرى. وعندئذ يستبد الخوف بالناس ويؤدون الصلوات ويعطون الصدقات.

وهكذا يستمر تزايد النيل في اثناء أربعين يوما ويتناقص في أثناء نفس الفترة من الوقت (١٠٥) ، وفي أثناء تلك الفترة من حركة المياه يلاحظ نقص في الأقوات. ولهذا يكون لكل واحد الحق في أن يبيع الخبز بالسعر الذي يريد. ولكن ذلك يتم مع نوع من (١٠٦)

__________________

(١٠٢) أي من بعد ١٧ حزيران (يونية).

(١٠٣) كان هناك شيخ مقياس النيل ، كان له في الماضي لقب القاضي.

(١٠٤) كان يعلن عن وفاء النيل عندما كان مقياس النيل يبلغ ١٥ ذراعا و ١٦ إصبعا أي ٤٥ ، ٨ م.

(١٠٥) لقد بدلت المشاريع الهيدروليكية الهائلة التي حدثت في عصرنا ، وضع الفيضان ونظمته. ولكن قبل ذلك كان يعلن عن الفيضان عموما في القاهرة في يوم ١٧ حزيران (يونية) عن طريق تبدل لون المياه التي تأخذ بالصعود حوالي يوم ٢١ حزيران (يونية). وفي ٤ تموز (يولية) كان المنادون يظهرون في الشوارع ليعلنوا كل يوم عن ارتفاع الماء وحوالي منتصف آب (أغسطس) كان يعلن عن قدوم وفاء النيل ، الذي كان يوم فتح السدود. ويؤدي فتح القنوات إلى تباطؤ الفيضان الذي يبلغ أقصاه حوالي ٢٦ أيلول (سبتمبر). ثم يبدأ النقصان ، بصورة غير منتظمة نوعا ما ، وفي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) يكون نهر النيل قد عاد إلى مجراه.

(١٠٦) وبالتالي حوالي الأول من أيلول (سبتمبر) إذا كان خبر المؤلف صحيحا.

٥٨٩

تحفظ وحيطة. وبعد مضي ثمانين يوما يحدد المحتسب سعر الأقوات ولا سيما سعر الخبز. ويقع هذا التسعير مرة واحدة في العام ، ذلك لأن الموظفين يعرفون استنادا إلى فيضان النيل ، المناطق التي رويت بشكل طيب ، والتي نالها الماء بإفراط ، والمناطق التي لم تأخذ كفايتها من الماء ، وذلك حسب مستوى أرض الزراعة. وعلى أساس هذه المعطيات تثبت أسعار القمح. وفي بداية أيام الفيضان في البلاد (١٠٧) يقام في القاهرة احتفال كبير جدا. وتقوم حينئذ ضجة من غناء وصراخ وموسيقى حتى لكأن المدينة قد انقلبت رأسا على عقب. وتستأجر كل أسرة مركبا وتزينه وهكذا يصبح كل السكان في المراكب ويلهو كل حسب وسائله. كما يشترك السلطان نفسه مع أمرائه الكبار وضباطه بهذا الاحتفال. ويذهب لقناة تدعى القناة الكبرى ، وهي قناة مسوّرة (١٠٨). وهنا يأخذ فأسا ويضرب الجدار ويقوم كبار شخصيات حاشيته بصنع نفس الشيء إلى أن يتخرب القسم من الجدار الذي كان يمنع وصول الماء. وعندئذ ينهمر ماء النيل حالا في القناة بعنف كبير ومنها يوزع في القنوات الأخرى في الضواحي وفي المدينة المسورة. حتى إن مدينة القاهرة لتشبه مدينة البندقية ، ويمكن التنقل في المركب إلى كل الأماكن المأهولة وإلى كل بلدان مصر. ويستمر الاحتفال سبعة أيام حتى إن كل ما يربحه بائع أو صانع في العام ينفقه في هذا الأسبوع على غذائه وعلى الحلوى والمشاعل والعطور ، وعلى الموسيقيين. وهذا العيد هو نوع من مخلفات قدامى المصريين(١٠٩).

* * *

وفي خارج القاهرة ، تقع قلعة السلطان بجانب ربض باب زويلة ، وقد شيدت على نتوء من جبل المقطم. وهذه القلعة محاطة بأسوار عالية ومتينة ، وهي مطوقة بقصور عجيبة تعجز الكلمات عن وصفها ، ومبلطة بأنواع من الرخام المتعدد الألوان ، ومجموع بعضها إلى بعض بشكل مدهش. وقد كسيت السقوف بالذهب وبأزهى الألوان. والنوافذ مزدانة بزجاج ملوّن ، كالتي يرى منها في بعض أنحاء أوربا. ونجارة الأبواب منقوشة بفن رفيع ومغطاة بالرسوم وبالتذهيبات. وكانت هذه القصور

__________________

(١٠٧) أي يوم وفاء النيل حيث يتم فتح السدود كي ينساب الماء في القنوات ومنها يغمر الأراضي القابلة للزراعة.

(١٠٨) في فم الخليج ، أي فم القناة الكبرى.

(١٠٩) كان فرعون يذهب بنفسه بالفعل لكسر السد .. وعيد الوفاء كان موجودا دائما ، ولكنه رمزي صرف ، وهو نوع من تقليد منذ أن أصبح فيضان النيل نوعا من حياة او موت بالنسبة لشعب مصر.

٥٩٠

مخصصة سواء لأسرة السلطان ذاته ، أو لنسائه ، أو لمحظياته ، أو لخصيانه ، أو لحرسه ، وكان البعض منها مخصصا لولائم السلطان الرسمية أو لاستقبال السفراء ، وحيث تقام احتفالات الأفراح الكبرى. وكانت هناك قصور أخرى مخصصة للموظفين المكلفين بإدارة البلاط. ولكن كل ذلك اختفى الآن. فقد ألغى السلطان سليم كل ذلك (١١٠).

عادات وثياب وتصرّفات سكان القاهرة وأرباضها

سكان القاهرد أناس لطفاء ومرحون. وهم لا يبخلون بالكلمات الطيبة ، ولكنهم لا يصنعون الكثير من الأشياء ، كما هو مألوف في كل مدن القانونية الكبرى. ويزاولون التجارة والصناعة ، غير أنهم لا يخرجون من بلادهم. وينصرف كثير منهم لدراسة الشريعة ، والقليل منهم لدراسة الآداب. وعلى الرغم من أن المدارس تكون دائما مليئة بالطلاب ، فليس هناك سوى عدد قليل منهم من الذين يحصلون على فائدة من ذلك.

ولأهل القاهرة هندام حسن. ففي الشتاء يلبسون أقمشة صوفية وبعض الثياب المحشوة بالقطن ، أما في الصيف فيلبسون قمصانا طويلة من قماش رقيق وفوقه نوع من ثوب من قماش مصنوع من حرير ومقلم بالألوان أو ثوبا من الحرير ويضعون فوق الرأس عمائم كبيرة من قماش الكريب والمستورد من الهند.

ويظهر البذخ على لباس النساء ، فهن يخرجن متبرجات بالحلى التي يلبسنها على شكل أطواق على الجبين وفي العنق. ويضعن فوق رءوسهن عصابة غالية الثمن ، ضيقة تعلوها ريشة (١١١) على شكل أنبوب. وتتألف كسوتهن من ثوب من جوخ ذي أكمام طويلة. وتختلف طبيعة القماش ، ولكن الثوب يكون مفصلا بعناية ومزدانا بتطريزات بديعة. ويلففن جسومهن بوشاح من قماش القطن الرقيق جدا والشديد النعومة والمستورد من الهند. ويضعن على وجوههن برقعا صغيرا أسود اللون من قماش غاية في

__________________

(١١٠) لقد كانت قلعة الجبل هذه عبارة عن مدينة ملكية حقيقية. وقد كتب الرحالة جان تينو والمعاصر للمؤلف «لم يكن قصر السلطان أقل اتساعا من مدينة أورليئان».

(١١١) حوالي ٢٢ سم.

٥٩١

الرقة ، ولكنه خشن نوعا ما حتى ليقال إنه مصنوع من الشعر. وبفضل هذا البرقع يستطعن رؤية الرجال دون أن يمكن التعرف عليهن. وينتعلن في أقدامهن خفا أو أحذية جميلة على الطراز التركي. وهذه النسوة عاليات الكلفة كثيرا ويعلقن أهمية كبرى على ما يقال ، حتى إنه لا توجد واحدة منهن تقبل أن تغزل ، ولا أن تخيط الثياب ، أو تطهو الطعام. ولهذا يجب على الزوج أن يشتري من الخارج الطعام الجاهز المطبوخ من محلات الطباخين والشوائين. والقليل من الناس هم الذين يصنعون طعامهم ببيوتهم ، باستثناء العائلات الكثيرة العدد. وتتمتع هذه النسوة بحرية كبيرة وبالكثير من الاستقلال. وهكذا فعندما يذهب الزوج إلى دكانه ، تلبس الزوجة ثيابها وتتعطر ، ثم تستأجر حمارا وتذهب لتتنزه في المدينة ولزيارة أهلها وأصدقائها.

وإليكم بعض التفاصيل عن الحمير التي تركبها النساء والرجال. ففى القاهرة توجد جماعة من الناس تعيش من مهنة تأجير الحمير. ولديهم من أجل ذلك حيوانات كبيرة مدربة لها مظهر الرهاوين (١١٢) وتكون مزدانة ببراذع جميلة. ويؤجرونها مع أحد غلمانهم كسائق ومع الركابين (١١٣). وفي القاهرة عدد كبير جدا من الأشخاص الذين لا يمشون ربع ميل على أقدامهم. وفي هذه المدينة كما فى كثير من المدن الأخرى عدد لا يحصى من الذين يتجولون طيلة النهار ، وهم يبيعون أشياء مختلفة كالفواكه والجبن واللحم النيىء والمشوي ، والسلع الأخرى من هذا الصنف. ويوجد كذلك عدد كبير من الرجال الذين يحملون على الجمال كميات من القرب المليئة بالماء ، لأن المدينة تقع ، كما قلت ، على مسافة ميلين من النيل. ويحمل رجال آخرون قربا معلقة برقبتهم ، وهذه القربة مزخرفة بتزيينات وفتحتها مجهزة بأبنوبة من النحاس الأصفر. ويحملون بيدهم طاسة رشيقة منقوشة بصورة فنية ويسيرون منادين على مائهم. ويدفع الزبون نصف فلس من عملتهم المحلية.

ويرى الإنسان كثيرا من باعة «الكتاكيت» يتجولون في المدينة ويبيعونها بالكيل لا بالوحدة حسب عادة البلد ، ولهؤلاء الناس أسلوب مدهش لتفقيس الفراخ. وهم يأخذون ألف بيضة أو أكثر ويضعونها جميعا في نوع من أفران متعددة الطوابق ، ويكون

__________________

(١١٢) أى تمشي رهوا وهو سير لا يتعب الراكب كثيرا

(١١٣) الركابى هو الذى يساعد الفارس على الركوب وعلى النزول وكان يحمل الحقائب أو صرر الثياب.

٥٩٢

الطابق العلوي مثقوبا بفتحة. ويوقدون نارا هادئة تحت هذه الأجهزة. وبعد سبعة أيام تبدأ الفراخ بالتفقيس بأعداد كبيرة. وتجمع هذه الفراخ في أوعية كبيرة وتباع مستخدمين كيلا بدون قعر يوضع في سلة المشتري. ويملأ هذا الكيل بالكتاكيت وعندما تمتلىء ترفع. ويدفع المختصون بتفقيس هذه الفراخ ضريبة عالية للسلطان (١١٤). ويحتفظ أصحاب المطاعم بدكاكينهم مفتوحة حتى منتصف الليل ، بينما يغلق الآخرون قبل الساعة الثالثة والعشرين ويذهبون من ربض لآخر كي يتروضوا ويمرحوا في المدينة.

* * *

هذا ويخلو الحياء من أحاديث سكان القاهرة. ولنضرب صفحا عن كل هذه العيوب ، ولكن لنذكر أن كثيرا ما تشتكي زوجة ما أمام القاضي من أن زوجها لا يقوم كل ليلة كما يجب بوظيفته الزوجية. وكثيرا ما يكون هذا سببا للطلاق ، والزواج مرة ثانية ، وهذا ما سنقوله بعد في الكتاب الصغير الحاضر عن الشريعة المحمدية ويؤكد كاتب هذه السطور أنه رأى في القاهرة أشياء على درجة من القبح تجعله يستحي من الكلام عنها.

* وحينما يحدث أن يقوم واحد من الصناع ، في مهنته ، بإنتاج شيء جميل يدل على الابتكار ، الذي لم يسبق أن رأى أحد له مثيلا ، يكسى بعباءة من قماش الحرير ، ويطوفون به من دكان لدكان ، مصحوبا بموسيقيين ويعطيه كل منهم شيئا من المال. وقد رأيت في القاهرة رجلا حاز على هذه التشريفات الاقتصادية لأنه صنع سلسلة لبرغوث كان يمسك به مكبلا فوق ورقة. وكان أحد رفاقه يريه للناس ويجمع النقود. كذلك رأيت ضربا من البراعة قام به أحد السقائين الذين يتجولون حاملين قربا معلقة برقابهم. فقد راهن صاحبنا آخر بأنه سيحمل قربة من جلد عجل ، مليئة بالماء ومربوطة بسلسلة من حديد عدة أيام ، وفي أثناء سبعة أيام متتاليات ، من الصباح إلى المساء ، ظل يحمل هذه القربة المعلقة بسلسلة تمر فوق كتفه العاري ، إلى أن ربح الرهان. وقد تلقى تكريمات النصر الباهر ، مع مواكبته بمختلف الموسيقيين وبكل

__________________

(١١٤) وهي صناعة مصرية وطنية تعود لأقدم عصور التاريخ.

٥٩٣

سقائي القاهرة الذين يقارب عددهم ثلاثة آلاف. ومن وجهات نظر أخرى فإن سكان القاهرة ليسوا على قدر كبير من الشجاعة. وليس لديهم أسلحة في منازلهم ، ولا يعثر الإنسان على سكين لقطع الجبن إلا بصعوبة. وقد يتشاجرون أحيانا ويتبادلون اللكمات ، في حين تهرع فئات المشاهدين ولا ينصرفون حتى يتم الصلح بين المتخاصمين.

وأكثر انواع الغذاء رواجا لحم الجاموس مع كمية كبيرة من الخضر. وعند الطعام يمدّ خوان قصير ومستدير ، هذا إذا لم تكن الأسرة كثيرة العدد ، وإذا كانت الأسرة كثيرة الأفراد يستخدم سماط طويل كالذي يستعمل في البلاط.

ويوجد لدى المسلمين مذهب ديني يبيح أكل لحم الحصان (١١٥). وعندما يتعرض حصان لكسر في أحد أطرافه ويصبح عاجزا عن العمل ، يشتريه الجزارون الذين يتبعون هذا المذهب ، ويسمنونه ، ويذبحونه ، ويتهافت الناس على شراء لحمه. ويدعى هذا المذهب بالمذهب الحنفي (*). ويتبع الأتراك هذا المذهب والمماليك ومعظم مسلمي آسيا. ومع أن لحم الحصان شرعي وحلال بالنسبة للأتراك فليس من عادتهم أكله.

ونجد في القاهرة كما في كل مصر أربعة مذاهب دينية مختلفة فيما بينها في إقامة العبادات وفي تطبيق الشريعة المدنية والقانونية ، ولكنها ترتكز جميعا على تعاليم القرآن. وعلينا أن نعرف أن أربعة علماء أوجدوا ، في الماضي ، وذلك بفضل اجتهادهم ، أوجدوا طريقة لاستنباط حالات فريدة في العموميات التي جاءت في دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وقد فسر كل منهم القرآن حسب وجهة نظره واستخلص منه النتائج

__________________

(١١٥) «عادة أكل لحم الحصان ليست جديدة ولا تلفت النظر ، فقد ذبح حاتم الطائي فرسه ليقدمها لضيوفه. كما أن مسلمي القفقاس يأكلونه وكذلك حاليا في أوربا ولا سيما في باريس ، ولكن غلاء ثمنه في العصور الماضية في عالم الإسلام حال دون ذبحه وبالتالي نسيان عادة استهلاك لحمه» (المترجم).

(*) [في مذهب الإمام أبي حنيفة فيما يتعلق بأكل لحم الفرس قولان : أحدهما ينسب للإمام نفسه ويقرر أن أكله جائز ولكنه مكروه كراهة تنزيه (أي كراهة خفيفة) في رواية ، وكراهة تحريم (أي كراهة شديدة) في رواية أخرى ؛ والآخر ينسب للصاحبين (وهما أبو يوسف ومحمد من أبرز تلاميذ أبي حنيفة) ويقرر أن أكله جائز ولا كراهية فيه. ـ هذا وهناك مذاهب أخرى غير مذهب أبي حنيفة من مذاهب أهل السنة وغيرهم يجيز أكل لحم الفرس. ـ انظر الميداني على القدوري في مذهب أبي حنيفة ص ٣١٧] (المراجع).

٥٩٤

التي اعتقد أنها صائبة ، ولهذا تختلف آراؤهم كثيرا (١١٦) بعضها عن بعض ، وقد اكتسب هؤلاء العلماء الأربعة شهرة عظيمة بفضل شدة التقدير التي اكتسبته قواعدهم. وكانوا هم أهل المذاهب الأربعة واعتبروا رؤساءها. وتتبع كل أمة من الأمم الإسلامية أحد هذه المذاهب. وعندما يعتنق أحدهم واحدا من هذه المذاهب لا يستطيع تركه واتباع آخر ، إلا إذا كان ضليعا يفهم الأسباب ويدركها. ويوجد في القاهرة أربعة أشخاص يدعون شيوخ القضاة والذين يفصلون في القضايا الهامة (١١٧).

وقد وضع تحت سلطة كل واحد منهم عدد لا يحصى من القضاة ، حتى إننا لنجد منهم اثنين أو ثلاثة في كل حي للفصل في القضايا العادية جدا. فإذا كان المدعى عليه يتبع مذهبا وخصمه مذهبا آخر ، فإن المدعي يذكر هذا أمام القاضي الذي يتعلق به. ولكن المدعى عليه يستطيع الاستئناف أمام قاض معين من قبل الأربعة كقاض أعلى ، وهو قاضي المذهب الشافعي. وإذا ارتكب أحدهم عملا محظورا في المذهب الذي يتبعه ، فإن قاضي هذا المذهب يعاقبه بشدة.

كما يتمسك أئمة هذه المذاهب المختلفة فيما بينهم باختلافات في طرائق الصلاة ، وفي عدة مناسبات أخرى ولكن رغم هذه الاختلافات ، فليس لدى أحد أي حقد أو كره للآخرين ولا سيما بين عامة الشعب. ولكن تقوم أحيانا بين المثقفين ، الذين تعمقوا في الدراسات ، مناقشات ويتنازعون على حالات خاصة ، ويدافعون عن وجهات نظرهم ، ويرغب كل واحد في أن يبرهن على أن مذهبه هو الأفضل. وعلى كل حال لا يستطيع أن يتكلم أي منهم بسوء نحو أحد العلماء الأربعة الكبار ، لأن من يجرؤ على ذلك ينال عقوبات جسدية قاسية. والمسلمون متساوون في مادة الإيمان لأنهم يظلون على النهج الذي رسمه الأشعري سيد علماء التوحيد ، ومذهبه هو المتبع

__________________

(١١٦) القرآن والأحاديث النبوية ، اللذان يؤلفان مصدري الإسلام السني ، يعتبر ان أساس عقيدة لا تمس إطلاقا.

ولكنها فسرت حب طرائق مختلفة ، منها أربعة تعتبر مقبولة لدى الإسلام السني الأصيل. وهذه المذاهب هي : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وهي مذاهب الإمام مالك بن أنس ، من المدينة المنورة ، المتوفي عام ٧٩٥ م ، ومذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، من الفسطاط ، والمتوفي عام ٨٢٠ م ، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل من بغداد ، والمتوفي سنة ٨٥٥ م ، ومذهب الإمام أبي حنيفة بن النعمان بن ثابت ، من الكوفة والمتوفي سنة ٧٦٧ م.

(١١٧) لم يكن في القاهرة سوى قاض قضاة شافعي واحد يساعده ثلاثة نواب ، يعتبر كل واحد منهم كقاضي قضاة في مذهبه الواحد حنفي والثاني مالكي ، والثالث حنبلي. وقد شغل المؤرخ الشهير ابن خلدون المتوفي في ١٦ آذار (مارس ١٤٠٦ م في القاهرة ، وظيفة قاضي قضاة المالكية ، وهي وظيفة تسنّمها في عدة مناسبات منذ عام ١٣٨٤ م.

٥٩٥

في كل أفريقيا وآسيا ، باستثناء البلاد التي يحكمها الصوفي (١١٨). فسكان هذا القطر الأخير لا يتبعون قاعدة الأشعري ، ولا أيا من المذاهب الأربعة ، ولهذا يعتبرون رافضة. وسيكون طويلا وباعثا على السأم إذا أردنا تفسير الأسباب التي تعلل الاختلافات في الرأي التي حدثت بين هؤلاء العلماء. ولقد عرفتها في كتاب صغير كتبته عن الإيمان والشريعة المحمدية استنادا إلى مذهب الإمام مالك (١١٩) ، وهو رجل على قدر عظيم من الذكاء والمعرفة العالية ، ولد في مدينة النبي ، أي في المدينة التي دفن فيها محمد (صلّى الله عليه وسلّم). ومذهبه متبع في كل إفريقيا ، كما نجده أيضا في مصر ، وفي سورية ، وفي جزيرة العرب ، ومن يجد فائدة في معرفة المزيد فليس عليه سوى قراءة ذلك المؤلف ، وسيحصل على كل بغيته.

والعقوبات المفروضة على المفسدين في مصر قاسية ومؤلمة ، ولا سيما التي تصدر في محكمة الملك. فالذي يسرق يشنق. والذي يرتكب جناية قتل غدرا يتعرض للعقاب التالي : يمسك به أحد اعوان الجلاد من قدميه ، ويمسك الآخر برأسه ، ويمسك منفذ الإعدام المسلح بسيف في يديه. ويقطع الجسم الى قسمين. ويوضع القسم الأعلى فوق كومة من الكلس الحي وقد يعيش مدة عشرين دقيقة مستمرا في كلامه. وهو شيء رهيب عند المنظر وعند السماع (١٢٠). اما القتلة والمتمردون فيسلخ جلدهم وهم أحياء كما يحشى جلدهم بالنخالة ويخاط ، بحيث يكون له مظهر رجل عادي. ويوضع هذا التمثال على جمل ويطاف به في كل المدينة مع المناداة على الجرم الذي اقترفه هذا المعاقب. وهذا هو أفظع عقاب قضائي رأيته في العالم لأن المحكوم يتعذب كثيرا قبل ان يموت وذلك أنه يظل يتعذب وهو يسلخ حيا ، ولا يموت الّا حينما تصل سكين السلخ الى سرته ، فحينئذ يقضى عليه فورا. ولكن هذا لا يمكن ان يحدث الّا بناء على أمر خاص من السلطة العليا.

__________________

(١١٨) ولد أبو الحسن علي الأشعري عام ٨٧٣ م في البصرة وتوفي في بغداد سنة ٩٣٥ م. ولم يقف بحثه عند حد العقيدة بل تعرض كذلك إلى المسائل العملية التي تتعلق بسلوك المسلمين في حالات معينة. وقد اتخذ الإسلام السني وجهات نظره عن مسئولية الإنسان الشخصية ، وعن الصفات الإلهية ، وعن القرآن الخالد وغير المخلوق ... الخ. والصوفى هو شاه فارس.

(١١٩) هو مذهب الإمام مالك بن أنس.

(١٢٠) يبدو هذا الامر مستحيلا من الناحية الفيزلولوجية ، غير أنه قد تأكد في أماكن أخرى. وكان هذا العقاب دارجا ، ويدعي عقوبة الوسط ، كعقاب قطع الرأس بالمقصلة في أوربا.

٥٩٦

أما الأشخاص المسجونون بسبب ديونهم ، إذا عجزوا عن التسديد ، فان قائد السجن يعوض على دائنيهم نيابة عن هؤلاء. فيمسك بهؤلاء التعساء معتقلين ، ويرسلهم كل يوم إلى مدينة مكبلين من الرقاب تحت قيادة حراسهم طلبا للصدقة. ويستلم هذا مجموع هذه الصدقات ولا يترك للمساجين إلا ما يكفيهم ليحيوا حياة بائسة.

* * *

وهناك نساء عجائز يتجولن في المدينة ، يصحن بعبارات لا أفهمها. ومهنتهن هي ختن البنات ، وهي عملية أمر بها محمد (صلّى الله عليه وسلّم) (*) ولكن لا تطبق إلا في مصر وفي بلاد الشام (١٢١).

السلطان

أهمّ موظفيه وضبّاطه حسب مرتباتهم

جرد سلطان مصر من منصبه ومن سلطته على يد عظيم الترك سليم في عام ١٥١٧ من ميلاد المسيح (١٢٢). وبذلك تغيرت جميع النظم التي كانت متبعة في عهد سلاطين مصر ، وبما أنه قد اتفق وجودي بمصر في عهد قريب من عهد هؤلاء السلاطين. وأنني استطعت ان أرى وأن أدرس نمط الحياة في هذا القطر في أثناء الرحلات الثلاث التي قمت بها ، وذلك كما سبق أن قلت في هذا المؤلف الصغير ، يتراءى الى أنه من المفيد إعطاء المعلومات التالية عن بلاط السلطان وعن تسلسل المراتب فيه.

السلطان ـ وكان أكثر المماليك شرفا ، ومن ثم كان ينتخب لهذه المرتبة ولهذه الدرجة.

وكان المماليك نصارى أسروا في طفولتهم على أيدي التتر من اقليم الشراكسة على

__________________

(*) [لم يثبت ورود أمر ولا استحباب بذلك من الرسول عليه السّلام] (المراجع).

(١٢١) عادة لا تزال دارجة في أيامنا في مصر وفي منطقة الدناقل في السودان ، وتقوم على بتر البظر.

(١٢٢) لقد تم تسليم آخر سلطان مملوكي ، وهو طومان باي ، بعد محاولته القيام بمقاومة يائسة ، الى السلطان سليم عن طريق الخيانة وشنق في ١٢ نيسان ١٥١٧ م.

٥٩٧

البحر الاسود (١٢٣) ، وكانوا يباعون في مدينة تدعى الكافّة (١٢٤). ومن الكافة كان يأتي بهم الى القاهرة تجار ويشتريهم السلطان (١٢٥). الذي كان يقوم بتبديل اسمائهم التي تعمدوا عليها ، ثم يسلمهم لأساتذة في اللغة العربية وفي اللغة التركية وفي التربية العسكرية. وعن هذا الطريق كان هؤلاء المماليك يترقون ، عبر درجات ، الى مراتب ومناصب ، كي يصلوا أحيانا الى السلطة القصوى.

ولكن هذه العادة التي تقضي بأن يكون السلطان مملوكا أو عبدا لم تكن معهودة الا منذ مائتي وخمسين سنة ، اي منذ انقراض اسرة البطل صلاح الدين الذي كان مجده معروفا لدى الجميع (١٢٦).

وفي العصر الذي اراد فيه ملك القدس ان يحتل القاهرة التي كادت ان تصبح تابعة له بسبب جبن وغفلة الخليفة الذي كان يحكم وحده حينئذ (١٢٧) قام العلماء والقضاة بموافقة من الخليفة ، واستنجدوا بأمير من آسيا من أمة تدعى الكرد ، وهم قوم يعيشون تحت الخيام كالعرب وكان هذا الامير يدعي صلاح الدين (١٢٨).

__________________

(١٢٣) أي شراكسة من حيث المبدأ ، ولكن كان بينهم رقيق من كل أصل ، حتى من أصل أوروبي.

(١٢٤) أو تيودوزيا في الإغريقي ، وتدعى اليوم فودوزيا ، في شبه جزيرة القرم شمالي البحر الاسود.

(١٢٥) ومن هذا جاءت عبارة مملوك ، أي حصل عليه صاحبه مقابل ثمن.

(١٢٦) يبدو ان إنشاء هذه الفرقة الأجنبية الحقيقة ، اي جيش المماليك ، قد ظهر لأول مرة في أيام الخليفة العباسي المعتصم الذي حكم بين ٨٣٣ ـ ٨٤٢ م. وهكذا استطاع كل المرتزقة الشرقيين التوصل لأكثر وظائف الدولة أهمية.

فصلاح الدين نفسه ، الذي كان كرديا ، استخدم هؤلاء الأغراب على نطاق واسع ، ولكن أحد أحفاده وخلفائه ، وهو الملك الأيوبي نجم الدين أيوب الصالح ، الذي حكم بين ١٢٤٠ و ١٢٤٩ م ، هو الذي استحدث التنظيم المملوكي في مصر. واول سلطان مملوكي كان آيبك ، الذي انتخب في ٣١ تموز (يوليو) ١٢٥٠ م / ١٩ ربيع الثاني ٦٤٨ ه‍ ، وآخرهم هو طومان باي الذي شنق في ١٢ نيسان (ابريل) ١٥١٧ م / ١٩ ربيع الاول ٢٩٣ ه‍ فالسلاطين المماليك قد احتفظوا إذن بالسلطة الملكية في مصر مدة ٢٧٥ سنة هجرية. ولكن الفتح التركي لم يقض على المماليك حتى لقد استردوا السلطة فعلا سنة ١٦٦٦ م ، وفي ١٧٩٨ م حاولوا فعلا منع الجنرال نابليون بونابرت والجيوش الفرنسية من احتلال البلاد ، حيث كان عددهم ٠٠٠ ، ٥٠ منهم ١٢٠٠٠ فارس ، وفي خلال معركة الأهرام وحدها التي وقعت في ٢١ تموز (يوليو) ١٧٩٨ سقط منهم ٧٠٠٠ قتيل ، وفي الأول من أيار (مايو) ١٨١١ استطاع باشا مصر محمد علي ان يبيد أواخر المماليك بعد مأدبة القلعة الشهيرة.

(١٢٧) ملك القدس وهو آمورى الاول الذى ارتقى العرش في ١٨ شباط (فبراير) ١١٦٢ وعمره ٢٧ سنة والذي لم يكن آخر ملك حقيقي على القدس. ـ والخليفة الفاطمي المذكور هنا هو العاضد بالله.

(١٢٨) الواقع كانت مصر الفاطمية تقيم علاقات حسن جوار مع مملكة القدس النصرانية. ولكن كان يحكم في حلب أمير سني ، وهو نور الدين محمود ، الذي كان عدو النصارى اللدود في فلسطين وعدو فاطميي مصر ، وفي عام ١١٦٧ م أرسل نور الدين لفتح مصر قائده الأعلى أسد الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ، الذي كان حتى ذلك الوقت منكبا على ـ

٥٩٨

وعين أسد الدين صلاح الدين قائدا عاما على الجيش المهيأ لمحاربة ملك القدس. وقدم إلى مصر مع خمسين الف فارس. ومع ان صلاح الدين كان لا يزال شابا ، فقد عرف عنه شدة إقدامه ، وعين اميرا لجمع عوائد مصر وإنفاقها. وبعد ان نظم جيوشه سار صلاح الدين ضد النصارى ، فأحرز عليهم نصرا خاطفا وطردهم على أثره من القدس ومن كل بلاد الشام. ولما عاد الى القاهرة عمل مشروعا لكي يكون ملكا عليها. فقتل زعماء حرس الخليفة ، وكانا من جنسيتين مختلفتين ، لانه كان هناك حرس من زنوج أثيوبيا وحرس من الصقالبة ، وكان زعيماهما يهيمنان على كل الدولة برمتها. ولما وجد الخليفة نفسه بدون حماية ، فكر في وضع صلاح الدين في السجن ، ولكن بمجرد ان علم صلاح الدين بذلك ، قضى على الخليفة وأرسل فورا خضوعه لخليفة بغداد الذي كان الخليفة الحقيقي ، لأن خليفة القاهرة كان شيعيا (١٢٩).

__________________

ـ الدراسات الدينية في دمشق. وكان الخليفة العاضد قد تخلى فعليا عن السلطة لزعيم المرتزقة. شاوار ، الذي كان الفرنجة يسمونه بالفعل سلطانا ، وكانت إدارة البلاد في يدي خصي نوبي ، مؤتمن الخلفاء ، وهو قائد الحرس الأسود. ولما علمت الحكومة المصرية بقدوم أسد الدين استنجدت بالملك الصليبي آموري الذي جاء شخصيا مع أمرائه الفرنجة للدفاع عن مصر ضد قوات أسد الدين شيركوه وحدثت معركة غير حاسمة في مصر العليا بتاريخ ٢٣ آذار (مارس) ١١٦٧ م ، كاد الملك آموري نفسه يسقط فيها أسيرا ، واضطر أسد الدين بعد ذلك الى العزوف عن محاولته ، ولكن عند تراجعه احتل الإسكندرية ، حيث ترك ابن أخيه صلاح الدين يوسف حاكما عليها. وجاء الملك آموري وقواته من الفرنجة لمحاصرتها فاضطر صلاح الدين للتسليم في ٤ آب (أغسطس) ١١٦٧ م. ولكن الملك الفرنجي الفارس ، وكان سنه اثنتين وثلاثين سنة ، عامل خصمه بتكريم ولطف وأطلق سراحه ، وكان لصلاح الدين من السن حينئذ ثلاثون سنة. وفي أعقاب هذه الحملة أصبحت مصر تحت ما يشبه الحماية الفرنجية ، وأقام مدير شرطة افرنجي في القاهرة كما أصبحت حراسة أبوابها منوطة بالفرنجة. وحينئذ تمكن الأمراء الفرنجة من إقناع الملك الفرنجي آموري الذي قرر محاولة فتح مصر. ولكن رد الفعل الإسلامي كان فوريا. ورغم المذهب الشيعي (الذي كان مذهب الخليفة الفاطمي حينئذ) فقد استنجد وجهاء مصر بأمير حلب نور الدين. فأرسل هذا قواته الى مصر بقيادة اسد الدين شيركوه ، الذي ظل ابن أخيه صلاح الدين يعاونه.

وقد كسب الملك الفرنجي آموري معركة بلبيس ووصل الى القاهرة بتاريخ ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٦٨ م ، ولكن لما وجد الفسطاط ملتهبة بالحرائق بشكل مفتعل ، وجد من الحيطة العودة الى فلسطين ، وتواجه الجيشان الإسلامي والصليبي بدون أن يشتبكا.

(١٢٩) يتطلب هذا العرض التوضيح التالي. لقد دخل أسد الدين شيركوه الى القاهرة في ٨ كانون الثاني ١١٦٨ م ، فشعر شاوار وهو صاحب السلطة الحقيقة حينئذ ، أنه خاسر لا محالة ، ففكر باعتقال أسد الدين وصلاح الدين وأهم ضباطهما خلال مأدبة ، ولكن المؤامرة اكتشفت. فقام صلاح الدين نفسه باعتقال شاوار ثم حصل على إذن من الخليفة وقطع رأسه في ١٨ كانون الثاني (يناير) ١١٦٩ م. وحينئذ منح العاضد ، الضعيف ، أسد الدين لقب ملك. ومات أسد الدين الهرم في ٢٣ آذار ١١٦٩ م وأصبح ابن أخيه صلاح الدين يتمتع بلقب ملك. ولما استدعى الخصي ، المؤتمن ، الملك الإفرنجي آموري ، سقطت الرسالة بتاريخ ٢٠ آب (أغسطس) ١١٦٩ بيد صلاح الدين فعمد الى قطع رأس المؤتمن وقتل كل الحرس الأسود. وقد احترم صلاح الدين سلطة الخليفة الفاطمي رغم التحريضات المستعجلة من طرف نور ـ

٥٩٩

وهكذا حكم خلفاء القاهرة مدة مائتين وثلاثين عاما (١٣٠). وعند ما مات آخرهم (١٣١) لم يبق سوى خليفة بغداد الذي هو الخليفة الشرعي الحقيقي. وبعد اتلاشي شيعية الخلفاء نشب الخلاف بين سلطان بغداد وصلاح الدين ، الذي أصبح سلطانا في القاهرة ، ذلك لأن سلطان بغداد ، الذي كان ينتسب لأمة آسيوية والذي كان قبل ذلك ملكا على مازنداران وخوارزم ، وهما إقليمان واقعان على نهر الغانج ، كان يعتقد أن القاهرة تتبعه. وأراد شن الحرب على صلاح الدين ولكن منعه من ذلك ظهور التتر الذين نفذوا الى خراسان وقاموا فيها بتخريبات شديدة (١٣٢). وكان صلاح الدين ، من جهته يخشى قدوم النصارى الى بلاد الشام بقصد الثأر من الاهانة التي ألحقا بهم ، كما انقرض جنوده ، فقسم منهم قضى عليه في الحروب ، وآخرون هلكوا بالطاعون ، وقسم ثالث منهم استخدموا في ادارة المملكة وحكمها.

ولهذا السبب أخذ يشتري الرقيق الشراكسة الذين كان من عادة ملك ارمينيا

__________________

ـ الدين أمير حلب ، الذي كان صلاح الدين يعتبر نفسه دوما ، بكل بساطة نائبا له. غير أن العاضد سقط مريضا بشكل خطر. وفي يوم الجمعة السابع من محرم ٦٥٧ ه‍ / ١٠ أيلول (سبتمبر) ١١٧١ نودي بالخطبة ، في الجامع الأزهر ، للخليفة العباسي في بغداد. وكان العاضد يعاني سكرات الموت ووافاه الأجل بعد أيام ثلاثة. وبعد هذه الاحداث قام صلاح الدين بحملاته في بلاد الشام ضد المملكة النصرانية مع العديد من المعارك المظفرة تارة والفاشلة تارة اخرى.

(١٣٠) في يوم الجمعة ٢٠ شعبان ٣٥٨ ه‍ / ٩ تموز (يوليه) ٩٦٩ م ، جعل جوهر الصقلي خطبة الجمعة في جامع الفسطاط الكبير باسم الخليفة الفاطمي المعز. وبذلك تكون الخلافة الفاطمة قد دامت في مصر مدة تقل قليلا عن ٢٠٩ سنة هجرية وليس ٢٣٠ كما يقول المؤلف. والأسرة الفاطمية التي ظهرت بعد المناداة بالمهدي عبيد الله يوم الجمعة ٢١ ربيع الاول ٢٨٧ ه‍ / ٨ كانون الاول (ديسمبر) ٩٠٩ م دامت اجماليا مدة ٢٧٠ سنة عربية.

(١٣١) يقصد الفاطميين.

(١٣٢) لقد كان المؤلف مضللا من ذاكرته او مذكراته ويبدو عرضه عشوائيا. فلا نرى من كان سلطان بغداد هذا الذي احتل مانداران ، وهو إقليم يحاذي ساحل بحر قزوين الجنوبي وخوارزم ، وهي ولاية تقع على المجري الأدنى لنهر آموداريا الحالي ، وهي أكسوس لدى القدامى ، وجيحان عند العرب ، والذي تدخل ضد التتر في خراسان. والواقع لم يستطع خليفة بغداد العباسي ، الذي كان على قدر لا بأس به من السلطة في ذلك العصر ، لم يستطع الا دعم صلاح الدين الذي أعاد له سلطته الدينية في مصر ، وكان السلطان نور الدين زنكي في حلب يطمع حقيقة في السلطة الفعلية على مصر ، ولكن كان صلاح الدين ، طيلة حياته ، يعلن أنه تابعه الأمين. وبعد وفاة نور الدين قام صلاح الدين وتخلص من حلفائه.

«لم يستطع. أبيولار أن يميز بين سلطان بغداد وبين خليفة بغداد ، وهي الازدواجية التي حدثت في اواخر ايام العباسيين إذ كان السلاطين من الآسيويين من أتراك كالسلاجقة وفرس كالبويهيين ، كما أن مازنداران وخوارزم لا يقعان على نهر الغانج الهندي» (المترجم).

٦٠٠