وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

الجزء الثامن

٥٦١
٥٦٢

(مصر)

لإقليم مصر الشهير (١) من الغرب حد هو صحاري برقة ، وصحراء نوميديا وليبيا ، وتتاخم من الشرق الصحاري الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. وتدرك البحر الأبيض المتوسط من الشمال. وتتاخم من الجنوب بلاد البجا ، والأمكنة التي تشغلها على النيل. ويبلغ طولها بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد البجا حوالي أربعمائة وخمسين ميلا تقريبا (٢) ، ولكن عرضها شبه معدوم ، لأنه لا يمثل سوى القليل من الأراضي المزروعة التي توجد على ضفتي النيل ، والذي يجري بين جبال يابسة تطيف بالصحاري التي فرغنا من الكلام عنها قبل قليل. والحق يقال إن لمصر بعض العرض قرب البحر الأبيض المتوسط لأن النيل ، على مسافة ثمانين ميلا في عالية القاهرة ، ينقسم إلى فرعين ، أولهما أي الغربي يلتقي بالفرع الرئيسي بعد ان تولد عنه (٣) ، وعلى مسافة ستة عشر ميلا في سافلة القاهرة (٤) ينقسم النيل من جديد إلى فرعين ، يذهب أحدهما إلى رشيد ، والثاني إلى دمياط. وينفصل عن نيل دمياط فرع جديد ينقلب إلى بحيرة (٥) ولكن يبقى ، مع ذلك ، ممر يصل هذه البحيرة بالبحر (٦) وعلى هذا الممر تقع تينس ، وهي مدينة تعود لتاريخ قديم جدا (٧). وبما أن النيل يتشعب بهذه الطريقة نرى مصر تزداد عرضا كما سبق أن قلنا. وكل أقاليم مصر هي عبارة عن سهل خصيب بالغلال والخضر وتملك مراعي ممتازة للمواشي وكمية لا حصر لها من الدجاج والأوز.

__________________

(١) لا يعطي المؤلف إلا هذا العنوان ، أي إقليم ، لأن مصر كانت فعلا في ذلك العصر إقليما من الامبراطورية العثمانية.

(٢) ٧٢٠ كم وهو رقم صحيح تقريبا. بالنسبة للمسافة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وأسوان على خط مستقيم.

(٣) الواقع ليس للنيل فرعان ، بل على مسافة مائة وثلاث وتسعين ميلا عن القاهرة ، وليس ثمانين ميلا ، ينفصل عنه فرع متعرج ، مواز تقريبا للنهر ، هو بحر يوسف الذي كان يتصل بالماضي بأحد فرعي دلتا النيل في سافلة القاهرة ، والذي يذهب منه قسم لري الفيوم.

(٤) أي ٢٦ كم.

(٥) أي بحيرة المنزلة.

(٦) وهو مصب النيل التانيتي القديم.

(٧) تانيس ، ولم يبق فيها سوى أطلال ، وهي بالفعل فوق جزيرة في بحيرة المنزلة ، على مسافة ٩ كم جنوب شرقي بور سعيد.

٥٦٣

ولكل أهل هذه البلاد لون بشرة أسمر. غير أن للذين يسكنون المدن لونا أبيض. وهم جيدو الهندام. فيلبسون ثوبا ضيقا مخيطا فوق الصدر. وبعد ذلك يكون مفتوحا حتى القدمين مع أكمام ضيقة أيضا. ويضعون فوق رأسهم عمامة ملفوفة حول قلنسوة من وبر. ويضعون في أقدامهم نعالا من الطراز القديم ، وللقليل منهم عادة لبس أحذية. ويلبسون هذه الأحذية بعد ثني مؤخرتها تحت الكعب. ولباسهم في الصيف قماش القطن المقلم بالألوان. وفي الشتاء يحشى هذا القماش بالقطن ، أو المبطنة ، ويسمى هذا اللباس الهبرية ، أما التجار والشخصيات المرموقة فيلبسون أقمشة أوربية.

والمصريون أناس طيبون ، لطفاء المعشر ، يغلب عليهم الكرم. ويستخدمون الكثير من الحليب ومن الجبن في غذائهم. ولكنهم يستهلكون أيضا الكثير من اللبن الزبادي أو من الحليب الذي يخثرونه بطرائق خاصة بهم. وهم يكثرون من تمليح أجبانهم. ولا يستسيغ الغريب الذي لم يعتد على طعامهم أن يأكل ما يأكلونه ، وهم الذين يتلذذون به. ويضعون اللبن الحامض في كل أنواع الحساء عندهم.

أقسام إقليم مصر

في عصرنا ؛ أي منذ أن أخذ المسلمون يهيمنون على هذا الإقليم (٨) ، قسمت مصر إلى ثلاثة أجزاء. فما بين القاهرة حتى رشيد ، يدعى الريف ، أي الساحل. ومن القاهرة باتجاه العالية حتى تخوم البجا (٩) يدعى الصعيد ، أي الأرض الزراعية (١٠). أما القسم الواقع بين فرعي النيل الذاهب إلى دمياط وإلى تينس فيدعى البحرية ، نسبة إلى البحر.

ولهذه المناطق الثلاث درجة قصوى في الخصب والوفرة. ولكن الصعيد ينتج على الخصوص الحبوب والخضر والمواشي والطيور والكتان. ويقدم الريف الثمار والأرز ،

__________________

(٨) أي منذ ٦٤٢ ه‍ «أي بعد وفاة الرسول بعشرة أعوام تماما» (المترجم).

(٩) «العالية أي باتجاه المنبع ، والسافلة باتجاه المصب ، والعالية هي بالإنجليزيةupstream أوamont بالفرنسية ، في حين تقابل السافلة كلمةdownstream الإنجليزية أوaval بالفرنسية» (المترجم).

(١٠) أي الأرض التي تصعد من حيث الارتفاع.

٥٦٤

وتنتج البحرية القطن والسكر وبعض الثمار المسماة الموز. هذا وسكان الريف ومصر البحرية أكثر تطورا من أهل الصعيد ، لأن هاتين المنطقتين أقرب للبحر ، ويقصدهما غرباء قادمون من بلاد البربر ومن أوربا ومن بلاد آشور : أما أهل الصعيد الذين يعيشون في داخل الأراضي فلا يرون أجانب أبدا. وهم يقطنون فيما وراء القاهرة. وليس من عادة الغرباء ، باستثناء بعض الأحباش ، أن يذهبوا إلى تلك البلاد.

أصل المصريّين وأنسابهم

يعود المصريون ، كما كتب موسى (١١) ، من حيث الأصل إلى مسرائم بن كوش بن حام بن نوح (١٢). ويطلق العبرانيون على هذه المنطقة وعلى سكانها نفس الاسم ، وهو اسم مصريين (١٣). ولكنهم يطلقون على السكان اسم القبط ، ويقولون إن قبط كان أول من حكم هذه البلاد وبنى فيها البيوت (١٤). وأهل البلاد نفسهم يسمون بعضهم بنفس الطريقة (١٥) ولكن لم يبق من هؤلاء المصريين الحقيقيين سوى النصارى الموجودين فيه حاليا. وكل من عداهم فهم من معتنقي الديانة الإسلامية وينتسبون إلى العرب وإلى الأفارقة.

وقد ظلت مملكة مصر لمدة طويلة تحت حكم المصريين ، أى الفراعنة ، الذين كانوا ملوكا عظاما ، وأقوياء جدا كما تشهد على ذلك آثار من أبنية بديعة وعجيبة. ولا زال التاريخ يتكلم عنهم كما يتكلم عن البطالسة. ثم سقطت مصر بيد الرومان فى أعقاب زواج ... (١٦) التي كانت تحكم حينئذ بقائد رومانى كبير ، كما يذكر التاريخ ذلك.

__________________

(١١) منذ عهد قريب لم يعد ينسب إلى موسى كتابة الأسفار الخمسة [يقصد بها الأسفار التي يعتبرها اليهود التوراة ، وهي أسفار التكوين والخروج والتثنية والعدد واللاويين]. انظر كتابنا «الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام» ص ، ١٦ ، ١٧ (المراجع).

(١٢) يشير سفر التكوين فقرة ٦ من الإصحاح العاشر أن مسرائيم هو ابن حام وأخو كوش.

(١٣) والحقيقة أن عبارة مسرى أو مصرى كانت الاسم البابلي لمصر.

(١٤) ألواقع هو أن قبط هو تحريف عربي لاسم قديم جدا حرفه اليونانيون إلى آيجيبتيوه والذى تحول عند الأوربيين إلى إيجبسيان.

(١٥) أي الأقباط.

(١٦) في المخطوط هنا أبيض ، لأن المؤلف لم يتذكر اسم كليوباتره ، التي تزوجت أنطونيو.

٥٦٥

وبعد بعثة المسيح أصبح المصريون نصارى ، غير أن مصر ظلت تؤلف جزءا من الامبراطورية الرومانية. وعندما انهارت هذه الامبراطورية ، انتقلت مصر إلى امبراطورية القسطنطينية وبذل الأباطرة اهتماما كبيرا للاحتفاظ بهذه المملكة.

وأخيرا وبعد ظهور محمد (صلّى الله عليه وسلّم) احتل المسلمون مصر. وقد استولى عليها عمرو بن العاص ، قائد جيش عربي لدى الخليفة الثاني عمر (١٧) وقد ترك عمرو لكل فرد الحق في ممارسة ديانته ، ولم يطلب منهم شيئا آخر سوى الجزية.

وبنى على ضفة النيل مدينة صغيرة سماها العرب الفسطاط ، والتي تعني في لغتهم «الخيام» وذلك أن عمرو عندما قام بحملته وجد هذه البقعة خالية تماما من السكان وغير مزروعة ، مما جعل الجيش يقيم تحت الخيام (١٨). وتسمي عامة الشعب هذه المدينة مصر العتيقة (١٩) ، أي المدينة القديمة ، وهذا بالنسبة للقاهرة التي هي المدينة الجديدة ، إذ جاز القول.

وهناك الكثير من العلماء اللامعين في الوقت الحاضر ، من مسلمين ونصارى ويهود ، يرتكبون خطأ الاعتقاد بأن مصر كانت المدينة التي كان يسكنها فرعون موسى وفرعون يوسف. والحقيقة كانت عاصمة فرعون تقع في القسم الإفريقي من مصر ، أي على ذراع النيل الذي يمر إلى الغرب (٢٠) ، وحيث تقوم الأهرامات. وتنقل الكتب المقدسة نوعا من شاهد على ذلك في سفر التكوين ، عندما يروي أن اليهود قد أجبروا على بناء أفتون ، وهي مدينة بناها الفراعنة في عصر موسى ، وهي أيضا على الضفة

__________________

(١٧) وهو عمرو بن العاص. لقد تم الفتح الإسلامي لمصر في خلافة عمر بتاريخ كانون الأول (ديسمبر) ٦٣٩ إلى تشرين الثاني (نوفمبر) ٦٤١ وهو التاريخ الذي تم فيه التوقيع على التسليم وإن تخلي فيه القوات الامبراطورية البيزنطية البلاد بموجبه خلال مهلة قدرها أحد عشر شهرا.

(١٨) هذا غير صحيح ، فإذا كانت كلمة الفسطاط تعني بالعربية خيمة من قماش قطني فإن الوثائق تدل على أن هذا الاسم هو تحزيف للاسم الذي أعطته القوات اليونانية للقلعة ، بالإغريقية ، أي «فوسّاطون» أي قلعة مدينة بابل المصرية ، وحيث تمركز دفاع القوات الامبراطورية. وقد حاصر الجيش العربي هذه القلعة واضطرت القوات الامبراطورية للاستسلام يوم الاثنين ، يوم الفصح ،. ا نيسان (أبريل) ٦٤١ م. واحتفظت باسمها على شكل فسطاط العربية ، وهذا الاسم بقي لها حتى بعد تأسيس القاهرة. وليس من الصحيح القول إن المنطقة كانت خاوية وغير مزروعة. فقد كانت هذه المنطقة منذ غابر العصور القديمة مأهولة جدا بالسكان.

(١٩) أي مصر القديمة حاليا ، أو القاهرة القديمة.

(٢٠) بحر يوسف.

٥٦٦

الإفريقية ، على مسافة خمسين ميلا تقريبا جنوب القاهرة ، على ذراع النيل الذي تكلمنا عنه ، وهو الذراع الذي يقع إلى الغرب من الفرع الرئيسي للنهر (٢١). وهناك دليل آخر على أن مدينة فرعون هي في المكان الذي أشرت إليه ، ذلك أنه عند تفرع نهر النيل إلى فرعين (٢٢) توجد بناية تعود لتاريخ موغل في القدم تدعى قبر يوسف : فهناك دفن يوسف قبل نقل جثمانه على أيدي العبرانيين إلى مدافن أجداده (٢٣) ، إذ ليس للقاهرة وللمدن المجاورة أية علاقة مع مدن قدامى الفراعنة.

هذا ويجب أن نعرف أن أشراف قدامى الفراعنة كانوا يسكنون الصعيد في عالية القاهرة ، في المدن المسماة الفيوم ومنف (٢٤) وأخميم (٢٥) ومدن أخرى شهيرة.

ولكن بعد أن احتل الرومان مملكة مصر اجتمع كل وجهاء البلاد في الريف ، على الساحل ، حيث تقع الإسكندرية ورشيد. وحتى هذا اليوم لا نزال نجد بضعة بلدان تحمل أسماء لا تينية. وعندما انتقلت الامبراطورية من روما إلى اليونان ، انسحبت هذه الطبقة النبيلة تدريجيا نحو مصر البحرية. وقد جعل نائب الامبراطور من الاسكندرية مقره العادي.

وعندما قدمت الجيوش الإسلامية إلى مصر ، أقامت تقريبا في وسط المملكة ، لمواجهة هدف مزدوج ، وهو نشر السلام في جزئي المملكة من جهة والبقاء من جهة أخرى في مأمن من النصارى الذين كانوا يخشونهم كثيرا فيما لو ظلوا في مصر البحرية.

__________________

(٢١) ليس هذا الكلام منقولا عن سفر التكوين بل عن سفر الخروج حيث يرد فيه أن أبناء إسرائيل بنوا مدينتي بيتوم وراسيس كي تستخدما مستودعات لفرعون. ولم تكن بيتوم على بحر يوسف. فقد حدد مكانها في تل الرطابة ، في وادي الاسماعيلية. وقد تصور ذلك في مدينة الفيوم التي تقع على الأقل على مسافة ستين ميلا من القاهرة على طريق الدرب الأقصر ، وليس خمسين ميلا.

(٢٢) أى تفرع بحر يوسف.

(٢٣) من المحتمل أن المقصود هي أطلال مدافن فرعون آمينمنس الثالث ، القريبة من هرم الهوارة ، على مسافة ٦ كم تقريبا جنوب شرق مدينة الفيوم ، وهو معبد التيه الشهير.

(٢٤) أو ممفيس القديمة عند الإغريق ، ومنف عند الأقباط ، على مسافة ٢٥ كم جنوب القاهرة ، والتي تلاشت أطلالها الواسعة برمتها تقريبا بين قريتي بدرشين وسقاره على الضفة اليسرى للنيل.

(٢٥) أخميم مدينة على الضفة اليمنى للنيل على مسافة ٥٢٠ كم تقريبا في عالية القاهرة على الطريق النهري الملاحي.

٥٦٧

خصائص مناخ مصر وتقلباته

هواء مصر مؤذ جدا وحار للغاية. ففي هذه المنطقة لا يهطل المطر إلا نادرا. وتسبب الأمطار عدة أمراض : فيصاب بعض الأشخاص بالحمى والنزلات الصدرية ، في حين يصاب آخرون بتورم الخصيتين بصورة تثير العجب عند رؤيتهما. ويعزو الأظباء ذلك إلى تناول الجبن المملح وإلى ما يأكلونه من لحم الجاموس (٢٦).

وتظهر البلاد ملتهبة صيفا نظرا للحرارة المفرطة في هذا الفصل. ولهذا تبنى في كل المدن مداخن عالية لها فتحة في أعلاها وأخرى في قاعدتها ، وتكون في حجرات البيت. ويدخل الريح من الأعلى ويخرج من الأسفل ويجلب شيئا من البرودة ، ولولاه لتعذر العيش نظرا لاستحالة احتمال السخونة (*). وأحيانا يداهم الطاعون الذي يقتل عددا لا يحصى من الأشخاص ، وخاصة في القاهرة. ويحدث أحيانا أن يموت اثنا عشر ألف شخص يوميا من الطاعون. أما المرض الإفرنجي (٢٧) فلا أظن أن هناك بلدا في العالم قد سبب فيه هذا المرض أضرارا قدر ما سببه في هذه البلاد. فنرى في القاهرة الكثير من الناس الذين فقدوا بعض أعضائهم أو من الذين شوههم هذا المرض. ويتم الحصاد في مصر في بداية نيسان (ابريل) ويتم الدراس في موسمين ، الأول في نيسان أيضا ، والآخر في أيار (مايو) وقبل العشرين من أيار لا يبقى مطلقا أي نوع من الحبوب في الحقول.

ويبدأ النيل في الارتفاع في أواسط حزيران (يونية) (٢٨) ولا يستمر فيضانه أكثر من أربعين يوما ، وتدوم التحاريق أيضا أربعين يوما (٢٩). وفي خلال هذه الفترة التي

__________________

(٢٦) لقد أثار مرض الفيل هذا الذي يصيب الصفن والذي نتج عن دودة خيطية ، أثار دهشة المؤلف كثيرا وتكلم عنه في الكتاب الأول من مؤلفه.

(*) «ويدعى الباذنج في مدينة حلب ، وكان معروفا في البيوت العربية التقليدية حتى مطلع القرن العشرين ، ثم اندثر ، كما هو دارج جدا في مدن الباكستان ، ولا سيما في كراتشي» (المترجم).

(٢٧) وهو الزهري أو السيفيلس.

(٢٨) في القاهرة.

(٢٩) الحقيقة أن النقصان أو التحاريق أو ما يسمى بالصيهود في العراق ، يستمر حتى فيضان العام التالي ، ولكن بعد فترة تتفاوت في طولها يأخذ النهر ، بعد حوالي سبعين يوما بعد بداية الفيضان ، أو حوالي ٢٦ أيلول (سبتمبر) يأخذ في الانخفاض ويسترد مجراه الذي كان عليه في شهر تشرين الثاني (نوفمبر).

٥٦٨

تمتد على ثمانين يوما تشبه مصر وقراها جزرا لا يمكن الانتقال فيها من بلدة لأخرى إلا على المركب. ومن السهل جدا صنع جرمات ضخمة (٣٠) ، حتى إن بعضها يحمل ستة آلاف إلى سبعة آلاف كيل من الحب ، هذا فضلا عن بضع مئات من الأغنام. ولا تستطيع الإيجار صعدا ضد التيار إلا إذا كانت فارغة وبصعوبة. ويتوقع المصريون بالضبط استنادا إلى ما تكون عليه حالة فيضان النيل ، ما يمكن أن تكون عليه أسعار الحنطة في كل عام ، وذلك كما سأشرح لكم ذلك عندما أتكلم عن جزيرة النيل الواقعة في مواجهة القاهرة العتيقة ، وذلك بمناسبة الكلام عن مقياس النيل.

وليس في نيتي أن أتكلم عن كل مدن مصر. وكتّابنا غير متفقين بالفعل فيما بينهم بخصوصها. فبعضهم لا يريدون سوى ربط جزء من مدن مصر بإفريقيا ، في حين يكون رأي الآخرين على العكس ، وهناك بضعة أفراد منهم يؤكدون أن الجزء الواقع من طرف صحاري بلاد البربر ، ونوميديا ، وليبيا ينتسب إلى أفريقيا. وأخيرا يقول بعضهم بأن كل البلدان الواقعة على الفرع الرئيسي للنيل هي إفريقية ، وأن كل البلدان التي لا تقع عند هذا الفرع غير إفريقية. تلك هي حال مدينة منوف (٣١) ، ومدينة الفيوم ، وسمنود ، ودمنهور ، والبرلس (٣٢) وتينس ودمياط. ذاك هو أيضا رأيي ، وذلك لعدة أسباب مقبولة (٣٣) ولهذا لن أصف سوى المدن الواقعة على الفرع الرئيسي لنهر النيل.

مدينة بوصير

بوصير كانت مدينة قديمة ، بناها المصريون على ساحل البحر المتوسط على مسافة عشرين ميلا غربي الإسكندرية (٣٤). وكانت محاطة بأسوار قوية جدا وكان فيها بيوت غاية في جمالها. وتنتشر حولها اليوم عدة حدائق نخيل ، ولكن لا أحد يعتني بها ، لأنه

__________________

(٣٠) اسم زوارق على النيل. والمفرد جرمة.

(٣١) اي ممفيس

(٣٢) أي المدن الواقعة على الفرع الشرقي للنيل.

(٣٣) من المؤسف أن المؤلف لم يتكلم عنها بتفصيل إذ لا يمكن تمييزها مما يدفع للأفتراض بأنه رجح عدم وصف هذه البلدان لأنه لا يعرفها ، ولكن سيتكلم مثلا عن الفيوم رغم هذا التحذير المبدئي.

(٣٤) والحقيقة ٤٠ ميلا عن طريق محطة سكة حديد باهيج ، وهي في الواقع أطلال مدينة تابوز يريس ماغنا الرومانية.

٥٦٩

عندما سقطت الإسكندرية بيد النصارى ونهبوها ، ترك أهلها مدينتهم وهربوا بسرعة نحو بحيرة يسمونها البحيرة (٣٥).

الإسكندرية : مدينة مصر الكبرى

لقد تأسست الإسكندرية ، كما هو معلوم ، من قبل الإسكندر الكبير الذي بناها (٣٦) وفق مخطط مشاهير المهندسين المهرة في موقع بديع ، فوق رأس يتقدم في البحر المتوسط على مسافة أربعين ميلا (٣٧) ، إلى الغرب من النيل. ومما لا ريب فيه أنها كانت فيما يتعلق بأهمية قصورها وجمالها ومنازلها أشرف المدن طرا. واحتفظت بشهرتها لمدة طويلة إلى أن سقطت بيد المسلمين (٣٨).

وبعد ذلك راحت تخسر أهميتها تدريجيا ، على مدى السنين ، وفقدت شرفها القديم إذ لم يعد أي تاجر من اليونان أو من أوربا يستطيع أن يمارس فيها التجارة ، حتى لقد كادت أن تصبح خاوية تماما من السكان. ولكن نسب أحد الخلفاء الدهاة (٣٩) إلى الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) قولا زورا لا يخلو من مكر ، وهو أن الرسول منح أهل الإسكندرية في إحدى نبوءاته ، العديد من الكرامات ، أي إلى الذين يعودون إليها في يوم ما لتحقيق حمايتها وحماية الذين يؤتون الزكاة. وبعد برهة من الوقت امتلأت بالسكان ، من غرباء عن البلاد ، ومن أخلاط الناس الذين قصدوها لهذه الكرامات (٤٠).

وأقام كل هؤلاء الناس مساكن لهم في أبراج جدار السور ، وأقاموا عدة مدارس

__________________

(٣٥) أو البحر الصغير ، وتدعى الآن بحيرة مريوط ، من الاسم اليوناني القديم ماريوتيس. وكان سقوط الإسكندرية هذا نتيجة غارة ملك قبرص أيام الصليبيين ، وهو بيير الأول دولوزينيان ، وذلك بتاريخ ١٠ تشرين الأول (اكتوبر) ١٣٦٥ م.

(٣٦) أي عام ٣٣١ قبل الميلاد.

(٣٧) ٦٤ كم.

(٣٨) ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٦٤٢ م «وهذا يعود ، بلا ريب ، إلى أنها أصبحت هدفا لهجمات أساطيل البيزنطيين الذين أخرجوا منها ، ولأنها خسرت وظيفتها كعاصمة للبلاد لأنها كانت مقر الحاكم الرومي» (المترجم).

(٣٩) ولعله الحاكم بأمر الله أو سواه من «الخلفاء الفاطميين» (المترجم).

(٤٠) لا توجد أية وثيقة تاريخية معروفة تؤيد هذا الزعم.

٥٧٠

لطلاب الآداب وبضع زوايا للمتعبدين الذين قصدوها ورعا.

وللمدينة شكل مربع ، مع أربعة أبواب ، أحدها يتجه نحو الشرق ، من جهة النيل ، والآخر نحو الجنوب ، نحو بحيرة تدعى البحيرة ، والثالث غربا من طرف صحراء برقة ، والرابع نحو الجبهة الشمالية حيث يقوم الميناء (٤١) وهو باب البحرية حيث يقوم الحراس وموظفو المكس الذين يفتشون الناس حتى في داخل سراويلهم (٤٢) لأن مكس هذه المدينة يتقاضى رسوما تبلغ نسبة مئوية معينة على الدنانير ذاتها كما لو كانت بضائع. هذا ويوجد أيضا قرب الأسوار بابان متصلان أحدهما بالآخر بواسطة شارع عريض. وقلعة منيعة جدا واقعة عند مدخل الميناء المسمى المرسى البرجي ، أي ميناء البرج ، وفيه ترسو أكثر السفن جمالا ، وكذلك أكثرها أهمية كمراكب البندقية والسفن الجنوية والراقوزية (٤٣) ، وكذلك المراكب الأوربية الأخرى (٤٤). وتشاهد عادة في الإسكندرية سفن قادمة حتى من الفلاندر ، وانكلترا ، وبسكاي ، والبرتغال ومن كل السواحل الأوربية ، ولكن أكثرها عددا هي السفن الإيطالية ولا سيما سفن بوليا وصقلية ، وكذلك سفن اليونان ، أي التي تأتي سوية إلى هذا الميناء كي تكون في مأمن من القراصنة ومن العواصف. وهناك ميناء آخر يدعى ميناء السلسلة حيث ترسو السفن القادمة من بلاد البربر ، ومن جربة ومن أمكنة أخرى (٤٥).

__________________

(٤١) كان للمدينة المسورة شكل مستطيل متطاول ، والباب الشمالي ، وهو باب البحرية ، كان يطل على الميناء القديم ، أو الميناء الغربي ، ومن الشرق باب رشيد ، وكان يطل على الطريق المؤدية إلى النيل ، وإلى الجنوب الباب الذي كان المصريون يسمونه باب سدره ، وهو باب البهار عند الأوربيين ، وكان على طريق بلاد المغرب ، والباب الرابع هو باب الجنوب الذي كان يطل على القرافة ، أي المقبرة.

(٤٢) «يتفق الحسن الوزان في هذه الملاحظة مع ابن جبير ، وابن بطوطة» (المترجم).

(٤٣) نسبة إلى راقوزة في صقلية عاصمة إقليم سيراكوزة ، وتشتهر بمصانع القطن والصوف.

(٤٤) لم يترك الشارع المذكور ولا البابان أي أثر. أما القلعة ، وهي حصن قايتباي الحالي ، فقد شيد فوق شبه جزيرة ، في موقع الفنار المشهور ، الذي أتى على آخر بقاياه زلزال حدث في أواسط القرن الرابع عشر ، وقد بناها السلطان سيف الدين قايتباي الأشرف الذي حكم بين ١٤٦٨ و ١٤٩٦ م. ومرسى البرج هو الميناء الكبير لدى القدامى شرقي المنار ، وهو اليوم خليج صغير بسيط.

(٤٥) وهو ميناء أو توستوس في العصر القديم ، وكان الأوربيون يسمونه حينذاك الميناء القديم ، وهو الذي دعي مرسى السلسلة ، لأن الموانىء كانت تغلق بالسلاسل. وكان قلعة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر.

٥٧١

ويقوم في داخل المدينة تل عال جدا يشابه تل تستكشيو في روما (٤٦) يعثر فيه على الحديد من الأبنية القديمة ، وفي الواقع هو عبارة عن تل اصطناعي (٤٧). ويقوم فوق هذا المرتفع برج صغير حيث يقوم راصد على الدوام لمراقبة السفن التي تمر. ويتقاضى عن كل سفينة يخبر عنها موظفي المكس جعالة معينة ، وإذا نام أو راح يتروض أو وصل مركب دون أن يخبر عنه موظفي المكس ، يحكم عليه بغرامة تبلغ ضعف جعالته ، وتدفع هذه الغرامة لخزينة السلطان.

وكل منازل الإسكندرية مبنية فوق صهاريج ماء ذات قناطر تقوم فوق أعمدة وأقواس. ويصل ماء النيل حتى هذه الصهاريج. وفي الحقيقة يصل الماء على أثر الفيضان بواسطة قناة اصطناعية محفورة في السهل ، من النيل حتى الإسكندرية حيث يدخل بعد مروره من تحت سور المدينة (٤٨) ، كي تصب في الصهاريج كما قلنا قبل قليل.

أما فيما يتعلق بموارد هذه المدينة ، فالإسكندرية واقعة في وسط صحراء رملية ، حتى إنها لا تملك شيئا لا من الأراضي الزراعية ولا من الكروم ولا من مزارع الأشجار المثمرة. ويجلب القمح إليها من مسافة أربعين ميلا منها. ويوجد قرب القناة التي تجر ماء النيل إليها بعض بساتين الخضر الصغيرة ، ولكن منتجاتها مؤذية. على الأكثر ، لأن الناس يصابون بالحمى أو بالأمراض الأخرى بمجرد أن يتناولوا شيئا منها. وعلى مسافة ستة أميال تقريبا من المدينة ، من ناحية الغرب ، توجد أبنية قديمة جدا منها عمود ضخم للغاية وشديد الارتفاع يحمل اسما عربيا هو عمود السواري. ونجد مكتوبا في المؤلفات التي تكتب عن عجائب العالم في زمن الاسكندر أن فيلسوفا يدعى بطليموس بناه لتأمين سلامة المدينة تجاه العدو (٤٩). وقد وضع في ذروة هذا العمود مرآة

__________________

(٤٦) تل من الردم ارتفاعه ٣٥ م قرب نهر التيبر جنوبي روما.

(٤٧) كان يوجد في ذلك العصر تلان أحدهما في داخل الإسكندرية والآخر في خارجها. وكان اسم هذه المرتفعات الثلاثة : كوم الديماس ، أي تل القبو ، وكوم الديك ، وفي الخارج كوم الشقفة (كوم الشقافة) أي تل الكسرات ، ومن المفترض أن توجد الأشياء الأثرية في كوم الديماس.

(٤٨) في منطقة تقابل تقريبا موقع محطة السكة الحديدية الحالية.

(٤٩) يقع هذا العمود في الحقيقة على مسافة نصف ميل ، أو ٨٠٠ م من جنوب غرب باب سدرة ، وإن كان يظهر من اسمه العربي أنه باب سوارى السفن فإن معناه هنا عمود الأعمدة. وكان يدعى بالفرنسية عمود بومبي Pompee. ويبدو أنه شيد سنة ٣٩٢ لتمجيد ذكرى الامبراطور ديوقليسيان.

[الصحيح أنه شيد لذكرى استشهاد المسيحيين المصريين (الأقباط) على يد ديوكلسيان الذي كان من ألد أعداء المسيحية] (المراجع).

٥٧٢

كبيرة من فولاذ ، حتى إن كل سفينة قد تمر من جانب هذه المرآة تشتعل حالا إذا كشفت المرآة ، ولكن هذه المرآة تلفت في العصر الذي وصل فيه المسلمون إلى أفريقيا وتقول الأسطورة إنها تخربت على يد يهودي فركها بالثوم (٥٠).

ولا زال يوجد في الإسكندرية ، بين سكانها القدامى ، الكثير من أولئك النصارى الذين يدعون اليعاقبة. ولهم كنيسة خاصة بهم ، وقد أعيد بناؤها عدة مرات ، ولا تزال قائمة في أيامنا ، وسبق أن دفن فيها جسد القديس مرقص الرسول الذي سرق غدرا عام ٨٢٩ م على أيدي تجار بنادقة ونقل إلى البندقية. وكل أولئك اليعاقبة تجار وصناع ويدفعون جزية لملك القاهرة. ولا يجوز أن نغفل ذكر مكان في قلب المدينة في وسط الأطلال ، فيه بيت صغير منخفض ، كأنه نوع من مسجد ، يقع فيه ضريح مبجل جدا ومكرم عند المسلمين ، حيث توقد الأنوار فيه ليلا ونهارا. ويقال إن هذا هو قبر الإسكندر الكبير ، الذي كان نبيا وملكا كما ورد في القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم (٥١). ويأتي الكثير من العربان من أقطار بعيدة لرؤية هذا الضريح وللقيام ببعض التضرعات ، ويتركون عنده صدقات عظيمة جدا (٥٢).

وأحجم عن الكلام من ذكر أشياء أخرى كثيرة بارزة كيلا أزيد حجم هذا الكتاب ، الذي سيصبح حينئذ مملا وثقيلا على القارىء.

مدينة أبي قير

وهي مدينة صغيرة قديمة بنيت على ساحل البحر المتوسط على مسافة ثمانية أميال تقريبا شرقي الإسكندرية (٥٣). وقد تخربت في أيامنا ولا زال هناك الكثير من أنقاض

__________________

(٥٠) كان عمود بومبي ، وهو قطعة صخر واحدة بطول ٢٢ م ، وارتفاعه الكلي ٣٠ م ، كان يؤلف جزءا من عمارة واسعة أثرية سبق أن تخربت مع أربعمائة عمود من ذوات الأبعاد العادية في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي ، في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وقد خلط المؤلف بسرده أسطورة المرآة الحارقة بين عمود بومبئى وبين الفنار ، مع أنه يستحيل الصعود إليه عمليا ، إلا أن قمته كانت تحوي شيئا لا يمكن تعريفه.

(٥١) «لم يرد ذكر الإسكندر في القرآن باسمه الصريح بل ورد بصفة ذي القرنين» (المترجم).

(٥٢) لقد احتفى قبر الإسكندر ولا يعلم أحد عن مكانه شيئا ، ويظن أنه كان في مكان كوم الديماس ، في الغرب قرب جامع النبي دانيال الحالي ، والنص القرآني المقصود هو في سورة ١٨ آية ٣٢ إلى ٩٨. [صوابه آيات ٨٣ إلى ٩٨] (المراجع).

(٥٣) الحقيقة على مسافة ٢٣ كم ، وأكثر من أربعة عشر ميلا بقليل.

٥٧٣

أسوارها. وتقوم بعض مزارع النخيل فوق موقعها. وتغذي تمورها بعض فقراء الناس الذين يسكنون أخصاصا منعزلة. ويشاهد برج على ساحل خطر حيث يتحطم العديد من السفن القادمة من سواحل بلاد الشام ليلا التي لا يوجد على دفتها شخص يعرف كيفية الدخول إلى ميناء الإسكندرية ، وحيث تجنح سفن أخرى على الساحل بسبب الظلام الدامس ، ولا يوجد حول هذه البلدة سوى أرباض رملية تمتد حتى النيل.

رشيد ويسميها الطليان روزيتّو

رشيد (٥٤) مدينة على النيل ، في الضفة الآسيوية ، على مسافة ثلاثة أميال من مصب نهر النيل (٥٥). وقد بناها عبد لأحد الخلفاء ، كان نائبا على مصر (٥٦). وفيها بيوت جميلة وقصور مشيدة على ضفة النهر. ولها سوق كبير مليء بالصناع والتجار. وفيها جامع بديع جدا ، جميل المنظر ، وتطل بعض أبوابها على السوق ، والأخرى على النهر الذي يهبط إليه بدرج رائع. ويقع الميناء قبالة الجامع. ومن المألوف أن تتجمع في هذا الميناء بعض السفن الكبيرة التي تحمل البضائع إلى القاهرة.

ولكن ليس لهذه المدينة سور. ولها على الأرجح منظر بلدة كبيرة لا منظر مدينة. ويظهر حول المدينة العديد من المصانع التي يضرب فيها الأرز ببعض الأدوات الخشبية. وأعتقد أنه يقشر فيها وينظف في كل شهر أكثر من ثلاثة آلاف كيل من الرز. ويوجد في خارج المدينة ، ضمن نوع من ربض ، الكثير من البغال والحمير للتأجير لأولئك الذين يريدون الذهاب إلى الإسكندرية. والذي يستأجر أحد هذه الحيوانات لا يحتاج إلى قيادته ، وما عليه إلا أن يتركه يسير وحده وسيذهب به إلى مقصده ، وكذلك الحال في العودة فسيرجع به إلى البيت ، ولا يبقى عليه إلا أن يتركه يذهب وحده إلى حظيرته. وهي حيوانات سريعة جدا حتى إنها لتقطع أربعين ميلا بين الصباح ووقت العصر ، وتتبع دوما ساحل البحر ، حتى إن الأمواج لتضرب أحيانا قوائمها.

__________________

(٥٤) وبالقبطية راشت ، ومنها بالفرنسية القديمة راشو ، وبالإيطالية روزيتّو ، وبالفرنسية روزيت.

(٥٥) في الحقيقة على الضفة اليسرى أو «الضفة الإفريقية ، حسب رأي المؤلف ، على مسافة ٧ كم تقريبا من البحر في ذلك العصر ، وهي مسافة تضاعفت تقريبا حاليا نظرا لمجلوبات نهر النيل من الطعي «التي توقفت بعد بناء السد العالي» (المترجم).

(٥٦) رشيد مدينة قديمة ، ولكن أعيد بناؤها عام ٨٧٠ م في عصر أبي العباس أحمد بن طولون ، حاكم مصر المستقل والذي كان أبوه عبدا لأحد الخلفاء.

٥٧٤

ويوجد حول بلدة رشيد العديد من حدائق النخيل وأراض ممتازة لزراعة الرز ، والسكان أناس أليفون ولطفاء تجاه الأغراب ويقضون معهم راغبين وقتا ممتعا. وفي المدينة حمام جميل للغاية مع عدة صنابير من ماء بارد وماء حار. ولا يوجد في كل مصر مثيل لهذا الحمام في جماله وسهوله الإفادة منه. وقد كنت في رشيد في الوقت الذي مر فيه السلطان التركي سليم عائدا من الإسكندرية (٥٧). وقد أراد رؤية هذا الحمام شخصيا بصحبة رجال حاشيته المقربين وقد ظهر عليه أنه وجد فيها انشراحا كبيرا.

مدينة آنثيوس

آنثيوس مدينة بناها الرومان على الضفة الآسيوية للنيل. ولا يزال يرى فيها اليوم الكثير من الكتابات اللاتينية فوق ألواح من رخام. وهي مدينة آمنة فيها أشخاص يعملون في كل المهن. وريفها خصيب جدا بالرز والقمح. ولها حديقة نخل واسعة ، ويشتهر سكانها بطيبتهم وببشاشتهم. ومن عادتهم جميعا نقل الرز إلى القاهرة ويجنون من ذلك ربحا طيبا وفيرا (٥٨)

برنبال

برنبال أو برمبال مدينة قديمة مبنية على النيل ، على الضفة الآسيوية. وقد بنيت في العصر الذي صار فيه سكان مصر نصارى. وهي غاية في جمالها وتكثر فيها المحاصيل ولا سيما الرز. وضاربو الرز أغراب ، أي معظمهم من بلاد البربر. ويربحون أكثر من ثمن الرز ، ويحيون حياة داعرة. ولهذا السبب تتوافد كل مومسات مصر إلى برنبال ، مجذوبات بضاربي الرز هؤلاء ، حتى إن هؤلاء العمال يكونون دوما خائري القوى ، لأن مكاسبهم تنتقل لأيدي هاتيك النسوة.

__________________

(٥٧) حزيران (يونية) ١٥١٧. انظر كتاب «ليون الإفريقي» نشر شيفر ـ ١٨٩٦. ج ١ ص.XIII

(٥٨) لم يكن تشخيص اسم هذه البلدة.

٥٧٥

مدينة طيبة

طيبة (٥٩) قديمة جدا بنيت على النيل ، على الضفة البربرية (٦٠). ويختلف المؤرخون فيما بينهم بالنسبة لمؤسسيها. فالبعض يرى أن المصريين هم الذين أسسوها ، ويقول آخرون إنهم الرومان ، والبعض الآخر يقول الإغريق. ويعثر فيها الآن على كثير من الكتابات بالحروف اللاتينية أو الإفريقية أو المصرية. ولا تحوي هذه المدينة في زمننا أكثر من ثلاثمائة أسرة ، ولكنها مزدانة ببيوت جميلة. ويكثر فيها القمح والرز والسكر وذلك النوع من الثمر الذي يدعى الموز وهو ممتاز. وفيها بعض الصناع والتجار ولكن الأكثرية هم من الزراع. وعند ما يتجول الإنسان بالبلدة خلال النهار لا يجد فيها سوى النساء اللواتي لا يقل لطفهن عن جمالهن. ومزارع النخيل حول البلدة واسعة جدا حتى أنه لا يمكن رؤية هذه البلدة إلا عند الاقتراب من جدرانها. هذا كما تحوي الكثير من مزارع الشجر التي تنتج العنب والتين والدراق ، وتنقل كمية كبيرة من هذه الفواكه إلى القاهرة.

ولا تزال في خارج المدينة بقايا عديدة من أبنية قديمة ، على شكل أعمدة وكتابات ، وجدران مبنية بحجارة منحوتة ضخمة. ويستخلص من هذا أنها كانت مدينة كبيرة جدا نظرا لاتساع أطلالها (٦١).

مدينة فوّة

فوة مدينة قديمة بناها المصريون (٦٢) على الضفة الآسيوية من النيل ، على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٦٣) جنوب رشيد. وهي آهلة جدا بالسكان ، متمدنة ، ومزدهرة

__________________

(٥٩) مدينة لم يكن تشخيصها بعد.

(٦٠) أي الغربية أو اليسرى.

(٦١) لا نعرف أين كانت تقع مدينة طيبة الشهيرة في عصر المؤلف ، ولكن ليس هناك أية بلدة على الضفة اليسرى لهذا الفرع من النيل ينطبق عليه هذا الوصف. وتوجد على الضفة اليمنى التي يسميها المؤلف آسيوية ، وتوجد قرية متوبي ، أو ميتوباس ، والتي يقارب اسمها اسم طيبة ، والآثار القديمة الوحيدة ، والتي هي بالفعل قليلة الأهمية ، هي أطلال سائيس ، الواقعة بعيدا في عالية متوباس «وتسمى حاليا صالحجر» (المترجم)

(٦٢) ويقصد بهم قدامى المصريين قبل الفتح الإسلامي.

(٦٣) ٧٢ كم.

٥٧٦

كثيرا. وللناعة وللصناع فيها دكاكين جميلة ، ولكن شوارع السوق ضيقة. ويحب سكانها الهدوء والأفراح وتتمتع النسوة بكثير من الحرية حتى إنهن يقضين النهار حيثما أردن. ويعدن في المساء لبيوتهن دون أن يسألهن أزواجهن عما فعلن.

وفى خارج المدينة حي ، أو بعبارة أدق ، ربض ، تسكن فيه بنات الهوى اللواتى يؤلفن قسما لا بأس به من السكان. ومزارع النخيل حول فوة عديدة للغاية. والأرض طيبة لقصب السكر وكذلك للقمح. ولكن القصب الذي ينبت في هذه الأرض لا يعطي سكرا جيدا. ويستخرج عوضا عن السكر نوع من عسل ، شبيه بالدبس ، ويستهلك في كل مصر ، ذلك لأنه لا يوجد عسل في هذا القطر (٦٤).

جزيرة الذهب

تقع هذه الجزيرة بمواجهة فوة تماما ، في وسط النيل (٦٥) وأراضيها مرتفعة حتى أننا نجد في هذه الجزيرة كل أنواع الأشجار المثمرة ، ما عدا الزيتون. وتحوي بضع دساكر وقصورا فخمة (٦٦) ولكن لا يمكن رؤيتها بسبب كثافة أشجار النخيل والأشجار الأخرى. والأرض هنا ممتازة لزراعة قصب السكر والرز. ويعمل كل السكان في زراعة الأرض أو في نقل بضائعهم إلى القاهرة.

المحلة

المحلة مدينة بناها المسلمون على النيل ، فوق الضفة الآسيوية. ولها جدار سور رديء. وهي مأهولة كثيرا بالسكان ، ولكن غالبية سكانها من الحاكة أو الزراع. ولديهم كمية كبيرة من الأوز التي يبيعونها في القاهرة ، والتربة حول المدينة صالحة للقمح وللكتان. وأهل هذه البلدة قليلو التربية ورديئو المعشر (٦٧).

__________________

(٦٤) «وهو ما يسميه المصريون العسل الأسود» (المترجم).

(٦٥) قبل أن يصل النيل إلى فوة ، ينحرف نحو الغرب ، وينفصل عنه ذراع نحو الشمال يحيط بقطعة أرض ، على الضفة اليمنى ، قبل فوة ، وبذلك يشكل جزيرة.

(٦٦) «قبل كتابة هذه الأسطر بعدة سنوات كانت هذه الجزيرة ملكا خاصا لأولى زوجات السلطان قانصوه الغوري الذي قتل في مرج دابق قرب حلب ، قبل وجود المؤلف في مصر بعام واحد» (المترجم).

(٦٧) يوجد في مصر عدد كبير من القرى التي تحمل اسم المحلة ، والذي له هنا معنى موقع ، واسم فرقة عسكرية ، كما في المغرب الأقصى. ويكون هذا الاسم متبوعا دوما بنعت. ولا نعرف حاليا سوى محلة الأمير على الضفة اليسرى للنيل ، مقابل برنبال.

٥٧٧

مدينة ديروط

ديروط مدينة شريفة بناها الرومان على الضفة الإفريقية لنهر النيل. وليس لها جدار سور. وهي مأهول بالسكان بشكل طيب. ومزدانة ببيوت جميلة ذات بناء متقن جدا. وأرباضها كبيرة ومليئة بالدكاكين الجميلة. كما تحوي أيضا جامعا بديعا. وسكانها واسعو الثراء لأن لديهم الكثير من مزارع قصب السكر. وتدفع كورتها حوالي مائة ألف أشرفي (٦٨). في العام للسلطان عن صنع السكر. ويوجد في ديروط مصانع كبيرة تشبه قصرا ، تقوم فيها المعاصر والمراجل لاستخراج السكر وطبخه. ولم أر في أي مكان آخر مثل هذا العدد من العمال المستخدمين في هذه الصناعة. ولقد سمعت من فم أحد موظفي البلدة بأنه ينفق يوميا حوالي مائتي أشرفي على هؤلاء العمال.

محلة قيس

محلة قيس مدينة حديثة بنيت في عصر المسلمين على ضفة النيل الأفريقية ، فوق تل عال ، وكل أراضيها الزراعية مرتفعة حتى إن المزارع لتتألف من الكرمة ، لأن النيل لا يستطيع أن يدركها عند فيضانه. وتقدم هذه المدينة للقاهرة العنب الطازج في أثناء نصف موسمه. وهي بلدة قليلة الطمأنينة ، وجل سكانها تقريبا ملاحون (بحارة) إذ ليس لديهم سوى القليل من الأراضي الزراعية (٦٩).

القاهرة : المدينة الكبرى الباهرة

من المشهور أن القاهرة هي إحدى أكبر مدن العالم ومن أكثرها رونقا وبهاء. وسأصف لكم مظهرها وموقعها بصورة مفصلة. تاركا جانبا كل الأكاذيب التي حيكت حول موضعها في كل مكان تقريبا.

ولنبدأ أولا باسمها. فالقاهرة كلمة عربية ، ولكنها مشوهة في اللغات

__________________

(٦٨) أو ديناريزن ٤٧٦ ، ٣ جرامات من الذهب الصافي.

(٦٩) لم يكن باستطاعتنا العثور على أثر من محلة قيس ، والتي وجدت مع ذلك ، لأنها تظهر على خارطة الكادستر ولعام ١٣٧٥ م. «وللعنب القيسي شهرة كبيرة في منطقة حلب ولونه أبيض وحباته شفافة ومستديرة» (المترجم).

٥٧٨

الأوربية ، ومعناها التي «تقهر» (٧٠). وقد تأسست في العصور الحديثة على يد عبد من أمة الصقالبة ، واسمه جوهر الكاتب ، كما أظن أني ذكرته في الجزء الأول من هذا الكتاب(٧١).

وأود أن أؤكد أن المدينة ، وأقصد بها المدينة المحاطة بسور ، تضم ثماني آلاف أسرة. وهنا يقيم الناس الميسورون ، وحيث تتدفق عليهم الثروات من كل حدب وصوب ، وحيث يوجد الجامع المشهور المسمى الجامع الأزهر ، أي الجامع اللامع.

وقد قامت المدينة في سهل عند حضيض جبل يدعى المقطّم. ويقع على مسافة ميلين من النيل. وهي محاطة بأسوار حصينة وجميلة مع أبواب بديعة مصفحة بالحديد. وأشهر هذه الأبواب ثلاثة : الأول يدعى باب النصر ، أي باب الظفر ، ويقع في الشرق ، باتجاه الصحراء التي يتجازها المسافر إلى البحر الأحمر ، ويدعى الثاني باب زويلة ، وهو الباب المؤدي إلى النيل ونحو المدينة القديمة (٧٢) ، والآخر يدعى باب الفتوح ويؤدي إلى بحيرة (٧٣) حيث كان يجتمع حجاج مكة قبل سفرهم في قافلة ، وحيث الأراضي المزروعة (٧٤).

وهذه المدينة مجهزة بما يلزم من الصناع والباعة الذين يقيمون على الخصوص في شارع يذهب من باب النصر حتى باب زويلة. وهنا يقيم أكبر جزء من نبلاء القاهرة. ويوجد في هذا الشارع بضع مدارس مدهشة بأبعادها ، وبجمال بنائها ورونقها ، كما توجد فيها بضع جوامع فسيحة وجميلة جدا ، منها جامع الحاكم ، وهو ثالث خليفة من

__________________

(٧٠) صحيح أن هذا هو المعني الدقيق. ولكن الروايات تشير إلى أن هذا الإسم قد منح لها لأنه في اليوم الذي بوشر فيه بناء جدار سورها كان الكوكب المريخ ، وفي العربية القاهر ، كان يمر في خط طوله ، وقد كان لعلم التنجيم أهميته فى الماضي في قضايا تأسيس المدن.

(٧١) يذكر المقريزى أن تأسيسها بتاريخ السبت ٢٣ جمادي الثانية عام ٣٥٩ هجرية. ويجب بالتأكيد تصحيح ٢٣ برقم ١٣ مما يعطي تاريخ السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٩٧٠ م. ويجعل المؤلف من جوهر يوغسلافيا ، بينما يقول الآخرون أنه يوناني ، وكان يسمى أبا الحسن إسماعيل. وجوهر كان اسمه بوصفه رقيقا ، وقد خلد تحت هذه التسمية ، أما الكاتب فكانت وظيفته. انظر الكتاب الأول «ويظهر لنا من العبارة الأخيرة أنه لم يقرأ كتابه بعد أن فرغ من تأليفه ولم ينقحه» (المترجم).

(٧٢) وسمي كذلك باسم جنود جوهر الذين قدموا من زويلة ، وهو ربض مدينة المهدية ، في القطر التونسى.

(٧٣) هي بركة الحاج.

(٧٤) أي نحو المطرية.

٥٧٩

المذهب الشيعي الإسماعيلي أو مذهب الفاطميين الذين حكموا في القاهرة (٧٥). وهناك عدد من جوامع كبيرة معروفة أيضا ، ولكن ليس هذا مكان تعدادها واحدا فواحدا. وهناك أيضا بضع حمامات مشيدة بفن هندسي كبير.

ويضم الحي المسمى بين القصرين دكاكين يباع فيها اللحم المطبوخ في حوالي ستين دكانا ، وكلها مجهزة بالأواني القصديرية. ويباع في دكاكين أخرى ماء مصنوع من كل أنواع الزهور : ولأصناف المياه هذه مذاق لذيذ جدا ، ولهذا يشرب منه كل الأشراف ، أما الذين يبيعونه فيحفظونه في قماقم زجاجية أو من قصدير بديعة جذا ومنقوشة بمهارة. وبعد ذلك تأتي دكاكين أخرى تباع فيها الحلوى المعروضة بشكل أنيق جدا ، وتختلف عن التي تباع في أوربا : وهي من نوعين بالعسل وبالسكر. ثم يأتي باعة الفواكه الذين يبيعون الثمار القادمة من بلاد الشام كالكمثرى والسفرجل والرمان وما إلى ذلك من الفاكهة التي لا تنمو في مصر. ويوجد بين هذه الدكاكين عدد آخر من دكاكين مبعثرة تباع فيها الزلابية والبيض المقلي ، والجبن المقلي. ونجد بجوار هذه الدكاكين حيا مشغولا بالصناع من مختلف المهن الشريفة. وأبعد من ذلك قليلا نجد المدرسة التي بناها السلطان الغوري ، وهو الذي قتل في حرب مع سليم ، امبراطور الأتراك (٧٦). وتقع بعد هذه المدرسة فنادق الأقمشة ويضم كل فندق عددا كبيرا من الدكاكين. وتباع في أول فندق الأقمشة الأجنبية وكلها من النوع الأول ، مثل قماش بعلبك ، وهو قماش قطني غاية في النعومة ، وأقمشة الموصل ، أي نينوى ، وهي رائعة لنعومتها ولمتانتها ، وتصنع كل الشخصيات الكبرى والأشخاص المرموقون منها قمصانهم والقماش الذي يلفونه حول طاقياتهم لصنع العمامة. وبعد ذلك تأتي الفنادق التي تباع فيها أجمل أقمشة إيطاليا ، كالساتان الموشي ، والمخامل ، والتفتا والبروكار ، وأستطيع أن أوكد أني لم أر من أمثالها في إيطاليا ، حيث تصنع هناك (٧٧). وتقع بعد

__________________

(٧٥) وهو الخليفة الفاطمي الحاكم المنصور الذي حكم بين ٩٩٦ و ١٠٢٠ م وجامع الحاكم هو اليوم عبارة عن أطلال.

(٧٦) لقد بنى السلطان الأشرف قانصوه الغوري مدرسة انتهت سنة ١٥٠٣ م وبنى إلى جانبها ضريحه الخاص ، الذي أنجز سنة ١٥٠٤ والمدرسة والضريح يعتبران من أجمل مباني القاهرة. ولكن السلطان الغوري هلك بتاريخ ٢٥ آب (أغسطس) ١٥١٦ فى معركة مرج دابق قرب حلب ، بعد أن سقط عن جواده واختفت معالم جثته.

(٧٧) «يبدو أن هذه السياسة الاقتصادية التي تقضي بتصدير المصنوعات الممتازة لحساب السوق الخارجية كانت معروفة في أوربا منذ العصور الوسطى ، وهي ما يسمى بسياسة غمر الأسواق أوDumping أي بيع الأشياء الجيدة في الخارج بأسعار تقل عنها فى البلاد المنتجة ذاتها ، كحال الزبدة الفرنسية فى البلاد العربية ، والسيارات اليابانية. ويعتبر هذا قمة الوعي الاقتصادى» (المترجم).

٥٨٠