وصف إفريقيا

ابن الوزّان الزيّاتي

وصف إفريقيا

المؤلف:

ابن الوزّان الزيّاتي


المترجم: د. عبدالرحمن حميدة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسرة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥

لأخرى مع رجال حاشيته يمتطى جملا وتقاد الخيول بأيدى الخدم المسلمين. وإذا أراد الحرب ، تعقل هذه الجمال ويركب الجنود خيولهم. وفى كل مرة يريد أحد مخاطبة الملك يجثو أمامه ، ويأخذ التراب ويحثوه على رأسه وكتفيه : وهذه طريقة التعببر عن الاحترام ، ولكن هذا غير مطلوب إلا من الذين لم يسبق لهم أن خاطبوا الملك سابقا ، أو من السفراء. ولدى الملك حوالى ثلاثة آلاف فارس وعدد لا يحصى من المشاة المسلحين بالأقواس المصنوعة من خشب «الشمرة» البرية (٤٢) ، ويرمى هؤلاء بسهام مسمومة. ويشن هذا الملك الحرب على الأعداء من جبرانه وعلى الذين يمتنعون عن دفع الإتاوة له. وحينما يحرز النصر يبيع فى تومبكتو أسراه حتى الأطفال الذين غنمهم فى المعركة.

ولا يولد فى هذه البلاد من الخيول سوى بعض البراذين الصغيرة. ويستخدمها التجار فى أسفارهم ، وكذلك رجال بطانة الملك أثناء تجوالهم فى المدينة. ولكن تأتى كرام الخيل من بلاد البربر ، وتأتى مع قافلة. وبعد عشرة أو اثنى عشر يوما من وصولها ، تعرض أمام الملك الذى يأخذ منها العدد الذى يرغبه ويدفع ثمنها بالسعر المناسب.

وهذا الملك هو العدو اللدو لليهود. فهو لا يرغب أن يسكن أحد منهم في المدينة. وإذا بلغه أن تاجرا من بلاد البربر يتردد عليهم أو يتاجر معهم يصادر أرزاقه. ويوجد في تومبوكتو العديد من القضاة والعلماء والأئمة ، ولجميعهم مرتبات طيبة من الملك ، وهو يكرم الأدباء كثيرا. ويباع هنا الكثير من الكتب المخطوطة التي تأتي من بلاد البربر. ويجنى من هذا البيع ربح يفوق كل بقية السلع.

وتستخدم قطع الذهب الصافي عوضا عن العملة المسكوكة ، في حين يستعمل الودع لشراء الأشياء البسيطة ، وهي قواقع مجلوبة من بلاد فارس (٤٣) ويعادل الأونس الروماني من الذهب (٤٤) ستة وثلثين من دنانيرهم (٤٥).

__________________

(٤٢) نبات غير محدد. ففي المناطق المتقدمة في السودان نحو الجنوب ، تصنع الأقواس من خشب البامبو.

(٤٣) وهي C.anulus وCypraeamonetas وتأتي في الحقيقة من جزر الملديف في المحيط الهندي.

(٤٤) ٢٥٦ ، ٢٨ جراما.

(٤٥) إذن يزن المثقال السوداني ٢٣٨ ، ٤ غرامات.

٥٤١

ولأهل تومبوكتو طبع مرح. ومن عادتهم التريض فى المدينة فى أثناء الليل ، بين الساعة الثانية والعشرين والواحدة صباحا ، وهم يعزفون بآلات موسيقية ويرقصون. ويعمل فى خدمة سكان المدينة الكثير من الرقيق بين رجال ونساء.

وهذه المدينة كثيرة التعرض لخطر الحريق. وفى الوقت الذي كنت موجودا فيها فى أثناء رحلتى الثانية (٤٦) ، احترق نصف المدينة فى فترة خمس ساعات. وكانت الريح عنيفة وأخذ سكان النصف الثانى من المدينة فى إخلاء أمتعتهم خوفا من أن تحترق اجسامهم كذلك.

ولا يوجد حول تومبوكتو أى بستان أو مزرعة أشجار (٤٧)

مدينة كاباره

كاباره مدينة كبيرة لها مظهر قرية دون جدار سور. وتبعد مسافة اثني عشر ميلا عن تومبوكتو على النيجر (٤٨) ومن هنا تشحن أو توسق البضائع على المراكب كي تذهب إلى جنّه ومالى. ولا تختلف هذه المدينة في بيوتها وسكانها عن المدن التي تكلمنا عنها آنفا. ونجد هنا زنوجا من أعراق مختلفة لأن هؤلاء يقصدون هذا الميناء من مناطق مختلفة على مراكبهم.

وقد أوفد ملك تومبوكتو نائبا عنه لكي ييسر للسكان المقابلات الملكية وتوفير مشقة مسيرة اثني عشر ميلا (٤٩).

وفي الوقت الذي كنت فيه في كاباره ، كان هذا النائب قريبا للملك ويدعى أبا

__________________

(٤٦) وربما كان ذلك فى عام ١٥١٢ م.

(٤٧) يوجد من هذه الخضرة حاليا فى غرب المدينة وهي مجتمعة حول الآبار.

(٤٨) لا تقع كاباره على نهر النيجر ذاته ، ولكن كما قيل آنفا ، على ذراع من هذا النهر ، يؤلف قناة طولها ١٧ كم مما يسمح بالوصول إلى تومبكتو عن طريق الماء فى وقت الفيضان ، بين منتصف كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير) ، ولكن عن طريق البر لا تبعد هذه المدينة أكثر من ٧ كم عن الأخرى. وهذه الملاحظة تسمح بالافتراض بأن المؤلف قد ذهب من مدينة لأخرّى بالقارب بين منتصف كانون الأول (ديسمبر) ومنتصف شباط (فبراير) وربما كان ذلك سنة ٩١٨ ه‍ / ١٥١٢ ـ ١٥١٣ م.

(٤٩) وهو كاباراكوتي ، المسئول عن شرطة الميناء ومراقبة نقل البضائع من كاباره إلى تومبوكتو ، سواء بواسطة الحمالين أو على ظهور الحمير ، فى الفصل الجاف ، أو بواسطة المراكب في فترة الفيضان H.Lhote.

٥٤٢

بكر ولقبه باغارمه ، وكان حالك السواد ، ولكنه كان كبير القدر بسبب ذكائه وكثرة عدله.

ومما يضر كثيرا بهذه المدينة كثرة الأمراض الناجمة عن نوع الأغذية التي تستهلك فيها ، من سمك وحليب وزبدة ولحم مخلوط بعضها ببعض. ونصف الأقوات الموجودة في تومبوكتو تقريبا إنما تأتي من كاباره (٥٠).

غاءو ومملكتها

غاءو (٥١) مدينة كبيرة شبيهة بالسابقة ، أي بدون جدار سور. وتبعد هذه المدينة مسافة أربعمائة ميل تقريبا عن تومبوكتو (٥٢) إلى الجنوب الشرقي. وبيوتها قبيحة في معظمها ، ومن بينها بيوت جميلة المظهر جدا حيث يقيم الملك وحاشيته (٥٣). وسكانها تجار أغنياء يتجولون دائما في المنطقة مع بضائعهم. ويقصدها عدد لا يحصى من السود الذين يجلبون كمية كبيرة من الذهب ليشتروا به أشياء مجلوبة من أوربا ومن بلاد

__________________

(٥٠) والواقع أن الأطعمة فى كاباره ليست أكثر رداءة من المناطق الأخرى ، ولكن كاباره وخيمة بسبب الحميات الناجمة عن كثرة البعوض H.Lhote.

(٥١) غاءو. لا نزال نجهل المعلومات عن التاريخ الصحيح لتأسيس هذه المدينة. ولكننا نعرف على كل حال أن أبا المحرّض الخارجي ، أبو يزد ، سكن هذه البلدة في طفولته : «فقد سكن أبوه ، كداد تاكيس ، مدينة في أراضي كستيليا (توزر) وكان يزاول التجارة في السودان. وبعد أن اشترى في بلدة تادمكت (تادميكه) أمة اسمها سبيكة ، جاءه منها ولد كان أعرج وكانت له شارة على لسانه. وقد خطر له أخيرا أن يأخذه إلى كوكو (غاءو) ويعرضه على أحد هؤلاء العرافين. وبعد أن فحصه هذا قال : سيكون لهذا الولد شأن كبير ، سيكون ملكا فيما بعد». وهذا القول مأخوذ من وثائق غير منشورة عن الخارجي أبي يزد مخلد بن كداد ، من تادمكت. وقد ولد أبو يزد هذا حوالى العام ٨٨٥ م ، إذن وصلنا إلى اليقين بأن غاءو كانت موجودة في القرن التاسع الميلادى. ولربما أن ذكر هذه المدينة قد ورد قبل ذلك لأن الجغرافي الخوارزمي ذكر ، وذلك حوالي العام ٨٣٣ م ، مدينة كوكو ، كونكو أو كانكو ، والتي ربما كانت غاءو. وأخيرا فإن اليعقوبي يذكر ، حوالي العام ٨٧٢ م ، مملكة باسم كاوكاو. وقد أصبحت غاءو عاصمة بلاد سونغائي حوالي القرن الحادي عشر ، عند ما غادر الملك كوكبا ، الواقعة باتجاه السافلة بالنسبة لغاءو. وقد عثر على شواهد يرجع تاريخها لبداية القرن الثاني عشر الميلادي في قبر ملكي مشترك في سانه ، قرب غاءو. والاسم المحلي لمدينة غاءو هو غاءو غاءو. وقد كتبها المؤلفون العرب في القرن العاشر وحتى الرابع عشر الميلادي على شكل كوكو وكاوكاو ، ولكن الكتابة الرسمية فى المغرب الأقصى في القرن الرابع عشر كنت كاغو ، ومنها غاغو التي تمثل اللفظ الصحيح الذي نعثر عليه فى الوثائق الأوربية. ه. ل H.L hote

(٥٢) في الحقيقة ٤٥٠ كم تقريبا وليس ٦٥٠ كم.

(٥٣) إذا وثقنا بقول باشا جودر الذي احتل غاءو سنة ١٥٩١ فإن «بيت رئيس الحمارين (أى رئيس الذين يسوقون الحمير) في مراكش يساوي أكثر من قصر آسكيا».

٥٤٣

البربر ، ولكنهم لا يجدون أبدا من هذه الأشياء ما يكفي لإنفاق ذهبهم ، ويعودون دوما لبلادهم ، بنصفه أو بثلثيه. وهذه المدينة مطمئنة بالأمان أكثر من تومبوكتو ، والخبز واللحم فيها متوافران لأقصى حد ، ولكن لا يمكن العثور فيها على خمر ولا على فواكه. ويكثر فيها البطيخ والخيار واليقطين الممتاز والأرز بكميات ضخمة. وآبار مياهها العذبة عديدة. وفيها ساحة يباع فيها يوم السوق عدد لا يحصره عد من الرقيق ، من ذكور وإناث. ففتاة عمرها خمس عشرة سنة تساوي حوالي ستة دنانير والشاب مثل هذا القدر تقريبا ، ويساوي الأطفال الصغار النصف تقريبا وكذلك العبيد المتقدمين في السن. ولدى الملك قصر خاص مخصص لعدد ضخم من النساء ، والمحظيات ، والعبيد ، ومن الخصيان المعينين لحراسة هاته الغسوة. ولديه كذلك حرس كبير العدد من فرسان ومن مشاة مسلحين بالأقواس. ويوجد بين الباب العام والباب الخاص في قصره ساحة كبيرة محاطة بسور. ويمتد على كل طرف من هذه الباحة رواق يستخدم للاستقبالات. ومع أن الملك يباشر بنفسه كل قضاياه ، فإن لديه كثيرا من الموظفين كالكتاب والمستشارين والقادة والنواب.

وإذا كانت عائدات المملكة ضخمة فإن نفقاتها أضخم. فالحصان الذي يساوي في أوربا عشرة دنانير يباع هنا بأربعين إلى خمسين دينارا ، وأردأ قماش صوفي في أوربا تباع هنا «الكانا» (٥٤) منه بأربعة دنانير ، والأقمشة الرفيعة مثل قماش «موناكشينو» و «مينيمو» يباع بخمسة عشر دينارا (٥٥) ، والجوخ البندقي الناعم مثل الوردي والبنفسجي والأزرق بثلاثين دينارا. والسيف السيء في أوربا الذي يساوي ثلث دينار يكلف شراؤه هنا أربعة دنانير أو على الأقل ثلاثة ، وكذلك الحال بالنسبة للمهاميز والأعنة. وكل سلع الخياطة والعطارة أيضا غالية جذا كذلك. والعشر من الملح يساوي دينارا في هذه البلاد (٥٦).

وتتألف بقية المملكة من بلدان صغيرة ومن قرى يعيش فيها الزراع والرعاة. وفي الشتاء يلبس هؤلاء جلود الأغنام ، وفي الصيف يمشون حفاة عراة ، غير أنهم

__________________

(٥٤) الكانا التجارية الايطالية كانت تساوي حوالي المترين.

(٥٥) من أسماء الأقمشة الايطالية في ذلك العصر.

(٥٦) العشر الإيطالي هو عشرة أرطال أو ٣٩ ، ٣ كجم.

٥٤٤

يسترون عوراتهم بقماش صغير وأحيانا يحمون باطن أرجلهم بنعال من جلد الجمل (٥٧).

وهؤلاء الناس على قدر عظيم من الجهل ، إذ لا يمكن العثور على شخص في مسافة مائة ميل يعرف الكتابة والقراءة إلا بمشقة. ولكن ملكهم يعاملهم كما يستحقون ، لأنه لا يترك لهم سوى ما يكفيهم للعيش ، بسبب ثقل الضرائب التي يقسرهم على دفعها.

مملكة غوبر (٥٨)

وتقع هذه المملكة على مسافة ثلاثمائة ميل إلى الشرق من مملكة غاءو (٥٩). وبين هاتين المملكتين تقع صحراء لا يعثر فيها إلّا على القليل من الماء لأنها تقع على مسافة أربعين ميلا من نهر النيجر (٦٠). وتقع هذه المملكة بين جبال شديدة الارتفاع (٦١). وتشتمل على عدد عظيم من القرى التي يسكنها الرعاة والبقارة ، إذ توجد بالفعل مقادير عظيمة من الأغنام والثيران ، ولكنها صغيرة الحجم. والناس هنا على العموم متمدنون جدا. وبينهم عدد كبير جدا من حاكة الأقمشة ، ولا سيما الحذائين الذين

__________________

(٥٧) لم يكن جلد الجمل مستعملا مطلقا لدى السودانيين لصناعة النعال ، اللهم إلا بصورة استثنائية لدى الرقيق. ففي غاءو تستخدم على الخصوص جلود الثيران وجلود الحيوانات البرية كالزرافة والودّان والغرير.

(٥٨) غوبر ، ومحرفت من غوبير إلى آيير وهو اسم أوائل القبائل الليبية التي هاجرت حوالي القرن السابع الميلادي ، وذلك حسب الروايات المحفوظة في مرتفعات آيير ، والذين هم من أصل قبطي (؟). وقد قدموا عن طريق تيبستي وبيلما وامتزجوا بالسكان المحليين من الهوسا. ومن المحتمل أنهم اضطروا للنزوح الى آيير حوالي القرن الثاني عشر الميلادي ، تحت ضغط وافدين جدد وهم السندال. ، و «الكل غرس» و «الكل وي» وأقاموا في منطقة مادا واتسّاوا ، التي حملت اسمهم منذ ذلك الوقت. وقد أصبحوا اليوم متزنجين تماما دما وأخلاقا ـ ه. ل H.L hote.

(٥٩) تقع بلاد غوبر في الحقيقة ، وهي تؤلف إقليم الحدود مع جمهورية نيجيريا ، على مسافة ١٠٠٠ كم جنوب شرق غاءو أي ٦٣٥ ميلا.

(٦٠) يقع نهر النسيجر بالفعل على مسافة ٤٠٠ كم تقريبا من غوبر ، ويعود هذا الخطأ إلى النسخ ، أو أن الحسن الوزان لم ير أبدا بلاد غوبر. وربما كان هذا فرعا كاذبا لنهر النيجر الشرقي الذي تصوره الجغرافيون العرب على أنه نهر النيجر ، والذي يصب في بحيرة تشاد ، كي يختفي من جديد ويتصل بعدئذ بالنيل ـ ه. ل H.L hote.

(٦١) لا يوجد في الواقع سوى سلاسل جبلية صغيرة ليس لها كبير أهمية ، وهي تنبثق هنا وهناك في السهل ولا تزيد ارتفاعاتها عن المائة متر ـ ه. ل H.L hote.

٥٤٥

يصنعون أحذية شبيهة بتلك التي كان يحتذيها قدامى الرومان (٦٢). وترسل هذه الأحذية إلى تومبوكتو وإلى غاءو. وتتوافر فيها بكثرة كميات الرز والعسل ، وكذلك نوع من الحبوب لم أرة أبدا في إيطاليا وهو معروف في أسبانيا ، كما أعتقد. وعند ما يفيض النيجر يغمر كل السهول التي تحيط بهذه الأمكنة المأهولة ، والعادة أن يبذر الحب في الماء (٦٣). وبين هذه التجمعات السكنية توجد قرية كبيرة تضم ستة آلاف أسرة. ويسكنها تجار البلاد والغرباء. وكان هناك في الماضي مقر الملك وحاشيته ، وهو الذى اعتقله وأعدمه الملك اسكيا ، ملك تومبوكتو في أيامنا (٦٤). كما قام اسكيا أيضا بخصى أحفاد ملك غوبر هذا وخصصهم لخدمة قصره. وأصبح سيد هذه المملكة. ووضع فيها حاكما. وقد كان السكان مرهقين بالضرائب. ولكنهم على كل حال يجنون أرباحا تجارية طائلة ، وقد افتقر هؤلاء السكان حاليا وهبطت مكاسبهم إلى النصف ، لأن آسكيا انتزع من هذه البلاد عددا كبيرا من الرجال واحتفظ ببعضهم أسرى وضرب الرق على الباقين.

آغادس ومملكتها

آغادس مدينة مسورة ، بناها الملوك المعاصرون على تخوم ليبيا. وهى مدينة السود ولكنها تكاد تكون أقرب مثيلاتها إلى مدن البيض ، هذا إذا استثنينا ولاته. وبيوتها غاية فى اتقان البنيان على نمط بيوت بلاد البربر ، لأن كل سكانها تقريبا من التجار الأغراب ، وفيها القليل من السكان المحليين ، ويكاد يكون كل هؤلاء السود صناعا أو جنودا لدى ملك المدينة. ويملك كل تاجر عددا كبيرا من العبيد الذين يستخدمهم حرسا على الطريق بين كانو إلى بورنو ، لأن هذه المسافة تكون نهبا لعدد لا يحصى من

__________________

(٦٢) وهى نوع من نعل ، أو كلاش ، وتسمى طوارقى ، وتدعى بالعربية نعل ، وصناعته من اختصاص الصناع الهوسا. ولا تزال مدينة ماداوا الواقعة فى منطقة غوبر ذات شهرة بصنع هذه النعال ـ ه. ل.H.L hote.

(٦٣) ليس المقصود بذلك نهر النيجر الذى يجرى على مسافة بضع مئات من الكيلومترات Epaulard. ولكن النهر المعنى هنا يجب أن يكون نهر كولبينكارا وهو رافد قديم للنيجر ويمتلىء بالماء وقت الأمطار ويزرع الدخن فعلا فى القيعان ويروى بصورة طبيعية فى الوقت الذى تمتلىء فيه الخبرات. ه. ل H.L hote.

(٦٤) المقصود به هنا أيضا ملك غاءو وليس ملك تومبوكتو آسكيا الحاج محمد. فقد ذهب آسكيا على رأس حملة إلى بلاد كاتسنة حوالى العام ١٥١٣ م. وربما مر فى هذه المناسة بغوير وأخضعها ـ ه. ل H.L hote.

٥٤٦

القبائل التي تهيم في الصحراء. وهؤلاء الناس الذين يشبهون أفقر فئات الزنغاري (٦٥) يتعرضون دوما للتجار ويغتالونهم. ولهذا يعمد التجار لاصطحاب العبيد المسلحين جيدا بالحراب وبالسيوف وبالأقواس ، حتى إنهم أخذوا يستعملون اليوم راشقات السهام (٦٦). وهكذا لا يستطيع هؤلاء اللصوص أن يعملوا شيئا (٦٧).

وما أن يصل أحد التجار الى مدينة ما ، فإنه يستخدم هؤلاء العبيد في مختلف الأعمال كي يكسبوا عيشهم ويحتفظ بعشرة او بإثني عشرة منهم لحاجاته الشخصية ولحراسة بضائعه.

ويقوم ملك آغادس بإحاطة نفسه بحرس كبير العدد ، وله قصر في قلب المدينة. والواقع يعود هو أصلا لتلك الأقوام الليبية ، وفي بعض الاحيان تقوم هذه بخلعه كي تنصّب في مكان أحد اقربائه. ولكنهم لا يغتالونه البتّة ، ويعينّ ملكا على آغادس الذي يقدم أكبر خدمة لأهل الصحراء.

أما في بقية المملكة ، أي في كل المنطقة الجنوبية ، فينصرف الناس لتربية الماعز والأبقار. ويعيشون في أكواخ من أغصان أو من حصر ينقلونها على الثيران عند ما

__________________

(٦٥) الزنغاري الطليان هم البوهيميون الجوالة في أيامنا أو الرومانيشل وهم من أصل هندي.

«ويماثل هؤلاء النور أو القرباط في أقطار المشرق العربي والذين يعيشون في البوادي كفئة منحطة تزاول أدنأ الأعمال كسلخ جلود الحيوانات النافقة ، وحتى في المدن حيث لهم حي خاص بهم في جنوب شرق حلب يدعى القرباط» (المترجم).

(٦٦) وهذه الإشارة الوحيدة التي وردت عن آلة رشق السهام في هذه المنطقة. ولا يوجد منها اليوم أي أثر ، بينما بقي القوس ولا زال معروفا عند الهوسا والبهل ، ولكن ليس لدى الطوارق الذين يظهر انهم لم يستعملوه أبدا. غير ان بعض قبائل دامرغو المستقرة الذين صاروا أتباعا لهم والذين رافقوهم عدة مرات في المعارك ، كانوا مسلحين بها ، ولهذا كان من الخطأ القول بأن طوارق جنوب آيير كانوا يمارسون الحرب بالقوس. أما العرب فقد امتلكوا راشقة السهام منذ القرن الثامن الهجري كما كانوا يقذفون بالبنادق وكانوا يرمون بالرصاص. كما ورد ذكرها عند سلاطين بني مرين في المغرب حوالي العام ١٣٤٥ م الذين كان لديهم فرق من الأندلسيين وفصيلة من مهرة الرماة بالراشقات الخيالة (العمري : مسالك الأبصار. ترجمة جودفروا دو مومبين. باريس ١٩٢٧ ص ١٤٧) ترى هل كانت راشقات السهام المذكورة في آيير كان يتسلح بها تجار تواتّيون مقيمون في المدينة؟ وحتى القرن السادس عشر كانت راشقة السهام لا تزال مستخدمة في المغرب الأقصى ، ومن المؤكد انها كانت مستخدمة في توات ، حيث بقيت على شكل لعبة أطفال. وربما عن هذا الطريق وصلت الى آيير. ه. ل H.L hote.

(٦٧) وربما المقصود بهم قطاع الطرق من قوم دازا أو غوران ، وهم أقارب التدا ، وغريزة النهب لديهم ليست بأقل مما هي عند الآخرين.

٥٤٧

ينتجعون وينصبونها حيث يرعون حيواناتهم ، كما يفعل العرب (٦٨) ، ويستمد الملك دخلا كبيرا من الرسوم التي يدفعها التجار الغرباء وأيضا من حاصلات البلاد ولكنه يدفع جزية تبلغ مائة وخمسين ألف دينار لملك تومبوكتو (٦٩).

__________________

(٦٨) يبدو وصف آغادس أمين جدا. وإذا كان جدار السور غير موجود اليوم ، فإن بقايا منه لا تزال ظاهرة في بعض الامكنة. ويوجد مخطط صغير في كتاب «الصحراء الفرنسية» تأليف كابوراي ، شكل ٢ ، والسكان زنوج حقا ، وينصّب ملكها من طرف طوارق قبيلة كل وي وكلغرس مجتمعين ، مثلما يخلع من طرفهم ، إذا لم يرضهم ، كما ذكر الحسن الوزان. أما الاخصاص من الأغصان أو من الحصر التي يسكنها البدو والتي ينقلونها على الثيران ، فهي عبارة عن أكواخ قابلة للنقل والتي تستحدم خاصة لدى كل وي ، وقد وصفت هنا بصورة صادقة ، ولا يشير الوزان الى انه زار آغادس ، والملاحظ أنه لا يذكر اسم آيير في هذا الفصل ، وهذا ما يثير الاستغراب. ولا يثق الجنرال ايبولار بكلامه ، إذ توجد «ثغرات» من ناحية أخرى ، ثغرات صارخة في وصفه المنطقة المحصورة بين النيجر والنيل ، ولكن يجب أن نعترف على كل حال بأنه استفهم عن هذه المنطقة بصورة صائبة ، عن أهلها وخاصة عن المدينة. ويروي الوزان أنه كان في بورنو ، وربما انه حصل فيها على المعلومات ، ولكن ايبولار يرفض ايضا هذه الفرضية ـ ه. ل.

(٦٩) إن تاريخ خضوع سلطان آغادس الى آسكيا يثير الجدل ، لأنه من المقبول عموما أن ذلك كان نتيجة حملة سونغائي في آيير والتي وقعت سنة ١٥١٥ م. وهذا هو رأي الباحثين دولافوس واورفوا اللذين عالجا هذه المسألة. ولكن كانت هناك حملتان وهذا ما سنحاول البرهنة عليه فيشير كتاب «تاريخ الفتاش» (ص ١٣٥) ضمنيا ان آسكيا قام بحملة سنة ١٥٠٠ م ضد منطقة آيير ويعبر عن ذلك بما يلي : «في عام ٩٠٦ ه‍ (بين تموز ١٥٠٠ و ١٦ تموز ١٥٠١) قام بحملة ضد تلدزه في الآيار حيث وصلت الكاكاكي [طبول صغيرة كانت تؤلف جزءا من الامتيازات الملكية في السلطنات الزنجية المسلمة في السودان ـ ه. ل] ، وهذا ما لم يحدث قبل ذلك. ويؤكد تاريخ السودان (ص ١٢٤) هذا الواقع ويقول : «خلال السنة السادسة من حكمه قام (اي آسكيا) بحملة ضد آيار وقسر تلدزه على الدخول في سلطته». وقد خطر ببال المترجمين هوداس ودولافوس ان هناك علاقة بين آيار وآيير ولكنهما لم يأخذا بهذه الفرضية ، ورجّحا عليها آيورو ، وهي بلدة واقعة على النيجر الأوسط. والواقع هو أن دولافوس في كتابه «السنغال الأعلى والنيجر» ج ٢ ص ٩٠ ترجم دون تحفظ آيار بكلمة آيورو ، وأشار الى أن تلدزه ، التي كتبها على شكل تيلديا ، يمكن ان تكون تيللا بيري. ويظهر على اورفوا اثناء كلامه عن قضايا آيير أنه يشك في حملة عام ١٥٠٠ م ، واخيرا لا يتمسك بدعواه (تاريخ سكان السودان الأوسط ص ١٧٢). ومع هذا يوجد مكان في آيير يحمل اسما قريبا جدا من اسم تلدزه والذي يتطلب النرضيح بصورة حاسمة ، لا سيما وأنه كان حوالي العام ١٥٠٠ مقر سلاطين هذه البلاد. وفي الواقع فإن مخطوط ب من تواريخ آغادس الذي نشره في «تواريخ آغادس ، أو حوليات ، جريدة الجمعية الافريقية ، مجلد ٤. ١٩٣٤ م فصل ٢ ، ص ١٥٤» يقول ما يلي : «وبعدئذ نهضت قبائل سندال الخمس لمواجهة السلطان ووجدوه في بلاد أعارم كتافاو [والمقصود بذلك بلدة آدوسيّه في قلب آيير ـ ه. ل] ونقلته الى بلاد تادوليزه ، لأن الثيران التي كانت تجلب الدخن الى آيير كانت تجهد كثيرا. وبعدئذ اقتادوه الى تينشمان وبنوا له حصنا. ولم يكن له من أصحاب سوى أناس من القبائل الأربع التي شيدت قصر السلطان ، وتقاسمت العمل فيما بينها ، أي قبيلة آموسّوفان. فهؤلاء هم الذين كانوا يسيطرون على بلاد بارغو [بوركو ، بلدة واقعة في جنوب شرق آيير ، والمكان الذي يتجمّع فيه اصحاب القوافل الذين يشتركون في قافلة بيلما ، في شمال التشاد ، قبل أن يجتازوا صحراء تينيره الرهيبة ـ ه. ل] في موقع تيغيّدا وآدربيسّينات. وبنوا بأنفسهم العمائر أمام المسجد الجامع في آغادس وثابر أحفاده السلاطين من بعده على سكنى هذه العمائر حتى أيامنا». ومما لا ريب فيه أن

٥٤٨

__________________

ـ تداليزه المذكورة في الحولية ، هي بلدة لا تزال باقية وتقع على مسافة ٢٠ كم شمالي اغادس ، وهي تطابق تلدزه في كتابي «تاريخ الفتاش» و «تاريخ السودان». وأن آيار هي بالفعل آيير وليس آيورو. وتصبح هذه الفرضية توكيدا عندما نثابر على تدقيق النصوص. فحوليات آغادس تسرد بوضوح وقائع ستيز لنا الأحداث الهامة التي وقعت في ذلك العصر ، واستنادا إليها فإن السلطان الذي كان يمارس السلطة سنة ١٥٠٠ م هو محمد عبد الرحمن ، الذي حكم مدة تسع سنوات ومات وهو على رأس الحكم إذ اغتيل سنة ١٩٠٢ م ، ويذكر «تاريخ السودان» (ص ١٢٩) و «تاريخ الفتاش» (ص ٣١٩) من ناحية أخرى ، في عبارات مماثلة ، أن آسكيا شنّ معركة سنة ١٥١٥ م ضد العدلاء ، وهو سلطان آغادس. وهذا ينسجم بالواقع مع الحوليات (ص ١٥٢) التي تقول بعد الإشارة الى اغتيال محمد عبد الرحمن : «استلم بعد ذلك السلطة ابناء ناتي مللت ، محمد العادل [العدلاء في التاريخ ـ ه. ل] ومحمد حماد في ٩٠٨ ه‍ (١٥٠٢ م) ، وحكموا مدة اربعة عشر عاما ، وهو التاريخ الذي حاقت به مصيبة آسكيا». ولقد رأينا أن مقام سلاطين آيير كان بالتتالي : أسّوله ، تادليزه ، نيتشمان وآغادس وكان المقر في آغادس عندما قدم آسكيا الى آيير لأول مرة سنة ١٥٠٠ ، وهذا ما ينسجم مع الحملة ضد «تدلز» في آيار في الحوليات. ومن جهة أخرى نحن نعرف أنه في عام ١٥٠٢ قدم المغيلي الى هذه المدينة ليزور السلطان. أما إقامة السلاطين في نيتشمان ، كما توحي بذلك الحولية ، فلم تكن طويلة ، هذا وإذا قبلنا بأن الحسن الوزان مر بتومبوكتو سنة ١٥١٣ وأنه ذكر حينئذ سيطرة آسكيا على آغادس ، فيمكننا أن نستنتج من ذلك من ناحية أخرى ، أنه بين ١٥٠٢ م و ١٥١٣ أصبحت آغادس عاصمة سلاطين آيير وإن أول حملة يقوم بها آسكيا ، من ناحية أخرى ، حدثت على وجه الدقة ، سنة ١٥٠٠ ، لأن الثانية تعود لعام ١٥١٥ ، وأن الوزان لم يستطع ذكر سلطة آسكيا على آغادس. وهكذا تتفق كتب التاريخ مع حوليات آغادس ونص الحسن الوزان. وحوالي نفس الفترة جرى بناء أول جامع ، وليس الجامع الموجود اليوم ، والمؤرخ في أواسط القرن التاسع عشر ، بل الجامع الذي رآه بارت عند زيارته والذي كان له وضع مأثل جدا. وإذا كانت دهشته من أن آسكيا ذهب إلى آيير مع فاصل زمني مقداره أربعة عشر عاما ، فإن الوقائع تصبح مفهومة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن محمد بن عبد الرحمن الذي أعلن خضوعه حوالي سنة ١٥٠٠ ، قد اغتيل سنة ١٥٠٢. ولا تعطى الحولية سببا لهذا الاغتيال ، ولكن يمكن الافتراض أنه كان هناك سبب ونتيجة ، وأن هذا الخضوع كان ينص على جزية ثقيلة يجب دفعها ، وهذا هو السبب. أما خلفاؤه الذين حكموا في نفس الوقت مثل محمد العادل ومحمد الحماد واللذان كانا وراء هذا الاغتيال ، أو ربما كانا بطلي المعارضة ضد آسكيا ، فقد رفضا الدفع بالتأكيد ، والغالب أن هذا هو السبب الذي دفع بآسكيا لشن حملة ثانية على آيير ، ولكن هذه المرة ضد آغادس ، التي أصبحت عاصمة. وتقوم الحولية إن محمد بن تالاز هو الذي خلف عام ١٥١٦ ولدى فاتي مللت ، أي الحاكمين المشتركين اللذين ورد ذكرهما. وبما أن هذا التاريخ يعقب تاريخ الحملة السونغائية الثانية ، فإن من الممكن الظن بأن هذين الاثنين قتلا في المعركة أو أنهما أبعدا عن السلطة ، أو أن آسكيا قد أعدمهما ، وهو ما كان منسجما مع أخلاق العصر ونتيجة لمحاولتهما التملص من سيادة غاءو التي أقر بها سلفهما. وعندئذ كان على آسكيا أن يترك حامية عسكرية أو نوابا عنه في آغادس ، الذين أرسوا قواعد المستعمرة السونغائية ، والذين يحس بأثرها حتى أيّامنا. وبعد أن رتبنا الأحداث ، فإنه لا حاجة للتنويه بأن حملة آسكيا ضد ابن سوني علي ، اللاجىء في آيرو ، كما تصور ذلك دولافوس (ج. ، ص ٨٩) تسقط لتجنبها الصواب. وسنلاحظ أيضا أن في حولية آغادس ، قيل إن القبائل الخمس في الحلف كانت المهيمنة على كل الجزء الجنوبي من آيير وربما على كل الكتلة الجبلية «من بارغو إلى تيغيّده وإلى آدر بيسيّنات». وقد أشير إلى هذه المواقع على أنها آبار متاخمة للقسم الجنوبي من آيير ، أما بوركو ، فكان الموقع الأكثر بعدا نحو الشرق ، تماما على تخم صحراء التينيره وتيغيد انتسوت ويجب أن نعي هذه الناحية ، لأنه استنادا إلى رواية متداولة سجلها آبادي (مستعمرة النيجر ، باريس ١٩٢٧ ص ٢٧٦ هامش) ونفيد أن ملاحات تيغيده لم تكتشف إلا حوالي سنة ١٧٥٠ فإذا لم يكن المقصود تيغيدا تنسمت فإنه لا يمكن اعتبار دتغيد انتناغائيت أو تيغيدّ ان أدرار تخما غربيا لمنطقة آيير ، من ناحية ، وعلى طريق غاءو إلى آيير من ناحية أخرى ، وهو نهاية الخط في كلا الاتجاهين ـ ه. ل H.Lhote.

٥٤٩

كانو

كانو (٧٠) إقليم كبير على مسافة خمسمائة ميل تقريبا إلى الشرق من النيجر (٧١). ويضم هذا الإقليم أقوامأ تسكن قرى وتعيش إما من تربية الأغنام والأبقار ، وإما من زراعة الأرض. ونجد فيها جبالا خاوية مليئة بالغابات والعيون. وفي هذه الغابات الكثير من شجر البرتقال والليمون البرية وتحمل ثمارا ذات مذاق لا يختلف كثيرا عن مذاق البرتقال والليمون المزروع.

وفي وسط هذا الإقليم مدينة استمد منها الإقليم اسمه. ولها جدار سور ، مبني من عواميد ومن طين. والبيوت مبنية من نفس المواد. ويتألف السكان من صناع متمدنين ومن تجار أغنياء. وقد كان ملكهم في الماضي قويا جدا. فكان لديه بلاط هام والعديد من الفرسان ، حتى لقد جعل من ملك زقزق ومن ملك كاسينه تابعين له. ولكن آسكيا ملك تومبوكتو (٧٢) تظاهر بأنه يريد القدوم لنجدة هذين الملكين فقتلهما غدرا واحتل مملكتيهما. وبعد ثلاثة أعوام أعلن الحرب على ملك كانو ، ثم أجبره ، بعد حصار طويل ، على التزوج بإحدى بناته ، وبأن يدفع له كل سنة ثلث دخله ، وترك في المملكة بضعة نواب وجباة لاستيفاء حصته من الضرائب.

كاتسنه ومملكتها

كاتسنه (٧٣) مملكة مجاورة للسابقة من الشرق ، وتتضمن الكثير من الجبال (٧٤) وأراضيها وعرة ، ولكنها جيدة للشعير والدخن. والسكان حالكو السواد. ولهؤلاء السكان أنوف غليظة بشكل قبيح وشفاه سميكة. وكل الأماكن المسكونة في هذا القطر هي قرى صغيرة مؤلفة من أكواخ القش ولجميعها منظر كريه. ولا يتجاوز سكان أية قرية ثلاثمائة أسرة. وهنا يجتمع الفقر والدناءة. وكان هؤلاء السكان في الماضي تحت

__________________

(٧٠) كانو مدينة هامة في بلاد الهوسا في جمهورية نيجيريا.

(٧١) ٨٠٠ كم.

(٧٢) نفس الملاحظة السابقة ، أي المقصود هو آسكيا الحاج محمد.

(٧٣) تقع كاتسنه على مسافة ١٦٠ كم شمال غرب كانو.

(٧٤) في الحقيقة لا يتعدى الأمر بضع قباب صخرية متواضعة الارتفاع.

٥٥٠

حكم ملك ، ولكن هذا قتل على يد آسكيا ، وفني نصف السكان ، وأصبح آسكيا سيد المملكة كما سبق أن قلنا (٧٥).

زقزق ومملكتها

وهي بلد تتاخم كانو نحو الجنوب الشرقي (٧٦). ولكنها تقع على مسافة مائة وخمسين ميلا تقريبا عن كاتسنه (٧٧). وأهلها من الأغنياء الذين يزاولون التجارة فى كل المنطقة. وتنقسم هذه المنطقة قسمين : أحدهما حار جدا والآخر بارد (٧٨) حتى إن السكان لا يستطيعون احتماله في الشتاء ، فيضعون في أرضية أكواخهم مواقد كبيرة يوقدون فيها الكثير من الجمرات ويضعونها تحت سررهم المرتفعة نوعا ما وبذلك ينامون. وتنتج أراضيها فواكه وتكثر فيها المياه والغلال ، وتتشابه البيوت والقرى مع البيوت التي تكلمنا عنها آنفا. ويوجد فى هذه البلاد ملك مستقل ولكن آسكيا قتله وأعلن نفسه أيضا ملكا على هذه المملكة.

زنفاره

زنفاره منطقة تتاخم المنطقة السابقة الذكر من الشرق. ويسكنها بضعة أقوام أجلاف ومنحطين. وتتوافر الحبوب فى هذه البلاد وكذلك الأرز والدخن والقطن. وسكان زنفاره طوال القامة ولكنهم سود فاحمون مع وجوه طويلة كالبهائم ، ويقتربون

__________________

(٧٥) نفس الملاحظة السابقة رقم (٦٩) فيروي «تاريخ السودان» (ص ١٢٩) الوقائع كما يلي :

«في أواخر العام الثاني من حكمه (١٩ آذار ـ ١٥١٢ و ٩ آذار ١٥١٣) قام الأمير (آسكيا الحاج محمد) بحملة إلى كالشنه ، وعاد منها في ربيع الأول من العام العشرين ١٥ أيار (مايو) ـ ٦ حزيران (يونيو) ١٥١٣ م». ولا تذكر المصادر السونغائية أن كاتسنه كانت تابعة لامبراطورية غاءو ، ولكن هذا ما تؤكده مصادر الهوسا. انظر في هذا الموضوع : ١. اورفوا ، وتاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٣٢. وهذه الفقرة عن كاتسنه مفقودة في ترجمة تامبورال ـ ه. ل.H.Lhote.

(٧٦) تقع زقزق أو زاريا إلى الجنوب الغربي من كانو. وزقزق أو زازّاء إنما جاء من اسم عاصمتها ، وكانت مأهولة بالأصل بقوم الهوسا الذين أجلوا في القرن السابع الميلادي نحو منطقة يوبيّه على يد جماعة كيسارا ، القادمين من الشرق ، وربما من مصر. ويعود تحولها إلى مملكة إلى القرن الحادي عشر ، وكانت عاصمتها حينئذ ريكيشي ، ثم ووششري. وفي النصف الأول من القرن الخامس عشر اجتاح المنطقة أناس قادمون من فوتاتورو ، وعلى رأسهم امرأة اسمها باكاء وتورونكو. وحملت العاصمة اسمها. ولا تزال خرائبها ماثلة للآن إلى الجنوب من زاريا. وقد تأسست هذه حوالي العام ١٥٣٥ على يد الملك الزقزقي الثاني والعشرين ، وقد تلاشت أسرته حوالي العام ١٨٠٢ م وحل محلها كما يظن أسرة من البهل (أنظر. اورفوا. تاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٢٣١) ـ ه. ل H.Lhote.

(٧٧) وتتاخم هذه الأراضي نيجيريا الحالية.

(٧٨) تتمتع هضبة يوشي وحدها بحرارة لطيفة نسبيا نظرا لارتفاعها النسبي.

٥٥١

من الحيوان أكثر من الإنسان. وقد دسّ آسكيا السم لمليكهم وأباد قسما كبيرا من شعبه(٧٩).

مملكة وانغاره (٨٠)

وهي منطقة تتاخم المنطقة السابقة من الجنوب الشرقي (٨١). ويسكن هذه المنطقة شعب كبير ، يحكمه ملك يستطيع أن يعبىء سبعة آلاف من المشاة المسلحين بالقسي وحوالي خمسمائة فارس من الغرباء. ويجني دخلا كبيرا من رسوم البضائع ومن الرسوم التجارية. وكل الأماكن المسكونة عبارة عن قرى من القش ، باستثناء واحدة ، أكثر اتساعا وجمالا من الأخريات. والسكان أغنياء كثيرا لأنهم يذهبون مع بضائعهم لأقطار بعيدة ولأنهم يجاورون ، من الجنوب ، البلاد التي يوجد فيها الذهب بكمية كبيرة. غير أنهم لا يستطيعون اليوم ممارسة هذه التجارة الخارجية ، لأن لهم عدوين قويين وقاسيين هما آسكيا من الغرب وملك بورنو من الشرق. وعندما كنت موجودا في بورنو ، قام ملك هذه المملكة ، إبراهيم (٨٢) بجمع كل جيشه لمهاجمة ملك وانغاره. ولكن عندما وصل مقتربا من هذه المملكة بلغه أن عماره ، أمير غاءو ، يتجهز للسير على بورنو ،

__________________

(٧٩) تقع بلاد زنفاره أو زمفاره إلى الجنوب من غوبر وشمال غرب كاتسنه التي تفصلها عن زقزق ، وهي أكثر من ذلك إلى الجنوب ، وسكان هذه الدولة الصغيرة من أصل مجهول ، وربما كانوا سونغائي أو كانوري ، وقد اتخذوا فيما بعد لغة وعادات الهوسا. والحسن الوزان هو أول من أورد ذكرهم ونعرف القليل من الأشياء عن تاريخ هذه الأمة. وقد كانت لهم نزاعات ، في مناسبات عدة ، مع الطوارق الذين كانوا يذهبون لمزاولة التجارة في كبّي. وفقد هؤلاء استقلالهم حوالي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي (انظر. أ. أورفوا ، تاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٢٤٥) ـ ه. ل Lhote H ..

(٨٠) وانغارا «هذه الغوانغاره أو وانغاره ، ليست كما ظن بارث ، هي وانغارا الحقيقية في الغرب ، أي امبراطورية مالي. بل هي دولة نشأت في بلاد الهوسا في القرن الثالث عشر ، حول مهاجرين وفدوا من وانغاره والتي ظلت خلال ثلاثة قرون أقوى دول الهوسا وأكثرها نشاطا. ونشاطها التجاري كان على قدر من الأهمية. وقد اندمجت في القرن الخامس عشر مع مملكة كاتسنه المتوسعة». (مذكرة. أ. أورفوا «تاريخ امبراطورية البورنو» مذكرة بجث إيفان ، رقم ٧. اريس. دار لاروز ١٩٤٩ م ص ٦٧ هامش ٥)

(٨١) سيقول المؤلف فيما بعد أنها تقع إلى الغرب من بورنو. ويبدو أنه يقصد تسّاوه ، الواقعة شمال شرق زنفاره ، وشمال كانو ، وشمال غرب بورنو. ويوجد موقع في تساوه يدعى غمفاره. ويدل اسم وانغاره في أيامنا هذه على مجموعة من تجار من الهوسا مبعثرين فى هذه الأقاليم السودانية. ومن المحتمل أنهم أحفاد مهاجرى القرن الثالث عشر ـ ه. ل Lhote H ..

(٨٢) استنادا إلى أ. أورفوا (تاريخ بورنو. مذكرة إيفان. باريس ـ لارز ١٩٤٩ م ص ٦٧). وهنا وقع الحسن الوزان فى خطأ. فقد كان هناك ملك واحد حكم من ١٤٣٢ إلى ١٤٤٠ واسمه إبراهيم.

٥٥٢

فترك مشروعه فورا كي يعود ، على عجل ، إلى مملكته. وكان هذا من حسن حظ ملك وانغاره. ويضطر تجار وانغاره ، حينما يسافرون لبلاد الذهب أن يجتازوا جبالا عالية ووعرة لا تستطيع حيوانات النقل اجتيازها. فينظمون أنفسهم كالتالي : يحمل عبيدهم على رءوسهم البضائع والأشياء الضرورية لهم ، والموضوعة في قشور قرع عريضة وعميقة. ويستطيع كل عبد أن يقطع عشرة أميال (٨٣) سيرا وحتى أكثر من ذلك مع حمل مقداره مائة رطل (٨٤) على الرأس. ورأيت منهم من يقوم بقطع هذه المسافة مرتين في نفس اليوم. وليس لديهم شعر فوق الجمجمة بسبب الثقل العظيم الذي اعتادوا حمله. وينقلون ، فيما عدا البضائع الأقوات لسادتهم ولكل العبيد المسلحين والمستخدمين في خراسة التجار (٨٥).

بورنو ومملكتها

البورنو (٨٦) إقليم كبير يتاخم وانغاره في الغرب ويمتد شرقا على مسافة خمسمائة ميل (٨٧) تقريبا ويبعد حوالى مائة وخمسين ميلا (٨٨) عن العين التي ينبع منها نهر النيجر (٨٩). ويتاخم من الجنوب صحراء سو. ومن الشمال يتاخم أيضا الصحارى التي تقابل برقة. ويحوى هذا الإقليم مواقع متنوعة. فبعض المناطق جبلية ، والأخرى مؤلفة من سهول. ويوجد هنا فى السهول العديد من القرى المسكونة بأناس متمدنين وبباعة أغراب ، من سود وبيض. وفي أكبر هذه القرى يقيم الملك مع جنده.

أما الجبل فمأهول برعاة يرعون ماعزهم وأبقارهم. ويزرع فيه الدخن أيضا وبعض الحبوب الأخرى التي لا نعرفها. ويتجول أهل البلاد عراة فى فصل الصيف ، مع فوطة من جلد ، أما في الشتاء فيسترون جسومهم بجلود الأغنام التي يستخدمونها

__________________

(٨٣) ١٦ كم.

(٨٤) ٣٤ كجم.

(٨٥) يبدو أن المؤلف قد خلط هنا ذكريات قراءاته مع معلوماته عن وانغاره في السودان الغربي ، أي رامبوك ؛ بلاد الذهب ، مع ما استطاع أن يعرفه عن وانغاره في السودان الأوسط. وفضلا عن ذلك فإن النقل بواسطة الآدميين هو أمر يمارس في كل إفريقيا السوداء.

(٨٦) بورنو هو إقليم نيجيريا الشمالية الحالية.

(٨٧) ٨٠٠ كم.

(٨٨) ٢٣٠ كم.

(٨٩) يقول المؤلف في كتابه الأول إن النيجر ينبع في صحراء سو ، ساءو ، وهي بحيرة كبيرة جدا ، أي بحيرة التشاد.

٥٥٣

أيضا كمفرش. وهؤلاء أناس لا ديانة لهم ، لا نصرانية ، ولا يهودية ، ولا اسلامية ، بل هم بلا إيمان كالحيوانات. ولهم نساء وأولاد على طريق الشيوع. وبناء على ما سمعته من تاجر عاش فى هذه البلاد ويفهم لغتها ، أنه لا يسمى الواحد منهم باسم خاص كما هو الشأن فى البلاد الأخرى ، وإنما يطلق عليه الوصف الخاص بقامته أو ببعض أجزاء جسمه. فإذا كان ذا قامة طويلة مثلا سمّي بالطويل ، وإذا كان قصر القامة سمى بالقصير. وإذا كان أحول العينين سمى الأحول. وهكذا يميز الناس بأوضاع أجسامهم الخاصة وما أصيبوا به.

وهذا الإقليم تحت قيادة أمير قوى جدا ، أصله من برداوه ، قوم من ليبيا (٩٠) ولديه قرابة ثلاثة آلاف فارس وما يقارب ذلك من المشاة لأن كل الشعب فى خدمته. وهو يقودهم حيث شاء ، لأنه لا يتطلب منهم أية ضريبة سوى عشر منتجات الأرض (٩١) ، وليس للملك من دخل سوى ما يوفره له النهب وقتل جيرانه الذين هم أعداؤه. وعدد السكان كبيرا جدا ويعيشون فيما وراء صحراء «سو». وكانوا فى الماضي يجتازون هذه الصحراء سيرا على الأقدام ويخربون كل مملكة بورنو. ولكن الملك الحالي استدعى تجارا من بلاد البربر لجلب خيول له كي يبادلوها بالعبيد ، أى حصان واحد مقابل خمسة عشر عبدا أو عشرين. وكان يقوم بواسطة هذه الخيول بحملة ضد العدو ويجعل التجار ينتظرون مدة شهرين أو ثلاثة ويعيشون في تلك الفترة على حسابه ، وعند عودته من حملته كان يجلب ما يكفي من عبيد ليسدد بهم ثمن الحيوان. ولكن قد يضطر هؤلاء في بعض المرات للانتظار حتى العام التالي لأن الملك لا يكون لديه ما يكفي من رقيق لتسديد حقوقهم ، ولا يمكن القيام بحملة ، بدون أن يتعرض لخطر ، إلا مرة في العام. وعندما قصدت هذه المملكة وجدت فيها عدة تجار بائسين ويودون العزوف عن هذه التجارة وألا يعودوا مطلقا إلى هذه البلاد ، لأنهم ينتظرون هنا منذ عام على أمل تسديد حقوقهم. غير أن الملك يتيه فخرا بثرائه وبالخزينة العظيمة التي يملكها ، ورأيت كل تجهيزات خيوله ، والمهاميز ، والركابات ، والأعنة

__________________

(٩٠) لنتذكر أن المؤلف يجعل من البرداوة أناسا بيض اللون من نفس عرق الطوارق ، في حين أنهم زنوج من عرق فريد هو التدا ، وتنقل الروايات المحلية لنا بالفعل أن التدا قدموا من كانم فقضوا على قوم الساءو أو اندمجوا بهم فتشكلت أقوام الكانوري أو البورتوان. انظر. ـ. بالمر. البورنو في الصحراء الكبرى والسودان. ج. موراى ، ١٩٣٦ م. وأ. ا. أورفوا. بتاريخ البورنو. مذكرة إيفان ، رقم ٧ ، باريس. دار لاروز ١٩٤٩.

(٩١) أي الضريبة الإسلامية الشرعية على ما تنتجه الأرض ، أي العشر.

٥٥٤

واللجامات ، وكلها مصنوعة من الذهب (٩٢) ، كما أن القصعات والأواني الأخرى التي يستخدمها لطعامه وشرابه هي أيضا من الذهب الخالص. غير أن هذا الرجل ، كما سبق أن قلنا ، بخيل جدا ويرجح التسديد بالرقيق وليس بالذهب.

ويضع تحت سلطته بضع ممالك. ولكن كل البلاد التي يسيطر عليها تسمى بورنو عند البيض ، إذ لم تحدث رحلات كافية في هذه البلاد لمعرفة خصائصها وإطلاق اسم خاص على كل منها. وهذه هي حالتي على الخصوص لأنني لم أمكث فى هذا الإقليم سوى شهر تقريبا (٩٣).

غاوغه ومملكتها

وهو إقليم يتاخم إقليم بورنو من الغرب ، ويمتد شرقا حتى حدود مملكة نوبيا ، التي تقع على النيل ، وتنتهي جنوبا بصحراء تتاخم أيضا عكسا يصنعه النيل ، وتمتد شمالا حتى صحراء سيرت وحدود مصر. وهي تمتد غربا فى شرق على مسافة خمسمائة ميل تقريبا. وعرضا على نفس المسافة تقريبا (٩٤).

__________________

(٩٢) تكون قطع تجهيزات الخيول ، كاللجامات والأعنة والركابات ومسند السرج ، مزدانة بصفيحات من نحاس منقوشة برسوم تزيينية ، مثقبة ومضغوطة لتعطي أجمل شكل. وربما يريد المؤلف أن يحكي لنا عن هذا البذخ الفريد جدا فى التجهيزات ، ومن المتوقع أن يكون جهاز حصان السلطان مجهزا بصفائح ذهبية ، لأن هذه الصفحات رقيقة للغاية ، ولأن الكمية اللازمة من هذا المعدن الثمين ليست كبيرة جدا.

(٩٣) لقد انحدر البورنوويون من بربر زغاوة الذين يعتبرهم ابن خلدون منحدرين من هواره والذين أشار إليهم الإدريسى فى جوار آيير (نيتشامان). ويعتقد أنهم قدموا إلى بورنو حوالى القرن التاسع الميلادي حيث تهجنوا مع زنوج ساءو الذين كانوا يقيمون هنا ، وعن هذا الخليط نتج الكانوري ، الذين يمثلون النموذج الزنجى غير الفاحم. وإذا قبلنا أن هذه الموجات قد استمرت حتى القرن الثالث عشر الميلادى فمن الممكن القول أنه كانت هجرات قبل القرن التاسع الميلادى بكثر ، لأنه من المعتقد أن قبائل بيضاء ، من أصل ليبى ، سبق لها أن وصلت إلى التشاد حوالى مطلع التاريخ الميلادى. وفى القرن الثالث عشر كانت دولة كانم ـ بورنو تسيطر على كل منطقة التشاد. وبعدئذ تعرضوا للاجلاء غربا على أيدى البولاله ، وراحوا يستقرون على ضفاف نهر بوبه. وبعد مرور فترة غير زاهرة كثيرا ، توحدت قبائل الكانورى من جديد بقيادة ماى على غازى دوناغام ، حوالى عام ١٤٧٧ ، وهو الذى عرف كيف يعطى مملكته بريقا لم تدركه أبدا في السابق واستمرت شهرتها هذه حتى القرن الثامن عشر. وبقيت مملكة بورنو حتى عام ١٨٩٣ ثم انضوت تحت سلطة السلطان رباح (انظرا. أورفوا. تاريخ شعوب السودان الأوسط ، ص ٣٢١) ه. ل H.L hote.

(٩٤) من الطبيعى أن تكون هذه الحدود مبالغا فيها. فمملكة بواله ، المعروفة باسم غاوغه ، كانت تتاخم فى اتجاه كانم من الغرب ، مملكة بورنو فعلا : ولكن حدودها من سائر الجهات الأخرى كانت غامضة جدا ، ففى الشرق ، حيث لم تكن مملكة النوبة قد قامت فعلا قبل ١٥٠٤ كانت القبائل العربية تتوغل حينئذ حتى دارفور ، ولأبعد من ذلك. ولكنها توقفت فى الشمال فى صحراء مأهولة بالتبو ، وفى الجنوب كانت القبائل العربية تتوغل حينئذ حتى دارفور ، ولأبعد من ـ

٥٥٥

ولا توجد هنا حضارة ، ولا معرفة بالآداب ، ولا حكومة. وأهل هذه البلاد أغبياء ، ولا سيما الذين يعيشون فى الجبال. وهم يمشون عراة فى الصيف دون أى لباس سوى نوع من سروال قصير من جلد يستر عوراتهم. والبيوت هى أخصاص من أغصان تحترق بمجرد هبوب أدنى ريح ، ويربون قطعانا كبيرة من الأغنام والأبقار.

وقد عاش هؤلاء فى حرية لفترة طويلة. ولكن منذ مائة عام حرمهم إياها عبد أسود من هذه المنطقة. فقد جاء سيده إلى هنا ، وكان تاجرا غنيا جدا. وعند ما رأى نفسه قريبا من بيته اغتال سيده بينما كان هذا نائما لا تساوره أية ريبة واستولى على ما كان معه من أموال ، وكانت تتمثل فى أحمال جمال عديدة ، ومنسوجات وأسلحة. ثم عاد لبيته واقتسم كل هذه بين ذويه وأصدقائه.

وبعد أن أشترى بضعة رءوس من الخيل من تجار بيض ، راح يقوم بحملات على أراضى أعدائه. وقد كان النصر حليفه على الدوام لأن رجاله كانوا مسلحين بأسلحة حديثة ، فى حين لم يكن لدى خصومه سوى أقواس من خشب. واستطاع أن يجمع الكثير من الرقيق الذين كان يبادلهم بالخيول القادمة من مصر ، وراح عدد جنوده يتزايد ، وكان مطاعا من الجميع ، لأنهم كانوا يعتبرونه زعيمهم وأميرهم.

وخلفه بعد موته ابنه ، ولم يكن ابنه هذا أقل بسالة ولا أقل إقداما منه. وظل يمارس السلطة مدة أربعين عاما. ثم حكم بعده أحد إخوته المدعو موسى ، الذى خلفه أحد أحفاده المسمى عماره ، وهو الذي يحكم اليوم. وقد استطاع هذا أن يوسع رقعة أملاكه كثيرا ، وبفضل هداياه ومجاملاته استطاع أن يكسب صداقة سلطان القاهرة ورعايته ، فأرسل له أسلحة وأقمشة وخيولا. وكان يدفع ضعف ثمنها كى يظهر كريما ، حتى إن تجار مصر لا يذهبون لأبعد من بلاطه ، وكان الكثير من فقراء القاهرة يأتون لمقابلته حاملين إليه بعض الهدايا الجميلة والنادرة ، ويدفع لهم ضعف ثمنها ، وكان لا يخرج أحد من عنده إلا وهو مغمور بفضله وفرح بما ناله منه. وكان يعامل الناس المثقفين ـ ولا سيما الذين ينتسبون لآل البيت ـ بكثير من مظاهر الإكرام. وقد كنت حاضرا حينما وقد عليه رجل من دمياط وقدم له حصانا غاية في الجمال ، وسيفا

__________________

ـ ذلك ، ولكنها توقفت في الشمال في صحراء مأهولة بالتبو ، وفي الجنوب كانت تصطدم بقبائل عديدة فى بلاد نهر شارى وروافده. ر ـ م.R.Mauny.

٥٥٦

تركيا ، وقميصا من الزرد ، وطبنجة ، وبعض المرايا الجميلة ، وسبحات من مرجان ، وبعض السكاكين ، ولا يتجاوز ثمن هذا كله خمسين دينارا في القاهرة (٩٥) ، ولكن الملك أعطاه في مقابل ذلك خمسة من العبيد ، وخمسة جمال ، وخمسمائة دينار من عملة البلاد ، وحوالي مائة من أنياب الفيلة (٩٦).

النوبة ومملكتها

تتاخم مملكة النوبة (٩٧) المملكة السابقة الذكر ، أي مع صحاريها نحو الغرب. تمتد على طول النيل ، وتتاخم من الجنوب صحراء القرعان (٩٨). وتتاخم أرض مصر من الشمال.

ولا يمكن الذهاب بواسطة الملاحة من النوبة إلى مصر ، لأن ماء النيل ينتشر في سهل وهو ضئيل العمق حتى ليعبر الناس والحيوانات هذا النهر خوضا على الأقدام (٩٩).

وفي هذه المملكة مدينة رئيسية تدعى دنقلة (١٠٠). وهي مأهولة بشكل طيب للغاية ، وتضم حوالي عشرة آلاف أسرة. ولكن كل بيوتها قبيحة ومبنية بأعمدة رفيعة ومن الطين. والسكان أغنياء ومتحضرون لأنهم يزاولون في القاهرة وفي كل مدن مصر تجارة الأقمشة والأسلحة وسائر البضائع الأخرى (١٠١).

__________________

(٩٥) أي ٥٠ شرفيا.

(٩٦) غاوغة تعني بلاد واقعة إلى الشرق من التشاد ، أى مملكة رواله ، وهذا الاسم هو نفس عبارة كاوكه أو كوغه لدى المؤلفين العرب ، وهي أسماء لم يتم التحقق منها جميعا. وكانت هذه المملكة تتمركز على نهر ياءو فيتري.

(٩٧) لقد تقوضت مملكة دنقله النصرانية على أيدى العرب فى بداية القرن الرابع عشر ، ولكنها بقيت فى الجنوب آخر مملكة نصرانية ، وهي مملكة علوة ، التي أخضعها الفونج سنة ١٥٠٤.

(٩٨) كوران أو على الأصح القرعان ، وهو الاسم الذى أطلقه العرب على دازا من مجموعة ييدا ـ دازا الذين يعيشون حاليا شمال بحيرة التشاد وفى الشمال الشرقى حتى بوركو وفى اينيدى فى شمال شرق التشاد ـ ت. م ود. م.R Mauny Th.Mond ,

(٩٩) على العكس يصلح النيل للملاحة هنا ، ولكن الشلالات هى التي تقطع الطرق الملاحية.

(١٠٠) كانت ذنقلة عاصمة بلاد النوبة بعد ناباته ومروة.

(١٠١) يطلق على هؤلاء النوبيين بالعربية اسم برابرة ، والفرد بربرى ، ومنها كانت العبارة الفرنسية بار باران. وهم زنوج وليسوا ببربر ، وربما كانوا من ذوى الدماء المختلطة منذ عصور موغلة في القدم.

٥٥٧

وتقوم قرى على ضفتى النيل فى بقية المملكة ، وهى مأهولة بالزراع ، وتكثر الغلال فى كل بلاد النوبة ، وكذلك السكر ، ولكن لا يعرفون طريقة طبخه ، حتى إنه يصبح أسود اللون وكريها. ويوجد فى دنقله الكثير من قط الزبّاد ومن خشب الآبنوس الكاذب أو السانغو (١٠٢) ، وكذلك العاج بكمية كبيرة لأنه يجرى صيد الكثير من الفيلة كما توجد هنا سموم غاية فى الشدة. فحبة (١٠٣) من أحدها ، إذا ما وزعت به عشرة رجال قتلتهم فى خلال ربع ساعة. وسعر هذه السموم يعادل مائة دينار للأونسة (١٠٤). ولا تباع للأجانب إلا مقابل تأمين ، وحتى قسم ، بأنهم لن يستعملوها فى بلاد النوبة. ويدفع المشترى للملك ضريبة تعادل ثمن السم. ولهذا لا يجرؤ أى واحد أن يبيع منه سرا خشية أن توقع عليه عقوبة الإعدام. وملك النوبة فى حالة حرب دائمة ، تارة ضد القرعان ، الذين ينتسبون لعرق مشابه لعرق الزنغاري (١٠٥) ، والذين يعيشون بحالة بائسة فى الصحراء ولا يفهم أحد لغتهم ، وتارة مع نوع آخر من الناس الذين يعيشون فى الصحراء أيضا ولكن فى القسم الواقع إلى الشرق ، فيما وراء النيل. وتمتد هذه الصحراء حتى البحر الأحمر ، تجاه تخوم سواكن.

ويتكلم هؤلاء لغة أعتقد أنها مخلوطة بالكلدانية ، والتى تقترب كثيرا من اللغة التى يتكلمها أهل سواكن وفى الحبشة العليا وحيث يوجد مقر البطريق يوحنا. ويدعى هذا الشعب البجا (١٠٦) ، وهم رجال من سفلة القوم ، رديئو الهندام وفقراء ، يعيشون على الحليب ولحم جمالهم ومن الصيد البرى. وبنالون أحيانا بعض المعونات من أمير سواكن أو من أمير دنقله.

وكان لهم فى الماضى مدينة ضخمة على البحر الأحمر تدعى عيذاب ، حيث كان يقوم ميناء واقع مباشرة تجاه ميناء جدة الواقع على مسافة أربعين ميلا من مكة (١٠٧).

__________________

(١٠٢) واسمه العلمي DalBergia Melanoxylon

(١٠٣) أي ٤٩ ميلجرام.

(١٠٤) أي شرفي مصري والأونسة ٢٨ جرام.

(١٠٥) أي البوهيميين أو النور.

(١٠٦) فى العربى بجا بضم الباء ، ولغتهم خاصة بهم هي اللغة البجاوية ، التي تتلاشى شيئا فشيئا أمام اللغة العربية ، والبجا هم قوم بلّميس فى العصور القديمة.

(١٠٧) الحقيقة ٥٥ ميلا أو ٨٧ كم.

٥٥٨

ولكن منذ مائة عام خلت قام هؤلاء بنهب قافلة كانت تنقل السلع والأقوات إلى مكة ، فاستشاط سلطان مصر غضبا ، وأرسل عن طريق البحر الأحمر أسطولا احتل مدينة عيذاب ، وميناءها وخربها (١٠٨) وكان الميناء والمدينة تعود عليه بعوائد تقدر بمائة ألف شرفي ذهبي. ونجا البجاويون والتجأوا إلى دنقلة وإلى سواكن حيث يكسبون عيشهم قليلا قليلا. ولكن بعد قليل قام أمير سواكن ، بدعم من الأتراك المسلحين بالطبنجات وبالقسى ، وألحقوا بهم هزيمة منكرة إذ سقط منهم في خلال معركة واحدة أكثر من أربعة الاف قتيل من بين هؤلاء الرعاع الذين يعيشون عراة. كما اقتيد ألف منهم إلى سواكن حيث تولى ذبحهم النساء والأطفال.

ذلك هو كل ما قدرت أن أكتبه بإيجاز عن بلاد السودان. ولا يمكن إعطاء معلومات أكثر تفصيلا عنه ، لأن كلا من هذه الممالك الخمس عشرة تشابه الأخرى فى طيعة بلادها وفى حضارتها ، وعادات السكان ونمط حياتهم. وهم تحت حكم أربعة ملوك (١٠٩).

وسأتابع الآن حديثى عن مصر.

__________________

(١٠٨) لم يمكن العثور على آثار عن مدينة عيذاب ، ولا زال موقع المدينة غير مؤكد ، وقد تخربت عيذاب حوالى العام ١٤٢٥ م.

(١٠٩) أي من قبل ملك تومبوكتو ، ملك بورنو ، ملك غاوغة ، وملك النوبة.

٥٥٩

٥٦٠